الاحتلال والفساد — دراسة حالة العراق
الاحتلال والفساد — دراسة حالة العراق
د. نبيل جعفر عبد الرضا
2013 / 7 / 10
الادارة و الاقتصاد
المقدمة
أنزلق العراق بعد عام 2003 في أتون الفساد والإرهاب والبطالة والمخدرات وانتشار الجريمة المنظمة والسرقة بكل أشكالها ، وأصبح الفساد من أهم القضايا التي تواجه الاقتصاد والمجتمع العراقي . فقد استتبعت لحظة الانهيار الدموي لأركان الدولة استشراء حالات الفساد بصورة كبيرة داخل أجهزة الدولة . وعلى الرغم من الفساد ليس بالظاهرة الجديدة في العراق وإنما وجد منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ، إلا إنه اتخذ أبعادا جديدة وأشكالا مختلفة وامتد ليضرب بأطنابه كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق مستمدا زخمه وقوته من الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة ، وفي ظل الملاذ الآمن الذي وفرته سلطة الاحتلال الأمريكي لحماية المفسدين بوسائل شتى بعضها تشريعية وقانونية وبعضها الآخر يتعلق بتوفير الحماية والدعم لهم ، بل وامتد الفساد ليشمل سلطة الاحتلال ذاتها والشركات المتعاونة معها . وقد أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي يوم 1/12/2011 ، عن مدركات الفساد في دول العالم . وقد شمل هذا العام (182) دولة جاء العراق في التسلسل (175) في قائمة الدول الاكثر فسادا في العالم .
وقد كشف تقرير لهيئة النزاهة العراقية على أن نسبة الفساد تضاعف في العراق عام 2010 بثلاثة أضعاف قياسا بنسب الفساد في 2009. كما أشار التقرير السنوي للهيئة ذاتها في عام 2010 إلى أن عدد المطلوبين لهيئة النزاهة قد بلغ 8307 متهما ، منهم 247 متهما بدرجة مدير عام فأعلى من ضمنهم 8 بدرجة وزير . إن ظاهرة الفساد في العراق، لا ترتبط بعملية اختلاس الأموال أو سرقة المال العام على مستوى الأفراد فقط، إنما تعود إلى أسباب تخص بناء الدولة في العراق وانعكاساتها السلبية على السلوك الفردي ، والذي أدى فيه الاحتلال الأمريكي دورا حاسما في تأصيل الفساد الذي بات ينخر في جسد الدولة ويحد كثيرا من إمكانات تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي في العراق ، إذ ان خطورة الفساد ليست في نتائجه الاقتصادية فحسب وإنما في نتائجه الاجتماعية أيضا ، وفي خلخلة العلاقات بين أفراد المجتمع وإقامتها على أسس غير سليمة وغير سوية .
أشكال الفساد الاقتصادي في العراق
1.غسيل الأموال :-
يعد الاحتلال الأمريكي سبباً رئيساً في انتشار ظاهرة غسيل الأموال في العراق ، إذ نلاحظ بعد عام 2003 ، ما أصاب المؤسسات الحكومية من تفكيك ونهب للممتلكات العامة وما رافق المرحلة من اتساع ظاهرة الفساد ، والمتاجرة غير المشروعة وتهريب النفط ، والفساد في مقاولات إعادة الأعمار كلها أمور أدت إلى تفاقم عمليات غسيل الأموال. وعلى وفق تقرير أعدته ( ارنيست ان يوتغ) عن تتبع إيرادات النفط العراقي ،تم اكتشاف مبلغ (211) مليون دولار من هذه الإيرادات أودعت في حسابات وهمية وغير قانونية ، وفي السياق نفسه تسلم بعض المسؤولين في شمال العراق من سلطة التحالف المؤقتة التي يترأسها (بول بريمر) مبلغ يقدر بحوالي (1.8) مليار دولار مقابل السكوت عن السرقات التي يقوم بها الأخير من خلال عقود عملية إعمار العراق ، ومن ثم اتفق المسؤولون على غسل هذه الأموال في البنوك السويسرية (1) .
2. الرشوة :-
وتعد أبرز أشكال الفساد في العراق فهي منتشرة في أغلب المؤسسات الحكومية ، إذ وجدت في السابق في المؤسسات العسكرية وبعدها انتقلت إلى المؤسسات المدنية ، وقد انتشرت بشكل واسع بعد عام 2003 ، خصوصاً في عقود إعادة الأعمار ولم تقتصر الرشوة على العراقيين فقط. إذ أتهم فيها المسؤولون الأمريكيون أيضاً ، فقد استغل (جون كوكيرهام) ممول عقود إعادة الأعمار في العراق عام 2005 ، منصبه وتلقى رشاوى قدرت بحوالي(6و9) ملايين دولار عند منح ثمانية عقود، وكان من المؤمل أن يحصل على (4و5) ملايين دولار أخرى عن منح عقود أخرى لولا إقصائه من منصبه (2). وهناك أيضا عدد من موظفي الحكومة الأميركية الذين تلقوا رشاوى من أجل توجيه عقود لمتواطئين محليين ووفروا معلومات لأناس كانوا يتنافسون للحصول على عقود . وكان تقريران حكوميان أميركيان صدرا في شهر تشرين الأول امن عام 2011 احدهما للمفتش العام لإعادة أعمار العراق، قد كشفا بحسب ما نشرته صحيفة هافنغتون بوست الأميركية، إن موظف في السفارة الامريكية في بغداد قد خدع وزارة الخارجية وأرسل 240 ألف دولار أميركي في حسابه المصرفي الأجنبي.وتشمل بعض الحالات المذكورة في التقريرين على الأتي: الرقيب في سلاح المدفعية اريك هاميلتون اعترف بأنه مذنب جراء تواطئه في ما يقول ممثلو الادعاء بأنه مخطط لمساعدة مقاولين عراقيين على سرقة 70 مولدة كهرباء كان الغرض منها تزويد مشاة البحرية بالكهرباء.وقد نشرت جريدة الصباح الجديد العراقية في عددها 2101 في 20-9-2011 إن شركة “التميمي العالمية المحدودة” السعودية قد توصلت إلى تسوية مع وزارة العدل الأميركية وافقت بموجبها على دفع 13 مليون دولار كغرامة في قضية تقديم رشا وعمولات من أجل الفوز بعقود لدعم الجيش الأميركي في العراق والكويت. ونقلت وكالة “أسوشييتد برس” الأميركية عن وزارة العدل قولها بأن الشركة السعودية قد دفعت رشا وعمولات لموظف في شركة “كيلوغ براون آند روت”، وكذلك لرقيب سابق في الجيش الأميركي، من أجل أن تضمن الحصول على عقود، مشيرة إلى أن الموظف والرقيب السابق اعترفا بالحصول على أموال غير شرعية من الشركة .
وعلى وفق إستبيان نفذته هيئة النزاهة في عام 2010 بلغ عدد الموظفين الذين يتقاضون الرشوة في العراق (17599) موظفا مقارنة بعام 2009 الذي تقاضى فيه (12129) موظفا للرشوة (3)
3. اختلاس المال العام :-
ويعرف على أنه إذن احتيال يتم بواسطة الاستيلاء على ملكية من قبل شخص مؤتمن رسمياً أو ممن يعهد إلية بالأمانة، مثل المحاسب الذي يتلاعب في سجلات دائرته لأخذ المال نقداً. وشهد العراق الكثير من عمليات الاختلاس ، وبخاصة بعد عام 2003 ، إذ يشير وزير المالية السابق (علي عبد الأمير علاوي) ، أن حوالي مليار دولار تم اختلاسها من الموازنة المخصصة لوزارة الدفاع ، وفي السياق نفسه تم اكتشاف عملية اختلاس في عام 2005 ، بلغت حوالي (500) مليون دولار كانت مخصصة لمكافحة الإرهاب (4) .
4. التهريب :-
ظاهرة التهريب ليست حديثة وإنما موجودة منذ النظام السابق ، وتجلت بوضوح خلال فترة الحصار الاقتصادي خصوصاً في برنامج النفط مقابل الغذاء ، إلا أن هذه الظاهرة اتسعت بدرجة أكبر بعد الحرب الأخيرة ، واتخذت أشكالاً عدة ، كتهريب النفط ، والثروة الحيوانية ، والآثار ، والمعادن النفسية -الزئبق الاحمر وغيره
5.التزوير :-
ازدادت عمليات التزوير في العراق بعد الحرب الأخيرة في ظل غياب سلطة القانون ، فظهرت هذه الصورة من الفساد في الوثائق الرسمية والمالية كالشهادات العلمية والعملة النقدية وحتى تزوير الماركات التجارية وتواريخ الصلاحية في السلع المحلية والأجنبية ، ومن الأمثلة البارزة بهذا الصدد في العراق ، تزوير الشهادات العلمية ، إذ تشير هيأة النزاهة العراقية إلى أن هناك 20000 شهادة مزورة منها (905) قضايا تزوير شهادات علمية لمسؤولين عراقيين و110 من مرشحي الانتخابات الذين قدموا شهادات مزورة،، ويؤكد الدكتور عبد الله الموسوي المستشار الثقافي في السفارة العرقية في لندن ذلك عندما أشار إلى أنه يواجه ضغوط من مسؤولين عراقيين لاعتماد شهاداتهم وإعادتها إلى بغداد كشهادات حقيقية حصلوا عليها من جامعات في بريطانيا (5) . وقد بلغ عدد مزوري الشهادات الدراسية من مرشحي انتخابات مجالس المحافظات على وفق الارقام التي اعلنتها هيئة النزاهة (339) مرشحا (6) .
أسباب الفساد الاقتصادي بعد عام 2003 :
فضلا عن الدور الحاسم للاحتلال الأمريكي في تفاقم وتوطيد ظاهرة الفساد في الاقتصاد والمجتمع العراقي ، ثمة أسباب أخرى أسهمت بقدر أو بآخر في انتشار هذه الظاهرة منها :
1- الوضع الأمني وعدم الاستقرار السياسي ، أدى إلى تردي مستوى الحكم والإخلال بسيادة القانون الذي أضعف العقوبات الرادعة ضد الفساد والمفسدين ،
2- موروث المرحلة السابقة الذي أدى إلى انهيار النظام القيمي والأخلاقي لأغلب أفراد المجتمع الأمر الذي أسهم في توليد الفساد الشخصي والإداري من جهة ، والفساد الاقتصادي المتمثل بسوء توزيع الثروة في المجتمع من جهة أخرى.
3- غياب الإرادة السياسية في مكافحة الفساد وعدم اتخاذ إجراءات صارمة بحق عناصر الفساد وضعف آليات معالجة الفساد ومحاسبة المفسدين
4-غياب الشفافية والوضوح في منح العقود الخاصة بإعادة إعمار العراق ، وتمتع المسئولين الحكوميين بحرية التصرف وبقليل من الخضوع والمساءلة
5- السرعة في تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي بعد سقوط النظام ،
6- وجود بعض التشريعات والقوانين المعمول بها في العراق التي شجع الاحتلال الامريكي على تشريعها ، التي تشكل غطاء حقيقياً للمفسدين والفاسدين ، والعقوبة المنصوص عليها لا تشكل رادعاً عن ارتكاب الأعمال الفاسدة(، إذ تعد هيأة النزاهة المحور المهم في منظومة القضاء على الفساد في العراق ، بيد أن المادة (136/ب) من قانون أصول المحاكم العراقية تشكل عائقاً أمام الهيأة لأنها تعرقل كل محاولة لإحالة موظف ثبت تورطه بجريمة فساد إداري أو مالي دون موافقة الوزير التابع له . إذ تشير هيئة النزاهة على موقعها الالكتروني الى أن الوزراء قد اوقفوا الاجراءات القانونية بحق (151) موظفا متهما بقضايا فساد .
مجالات الفساد في الاقتصاد العراقي
أولاً : الفساد في القطاع النفطي :
ينظر إلى الفساد في القطاع النفطي من قبل العديد من الخبراء على أنه واحد من أكبر التحديات التي تعتري الاقتصاد العراقي وتشكل تهديداً كبيراً له
ومن أشكال الفساد في القطاع النفطي مايلي :
أ- الفساد وعدادات القياس
لم تستخدم الحكومة الأمريكية الإدارة السليمة في التعامل مع الموارد العراقية وأهمها النفط. فأنها بدءاً عمدت إلى إنهاء خدمات شركة سيبولت الهولندية التي كانت مكلفة من قبل الأمم المتحدة بمراقبة تصدير النفط العراقي في أثناء برنامج النفط مقابل الغذاء ، بحجة أن كلفتها عالية على الرغم من أنها لم تتجاوز (3) ملايين دولار سنوياً ، وهي لا تمثل شيئاً أمام الملايين من الدولارات التي يخسرها العراق يومياً بسبب غياب القياس المتري (أجهزة تدفق قياس النفط) التي عادة ما تقاس به عمليات استخراج النفط وفي نطاق واسع بدءاً من البئر إلى المصافي وإلى محطات التصدير ، مما وضع هذا المورد عرضة لعمليات السرقة والنهب ، ويشير (مايك موريس) الخبير في صناعة النفط ، إلى أن العراق يخسر ما بين (200 -500) ألف برميل يومياً بسبب غياب عدادات القياس ، وهذا يكلف الاقتصاد العراقي خسائر مالية كبيرة)،تقدر بحوالي (3و6) مليارات دولار سنوياً ويؤكد ذلك المفتش العام لوزارة النفط العراقي (7) . وقد جاء في التقرير السنوي للمفتش العام في وزارة النفط العراقية في عام 2011 ، بعدم دقة القياس والضبط في نقل وتداول النفط الخام ومشتقاته بسبب استخدام أجهزة قياس وضبط قديمة نسبيا ، وإحالة العقود على شركات وسيطة . كما تطرق التقرير ذاته الى تضخيم كلف العقود من قبل الشركات العالمية المرخصة لتطوير الحقول النفطية (بموجب جولات التراخيص النفطية ) التي تسعى من وراء ذلك للحصول على أرباح ومدخولات عالية (8) .
ب – تهريب النفـط
تقدر وزارة النفط العراقي كميات النفط المهربة بنسبة تتراوح ما بين (15 -20 %) من إجمالي أنتاج النفط ومشتقاته ، كما يمكن تقدير الكمية المهربة من المشتقات النفطية للمدة (2003 – 2006) بحوالي (286) ألف برميل/يوم قدرت كلفتها الاقتصادية بحوالي (177و2) مليار دولار للمدة ذاتها (9) . ونشر المجلس الدولي للمشورة والرقابة ( IAMB )، تقريره السنوي بشان العراق خلال العام 2011، والذي ورد فيه ان النفط العراقي قد تعرض إلى التهريب وعلى نطاق واسع، وإن أجهزة وزارة النفط لغاية تاريخ إعداد هذا التقرير لم تستكمل نصب العدادات الالكترونية الخاصة بتحديد الكمّيات المستخرجة والمصدّرة من النفط ، فضلا عن عدم تحديد الكميات التي تذهب للمصافي المحلية لتحويلها إلى مشتقات نفطية
ثانياً : الفساد في إعادة أعمار العراق
قبل بداية الحرب وبالذات في أكتوبر 2002 ، شرعت وزارة الخارجية الأمريكية في وضع خططها لإعادة بناء العراق في مرحلة ما بعد الحرب ومن خلال مشروعها الذي أسمته مشروع مستقبل العراق ، لكن الأمر واجه صعوبات جمة بسبب التنافس بين وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين حول مسؤوليات إعادة الأعمار بعد السيطرة على الأوضاع في العراق ، إن الأمم المتحدة لم تؤد دوراً قيادياً في جهود إعادة الأعمار في العراق ،بل أسندت مسؤولية إعادة الأعمار إلى وزارة الدفاع الأمريكية وليس إلى منظمات مدنية داخل الإدارة الأمريكية وبالأخص في المراحل البكرة .
ثمة مبالغات كبيرة في تقديرات تكاليف إعادة أعمار العراق بين أقوال الرئيس الأمريكي السابق بوش ومؤسساته التمويلية الدولية من (100) مليار لتصل إلى (410) مليار دولار عند مجلس شيوخه . في حين ترى أوساط محايدة إن كلفة أعمار العراق لا تتجاوز (36) مليار دولار بعد أن نأخذ بالاعتبار إمكانات القدرات والموارد الوطنية المتاحة كماً ونوعاً .
ومن الأمثلة على المبالغة في تكاليف إعادة الأعمار ، المقاولة التي أعطيت إلى شركة هاليبرتون الأمريكية بمبلغ (7) مليار دولار لإعادة بناء تجهيزات لصناعة النفط العراقية قبل أن تطأ القوات الأمريكية ارض العراق ، أما شركة بيكتل فقد حصلت على عقد بقيمة (2ر8) مليار دولار لإعادة بناء قطاعات في الماء والكهرباء والطرق .
إن مشروعات إعادة أعمار العراق خاضعة لسلطة الاحتلال وشركاتها ضمن خضوع الاقتصاد العراقي برمته ، فالشركات الأمريكية تحصل على عقد المشروع باللزمة (غياب المنافسة والمناقصة) ثم تعلن الشركة صاحبة العقد وهي في الغالب أمريكية المناقصة لإرسائها على تلك الأقل سعراً أو عطاء ، وللشركة العراقية الدخول في المنافسة كأي شركة أجنبية تحاول الحصول على المنافسة من الباطن ، وإذا حصلت الشركة العراقية على عقد المشروع فسيكون اقل كلفة بكثير مما هو مدرج في العقد الأصلي كما حصل ذلك في واقعة جسر ديالى حيث تقدمت إحدى الشركات الهندسية العراقية بعرض لإصلاح جسر ديالى بمبلغ (300) ألف دولار لكن عقد المشروع أعطي إلى شركة أمريكية بمبلغ (50) مليون دولار .
وقد حذرت منظمة الشفافية الدولية في تقرير سابق لها في عام 2004 من أن عملية إعادة أعمار العراق يمكن أن تتحول إلى “اكبر فضيحة فساد في التاريخ” ، ويضيف التقرير بان العديد من المشاريع قد نفذت بأموال طائلة ولكن بمواصفات متدنية وجودة اقل ، وتحمل المنظمة الإدارة الأمريكية في العراق مسؤولية ذلك من خلال إعطائها عقوداً للاستثمار في مجال النفط لشركة هاليبورتون وشركات أخرى بدون إجراء مناقصة علنية . فيما ذكرت الكاتبة الأمريكية (نعومي كلاين) في مقال كتبته في مجلة الأمة الأمريكية “الناس المسؤولون عن إعادة بناء العراق لا يمكن أن يصابوا بالحيرة ، لأنهم بوضوح لا يعرفون الخجل” ثم تستطرد قائلة “اذا كانت الفضائح المالية تصبغ وجهك بحمرة الخجل فعملية إعادة الأعمار كلها تجعلك تموت حرجاً ، فالأمريكان الذين لا يرحبون بانفاق نقودهم لا يشعرون بوخز الضمير وهم يمدون أيديهم في أموال العراقيين” ، وطبقاً (لتشارلز ادوان) من منظمة الشفافية الدولية فان (20%) على الأقل من الإنفاق على أعمار العراق يضيع في الفساد .
منذ الأيام الأولى التي تلت الحرب ، منحت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عقودا لعدد من الشركات الأمريكية لتنفيذ مشاريع بقيمة 7و1 مليار دولار . وقد وصفت هذه العقود بالتعسفية وإنها تخالف الأصول المتبعة في إرساء العقود . وقد أشار المفتش العام الخاص بإعادة أعمار العراق (ستيوارت دبليو بوين) في تقريره في تموز 2010 إلى وجود 108000 معاملة ذات نشاط منحرف تقدر قيمتها بنحو 8و35 مليار دولار تمت خلال المدة 2003- 2009 ، وهو يشمل المدفوعات التي قد تكون مكررة والمدفوعات للموردين الوهميين (10). وعلى الرغم من سوء ضبط الحسابات وسوء إدارة الأموال العراقية والادعاءات العراقية الأخيرة أن الولايات المتحدة سرقت المال. لكن على العراقيين كما يقول (ستيوارت بوين) ان يقروا بتورطهم بالمخالفات التي وقعت.وفي مقالة لصحيفة لوس انجليس تايمز نقلت عن بوين قوله إن الأموال المفقودة يمكن أن تمثل “أكبر سرقة أموال في التاريخ القومي”..وقد شكلت السلطات العراقية لجنة خاصة لمتابعة اختفاء 17 مليار دولار من أموال صندوق إعادة إعمار العراق الذي كانت تشرف عليه سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة بول بريمر. وأفاد بيان صادر عن مكتب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية روز نوري شاويس أن “اللجنة الخاصة بوضع آلية ضمان حماية أموال العراق درست موضوع اختفاء مبلغ 17 مليار دولار من الأموال العراقية”. وقد ارتبط الفساد في مرحلة إعادة الأعمار فضلا عن المسؤولية المباشرة والحاسمة للاحتلال الامريكي الذي أشاع ثقافة الفساد وشجع مرتكبيها ووفر الحماية والدعم التشريعي والمادي اللازم لهم ، بوجود ثلاثة أسباب رئيسة هي : (11)
1- تدفق التمويل بشكل كبير وتحديداً تمويل الدول المانحة والمساعدات الدولية التي تسعى لإعادة أعمار خلال فترة وجيزة ، فإعادة الأعمار بعد الحرب حالة استثنائية يسمح فيها تجاوز الأنظمة في منح العقود دون مناقصات تنافسية وبغض النظر عن الربح الاستغلالي الذي يولده الفساد ، فمثلاً قيام مقاولين غير عراقيين بتجديد (20) مركز شرطة في محافظة البصرة بقيمة (25) مليون دولار ، إلا إن المشروع لو أعطي إلى شركة عراقية مؤهلة لكانت قد أتمته بحوالي (5) ملايين دولار أو اقل من ذلك.
2- ضعف مؤسسات الحكم ، بعد سقوط النظام السابق في العراق ، وبسبب غياب الأنظمة والقوانين أصبح هناك فراغ دستوري وقانوني ، تولد معه الفساد تبعاً لطبيعة المرحلة الانتقالية ، فبعض المسؤولين عندما يأتون إلى سدة المسؤولية يأخذون ما يستطيعون أخذه ، بسبب المدة القصيرة التي يتبوأ بها المنصب، ولهذا تشير هذه المرحلة عن اكتشاف العديد من حالات الفساد والسرقة عند استبدال المسؤولين بآخرين.
3- انتشار الدمار الذي تخلفه الحروب ، يؤدي إلى ضرورة القيام بإصلاح البنى التحتية المدمرة بعد الحروب. إذ ورث العراق بنى تحتية مدمرة نتيجة الحروب ، فالمدارس والمستشفيات غير صالحة للاستخدام ، وشبكة الطرق محدودة ، وشبكات الكهرباء والماء غير كفوءة ، ولذلك لابد من القيام بالمشاريع التي تضمن النهوض في البنى التحتية ، التي تشير الدراسات إلى أنها الأكثر عرضة لعمليات الفساد، بسبب غياب التخطيط التنموي والتنسيق ، ففي ظل الحماس للأعمار وغياب القدرة على رؤية شاملة يؤدي ذلك إلى عشوائية المشاريع وعدم التنسيق بينها والأخطر من ذلك غياب الشفافية والمحاسبة في المشاريع ، وأن المراقبين ووسائل الإعلام المحلية يجدون صعوبة في الحصول على المعلومات الخاصة بالمشاريع التي يصبح من نتائجها الهدر والفساد)
وفيما يتعلق بمجالات الفساد في إعادة إعمار العراق يمكن التطرق إليها كما يلي:(12)
أ- التلاعب في صندوق تنمية العراق
بلغت المبالغ المودعة في الصندوق للمدة من نهاية أيار /2003 إلى نهاية أيار/2004 ، نحو (10) مليارات دولار، إلا أن الحسابات التفصيلية الخاصة بإيرادات النفط خلال تلك المدة ، تشير إلى أن تلك الإيرادات بلغت (13) مليار دولار بفارق (3) مليارات دولار عن تقدير سلطة التحالف ، كما كشفت هيأة الاستشارات والرقابة الدولية عن الكيفية التي تتلاعب بها سلطة التحالف المؤقتة التي يرأسها (بول بريمر) بإيرادات النفط العراقي وهدر هذه الأموال، عندما أشارت إلى أن تلك السلطة أنفقت (3و11) مليار دولار، دون جدوى من تطوير أي قطاع اقتصادي يذكر ، وأن (بريمر) في أواخر أيام توليه السلطة في العراق، أنفق المليارات من الدولارات دون جدوى، إذ انه كان يتمتع بحرية كاملة، كما تورطت السفارة الأمريكية باختفاء (9) مليارات دولار من أموال العراق المودعة في صندوق تنمية العراق ، عندما تسلمتها السلطات الأمريكية في مايو/2003 ، بهدف إعادة إعمار العراق ، إلا أن السلطات بددت المبلغ ولم يعرف مصيره لحد ألان.
ب- الفساد في مكتب المشروعات والتعاقد الأمريكي:
أن أغلب الأموال المتوقع إنفاقها في عمليتي البناء والأعمار في العراق لم يتم إنفاقها أصلاً أو تم إنفاقها بشكل سيء، فالحكومة الأمريكية منحت الكثير من العقود لكنها لم تراع الشروط الخاصة بمنح تلك العقود ، فأغلب العقود منحت دون إجراء مناقصات أو تحديد أسعار ، وأن أغلب العقود أحيلت إلى الشركات الأمريكية والبريطانية ، إذ حازت الأولى على (74%) والثانية على (11%) من إجمالي عقود إعادة الأعمار ، واستأثرت الشركة الأمريكية هاليبورتون على النسبة الأكبر من العقود البالغة (60%) وبدون مناقصات (13).
ثالثا : الفساد في الوزارات العراقية
كشفت هيأة النزاهة العراقية ، التي تأسست عام 2004 ، كهيأة منفصلة عن المفتش العام الخاص بعملية إعادة إعمار العراق ، عدداً كبيراً من حالات الفساد في الوزارات العراقية ، وقدرت الأموال المهدورة جراء الفساد للعامين (2005 – 2006) بحوالي (5و7) مليارات دولار، إذ حازت وزارة الدفاع على الحصة الأكبر من هذه الأموال ، وبلغت (5و4) مليارات دولار أي ما نسبته (60%) من إجمالي المواد المهدورة ، وزادت عمليات الفساد فيها بسبب زيادة إنفاقها وحسب ما تقتضيه المرحلة لتوفير الأمن والاستقرار. وكشفت هيأة النزاهة عن تورط مسؤولين كبار في الوزارة بسرقة مليار دولار من خلال التعاقد لشراء معدات عسكرية تبين أنها معدات قديمة وغير صالحة للاستعمال، فمثلاً تعاقدت الوزارة على شراء (24) طائرة سمتية ودفعت مبلغ العقد البالغ (22) مليون دولار وعند فحصها فنياً تبين أن أربعاً منها صالحة والباقية قديمة ولا يمكن استخدامها، وجاءت بعدها وزارة الكهرباء التي إهدر فيها نحو (080و1) مليار دولار أي ما نسبته (13.7%) ، إذ اتهمت هيأة النزاهة مسؤولين كبار في إهدار هذه الأموال عن طريق السرقة والتلاعب في عقود الوزارة ، فضلا صفقة الأسلحة الخردة ومعدات الكشف الالكتروني عن المتفجرات ولم لم تكتشف متفجرة واحدة في شوارع العراق التي تعج بالعبوات اللاصقة . أما وزارة النفط فقد بلغت أموال الفساد فيها (710) ملايين دولار وبنسبة (9.47%) ، أما الوزارات الباقية فقد اختلفت درجة الفساد فيها ، طبقا لطبيعة ونوعية العقود المنفذة فيها .إن أغلب الأموال التي أهدرت كانت بسبب التلاعب في أقيام العقود التي تبرمها الوزارات ، أو الحصول على نسبة من قيمة العقود التي تكون لها خسائر وتكلفة اقتصادية تتحملها موازنات تلك الوزارات. فضلاً عن ذلك وجود فساد مالي غير منظور يقدر بأكثر من هذه المبالغ ، والمتأتي من الاختلاسات أو ترميم المنشآت التابعة للوزارات أو أكساء طرق او ابرام العقود وغيرها، مثل صفقة الزيوت النباتية الفاسدة (التي كلفت 55 مليون دولار ) وصفقة الشاي المخلوط بنشارة الخشب إلى صفقات المواد الغذائية التالفة وغيرها من عقود وزارة التجارة التي تعرض سلامة المواطن لمختلف الأمراض الى التلاعب بأراضي جامعة البكر التي منحت لأحد المتنفذين بسعر رمزي رغم انها تقع في قلب بغداد .
وقد وضحت السفارة الأمريكية في بغداد من خلال تقريرها المقدم إلى الكونغرس الأمريكي عام 2009 مدى تفشي الفساد في الوزارات العراقية من خلال الكشف عن القضايا المتورطة فيها تلك الوزارات ، الذي يشير إلى أن وزارة الدفاع جاءت في المرتبة الأولى في قضايا الفساد ، وهذا ما يطابق تقديرات مفوضية النزاهة العراقية في الأموال التي أهدرت في الوزارات العراقية ، إذ بلغ عدد القضايا فيها (453) قضية فساد أحيلت منها (313) قضية إلى المحاكم وكانت منها (54) حالة تشمل من مدير عام فأعلى ، وجاءت بعدها وزارة الداخلية بـ (426) قضية فساد حولت منها (97) قضية إلى المحاكم. ومنها (57) حالة تشمل من مدير عام فأعلى، وسبب الفساد في هاتين الوزارتين يعود لكبر التخصيصات الموجهة لتلك الوزاراتين من أجل تطوير الجيش وقوى الأمــن الداخلـي ،إلا أن تلك التخصيصات استخدمت لتحقيق ريع الفساد ، فنلاحظ أن تكلفة تدريب الشرطي العراقي الواحد خلال مدة تتراوح من ( 6 -8) أسابيع في الأردن بلغت من (40 – 60) ألف دولار وكان بالإمكان تدريبهم في الداخل (14) .
رابعا – رواتب وإمتيازات المسؤولين
مع أن الدستور العراقي كان واضحاً في دعوته إلى تشريع قوانين ثلاثة تضمن إطارا قانونياً لمرتبات الرئاسات الثلاث وعلى النحو نفسه في مواد مختلفة هي (المادة 63) أولا التي تنص على أن «تحدد حقوق وامتيازات رئيس مجلس النواب ونائبيه وأعضاء المجلس، بقانون» والمادة (74) التي تنص على أن «يحدد بقانونٍ، راتب ومخصصات رئيس الجمهورية» وأيضا المادة (82) ونصها «ينظم بقانونٍ، رواتب ومخصصات رئيس وأعضاء مجلس الوزراء، ومن هم بدرجتهم . وغياب القوانين المنظمة لمرتبات الرئاسات الثلاث مسؤولية يتحملها البرلمان السابق والحالي كما يقول رئيس هيئة النزاهة السابق رحيم العكيلي الذي يقول أن «رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء هي التي تقرر ما تريد أن تتقاضاه من مرتبات ومخصصات ومنافع ومكافآت ونثريات وصرفيات أخرى غير معروفة أسبابها ولا حجمها وهو أمر مخالف للدستور ويتعارض مع مبدأ مهم من مبادئ مكافحة الفساد المالي والإداري». ويضيف أن «لدى الهيئة تصوراً كاملاً عن الرواتب التي تتسلمها الرئاسات الثلاث وأعضاؤها، من طريق كشوفات المصالح المالية التي تردها، لكن المشكلة «هي في غياب القانون الناظم وبالتالي لا نستطيع أن نفعل شيئاً حيال هذه المبالغ».
ويتحدث العكيلي عن الطريقة غير المنطقية التي جرى على أساسها اعتماد مصاريف كبار الموظفين في الدولة العراقية بسبب ما أسماه «تلكؤ مجلس النواب السابق بإصدار قوانين تحدد رواتب الرئاسات الثلاث ومنافعها». و (إن مؤسسته لا تمتلك التفاصيل الدقيقة لمصروفات الطبقة السياسية العليا لأن مرتباتهم ومخصصاتهم لا تخضع لقانون).
وغياب القانون بحسب المختصين «جعل الدولة تسمح لمكاتب الرئاسات بأن تضع رواتــب الرؤساء ومستحقاتهم، ما منع خلال السنوات السابقة إمكانية تدخل هيئة النزاهة لمعرفة هذه المصاريف، لأن هـــذه الرواتــب وضــعت وفق قوانين مؤقتة يشوبها الغموض، والــجهة المسؤولة داخل مجلس النواب عن تأخر تمرير هذه القوانين وتأجيلها إلى الـــدورة البرلمانية الحالية هي الكتل السياسية مجتمعة». وأن الجهات الرقابية تعلم نسبيًا بالمرتبات وجزءا من المخصصات لكنها “لا تعلم بملايين الدولارات التي تصرف للرئاسات كمنافع اجتماعية ينفقها الساسة في فعل الخير العام، وانه لا توجد طريقة لتدقيق ذلك”، خاصة وان المعلومات المهمة في هذا الإطار لا توجد إلا في “الموازنة التفصيلية” المودعة لدى وزير المالية، والتي لم تنشر مطلقا حتى الآن. وعلى خط التفكير نفسه لم يكشف رئيس الجمهورية ونوابه عن مصالحهم المالية في عام 2012 ، وباستثناء السيد حسين الشهرستاني لم يكشف رئيس الوزراء ونوابة عن مصالحهم المالية حسب تقرير هيئة النزاهة لعام 2012 التي ذكرت ايضا ان (6) نواب فقط من اصل (325) عضوا كشفوا عن مصالحهم المالية (15) .
نتائج الفساد الاقتصادي في العراق
أولاً- تفاقم مشكلة البطالة
تفاقمت مشكلة البطالة في العراق بعد عام 2003 ، مقترنة بأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية ، كان معلمها الأول الفساد الذي شهده الاقتصاد العراقي وما أحدثه من تشوه في المشاريع الاستثمارية، الذي أثر في ارتفاع معدلات البطالة من جوانب عدة ، الأول : السياسة المتبعة في منح عقود إعادة الإعمار التي ارتبطت بمعايير المحسوبية والمنسوبية ، فقد شرعت الحكومة الأمريكية بعد الحرب مباشرة إلى التوجه بإعادة الإعمار بهدف تأهيل الاقتصاد العراقي وقيامها بمشاريع عدة ، إلا أن ذلك اكتنفه الفساد فأغلب العقود منحت إلى الشركات الأجنبية الأمريكية منها بالذات التي ترتبط بعلاقات مع الحكومة الأمريكية ، إذ بلغت العقود الممنوحة إلى الشركات الأمريكية ما نسبته (74%) والى الشركات الأخرى (11%) من إجمالي العقود (16)، الأمر الذي أثر في البطالة ، كون هذه الشركات لم تنفذ أغلب مشاريعها وسرقت الأموال وحتى التي نفذت أغلبها اعتمدت على العمالة الأجنبية ، أما الجانب الثاني : وبعد أن انتقلت إدارة الاقتصاد إلى الحكومة العراقية ، لم يكن الأمر مختلفاً فكان الاتجاه واحداً ، إذ نلاحظ قيام العديد من المشاريع بالمقابل هناك انخفاض في مستوى استيعاب القوى العاملة ، بسبب سوء تنفيذ المشاريع من قبل الجهات المنفذة من جهة ، واعتمادها على عدد محدود من العاملين الذين هم من الأقارب والمعارف من جهة أخرى ،وأن غياب الرقابة والمتابعة على المشروعات المقررة في المحافظات العراقية من قبل الحكومة المركزية ، أدى إلى انخفاض نسب التنفيذ ، إذ تشير وزارة المالية إلى أن نسب تنفيذ المشاريع لعام 2007 ، لم تتجاوز (10%) من المشروعات المخطط إقامتها ، مما انعكس ذلك على تفاقم مشكلة البطالة ، كما أسهم الفساد في زيادة البطالة المقنعة في الاقتصاد من خلال زيادة التعيينات غير المبررة بعد عام 2003، كنتيجة للمحاصصة السياسية التي لا تخضع لمعايير الكفاءة وإنما إلى المحسوبية والمنسوبية الأمر الذي أدى إلى ضعف الأداء الاقتصادي.
ثانيا – زيادة حدة الفقر
ينظر إلى أثر الفساد في ارتفاع مستويات الفقر في الاقتصاد العراقي خصوصاً بعد عام 2003، من زاويتين الأولى : الأثر غير المباشر ، المتمثل بالعلاقة التشابكية بين معدلات التضخم والبطالة من جهة وأثرها في ارتفاع مستوى الفقر من جهة ثانية ،على الرغم من التحسن النسبي في دخول الأفراد ، إلا إنهم لا تزال نسبة عالية منهم يعانون الفقر بسبب التحديات الاقتصادية ، وفي مقدمتها الفساد الذي يعد المعضلة الرئيسة الناجمة عن تفاقم الأزمة العامة في العراق ، التي تقف عائقاً أمام حل مشكلة البطالة وارتفاع الأسعار ومن ثم تدهور مستوى المعيشة وزيادة الهوة بين الفقراء والأغنياء وزيادة الفقراء فقراً
أما من الزاوية الثانية التي تمثل الأثر المباشر للفساد في ارتفاع مستويات الفقر ، وهذا ما يعكسه الفساد المتفشي في المؤسسات الاقتصادية ، الذي أثر في حياة المواطنين وأدى إلى انخفاض في مستويات المعيشة ورفاهية المجتمع الذي اقترن في ضعف الأداء الحكومي في تقديم الخدمات العامة التي لها صلة بحياة الفقراء ، كالماء والكهرباء ، والصحة والتعليم والصرف الصحي ، كما أثر الفساد في الفقراء من خلال عملية إعادة الأعمار ، فبدلاً من تبني إستراتيجية تكون أكثر استجابة لأهداف العدالة الاجتماعية ومناهضة الفقر وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات التي تحقق المنافع العامة كالتعليم والصحة ، ذهبت أغلبها إلى الاستثمار في المشاريع التي تحقق النفع الخاص ، والتي تفتح مجالاً أوسع لتحقيق الأموال غير المشروعة ، وأكد ذلك (ستيوارت بوين) في التقرير الخاص بإعادة إعمار العراق عام 2005 ، عندما أشار إلى أن أغلب المشروعات التي أنجزت عام 2004 ، ذهبت إلى الأمن والعدل على الرغم من أهمية هذا الجانب في تحقيق النفع العام ، الأمر الذي فاقم مشكلة الفقر في العراق عام 2010، لتصبح نسبة (23%) من الأسر تعاني من الفقر المدقع (17)، وهذا يعني أن نحو ربع السكان يعاني من نقص الاحتياجات الأساسية كالغذاء والرعاية الصحية والتعليم والسكن الملائم وغيرها من الخدمات.
ثالثا- تراجع مؤشرات التنمية البشرية
أثر الفساد في العراق في تراجع مؤشرات التنمية البشرية (كالصحة والتعليم) ، إذ يبين الواقع العراقي بعد عام 2003 ، أن الفساد قلل من الموارد الموجهه نحو أهداف التنمية البشرية، كما أضعف الموارد المخصصة لها ، ويمكن توضيحها كالآتي :
1- قطاع التعليم
قدرت كلفة تأهيل المدارس القائمة وبناء المدارس الجديدة بحوالي (2.165) مليار دولار خلال المدة من 2004 – 2007 (18). إلا إن هذا القطاع لم يشهد تطوراً يذكر ، واختصر الحاكم الأمريكي (بول بريمر) الإنجازات التي تحققت في كتابه (سنة في العراق) بأنها طلاء جدران المدارس في العراق ، إذ لم تحصل المدارس على أي دعم سواء ببناء مدارس جديدة وبما يسد حاجة العراقيين ، أم بتوفير المستلزمات الأساسية ، وأشارت مجلة نيوزويك الأمريكية ، إلى أن تحقيقاتها حول هذا الموضوع توصلت إلى كلفة طلاء جدران المدارس في العراق وبنوعية طلاء رديئة يساوي بناء مدرسة حديثة بكامل أثاثها ومختبراتها العلمية وتجهيزاتها ،وأن نوعية التعليم انخفضت بسبب إبعاد الكفاءات العلمية ، نتيجـة اعتماد المحاصصة في اختيار القيادات التي تشغل المراكز التعليمية ،بما لا يتناسب والحاجـة الحقيقيـة للعمل ، ولا يتناسب والنتائج المتحققة ، وأصبحت البطالة المقنعة ظاهرة مألوفة ، وتمثل الفساد أيضاً بتشوه الإنفاق الحكومي الموجه لهذا القطاع ،. ونتيجة لذلك انخفض مستوى التعليم في العراق ، وأن عدم الاستقرار الذي يشهده العراق ، زاد من نسبة المتسربين من المدارس ، وزادت معدلات الأمية .
2 – قطاع الصحة
اقترن الإنفاق على الصحة بالعديد من مظاهر الفساد ، إذ يشير وزير الصحة العراقي السابق (د. صالح الحسناوي) إلى أن تكلفة الفساد في الوزارة بلغت مئات الملايين من الدولارات ، وأن نقص الأدوية في مذاخر المؤسسات التابعة لوزارة الصحة يرجع إلى سرقتها وانتقالها إلى السوق السوداء ، وهذا ما أكده المفتش العام لوزارة الصحة (د. عادل محسن) ، ويشير إلى أن نقص الأدوية سببه الفساد في قطاعات الاستيراد والخزن ، الأمر الذي يؤدي إلى نقله إلى الأسواق المحلية وبيعه في السوق السوداء ، وأن اختيار الأدوية لا يتم على أساس الحاجة الفعلية وإنما على أساس العلاقات غير المشروعة مع المكاتب العلمية التي لها دور كبير في الفساد ، من خلال تقديم الرشاوى الكبيرة للفوز بعقود توريد الأدوية والمستلزمات الطبية(19) ، وبهذا الصدد تم أحالة (12) عرضاً إلى شركة (جي أي) بمبلغ (400) مليون دولار تتضمن استيراد أجهزة طبية ، التي فازت بالعقد بعد إعطاء عمولة (5) ملايين دولار ، كما أوضح أنه لا توجد آليه واضحة لمقاضاة الشركات التي تورد الأدوية في حالة مخالفتها للمواصفات المطلوبة،الأمر الذي أدى إلى استيراد عقاقير ملوثة بالايدز عام 2006 ، بمبلغ (300) مليون دولار تورط فيها مسؤول كبير في وزارة الصحة(20).
خامسا- تراجع مستوى الاستثمار
يعد انتشار الفساد في العراق من المؤشرات الأساسية التي أثرت في تدفق الاستثمارات الأجنبية من جهة ، وتدني مستوى الاستثمارات المحلية من جهة أخرى، فالفساد في العراق شكّل عامل تباطؤ للتدفقات المباشرة ، كونه عنصراً مهماً في رفع درجة المخاطرة بالمقارنة مع دول خالية من الفساد ، فالبناء السياسي والاقتصادي بعد الحرب الأخيرة يفتقر إلى الوضوح في الرؤية مما لا يتيح المجال للمستثمرين الأجانب في رسم صورة لمستقبل مشروعاتهم، فضلاً عن ذلك فإن الإجراءات الحكومية تتصف بالروتين وغياب الشفافية في منح العقود التي أغلبها قائم على أساس المحسوبية والمحاباة ، الأمر الذي جعل البيئة الاستثمارية في العراق طاردة للاستثمار. أدى الفساد إلى تدني الاستثمارات المحلية ، فاغلب ما خصص للمشروعات التنموية قد تم إعادة تدويره إلى جيوب الفاسدين ، الذين استغلوا غياب سلطة القانون ، فالعراق أنفق مليارات الدولارات من أجل تقويم الاقتصاد المنهك، إلا إن الفساد أدى إلى تدني نوعية المشروعات المقامة وجودتها في أغلب القطاعات والمرافق الحيوية في العراق، وفي هذا الصدد يمكن توضيح أثر الفساد في التخصيصات الاستثمارية على تدني الإنتاج في القطاع النفطي ، ومنذ عام 2005 سعت الحكومة العراقية إلى رفع الطاقة الإنتاجية للنفط لحاجة العراق إلى الإيرادات لدعم الاقتصاد الوطني ، ولذلك خصصت نفقات استثمارية سنوية بلغت في حدها الادنى (3) مليارات دولار ، لتحقيق الهدف (زيادة الإنتاج) ، إلا أن ذلك لم يتحقق بفعل الفساد الذي يأخذ اتجاهين الأول ، تخريب في الأنابيب النفطية والثاني : تبديد الأموال المخصصة لتطوير الحقول والمنشآت النفطية . فضلا عن الدور الأمريكي الذي يحول دائما دون زيادة إنتاج النفط العراقي من قبل الشركات الوطنية العراقية ( شركتي نفط الجنوب ونفط الشمال ) والذي أدى فيما بعد إلى فتح قطاع النفط العراقي أمام الشركات النفطية العملاقة وبالذات الشركات الأمريكية التي تحقق أرباحا خيالية من خلال جولات التراخيص النفطية التي وضعت تحت تصرفها كل الحقول النفطية العملاقة المنتجة والحقول الأخرى المستكشفة .
سابعا- انتشار المخدرات
أسهمت الحرب الأخيرة في العراق في تغيير التركيبة الاجتماعية ، فجعلت الأعمال غير المشروعة أحد العناصر المهمة لدى المفسدين منهم ، لاسيما تجارة المخدرات وتعاطيها ، وكان للفساد وغياب سيادة القانون الدور الرئيس في ذلك ، وقد أدت الفوضى التجارية الناجمة عن سياسات تحرير التجارة الخارجية التي اعتمدها الحاكم الأمريكي (برايمر ) إلى تدفق البضائع والسلع من أغلب المنافذ الحدودية للبلد ومن مختلف دول العالم ، دون أن يكون هناك دورٌ للأجهزة الرقابية والأمنية للحد من ذلك، فضلاً عن ذلك يعد العراق ممراً استراتيجياً لهذه التجارة غير المشروعة، التي تأتي من أفغانستان وإيران عبر العراق إلى دول الخليج العربي ، مما أثر سلبياً على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العراق ، وتشير إحصائية لوزارة الصحة العراقية عام 2005 ، إلى إن أكثر من (24) ألف عراقي تعاطوا المخدرات(21).
وهذا يؤثر سلبياً في الموارد البشرية في العراق من خلال مايأتي:
المدمنون على المخدرات يحسبون ضمن خسائر القوة العاملة لأنهم يخرجون جزئياً أو كلياً من القوة العاملة ، بقدر ارتباطهم بعالم المخدرات الذي يأخذ كل اهتمامهم وأوقاتهم ، ومن ثم تدهور تدريجي في طاقة العمل لديهم ، وتشير دراسة أجريت في إحدى الدول الصناعية إلى أن متعاطي المخدرات أقل إنتاجية بمقدار الثلث عن باقي العاملين.
الخسائر الناجمة عن التأثيرات الصحية نتيجة الإدمان في تعاطي المخدرات ، والتأثير في التعليم من خلال المساهمة في التسرّب من المدارس وانتشار الأمية (22).
ثامنا- هجرة الكفاءات
عانى العراق ولا يزال من هجرة الكفاءات نتيجة الفساد ، الذي أدى إلى استبعاد نخب كبيرة من الكوادر العلمية بسبب معايير الولاء والانتماء التي أدت إلى تهميش الكثير منهم ، وأن تمركز القوة الاقتصادية والسياسية في أيدي مجموعة من ذوي المصالح أشاع ثقافة المحسوبية والمنسوبية في اختيار القيادات والمناصب الوظيفية في الدولة وحتى التعيينات ، الأمر الذي جعل الذين لا يملكون المؤهلات العلمية يتبوؤا المناصب الحكومية ، ونتيجة لذلك اضطر بعض أصحاب الكفاءات والمؤهلات إلى الهجرة خارج العراق . وتشير دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة باسم (التصفية المنظمة) للطبقة المثقفة في العراق إلى أن (2000) أستاذ وباحث من جميع الجامعات العراقية تركوا البلاد منذ عام 2003 فضلا عن نحو ربع الاطباء العاملين في القطاع الصحي (23) .
اسهمت الولايات المتحدة في تفعيل وزيادة الهجرة والتهجير من العراق من خلال خلق البيئة الاقتصادية والاجتماعية الطاردة (التي يشكل الفساد أحد سماتها المميزة ) للكوادر والكفاءات الوطنية إذ قامت الولايات المتحدة مع بعض دول أوربا بعملية جذب للعقول العراقية وتشجيعها على الهجرة ، وقد ذكر بهذا المجال إن العلماء والفنيين العراقيين هم أكثر خطورة من أسلحة الدمار الشامل الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تتبنى مجموعة من التدابير والإجراءات لتحقيق هذا الهدف وتفريغ العراق من الكفاءات والطاقات العلمية لمختلف الاختصاصات ، لأنهم حجر الأساس لتطوير العراق وتنفيذ برامجه التنموية . هذه الإجراءات تمثلت بقرار مجلس الأمن ذي الرقم 1441 لعام 2002 الذي منح الصلاحيات للمفتشين الدوليين باستجواب العلماء والأساتذة العراقيين حتى لو تطلب الأمر تسفيرهم مع عوائلهم إلى الخارج ، الإجراء الآخر تمثل بسماح الولايات المتحدة لهجرة الكفاءات والعقول العراقية إليها عام 2003 من الذين يقدمون المعلومات عن البرنامج ألتسليحي للعراق (24).
لقد أسهم الفساد بشكل جلي في دفع أعداد كبيرة من العلماء والخبراء ورجال الأعمال نحو الهجرة إلى خارج العراق وهو ما يتفق مع السياسات الأمريكية الرامية إلى إفراغ البلد من كفاءاته وكوادره الوطنية وهو ما ينسجم مع إجراءات إعادة هيكلة الاقتصاد والمجتمع العراقي بالاتجاه الذي يجعل العراق جزءا تابعا للمعسكر الغربي وبالذات الولايات المتحدة من جانب وتقويض العملية التنموية من خلال ظهور العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمتمثلة بإعادة توزيع الكفاءات العلمية ورؤوس الأموال والمستثمرين فضلا عن أرباب العمل من مهنيين و حرفيين من جانب آخر .
الهوامش
1- ستيفن فيدلر وديمتري سيفا ستوبولو ، ماذا حدث لعشرين مليار من الأموال العراقية ، مجلة المستقبل العربي ، بيروت ، العدد 311 ، 2005 ، ص146 .
2- د . عامر الخياط ، الفضائح المالية في العراق ، مجلة الشفافية ، المنظمة العربية لمكافحة الفساد ، العدد 3 ، 2007 ، ص2
3- هيئة النزاهة ، ملخص التقرير السنوي لعام 2010 ، بغداد ، ص 72
4- علي علاوي ، اختلاس مليار دولار في وزارة الدفاع ، 2005 ،ص1، معلومات على شبكة الانترنت http://www.haqnews.net
5- جميل عودة ، ظاهرة الشهادات الجامعية .. التزوير والتصدير، معهد الشيرازي الدولي
للدراسات ،واشنطن ، 2007،ص2 .
6- هيئة النزاهة ، التقرير السنوي لسنة 2009 ، بغداد ، ص 5
7- براتاب تشاترجي ، المحاسبة على إيرادات النفط العراقي ، 2007 ، ص1 ، معلومات متاحة على شبكة الانترنت http://www.corpwalch.org-artucle
8- وزارة النفط العراقية ، مكتب المفتش العام ، التقرير السنوي لعام 2011 ، بغداد ، ص 330
9- وزارة النفط العراقي ، مكتب المفتش العام ، تقرير الشفافية الثاني / تهريب النفط الخام والمنتجات النفطية ، بغداد ، 2005، ص 7.
10- مكتب المفتش العام الخاص لاعادة اعمار العراق ، التقرير المرحلي رقم 4 ، 26 تموز 2010
11- د. فريدوريك غلتون ، حجم الفساد في أعادة الأعمار ، في دانيال لارج وآخرين ، الفساد في أعادة الأعمار بعد الحرب مواجهة الحلقة المفرغة ، (لبنان ، الجمعية اللبنانية لتقرير الشفافية ، 2006) ، ص21.
12- انثيا لاوسون وستيروات هالفورد ، التحالف ومليارات النفط العراقي ، في فيليب بنيس ، الحرب على العراق يوميات – وثائق – تقارير (1990 – 2005) ، (بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2007) ، ص 1483
13- المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات ، تقرير (30) إعادة أعمار العراق ، 2004 ، ص 20.
14- سعاد عبد الفتاح محمد ، الفساد المالي والاداري في العراق ” المشكلة والحلول “، المنظمة الوطنية لمكافحة الفساد وحماية المال العام ( نسكو )، اليمن ، 2008 ، ص 10.
15- هيئة النزاهة ، بيانات متاحة على الموقع الالكتروني للهيئة
16- جيمس بول ويلسن ناهوري ، الحرب والاحتلال في العراق ، ترجمة مجد الشرع ،( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ،2007) ، ص 164
17- وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي ، الجهاز المركزي للإحصاء والتكنولوجيا والمعلومات ، استراتيجة التخفيف من الفقر ، 2010 ، ص54
18- الكواز ، د. أحمد ،تصورات حول واقع ومستقبل الاقتصاد العراقي ،(الكويت ، المعهد العربي للتخطيط ، 2004 ) ص 329
19- د. عادل محسن ، الفساد في وزارة الصحة ، 2007 ، ص2، معلومات متاحة على شبكة الانترنت http://www.islamlight.net
20- د. خليل العناني ، مشكلات إعادة الأعمار في العراق ، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية ، العدد 134 ، السنة الثالثة عشر ، القاهرة ، 2005 ، ص2
21- International Trade administration New York, 2007 ,P.2
22- عبد الكريم العلوجي ، ما تبقى من العراق الحر ، مجلة العربي ، القاهرة ، العدد 954 ، 2006 ، ص 15
23- د. عايد علي الحميدان ، أثر المخدرات في الاقتصاد والأمن القومي ، (الكويت ، اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات ، 2003) ، ص 69.
24- مهدي حسن الخفاجي ، الدور الصهيوني في احتلال العراق ( بغداد ، مركز العراق للدراسات ، 2008 ) ص 155-156 ………….. #
#. عن الحوار المتمدن.