اتفاق الصين في مواجهة وهم السعر العادل للنفط
اتفاق الصين في مواجهة وهم السعر العادل في للنفط
عبد الحسين الهنين*: اتفاق الصين في مواجهة وهم السعر العادل للنفط
بين حين وآخر، تخرج تصريحات لوزراء النفط في الدول المنتجة، تفترض أن (السعر العادل) للبرميل يجب أن يكون بهذا الرقم أو ذاك. هذه التصريحات، تنهمر أكثر كلّما تراجعت الأسعار.
والغريب في دعواهم هذه، أن أسعارهم (العادلة)، المفترضة، تختلف من بلدٍ الى آخر. ويبدو أن هذا الاختلاف عائد الى درجة اختناق الاقتصاد في دولهم، ومدى تورّط كل دولة في الاعتماد على النفط -السلعة المدمّرة للإنتاج، والعاملة على تحطيم قيم العمل، والناشرة للكراهية والحقد بين أبناء المجتمع الواحد، بسبب التفاوت الواسع في الانتفاع منها وفقاً لاقتراب المواطن من السلطة او الوظيفة العامة وابتعاده.
إن الاعتماد على النفط (وهو سلعة سياسية خادعة)، دون استخدامه في صناعات تحويلية مختلفة، قد أفقده دوره الأساس، كون الطاقة هي القاطرة التي تقود التنمية المستدامة. كذلك ما صار إليه النفط بتحوّله الى سلعة معادية للديمقراطية، لأنه يقضي (أو قضى بالفعل)، على وجود الطبقة الوسطى، التي تشكل في العادة الحاضن الاجتماعي للديمقراطية. لهذا نقول، إن (النفط) و(الديمقراطية)يشكلان ثنائية مستحيلة.
ولكي نفهم بشكل معقول ما يجري من انحدار كبير لأسعار النفط، ومدى قدرة أي حكومة على التعامل مع هذا التحدي، علينا ان نستعرض بعضاً من تاريخ اسعار النفط، أو على الأقل، ما يتعلق بنا كعراقيين ومجموعة أوبك.
تأسست أوبك عام 1960م، كأهم افرازات الألفية الثانية بالنسبة للدول المصدرة للنفط. وقد مرّت بمنعطفين خطيرين؛ الاول عقب حرب اكتوبر 1973 بين العرب واسرائيل، إذ قفزت أسعار النفط الى مستويات فلكية نسبة الى أسعار ما قبل الحرب، ونسبة الى القيمة الشرائية للدولار آنذاك. الأمر الذي زاد من مداخيل الدول المصدّرة، وخاصة الخليج والعراق. وقتها احتار العراق في صرف المبالغ التي جناها، فذهب الى حرب من ثماني سنين ليهدر فيها كل الثروة المتراكمة، ويخرج بديونٍ كبيرة، في مقابل انهيار لاحق لأسعار النفط. فوجد رأس النظام حلاً (كما رآه) في أن يغزو الكويت، لأجل تمويل آلته العسكرية ونظامه، وهو ما حصل بالفعل.
كانت أسعار النفط قبل حرب اكتوبر 1973 بحدود (3.4 $\برميل). ثم تصاعدت إلى (12 $\برميل) عام 1974. ثم تضاعفت الاسعار لتصل الى (25 $\برميل) بعد الثورة الايرانية عام 1979. لتسجل رقماً قياسياً في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
المنعطف الثاني كان على مشارف نهاية الألفية الثانية، حيث وصلت اسعار الخام الى مستويات متدنية جداً لا تعكس أهمية هذه السلعة الاستراتيجية، باستثناء فترات بسيطة من التغير الإيجابي في الأسعار. ولقد شهدت الاسعار تدنياً واضحاً، خصوصا بعد الازمة الاقتصادية الآسيوية عام 1997 ليصل سعر البرميل الى (10 $\برميل) عام 1998.
وأتى مؤتمر كاراكاس الثاني 2000م، ليشكل أوّل إنجاز تضامني لدول أوبك مع الدول المنتجة من خارج اوبك، لوقف الانهيارات المتكررة في الاسعار، والعمل على استقرارها لتكون بحدود (22-28 $\برميل). مع الاستعداد التام لزيادة المعروض من النفط للمحافظة على استقرار السوق. وحينها عدّت الولايات المتحدة الأميركية أن سعر (38 $\برميل)، سيكون بمثابة خطر محدق بالاقتصاد الاميركي والغربي. وهذا الرأي كان قبل انتاج النفط الصخري (Shale Oil)، مما أعاد الى الاذهان صورة كارتل أوبك في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت الاسعار تحددها مجموعة (الاخوات السبعة)، وهي (شيفرون/(Chevron، و(إكسون وموبيل/(Mobil & Exxon قبل اندماجهما عام 1999، و(بريتش بتروليوم /BP)، و( شِل/ (Royal Dutch Shell، الى جانب (تكساكو/Texaco)، و(غولف أويل/Gulf Oil).
إن السوق النفطية تمتاز بمواصفات قد لا نجدها في الاسواق الاخرى. ففيها عدد قليل من المنتجين ويسمى هذا في الادب الاقتصادي بـ (احتكار القلّة)، بينما يستهلك معظم الانتاج عدد قليل من الدول. كما ان مرونة الطلب على هذه السلعة الاستراتيجية تُوصف بأنها محدودة (غير مرنة) في العادة. لكن هناك ملاحظة مهمة يمكن تثبيتها كأمر واقع، وهي أن الطلب يزداد (في حال انخفاض الأسعار)، ليس بسبب حاجة السوق، إنما بسبب الإغراء الذي يسببه السعر المنخفض. هذا الأمر سيكون مؤثراً لو كان هناك توازن بين العرض والطلب. لكن، لو حدث وأن ظهر فائض في المعروض (كما هو الحال الآن)، فإن تراجع الأسعار(لن) يفتح الشهية نحو مزيد من الطلب فورا وانما على المدى المتوسط والطويل،. فضلاً عن تراجع الطلب أصلاً بسبب إغلاق جانب كبير من النشاط الاقتصادي تأثراً بجائحة كورونا. لكن هذا السبب سيكون مؤقتاً، ومرتبطاً بزوال الوباء، رغم انه سيغيّر شكل العالم، وطبيعة علاقات العمل والسوق بشكل غير مسبوق، أو هكذا يتفق السياسيون والاقتصاديون بشكل كامل حول هذا الأمر.
قبل أكثر من عشر سنوات، توفّر لدى العراق فائض مالي كبير نتيجة ارتفاع أسعار النفط إذ وصلت الى أكثر من (100 $\برميل) لأول مرة في التاريخ، بل واصلت الاسعار في صيف عام 2008 ارتفاعها الحاد لتصل إلى (147 $\برميل). ثم بدأ الطلب على النفط في مسيرة التراجع الحاد مع بوادر الازمة الاقتصادية العالمية ومعها الركود الاقتصادي في معظم الدول الصناعية المستهلكة للنفط الخام وفي العقاب الأزمة المالية في قطاع المصارف الامريكية عام 2008 وانتقالها الى معظم دول العالم المرتبطة بالمصارف الامريكية.. الأمر الذي خفّض بشكل واضح الاعتماد على النفط في قطاعات الصناعة. وحينها وصلت الاسعار الى ما دون (35 $\برميل). وقتها، لم تتعظ الطبقة السياسية في العراق. واستمرّت في هدر الثروة ضمن سياسية مالية غير راشدة. وللأسف عادت الاسعار للصعود بشكل كبير لتساعد في استمرار الهدر الممنهج للثروة، حيث وصلت الاسعار الى أكثر من (100 $\برميل) عام 2013. وقتها، وفي ذروة ارتفاع الأسعار، كانت السعودية ترى أن (السعر العادل) للنفط، يجب ان يكون بحدود (85-90 $\برميل). بينما أصبحنا في العراق صدى لما تقوله السعودية، ظناً أن لها أذرعها وأدواتها في هذا القطاع الحيوي. لكن الملاحظ ان السعودية أعادت التصريح بسعر (عادل) جديد مراراً، ومع أيّ ظهور لأزمة جديدة. هذا الأمر يكشف أن لا أحد يمكنه التكهن بما يجري. وأن قضية (الخبرة) في التعامل مع أسعار النفط، هي أمر غير متيقن منه. وأن جميع الدول النفطية تتعامل على أساس ردّ الفعل، وليس كقرارات (سيادية) للدول النفطية. إن هذا يثبت موقف العراق الأخير من تخفيض الإنتاج بنسبة (23%) الذي زاد من حماسة الكثيرين، وجعلهم يتّهمون الحكومة، ووزير النفط بالتهاون في قبول التخفيض. بينما الواقع يشير الى أن قرار الوزير أملته الظروف فعلياً، إذ أن (أخاك مجبرٌ لا بطل).
إن عوامل كثيرة تساهم في تغيير اسعار النفط عالمياً، اهمّها هي معدلات النمو الاقتصادي في الصين والهند، بالإضافة الى النمور الآسيوية. وتأتي قدرة هذه الدول للعودة مجدداً الى استئناف نموها المضطرد بعد حالات الركود (الرأسمالية تجدد نفسها)، لتكون عاملاً إضافياً في تغيير مسار الأسعار. يضاف الى ذلك، تأثير الاقتصاد الاميركي، بوصفه محوراً للاقتصاد العالمي أو قد تحدث ازمة في المنطقة وترتفع الاسعار مجدداً تحت تأثير التوتر، أو توقّع الحرب. ومع ذلك، فلازال الحديث مبكراً عن تعافي أسعار النفط. وإن العوامل الآنية لا تشكل مصدر ثقة لربط اقتصاد بلد ومصير شعب بها، لذا علينا ان نرشد سلوكنا في طبيعة الإنفاق، والتحول الجدّي الى مصادر التنمية المستدامة حتى وإن عادت اسعار النفط الى الارتفاع مرة أخرى. إن هذا الحديث يعيدنا حتماً الى اتفاق الإطار المالي مع الصين. فهل كان هذا الاتفاق أحد الأدوات الحامية للثروة وجعلها ذات قيمة مستدامة، وليس كما حدث الآن حينما تحول النفط الى (قمامة) تُدفع المبالغ من أجل رفعها من المخازن الممتلئة؟
ولنا قبل ذلك ان نسأل، هل إن تجربة المكسيك التي(رهنت) نفطها لسنين طويلة، وبسعر أقل من قيمته اثناء فترة التعاقد، لكنه كان سعراً مضموناً مما جعلها في منأى من كارثة الأسعار الأخيرة كان قرارا دفاعيا لما حدث؟ أو اليس هذا القرار هو ما أجبر الولايات المتحدة على تحمّل نسبة التخفيض في الإنتاج المطلوبة من المكسيك (400 ألف برميل يومياً)، لأجل تمرير اتفاق خفض الإنتاج؟
إن اتفاق العراق من الصين صُمم بعناية ليشكل حماية حقيقية للبلاد من هذه الهزّات في السوق، او على الاقل كان سيضمن مشترياً ثابتاً للثروة النفطية مقابل المشاريع بعد ان أصبح واضحاً أن العراق في الأيام الأخيرة سيبحث عن مشترين ولم يجد. بينما كان يضع معاييراً وشروطاً صارمة للبيع (أنظر الشروط والمعايير في الموقع الالكتروني لوزارة النفط – شركة سومو). وأستطيع القول بثقة بعد أن هدأت عاصفة التشويه والتزييف ضد هذا الاتفاق وبعد ان ظنّ البعض أنهم نجحوا في ايقافه أو على الأقل تأجيله وتأجيل المشاريع المرتبطة به، اقول إن الاتفاق كان قراءةً اقتصادية متقدمة لسوق النفط. ومحاولة لتجنب المراهنة على سوق مُتقلبة بشكلِ حاد. وللأسف لم ننجح في مواجهة الكم الهائل من الكذب، والتشويه، والتزييف الذي تعرّض له الاتفاق. إذ وصل الحال ببعض الفضائيات أن تنقل أخباراً عن سقوط الوفد العراقي في البحر! نتيجة عاصفة فوق جسر يصل بميناء (يانغ شان) للمياه العميقة في شانغهاي وهو أكبر ميناء آلي (Automated 100% ) في العالم.
مع ذلك، فإننا نأمل بإعادة النظر بطريقة التفكير بعدما وقع (الفأس بالرأس).
إن فلسفة (النفط مقابل البناء) التي تشكل استقطاع جزءٍ من واردات النفط لتذهب في مسارات صحيحة بعيداً عن الموازنة التشغيلية التي هدرت المليارات من عوائد النفط، انما هي عبارة عن مشاريع للبنى التحتية في مختلف القطاعات. مشاريع تنتج (قيمة مضافة)، وتنمية مستدامة تمنح زخمها لعجلة الاقتصاد. وتزيد من الناتج المحلي الإجمالي بشكل متصاعد. مع ملاحظة أن الاتفاق لا يرتّب أي قروض على العراق، طالما التزم بتأدية التزاماته النفطية مع الصين. إنما الحقيقة تكشف إن صُلب الاتفاق هو (ائتمان صيني)، بضمان حصّة محددة من النفط، لأجل ان تعمل الشركات الصينية دون خوف، وتحت غطاء من (مؤسسة دعم الصادرات /SINOSHORE) الحكومية. وان الشركات الصينية ستدخل في جولات تنافسية بشأن المشاريع العراقية ضمن معايير السوق، ليختار العراق أفضل المواصفات وأنسب الأسعار واعلى التكنولوجيا. وسيكون الأمر متاحاً للشركات الغربية ايضاً فيما لو استلزم إضافة تكنولوجيا عالية ومتقدمة. فاتفاق الإطار المالي مع الصين يشكل مصدراً للتمويل السلس، في مقابل 100 ألف برميل يومياً. حيث يشكل النفط فيه بما يشبه (سبيكة الذهب)، التي تجعل من الشركات الصينية وشركائها اصحاب التكنولوجيا العالية تواقين الى مباشرة أعمالهم في العراق دون خشية من اي تقلبات سياسية او اقتصادية. وكان قد تم تجهيز العشرات من المشاريع الكبرى التي كانت تنتظر البدء بالتنفيذ وقد سبق بدء الإعداد عملياً لعقد ورشة كبرى في بغداد كان من المفترض أن تشهد عاصمتنا انعقادها في 17-20 تشرين الثاني من العام الماضي (2019)، وبرعاية السفارة الصينية وغرفة التجارة الصينية في بغداد، وبمشاركة أكثر من 50 شركة صينية كبرى كانت تستعد للحضور، يناظرها من الجانب العراقي أكثر من 50 شركة عراقية، والاتحادات المهنية العراقية وطلبة المرحلة الأخيرة والدراسات العليا في كليات الهندسة واساتذتهم فضلاً عن الحضور الحكومي الذي يمثله الوزراء والمحافظون ونوابهم وكان يفترض ان يحضر رئيس الوزراء جميع الجلسات وتوقيع العقود.
باختصار لقد استطعنا أن نضمن وجود مشترٍ جاهز ومضمون للنفط. وان تجربة انهيار اسعار النفط الحالية التي لم يسلم منها أحد سوى المكسيك (التي سبق أن سخرت منها بعض الدول قبل الانهيار الحالي لأسعار النفط). المكسيك باعت نفطها بسعر ثابت كان اقل من سعر السوق ايام الاسعار العالية بينما هو اليوم يعتبر سعرا خياليا لصالح المكسيك قياسا بالأسعار الحالية، هذه التجربة يجب ان تعلمنا درسا مفيدا ومهما، ولذلك ادعو الى:
- توسعة الاتفاق مع الصين ليصل الرقم الى معدل ما بين (300-500) ألف برميل نفط يومياً ومعه ستتوسع المشاريع.
- البدء بعقد اتفاقات مشابهة مع دول متقدمة أخرى، مثل (الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند ومصر)
- البدء بمفاوضات واسعة لبيع جزء من صادرات العراق (وفق تجربة المكسيك) بسعر ثابت ولمدة لا تقل عن 20 عاماً لنضمن ايرادا ثابتاً للعراق، ونترك الجزء المتبقي لعوامل العرض والطلب في السوق وهذا قد يدفع العراق الى الخروج من منظمة أوبك، وقد يكون الوقت المناسب بعد عودة أسعار النفط للصعود مرة أخرى.
- تعديل قانون الاستثمار النفطي الذي ولد ميّتاً في عام 2007، لأنه خالٍ من عوامل جذب المستثمرين لبناء المصافي وغيرها من المشاريع النفطية، وان السبب في موت القانون هو العقلية الشمولية المُسيطرة بلا وعي على عقول الطبقة السياسية بل أغلب الجمهور العراقي، ولا ادعي اكتشافاً إذا قلت ان سعر البرميل سيتضاعف عدّة مرات إذا تحول الى منتجات نفطية او سلع بتروكيماوية.
- إطلاق استثمار الغاز العراقي.
إن الانتظار سيحملنا المزيد من الخسائر والندم بل يجب ابعاد هذا الملف عن الجدل السياسي والحزبي
(*) مستشار رئيس الوزراء السابق السيد عادل عبد المهدي
(عن شبكة الاقتصاديين العر اقيين)