الأمن الجماعي
الأمن الجماعي
إبراهيم دراجي
يُعد السعي إلى تحقيق السلام والحفاظ عليه من أبرز الأهداف التي وُجد التنظيم الدولي لأجل تحقيقها، ولذلك بُذلت الكثير من الجهود وتم تقديم العديد من الأفكار والمشاريع والمقترحات للوصول إلى صيغة هذا النظام الذي يكفل تحقيق الأمن والسلام ويحظر كل مظاهر النزاعات المسلحة في العلاقات الدولية، وهو ما تم تجسيده فيما بات يُعرف بنظام الأمن الجماعي. وهو النظام الذي يهدف أوّلاً وقبل كل شيء إلى الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي أو الإخلال بأوضاعه وعلاقاته أو تبديلها بصورة غير مشروعة في الاتجاه الذي يخدم مصلحة إحدى الدول على حساب غيرها، وذلك عن طريق اتخاذ إجراءات وتدابير دولية جماعية بوصفها قوة ضاغطة ومضادة لمحاولات التغيير تلك.
أوّلاً – التعريف:
تعددت تعريفات مصطلح الأمن الجماعي E – Collective Security، إذ قيل عنه إنه النظام الذي تتحمل فيه الجماعة الدولية مسؤولية حماية كل عضو من أعضائها والسهر على أمنه من الاعتداء. أو هو نظام فيه تعتمد الدول في حماية حقوقها إذا ما تعرضت لخطر خارجي ليس على وسائلها الدفاعية الخاصة أو مساعدة حلفائها، وإنما على أساس من التضامن والتعاون الدولي المتمثل في تنظيم دولي مزود بالوسائل الكافية والفعالة لتحقيق هذه الحماية. وبالإجمال فإن معظم التعريفات تؤكد أن الأمن الجماعي هو النظام الذي يهدف إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين عن طريق تكاتف الدول المحبة للسلام، وذلك في إطار تنظيم دولي، للوقوف في وجه أي دولة تلجأ إلى انتهاك هذا السلم أو تعمل على تهديده واتخاذ الإجراءات الجماعية التي تؤدي إلى الحد من هذه الانتهاكات.
وبالتالي فإن نظام الأمن الجماعي يتكون من شقين؛ أوّلهما هو التحضير الجماعي الذي يتمثل في صورة اتخاذ إجراءات وقائية تسبق العدوان وقد تمنعه (الجانب الوقائي)، وثانيهما هو التدخل الجماعي الذي يتمثل في التدابير القمعية التي تلحق بالعدوان لإيقافه (الجانب العلاجي).
ثانياً – التطور:
نظام الأمن الجماعي هو التطور الطبيعي لنظام توازن القوى الذي كان سائداً في المرحلة التي سبقت قيام التنظيم الدولي المعاصر، ذلك أن نظام توازن القوى كان يقوم على أساس التحالفات التنافسية competitive alliances أي تجزئة القوّة في المجتمع الدولي بين عدد من محاور القوى التي تتعادل إمكاناتها، والردع المتبادل بين هذه القوى المتعادلة هو الذي ُيبقي الأوضاع القائمة من دون تغيير. وهو ما تم تطويره في ظل نظام الأمن الجماعي الذي بات يقوم على وجود تحالف عالمي من القوى في مواجهة المصادر المحتملة للعدوان أو ما يُطلق عليه universal alliance. علماً أن هذا التحالف لا يكون مُوجهاً ضد دولة محددة أو مجموعة من الدول تحديداً، بل يكون ضد أي مُعتدٍ وهو بالتالي تحالف لا يتم أصلاً من أجل الحرب ولكن بقصد تدعيم السلام ومنع الحرب.
ويظهر تطور نظام الأمن الجماعي الدولي جلياً من خلال تتبع كيفية صياغته وتطبيقه في نظامي عصبة الأمم والأمم المتحدة، علماً أن فكرته تعود إلى القرآن الكريم: )مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً([المائدة32].
ثالثاً – نظام الأمن الجماعي في عهد عصبة الأمم:
ارتبط نشوء عصبة الأمم في العام 1919 في ذهن مؤسسيها بنظام الأمن الجماعي لدرجة أنهم نظروا إليها على أنها الصيغة المثالية التي يمكن بها تحقيق الأمن الجماعي على أرض الواقع، ولذا فقد تضمن عهد العصبة عدداً من النصوص التي تهدف إلى وضع واقع دولي محدد في إطار المؤسسات التي اشتملت عليها العصبة. فقد نص في ديباجة العهد أن الهدف من وضعه هو تنمية التعاون الدولي لتحقيق السلام والأمن الدوليين عن طريق الامتناع عن اللجوء إلى الحرب. وطالبت المادة العاشرة منه الدول الأعضاء بالتعهد باحترام الاستقلال السياسي والسيادة الإقليمية لكل دولة، وقد تأكد هذا الالتزام في المادة الحادية عشرة التي أعلنت مبدأ المسؤولية الجماعية لدول العصبة إزاء كل ما يقع في المجتمع الدولي من حرب أو تهديد بالحرب، وسواء أثّرت هذه الأوضاع بطريق مباشرة وعاجلة في أمن كل دولة عضو أم لم تؤثر، وفي مثل هذه الحالات يتعين على «السكرتير» العام للمنظمة الدولية أن يدعو إلى انعقاد مجلس العصبة للاتفاق حول التدابير الدولية الجماعية التي يتوجب اتخاذها لمواجهة هذه الطوارئ.
وبعد أن ألزم صك العصبة أعضاءه بقبول التسوية السلمية للنزاعات الدولية (م 12)، وبقبول قرار التحكيم وهيئات التسوية القضائية التي يحال إليها النزاع (المواد 13/14/15)، فقد أكد في المادة السادسة عشرة منه أنّه إذا لجأت إحدى الدول الأعضاء في العصبة إلى الحرب متجاهلةً تعهداتها السابقة فإن هذا العمل العدواني ينظر إليه على أنه موجّه ضد كل الدول الأعضاء في العصبة بلا استثناء، وهنا يُطلب من هذه الدول التصرف على الفور في مواجهة الدولة المعتدية وذلك باتخاذ عدد من الإجراءات التي من بينها قطع كل العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية مع الدولة المعتدية وصولاً لتخويل مجلس العصبة حق اقتراح ما يراه فعالاً من التدابير العسكرية «البرية والبحرية والجوية» التي يمكن أن تشارك فيها دول العصبة لردع العدوان وصولاً لحد إنهاء عضوية أي دولة تثبت عليها مسؤولية الإخلال بالتزاماتها نحو العصبة. علماً أن مثل هذه الجزاءات يمكن أن تطال أيضاً الدول المعتدية غير الأعضاء في العهد إذا رفضت قبول التعهدات السابقة وذلك وفقاً لنص المادة السابعة عشرة من العهد.
وقد أخفقت عصبة الأمم في تفعيل هذه النصوص وتطبيقها على أرض الواقع مما أدى إلى انهيارها لاحقاً ودخول المجتمع الدولي عهد الأمم المتحدة.
رابعاً – نظام الأمن الجماعي في ميثاق الأمم المتحدة:
سعى واضعوا ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي أُنشئت في العام 1945 لتجنب أخطاء صك العصبة وعثراتها فيما يتعلق بإقامة نظام قوي وفعال للأمن الجماعي، لذلك فقد كان من أول أهداف التنظيم الجديد هو وضع الضوابط الكفيلة بصياغة مثل نظام كهذا لأجل أن تنعم البشرية بالسلام والأمن. ويقوم هذا النظام في ميثاق الأمم المتحدة على أساس تركيز استخدام القوة في العلاقات الدولية بيد مجلس الأمن نائباً عن الجماعة الدولية، ويتلخص جوهره في مبدأ العمل الجماعي من أجل صيانة السلم والأمن الدوليين وهو يحدث عقب ارتكاب جريمة العدوان الدولي، أو أي عمل آخر من شأنه تهديد السلم والأمن الدوليين أو الإخلال بهما، فهنا يتدخل مجلس الأمن الدولي لفرض الجزاءات المناسبة على الدولة المخالفة. وقد جعل ميثاق الأمم المتحدة مجلس الأمن قيماً على صيانة المجتمع الدولي وحفظ أمنه وسلامته، وجعل مسؤولية رد العدوان وإنزال العقاب بالمعتدي واجباً على الجماعة الدولية كلها التي ينوب عنها مجلس الأمن الدولي بأداء هذا الواجب وفقاً لنصوص الميثاق. ولأجل تفعيل تطبيق هذا النظام فقد تبنى ميثاق الأمم المتحدة مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية وجعله من أول أهداف هيئة الأمم المتحدة ومن أهم مبادئها، وتمت الإشارة له بصورة قاطعة وجازمة في المادة 2/4 من الميثاق، ثم عني الميثاق بالإشارة إلى الحالات المشروعة لاستخدام القوة والجزاءات التي تفرض على الدولة المعتدية، كما عني أيضاً بوضع القواعد الكفيلة بالتسوية السلمية للمنازعات، وحدد في المادة الثالثة والثلاثين وما يليها منه وسائل التسوية السلمية للمنازعات، ومنها المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية وتدخل الوكالات والتنظيمات الإقليمية، فإذا لم تفلح تلك الوسائل السلمية في تسوية النزاع وتم استخدام القوة المسلحة بصورة غير مشروعة فإن مجلس الأمن الدولي يتولى المبادرة هنا لتطبيق نظام الأمن الجماعي من خلال تفعيل منظومة الجزاءات التي نص عليها هذا الميثاق في الفصل السابع منه الذي يتضمن نوعين من الجزاءات:
1 – الجزاءات غير العسكرية (السياسية والاقتصادية): وهي مجموع الإجراءات الجماعية التي يتم اتخاذها من دون أن تتطلب هذه الجزاءات الاستخدام المباشر للقوة المسلحة في عمليات قتالية، وقد نصت عليها المادة الحادية والأربعين من الميثاق والتي أشارت إلى أنه «لمجلس الأمن الدولي أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً، وقطع العلاقات الدبلوماسية».
2 – الجزاءات العسكرية التي أشارت إليها المادة -42- من الميثاق التي نصت على أنه «إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة ــــ 41 ــــ لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تفِ به جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين، أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصار والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة».
ووفقاً لمواد الميثاق فإن مجلس الأمن الدولي هو الجهة المختصة بفرض الجزاءات الدولية والإشراف على تنفيذها والتزامها، وهو ما أكده الميثاق في المادة 24. وأما اختصاص الجمعية العامة بفرض الجزاءات الدولية فإن الأمر محل خلاف فقهي ودولي ما بين مؤيد لمنحها هذا الحق ومنكر له، وفي مطلق الأحوال – حتى فيما يخص الآراء المؤيدة لمنح الجمعية العامة سلطة فرض الجزاءات القمعية – فإنهم متفقون على أن الجمعية العامة لا تتمتع بأكثر من سلطة إصدار توصيات فقط وليس قرارات ملزمة عدا ما صدر عنها بموجب قرار الاتحاد من أجل السلام الصادر عن الجمعية العامة برقم 377 لعام 1950 حين أخفق مجلس الأمن في التصدي لمسؤولياته بسبب استخدام إحدى الدول دائمة العضوية حقه في النقض.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن القرارات التي يصدرها مجلس الأمن بفرض الجزاءات وفقاً لنظام الأمن الجماعي تعد ملزمة لكل الدول الأعضاء وغير الأعضاء في الأمم المتحدة.
خامسا – نظام الأمن الجماعي لدى المنظمات الإقليمية:
تضمنت مواثيق إنشاء العديد من المنظمات الإقليمية تأكيد الالتزام بمتطلبات الأمن الجماعي الدولي والسعي إلى صياغة منظومة أمن جماعي إقليمي خاصة بها، وهذا ما نجده على سبيل المثال في ميثاق جامعة الدول العربية التي أكدت في المادة الخامسة منه تحريم اللجوء إلى القوّة وضرورة فض المنازعات بالطرق السلمية، ثم تبنت في المادة السادسة مبدأ الدفاع المشترك فخولت مجلس الجامعة أن يتخذ التدابير السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية التي يراها لازمة لدفع العدوان الذي يقع على أحد الأعضاء، وهو ما تم ترسيخه بموجب المادة الثانية من معاهدة الدفاع المشترك التي أبرمتها دول الجامعة في العام 1950.
وقد تضمن ميثاق إنشاء منظمة الدول الأمريكية مجموعة من المبادئ المرتبطة بنظام الأمن الجماعي، ومنها تحريم الحروب العدوانية وفض المنازعات بالطرق السلمية، وعدّ أي اعتداء ضد دولة عضو اعتداء على جميع الدول الأمريكية. وهي المبادئ ذاتها التي نجدها في مواثيق المنظمات الإقليمية الأخرى كمنظمة الاتحاد الإفريقي والمنظمات الأوربية، على أن المنظمات الإقليمية ممنوعة في الفصل الثامن من الميثاق باستخدام القوة لردع العدوان أو التهديد بها إلا بتفويض مجلس الأمن.
سادساً – أمثلة عملية من تطبيق إجراءات الأمن الجماعي:
كانت المناسبة الأولى التي لجأ فيها مجلس الأمن إلى فرض الجزاءات العسكرية ضمن منظومة الأمن الجماعي هي الحرب الكورية التي بدأت في 25 حزيران/يونيو 1950 عندما هاجمت قوات كورية الشمالية أراضي كورية الجنوبية بغرض إعادة توحيد كورية، وتقدمت قوات كورية الشمالية متجاوزة خط العرض 38 ْ فاجتمع مجلس الأمن الدولي في اليوم نفسه بناء على طلب الولايات المتحدة الأمريكية واتخذ القرار رقم 82 في 25 حزيران/يونيو1950، وفيه عدّ الهجوم المسلح على كورية الجنوبية إخلالاً بالسلم ودعا إلى وقف القتال حالاً وإلى انسحاب القوات الكورية الشمالية من أراضي كورية الجنوبية ووجه نداء إلى أعضاء الأمم المتحدة لتقديم كل مساعدة ممكنة للأمم المتحدة لتنفيذ هذه القرار وضمان انسحاب قوات كورية الشمالية إلى خط عرض 38 ْ، وإزاء استمرار أعمال القتال اجتمع مجلس الأمن الدولي في 27حزيران 1950 وأصدر قراره رقم 83 لسنة 1950 وأوصى فيه أعضاء الأمم المتحدة بتقديم المساعدة الضرورية إلى كورية الجنوبية لصد الهجوم المسلح الذي تتعرض له ولاستعادة السلام في المنطقة.
وعند صدور هذا القرار أعلنت بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة استعدادها للمساهمة في تنفيذ توصيات مجلس الأمن، وعرضت تقديم العون إذ أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم نفسه أنها أصدرت أوامرها لقواتها البحرية والجوية والبرية بأن تقوم بحماية حكومة كورية الجنوبية ومعاونتها، وفي 7 تموز/يوليو 1950 اجتمع مجلس الأمن الدولي مجدداً واتخذ قراره رقم 84 وفيه دعا جميع الدول الأعضاء لتقديم قوات مسلحة ومساعدات أخرى طبقاً لقرارات مجلس الأمن السابقة، وأوصى بوضع هذه القوات تحت تصرف قيادة موحدة وضعت بإمرة الولايات المتحدة الأمريكية وصرح لها باستخدام علم الأمم المتحدة جنباً إلى جنب مع أعلامها الوطنية.
ثم قام مجلس الأمن الدولي بفرض الجزاءات العسكرية مجدداً على العراق إثر عدوانه على الكويت في 2 أب/أغسطس 1990، فبعد عدة قرارات متلاحقة تضمنت فرض معظم الجزاءات غير العسكرية لجأ مجلس الأمن إلى فرض الجزاء العسكري على العراق وذلك بموجب قراره رقم 678 في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1990.
سابعاً – تقويم نظام الأمن الجماعي في عصر الأمم المتحدة:
إن تقييم العقود الماضية منذ إنشاء الأمم المتحدة حتى الآن تقود للأسف إلى نتيجة عدم فاعلية نظام الأمن الجماعي. ويبدو واضحاً أن المشكلة الرئيسة في هذا النظام هو أن واضعيه قد افترضوا وجود توافق واتفاق في الرؤية والمصالح بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي حيث إن تشغيل ذاك النظام ووضعه موضع التنفيذ كان يفترض بل يستلزم وجود ذاك الاتفاق المفترض الدائم بين الحلفاء في ذلك الوقت الذي صيغ فيه الميثاق، ومن دون توافر هذا الاتفاق لا يمكن أن يتحقق شيء بل يمكن تعطيل كل شيء. وهذا ما حدث على أرض الواقع خلال عقود الحرب الباردة التي شهدت عجز الأمم المتحدة عن إكمال الترتيبات اللازمة لتفعيل العمل بنظام الأمن الجماعي وذلك بسبب حرمانها من القوات العسكرية اللازمة لأداء عملها في قمع العدوان وردعه والحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وسبب هذا أن الخلافات بين الدول الكبرى قد حالت دون تطبيق المادة -43- من الميثاق وما تقتضيه من إبرام الاتفاقات اللازمة لتشكيل القوات الدولية التي يفترض أن توضع تحت تصرف مجلس الأمن ليستخدمها طبقاً للسلطات المخولة له بموجب المادة -42-، فضلاً عن أن الحرب الباردة أدت إلى تجميد عمل لجنة الأركان المنصوص عليها في المادة -47- من الميثاق، وهو ما أدى إلى أن الأمم المتحدة أصبحت عاجزة عن تطبيق قواعد هذا النظام على الرغم من الحروب والنزاعات الكثيرة التي وقعت والتي كان بعض مرتكبيها من الدول الكبرى المخولة تطبيق هذا النظام من خلال عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، كما حدث في العدوان السوڤييتي على المجر سنة 1958وعلى تشيكوسلوفاكيا عام 1968، والعدوان الفرنسي – البريطاني – الإسرائيلي المشترك على مصر سنة 1956، والحملة العسكرية التي قامت بها الصين الشعبية على ڤيتنام سنة 1979، والعدوان الأمريكي على جواتيمالا سنة 1954 وكوبا سنة 1961 والدومينكان سنة 1965 وڤيتنام من سنة 1962-1973 وإيران سنة 1980 ونيكاراجوا سنة 1983 وجرينادا سنة 1983 وليبيا سنة 1986 وبنما سنة 1989-1990. علماً أن هذا العجز والإخفاق استمر أيضاً في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وهو ما بدا بوضوح من خلال تعامل مجلس الأمن الدولي مع العدوان الأنجلو – أمريكي على العراق في العام 2003، وتشييد إسرائيل لجدار الفصل العنصري في العام 2004 في أراضي فلسطين المحتلة، والعدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان في 12/7/2006 وعلى غزة في مطلع العام 2009.
ثامناً – المقترحات المطروحة حول إصلاح نظام الأمن الجماعي:
تركّز مجمل مشاريع الإصلاح المعروضة حالياً للنقاش والتداول على خلق البيئة الدولية المناسبة التي تحول دون حدوث النزاعات الدولية على نحو وقائي ودونما الحاجة إلى تفعيل نظام الأمن الجماعي، أو العمل على إصلاح مجلس الأمن ذاته بوصفه الجهاز الرئيسي المخول بتطبيق هذا النظام؛ إذ أدى شلل المجلس وعجزه إلى تعطيل نظام الأمن الجماعي عقوداً طويلة.
ولهذا نجد أن بعض المشاريع تؤكد أن دور الأمم المتحدة في منظومة الأمن الجماعي يجب أن يبدأ قبل اندلاع الأزمات للحيلولة دون وقوعها أصلاً، ويتحرك معها إذا ما اندلعت للعمل على تسويتها ثم تثبيت هذه التسوية وضمان استمرارها من خلال إحداث تحول في بيئة الأزمة نفسها وتحويلها من بيئة صراعية إلى بيئة تعاونية. فضلاً عن تبني مجموعة من الإجراءات ضمن منظومة الأمن الجماعي الوقائي ومنها إنشاء شبكة متكاملة للإنذار المبكر تقوم بجمع البيانات وتحليلها ومحاولة التنبؤ بمناطق الأزمات المحتملة وطبيعتها، ونشر قوات تابعة للأمم المتحدة- لأغراض وقائية – في مناطق التوتر أو الأزمات المتصاعدة سواء كانت الأزمات محلية أم دولية.
فيما تركز مقترحات أخرى على إصلاح مجلس الأمن الدولي ذاته بوصفه المسؤول عن شلل نظام الأمن الجماعي وتعطيله، ويلاحظ هنا مجموعة من المشاريع التي تدعو إلى إعادة النظر في تشكيل المجلس مع وجود خلافات عميقة حول الصيغة الجديدة والمقترحة، فيما تدعو مشاريع أخرى إلى إعادة النظر في حق النقض وضرورة إعطاء دور أكبر للجمعية العامة، خاصةً في اتخاذ القرارات المرتبطة بمنظومة الأمن الجماعي، وإخضاع قرارات مجلس الأمن لرقابة محكمة العدل الدولية.
ويبدو أن مشاريع الإصلاح هذه باتت خطوة هامة وضرورية لتعزيز قدرة الأمم المتحدة على مواجهة التحديات الجديدة التي يواجهها المجتمع الدولي والتي تهدد بحق مصير الوجود البشري بأكمله. لكن مشاريع الإصلاح السالفة كلها رهينة بتعديل ميثاق الأمم المتحدة، وهذا صعب حتى ليقال إنه مستحيل بسبب حق الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في رفض التصديق على الميثاق المعدّل إلا بما يضمن استمرار سيطرتها.. *
* عن الموسوعة العربية…