الاختراعات الحاسمة وأنماط العولمة
د. سمير أمين
2017 / 11 / 18
نصل هنا الى الوجه الأعسر فى تناول القضية، ألا وهو العلاقة بين تشغيل الاختراعات الكبرى الحاسمة وشروط تلاؤم نمط العولمة له.
يشكل بيان هذه العلاقة أمرا مستعصياً لأن هذه العلاقة غير مباشرة، فلا يفعل الاختراع فعله إلا من خلال توسط تأثيره على العلاقات الاجتماعية، والمراد هنا العلاقات السائدة عالميا على كل من المراكز المهيمنة والتخوم المسود عليها. ففى المراكز يبقى رأس المال الاحتكارى متحكما فى تكيف العلاقات الاجتماعية فى خدمة مصالحه. فتصبح أيديولوجيا الطبقة الحاكمة الأيديولوجيا الحاكمة اجتماعيا، والمتجلية فى قبول الاستلاب السلعى المعمم والموافقة على ممارسة الديمقراطية الانتخابية التمثيلية. فتدعم هذه الامور متانة النظام واستقراره. ولكن فى التخوم تختلف الأمور، حيث العلاقات الاجتماعية الحاكمة هنا ليست ناتج تحكم المراكز فى المنظومة العالمية بل ناتج تفاعل فعل التوسع المعولم للرأسمال المهيمن من جانب وردود أفعال الشعوب والمجتمعات والدول فى التخوم ضحاياه من الجانب الاخر. ولذلك تتنوع انماط العلاقات الاجتماعية السائدة فى التخوم المعاصرة. فكان هدف سياسات «التكيف الهيكلي» التى فرضتها العولمة على بلدان التخوم انطلاقا من ثمانينيات القرن السابق، هو بالتحديد تحطيم قدرات بلدان الجنوب فى مواجهة التحدي، تلك القدرات التى تم دعمها خلال عصر باندونج وعدم الانحياز وقد حققت هذه السياسات مرماها، ولكن بدرجات متباينة. فانفجر العالم الثالث القديم ليحل محله عالمان: عالم «رابع» مكون من مجتمعات ثم إخضاعها خضوعا شاملا، وعالم «ثالث» مستحدث مكون من بلدان احتفظت بدرجة من الاستقلالية. وفى هذه الظروف تتخذ العولمة الحالية شكلين اثنين. ففى العالم الرابع يتقلص تصرف رأس المال الاحتكارى إلى نهب الموارد الطبيعية إلى جانب قيامه بحملات غزو مالى تستغل مديونية الدول المعنية. هذا بينما فى العالم الثالث الجديد تعتمد سيادة المراكز على سيطرتها على صناعات ثم إعادة توطينها ومن جرائه امتصاص نصيب ملحوظ من فائض القيمة المنتج فى هذا الصناعات. هنا أطرح التساؤل الرئيسى فى هذا الإطار. فلا يبدو لى أن تشغيل الاختراعات الحاسمة المعاصرة من شأنه أن يلغى تماما آليات إعادة توطين صناعات فى تخوم العالم الثالث لصالح العودة إلى تركيزها فى المراكز. ليست هذه الفرضية غير عقلانية. كلا. ولكنها تمثل أحد الاحتمالات الواردة فقط.
ولكن ـ وقبل أن أتناول النظر فى مروحة الاحتمالات التى يمكن التنبؤ بها ـ أعود الى ماسبق أن طرحته فى هذا المجال فى منتصف السبعينيات فى مطلع انفجار الأزمة الهيكلية للرأسمالية المعاصرة، وهى أزمة لم يخرج العالم منها إلى اليوم، بعد أربعين عاما؛ بل أتنبأ بأن المنظومة صارت على مشارف انهيار مالى أخطر من السابق فى عام 2008. وقد انطلقت فى كتاباتى القديمة المذكورة من بيان مصادر تفوق المراكز، وهى انفرادها في: 1) التوصل الى موارد الكوكب الطبيعية ونهبها؛ 2) المبادرة فى الاختراع التكنولوجي؛ 3) السيطرة على السوق المالية المعولمة؛ 4) السيطرة على وسائل الاعلام ذات الوقع عالميا 5) امتلاك ترسانات وسائل التدمير الشامل العسكرية. وبناء على ذلك كنت قد رسمت خطوط احتماليتين اثنتين للتطور المتوقع. ففى إحدى الفرضيتين تخيلتُ التركيز فى المراكز على الاستثمارات والأنشطة المرتبطة بعناصر التفوق الخمسة المذكورة، أى بعبارة أخرى التركيز على البحث التكنولوجى والإدارة المالية والإعلام ودعم القدرات العسكرية. فقام النمط على أساس إعادة توطين اقسام شاسعة من الصناعات التحويلية الدارجة فى التخوم المصنعة الجديدة. وفى الفرضية الثانية تخيلتُ غياب التوجه نحو إعادة التوطين على نطاق واسع؛ وبالتالى «تهميش» التخوم وحبسها فى دور المرتع لنهب مواردها الطبيعية وللغزو المالي. ثم تخيلتُ شكلا مركبا يجمع النمطين على أساس تقسيم التخوم إلى مناطق «مهمشة» وأخرى مكيفة لاستيعاب إعادة توطين الصناعات التحويلية.أعتقد أن التطور اللاحق قد كرس صحة تنبؤاتي! وكذلك اليوم. فأتصور أن أقوى المراكز سوف تنفرد بإقامة الصناعات الجديدة على أراضيها، الأمر الذى من شأنه أن يقود إلى تقلص وسعة التوطين الخارجي. ولكن هنا ألفت النظر إلى أن مد التوطين الخارجى قد دخل فى مرحلة التقلص لأسباب مستقلة تماما عن ظهور الاختراعات الحاسمة الحديثة. فيؤول منطق الربحية الذى يحكم العملية إلى انقلاب حتمى فى اتجاه حركة الاموال. ففى المرحلة الاولى تستدعى إقامة النمط إجراء تحويلات مالية ضخمة من الشمال الى الجنوب المصنع الجديد. ثم، فى مرحلة نضوج النمط التالية يأخذ حجم تحويل الارباح من الجنوب الى الشمال فى الصعود، حتى يتفوق على حجم مد الأموال الإضافية التى تسعى إلى مواصلة التوطين الخارجي. وقد وصلنا إلى هذا الحد؛ الأمر الذى يفُترض أنه سينهى الحسابات المتفائلة السابقة القائمة على وهم أن إعادة التوطين عملية يمكن أن تستمر «فى صالح» دول التخوم المعنية. ولكن لايمنع ذلك استحداث إعادة التوطين القائمة على التوسع فى الصناعات الجديدة. ثمة أقسام من الإنتاج الجديد قابلة لإعادة التوطين فى بعض التخوم ولعل رأسمال الاحتكارات سيحسبه القيام بهذا الإجراء لكى يستفيد من رخص الكفاءات العلمية المتميزة المتوفرة فى بعض بلدان الجنوب. وأعتقد أن السلطات الحاكمة فى البرازيل والهند وكوريا وتايوان وسنغافورة تفكر فى السير فى هذا الطريق، لصالحها ظاهريا ومؤقتا. وبالتالى تجديد الأوهام فى صلاحية انضمامها فى العولمة الامبريالية. وأرى من الأفيد فتح جدال آخر أهم بالنسبة إلينا. وأقصد البحث فيما يجب أن تكون إجابة دول الجنوب فى مواجهتها للتحدي. لم يفُتح بعد باب هذا النقاش فى الأغلبية الكبرى من دول الجنوب التى لا تفكر نظم حكمها فى الأمر. بل لعلها لا تعى خطورة الوضع. أو تقبل ما سيطرأ من تطور فى العولمة كما رضيت بما فرضته إلى الآن، كأنها تتجاهل ان تفكك نسيج مجتمعاتها كان ناتج هذا النمط من التوسع الرأسمالى على صعيد عالمى. وتسير جميع الدول الافريقية والعربية والاسلامية، أو تكاد، على هذه الطريقة المأساوية. فهنا تسود الأوهام الماضوية فى ثيابها المتنوعة. ومنها الإسلام السياسى الذى تروج له دول الخليج والذى يرحب به سادة الامبريالية. وفى هذه الظروف تظل القوى السياسية والحكومات التى ترفض هذا البديل المزيف أسيرة انشغالها الشامل فى مقاومة هذا الخطر، حتى تظل عاجزة عن اتخاذ مبادرة إيجابية فى المجال الحيوى المعنى هنا. ثمة مجموعة من بلدان الجنوب تعطى صورة أخري. فتبدو واعية بأهمية القضية وتهييء نفسها للتكيف لها، من خلال بذل المجهود لتكوين وتطوير الكفاءات النوعية وبالكثرة المطلوبة. ولكن يبدو لى انها تعتمد فى آمالها على مشاركتها بصفتها كيانات ثابتة مكيفة لاستيعاب إعادة توطين أقسام من الصناعات الجديدة والعمل فى خدمة مشروعات رأسمال الاحتكارات الامبريالية. يبقى السؤال مفتوحا بالنسبة إلى الصين وروسيا. فيمثل نظامهما الاستثناء بمعنى أن مشروعهما يسعى إلى بناء هذه النوعية من الصناعات الجديدة فى إطار يضمن احتفاظهما بالسيادة عليها. فيقوم النظام هنا على تطوير مناهج عمل تعتمد على القدرات العلمية المحلية، ولكن فى إطار مشروع رأسمالية وطنية مستقلة….. *
*. عن الحوار المتمدن.