أفكار في جولة: آلام الجنوب اللبناني غير المعلنة
أفكار في جولة: آلام الجنوب اللبناني غير المعلنة
د. فالح عبد الجبار
2006 / 11 / 4
مواضيع وابحاث سياسية
هذه شذرات من نص مطول عن زيارتين للجنوب مع أقران باحثين، وثالثة خاطفة مع صديق إعلامي، جرت كلها بعيد وقف اطلاق النار. في آخر زيارة شاركت نحو عشرين عالم اجتماع لبناني في جولة مفصّلة، قطعت الشريط الحدودي كله من البحر الى جبل الشيخ. هي مشاهدات أو نتف من مشاهدات لجنوب عشت في كنفه مرة.
(1)
من الناقورة الرابضة على البحر غرباً، الى قرية حاصبيا القابعة في الوديان المحاذية لسفوح جبل الشيخ شرقاً، تمتد ثلة من القرى والبلدات، الناعسة، على تلال مشرئبة، أو وهاد كابية، أو وديان غائرة، لتؤلف ما يعرف في الدارج اللبناني «الشريط الحدودي»، وهو شريط متعرج ان رأيته على الخريطة، وهو صاعد، هابط، مستدير، ودوار، ان اجتزته سيراً على الأقدام، أو في حافلة. لبنان هو لبنان. لا إسم آخر له. أما الطرف الآخر فله اسماء عدة: «العدو»، «دولة العدو»، «الدولة الصهيونية»، «اسرائيل» أو «اليهود». كثرة تتحدث عن اسرائيل بـ «اليهود»، مفردة الجمع الشامل هذه.
في أيام صبانا كانت هناك اسماء أخرى تدوّي من اذاعة بغداد: العصابات الصهيونية، شذّاذ الآفاق، الكيان الصهيوني. اليهود في أول دستور عراقي كانوا يدعون بـ «الموسويين» نسبة الى نبي الله موسى، أما المسيحيون فيشار اليهم بالنصارى. التوكيد الديني للهوية تقليد اجتماعي قوي، سائد في لبنان. أما التوكيد القومي للهوية (الصهيونية حركة قومية وليست دينا) فهو عروبي، أي يرتبط بالايديولوجيا القومية العربية.
التسميات تكشف الانتماء. فاسماء «اسرائيل» تتغير بتغير خريطة الانتماء الديني – السياسي على طول الحدود.
لم اسمع تعبير «الدولة العبرية» الا مرة واحدة من مثقف جنوبي. العبرية لغة التراتيل الدينية، شأن اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية. اللاتينية اندثرت كلغة محكية، العبرية أفلحت في أن تكون «اللسان القومي» بقرار سياسي مسند بجهاز قسر مركزي: نظام التعليم، وثائق الدولة الخ، لغة الاعلام، ولغة الاتصال في المؤسسة العسكرية. ما نفع هذه الأصوات. الهند حققت وحدتها القومية بفضل سكك الحديد البريطانية واللغة الانكليزية، منظومة العلامات والأصوات الكونية هذه.
لو التقى جنوبي قحّ من لبنان بجنوبي قحّ من العراق لاحتجنا الى ترجمة فورية كالتي نحتاجها نحن المشرقيين في المغرب العربي.
(2)
من بعيد يبدو الجنوب متجانساً، خصوصاً في صور الاعلام. ثمة صورة الجنوب المحارب، الفاتح أبوابه على الموت، المزدري بكل مباهج الحياة – ان وجدت – او بقيمتها، الموحَّد في مواقفه وأقانيمه وأمثولاته.
ثمة هوية جنوبية بلا مراء. ثمة المجلس الثقافي للجنوب، وثمة مجلس اعمار الجنوب، وثمة الجنوب نفسه. هذه الهوية حقيقة بإزاء بيروت، أو طرابلس، أو الشوف. لكنها مثل كل الهويات الأخرى تحوي تشظّياتها الباطنية، ولا تخفيها على الناظر عن كثب. التخفي نتاج عرضي لبعد المسافات ليس إلا، أو لشغفنا بالاختزال وخوفنا من التفاصيل، خصوصاً اذا كانت غير سارة. من علٍ تبدو الكرة الأرضية زرقاء.
من الناقورة الى حاصبيا أحصيت القرى والبلدات التالية: الناقورة (سنية)، علما الشعب (مسيحية)، الضهرة (عرب بدو)، ثم يارين والبستان ومروحين (كلها سنية)، يليها جيب شيعي: طربيخا وعيتا الشعب، حيث نجد ثاني مواقع لقوات اليونيفيل بعد الناقورة. بعد هذا الفاصل يأتي شريط مسيحي، ابتداء من قوزح، مروراً بقريتي رميش ويارون، وانتهاء بقرية عين ابل. بعد ذلك ينتقل الشريط الحدودي الى الرقعة الشيعية الأكبر بدءاً من بنت جبيل الرابضة في قاع غور محاط بتلال تنتشر عليها فيلات الموسرين، أو بيوت المعوزين. وتكتمل حلقات العقد الشيعي بقرى عيناتا، عيترون، ميس الجبل، حولا، مركبا، العديسة، كفركلا (قبالة المطلة الاسرائيلية)، فبوابة فاطمة حيث الجنود اللبنانيون القلقون من كاميرات الفضوليين والدخلاء، بعدها تأتي قرى تل النحاس وبرج الملوك (الخربة سابقاً) وصولاً الى مرج بلدة الخيام التي يُختتم بها القطاع الشيعي الحدودي.
وابتداء من كفركلا حتى الخيام، يبقى معك جبل الشيخ في الأفق، صعوداً أو نزولاً. فجبل الشيخ يهيمن على المشهد برمته. بعد بلدة الخيام نتجه شرقاً الى قطاع مرجعيون، القطاع المسيحي – السني المختلط. هنا العرقوب (أو اصبع الجليل) الذي احتضن المقاومة الفلسطينية في السبعينات بقرار قمة عربية وأمر واقع.
(3)
حرب الهويات هنا ظاهرة ومستترة، بالشعارات، أو الكلام، بالرموز أو العلامات. القرى السنية التي تفتتح الشريط الحدودي من جهة البحر تعلن عن هويتها السياسية. أطياف الحريري، كما صوره، تخيم على الطرقات، لا تنافسه سوى احتفاءات «الجماعة الاسلامية» بمقام الأولياء. ثمة علم ايراني في جوار صورة ضخمة لمرشد ايران، السيد خامئني. مَن دسّه في هذه الرقعة السنية؟ «مجاكرة». الصورة مثقوبة بالرصاص، وتندلق اشعاعات شمس الجنوب الحارقة من هذه الثقوب. أما سارية العلم فقد مددت بعمود اضافي يرفرف عليه علم السعودية.
يخفق العلمان في عراء الجنوب مستعرضين للعالم انقسام الأهواء السياسية. أما القرى المسيحية النظيفة، المرتبة، الأنيقة، أو المتأنقة، فتبدو محايدة، بل حذرة، موزعة بين ماضيها الكتائبي، او اللحدي، وحاضرها المنقسم الى عوني وجعجعي. تبدو القرى حذرة. فلا مجاهرة بالصور أو الشعارات، كما ان الحذر يشوب القول والافصاح، وان كان لا يخلو من غمزات ولمزات عن مزاج آذاري أو جعجعي، اكثر منه عونياً.
خلافاً للسائد في وسائل الاعلام المنقسمة الى استكمال «النضال» أو دعم «الدولة»، ينطوي الجنوب على تلاوين عدة، رغم البغض المشترك لاسرائيل. فثمة الوجع الانساني على تبديد الحيوات، وثمة القلق من غموض المستقبل، وثمة الاختلاف في تفسير الماضي البعيد، وثمة التباين في تأويل معنى الحرب الجديدة.
(4)
المزاج الجنوبي، ان صح الحديث بإطلاق عن مزاج كهذا، غاضب وملتاع مرتين. مرة على اسرائيل ومرة على الحرب، الحرب بذاتها، الحرب كوسيلة للبقاء. خارج الايديولوجيات السياسية ثمة ألم انساني عميق. فمن يارين (ما أجمل الاسم) مروراً بمروحين، وانتهاء بـ إبل السقي (حيث المطعم الفاره المحتفي بنزلائه الجدد من ضباط اليونيفيل)، تمتد قرى تحطمت الأعمدة السبعة لحكمة الوجود فيها. حقول التبغ المهجورة تخز عين الفلاح يومياً. انظر الى فلاحي الجنوب الذين دبغتهم الشمس دبغاً: هذا هو الكائن المؤسس للحضارة، مخترع التدجين والتهجين، وأول بناة الاستقرار، ومراكم الفائض الابتدائي لنمو الجنس البشري وحضارته، ها هو يرقب الحقول في يأس مطبق.
سألت احدهم عن حقول التبغ فأشار الى قطيع الماعز الذي يقضيم أوراق التبغ في التذاذ ظاهر، وقال بألم دفين ما معناه: «بحياتهن المعزات ما يقربوا التبغات، أو يحلموا يشمّوها». ثم أضاف «هلق ياكلوها».
سمعت هذه القول المرير مراراً، بصيغ شتى. بانهيار حقول التبغ تنتهي دورة حياة الجنوبي المستقر (لا المهاجر)، بل تنتهي علة وجوده. ثمة سلسلة من التكافل الوجودي في القرى، بين تبغ الفلاح ومدارس أولاده وبناته، ونصيب الحِرفي والسائق والدكنجي، التابعين بامتياز.
(5)
قوات اليونيفيل هي الحاضر الغائب. مررنا بمفارق استراتيجية، ونقاط محورية، دون أن نرى لليونيفيل أثراً. تعجز الأمم المتحدة، في أحيان، عن استئجار أرض لبناء مواقعها. يبدو الجنوب سائباً، خلا بعض النقاط. يبدو الجنوب جائعاً، بلا مستقبل.
الدمار أصاب القطاع الشيعي بدرجة أشد، لأسباب مفهومة. لكن قرى سنية ومسيحية تعمدت معاً بالتدمير الشامل. في علما الشعب ثمة خمسة منازل دمرت تماماً، و75 منزلا تضررت جزئياً. لجان حزب الله تسابق حكومة السنيورة في تقدير الاضرار. ثمة شكاوى من محاباة في التعويض. من يضبط الاهواء؟ أما بنت جبيل فقد محق التدمير وسط البلدة، مقوضاً نحو الف وحدة معمارية. السوق القديم، التاريخي، ليس سوى اطلال. ورغم ان قطر تعهدت، كما قال الاعلام، اعادة بناء البلدة، الا ان هذا التعهد ليس على البناء بل للتعويض المالي عن الدمار. المعنيون بتاريخ بنت جبيل لا سلطة لديهم على توزيع الموارد، أو التصرف بها. ومن شأن متلقي التعويضات أن يختاروا الهجرة بالمال الجديد، تاركين الخراب قائماً. والمالك الغائب قوة تعطيل لأي مسعى للاعمار، من هنا يبدو الحديث عن «اعادة اعمار» بنت جبيل بصيغة حديثة (أسواق فاخرة، الخ) او استعادة شكلها القديم (حفاظاً على التراث) مجرد حكي اكاديمي، خلاف بين حداثيين وتراثيين.
لا أتذكر من قال ان الهجرة احتجاج على اللامساواة. لكن ينبغي ان نضيف: انها تصويت ضد الحرب. فالسر المكشوف في الجنوب: هل كتب علينا ان نعمّر ألف مرة؟. … *
* عن الحوار المتمدن…..