الاقتراض الحكومي العراقي؛ بين الضرورات والمخاطر
الاقتراض الحكومي العراقي؛ بين الضرورات والمخاطر
الاقتراض الحكومي العراقي : بين الضرورات والمخاطر
د. مظهر محمد صالح
١- تمهيد:
هناك ما يسمى بالقاعدة الذهبية للاقتراض الحكومي golden rule والتي اطلقها واعتمدها تحديداً وزير الخزانة البريطاني الاسبق غوردن براون في العام ١٩٩٧ (ذلك في اطار السياسة البريطانية في تبني تلك الفلسفة في الاقتراض العام ) وكان يقصد بها ان تكون القروض الحكومية لأغراض الموازنة الاستثمارية حصراً وان العائد من الاستثمار ينبغي ان يفوق كلفة الاقتراض وحسب مفهوم القيمة الصافية الحاضرة npv . شريطة ان تذهب الموازنة التشغيلية نحو التوازن دون ولوج بوابات العجز او التمويل بالاقتراض لكونها ذات طابع استهلاكي لا يسهم في تعظيم النمو في الغالب.
للأسف ظل التاريخ المالي العراقي يتعاطى مع الدين العام بوضع مختلف ، فالموارد النفطية التي مازالت تشكل ٩٢٪ من اجمالي الايرادات السنوية مضافاً اليها الإيرادات غير النفطية وجل الاقتراض الداخلي يتوجه جميعه اليوم نحو الأنفاق الاستهلاكي العام من خلال الموازنة التشغيلية، ولم يبق للموازنة الاستثمارية او الانفاق الاستثماري العام سوى العجز غير الممول باستثناء بعض الاستثمارات الحكومية التي ارتبطت بموجب اتفاقيات قروض خارجية او دولية وهي تشكل تقديراً نسبة ٢٠٪ من اجمالي احتياجات التمويل الاستثماري الحكومي السنوي المخطط.
٢-نظرة في التاريخ الاستهلاكي للديون العراقية : يعد تاريخ الديون العراقية عموماً و الخارجية منها خصوصاً من الوقائع المحزنة و الداكنة في تاريخ العراق الاقتصادي الحديث .فقد ظل الدين الحكومي على مدار العقود الاربعة الماضية بعيداً في توجهاته عن فلسفة الاقتراض من اجل الاستثمار في التنمية وتحقيق الازدهار الاقتصادي بحكم الظروف والعوامل السياسية القاهرة والاستثنائية .ففي عقد الثمانينيات الماضي وابان الحرب مع ايران كان الاقتراض الخارجي مسخراً لتمويل آلة الحرب المهلكة وهو دين استهلاكي (قاتل وبغيض odious debt )رافقه اقتراض داخلي للغرض الانفاقي الاستهلاكي نفسه .فقد قدرت سكرتارية نادي باريس في العام٢٠٠٤دين العراق الخارجي لمرحلة ما قبل ١٩٩٠بحوالي ١٢٨مليار دولار والذي تقرر حينها شطب ٨٠٪ منه بموجب اتفاقية نادي باريس. تلك الاتفاقية التي استندت على قرار مجلس الامن ١٤٨٣ في مايس ٢٠٠٣ بشان تسوية المديونية الخارجية للعراق ازاء دائنيه .اذ تراكمت ديون قبل العام ١٩٩٠ جراء توقف السداد والعجز عن الدفع وتطبيق شروط اتفاقيات الدين الموقعة رسمياً مع مختلف الدائنين سواء السيادية منها والتي تعود لمجموعة دول نادي باريس ١٩ او للدائنين الرسميين من مجموعة الدول ال ٥٤ دولة الدائنة للعراق من خارج مجموعة نادي باريس ،فضلاً عن آلاف الدائنين التجاريين .وان ما اظهرته اتفاقات الدين الثنائية مع الاطراف الدائنةً قد اشرت الى اقرارات بدفع الفوائد المتراكمة سواء على صعيد اصل الدين او قبول الفائدة التاخرية PDI وحسب نصوص التعاقد على الدين والموقع اغلبها رسميا مع الاطراف الدائنة في ثمانينيات القرن الماضي. وفي مرحلة حصار التسعينيات وفرض العقوبات الدولية على العراق والمترتبة جراء حرب الكويت وتبعات غزوها ،فقد اتخذ موضوع الديون واعبائها مسارين مختلفين ،الاول ،اذ ظل الاقتراض الداخلي يسير بكثافة لمصلحة الانفاق العام ضمن الادوات النقودية وممارسة لعبة تمويل عجز الموازنة بالتمويل التضخمي او لعبة تنقيد الدين العام debt monetization game ذلك لتوفير استدامة للواقع الهش في موازنات مرحلة الحصار الاقتصادي والسعي وقتها لتشغيل ماكنة النظام الاقتصادية .اذ جرى مصادرة الدخل الحقيقي للفرد العراقي عن طريق استخدام ما يسمى (مبدأ المصادرة التلقائية لمدخرات الافراد وفوائضهم المحتملة وامتصاصها مقدماً بموجات التضخم والتوقعات التضخمية التي يولدها الانفاق العام الممول بالإصدار النقدي او بالتضخم) .وهي آلية استلاب تلقائية تقوم على ديمومة استبدال ادوات الدين الحكومي (حوالات الخزينة السنوية) الصادرة عن وزارة المالية بالنقد المصدر لتقبل تلقائياً في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي . ومن ثم اعتمادها كأصول رديئة غير قابلة للإطفاء وقت ذاك في تكوين القاعدة النقدية . اما المسار الثاني، ويتمثل بتنفيذ الاتفاق مع الامم المتحدة ،بعد ان سخرت المنظمة الدولية ثلث عوائد النفط العراقي المصدر عبر مذكرة التفاهم او برنامج (النفط مقابل الغذاء والدواء )وتم بدء العمل في تلك المذكرة الانقاذية في العام ١٩٩٦ ، ذلك لدفع (التعويضات الخارجية) الى متضرري حرب الكويت من خلال صندوق الامم المتحدة للتعويضات UNCC وبمختلف مشاربهم ودولهم ومؤسساتهم التي ظلت لاتعد ولا تحصى وبمبلغ تعويضات زاد على ٥٢ مليار دولار .علماً ان التعويضات هي ليست ديون وانما جزاءات فرضت بقرارات اممية بما فيها تغطية تكاليف فرق التفتيش وتستوفى جمعها من عوائد مذكرة التفاهم النفطية. اذ ظلت المنظمة الدولية تحتفظ بعوائد النفط العراقي في حساب باسم الامين العام للأمم المتحدة ضمن ترتيبات الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية .و لم يبق حالياً من مبالغ تلك التعويضات الكويتية سوى مبلغ هو اقل من ٣ مليارات دولار . حيث بدأت المرحلة الجديدة الاخرى في حياة العراق الاقتصادية وتطور مديونيته منذ مطلع الالفية الثالثة وتحديدا مرحلة التحول السياسي الكبير في العام ٢٠٠٣ وحتى الوقت الحاضر . فلم يلجأ العراق الى اي اقتراضات ذات اهمية تذكر .الا ان تعرض بلادنا فجأةً ،بعد انتهاء عقد زمني من التحول السياسي، الى ازمتين خانقتين (امنية ومالية ) في العام ٢٠١٤ وامتدت حتى العام ٢٠١٧ قد اطلق عجلة القروض التشغيلية لتأخذ مدياتها مجدداً .اذ ذهب جل الاقتراضين الداخلي والخارجي هذه المرة الى دعم الموازنة التشغيلية بما يؤمن استدامة مدفوعات الموازنة الجارية ولاسيما من الرواتب والاجور وغيرها من الالتزامات فضلاً عن تطمين جبهة الحرب ضد الارهاب بعد ان تراجعت اسعار النفط الخام من ٨٠ دولار للبرميل الى اقل من ٢٨دولار للبرميل الواحد ، واذا ما أخذنا كلفة انتاج النفط الخام الذي تتولى خدماته شركات النفط العالمية IOCs فان صافي عائد البرميل من النفط الخام المصدر ستكون ٢٠ دولار آنذاك وان الرواتب والاجور والتقاعدات صممت على برميل نفط عائده لا يقل عن ٨٠ دولار .وهكذا جاء الدين الخارجي هذه المرة مرتبطا بشكل اساس بمشتريات السلاح والتجهيز واعادة بناء القوات المسلحة لمواجهة الارهاب الداعشي وهو توجه يمتلك في نهاياته طبيعة استهلاكية عالية في تشغيل ماكنة الحرب و ادواتها والتي تطلبتها اولويات تحرير الارض . ويلحظ ان نصف الديون الخارجية التي ولدتها الازمتين المذكورتين( المالية والامنية) بعد العام ٢٠١٤ آنذاك (ولاسيما القروض الخارجية المقدمة من الدول السبعة الكبار التي استندت على التعهدات التي قطعتها تلك الدول في بيان طوكيو في شهر مايس ٢٠١٦ لدعم العراق بحربه ضد الارهاب ، فضلاً عن الائتمانات المقدمة من المؤسسات المالية الدولية المتعددة الاطراف كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ) التي بلغ مجموعها الى اليوم بنحو ١٢ مليار دولار ونيف ،قد انصرف اكثر من نصفه او ربما غالبيته على دعم الموازنة التشغيلية بين الاعوام٢٠١٥-٢٠١٧
٣- الديون العامة : بين مخلفات الحروب وتدهور التنمية
وتأسيسًا على ما تقدم فان تاريخ المديونية العراقية وعبر عقود متعددة ومختلفة من الزمن قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالأنفاق الاستهلاكي الحكومي جراء الحروب والصراعات والحصارات والازمات والفساد بنسبة بلغت ٩٠٪ .وان اعباء الديون الاستهلاكية ربما عادلها في الجانب الاخر من الدين ولو بشكل
محدود ارتباط تمويل بعضه بمشاريع التنمية المدرة للدخل .ولكن ظلت المشاريع المنفذة بالقروض هي الاخرى هامشية الاثر في دفع النمو الاقتصادي للبلاد واحداث تحول اقتصادي يعتد به . وهكذا وعلى مدى اربعة عقود من عمر العراق الاقتصادي لم تشكل الديون التنموية المرتبطة بمشاريع الدولة الاستثمارية سوى١٠٪ من اجمالي الديون السيادية العراقية .اذ ظلت موارد النفط العراقي تعمل كرافعة تسديد مالية مستدامة في خدمة الديون الاستهلاكية غير المنتجة ،لتسجل البلاد بعدها ايضاً اربعة عقود متتالية من التنمية الضائعة .فعلى سبيل المثال بلغت نفقات المنح والمساعدات الدولية والقروض الميسرة (او التي يمثل عنصر المنحة فيها grant element نسبة عالية) والتي صرفت على قطاع الاستثمار و البنية التحتية العراقية بين الاعوام ٢٠٠٣وحتى ٢٠١٣ حوالي ٩٤ مليار دولار .وشارك العراق من جانبه بصرف ١٢٦ مليار دولار ،اي ان اجمالي المصروفات الفعلية على قطاع الاستثمار الحكومي خلال السنوات العشر آنفاً بلغت ٢٢٠ مليار دولار !! والنتيجة هي ان البلاد ظلت وما زالت بحاجة الى اكثر من ٨٠٠٠ بناية مدرسية وان هناك ٣،٥ مليون انسان يعيش في عشوائيات حول المدن عديمة الخدمات (وتفتقر الى شبكات الصرف الصحي والمياه وخدمات نفاذ القانون )حتى امسى جميعنا يتمتع بأشلاء متهالكة من البنية التحتية.
وعلى الرغم من تعاظم الدين العام الداخلي ليشكل اليوم قرابة ٤٠٪ -٥٠٪ من اجمالي الدين العام (بما فيها تلك الديون السيادية التي لم تجر تسويتها بموجب اتفاقية نادي باريس ٢٠٠٤ والتي تعود الى بلدان الخليج الاربعة وثمانية بلدان اخرى والتي يقدرها البعض كما ذكرنا بقرابة ٤٣ مليار دولار) فان المشكلات التي تواجهها البلدان في تصنيفاتها الائتمانية ratings وتقييم مخاطرها الائتمانية تنحصر في القدرة على تسديد الدين الخارجي تحديداً والقدرة في الالتزام امام اسواق الاقتراض او اسواق راس المال ومختلف الدائنين في دفع خدمات الديون واطفائها في مواعيد استحقاقها.
اما الدين الداخلي ، فهو اقل خطراً لتوافر مرونة في السياستين المالية والنقدية في معالجته محليا وان جل الاقتصاديين يعدونه التزام منخفض المخاطر ذلك لتيسر بدائل محلية تعوض الدائنين وتسمح بالجدولة والتأجيل دون تأشير حالات الافلاس والعسرة على البلاد كما في حالة الديون الخارجية. منوهين ان الدين العام الداخلي العراقي الذي بقارب ٦٠ تريليون دينار ،نسبة منه هي بمقابل تعهدات وكفالات سيادية بنحو ٣٠٪ .كما ويعود الدين الداخلي الى الجهاز المصرفي الحكومي دون الاقتراض من المواطنين (اي دين داخل الجهاز الحكومي حصرياً ) وان الدولة ليست مدينة للأفراد الا بنطاقات ضيقة و تمثل بقايا مستحقات الفلاحين والمقاولين.
٤- ختاما، اشرت الورقة البيضاء white paper التي قدمتها الحكومة العراقية الى مجلس النواب مؤخراً مسارات اقتصادية مهمة ذات اولويات في الاصلاح المالي نفسه والتي تقوم على توفير ما يسمى بالاستدامة المالية fiscal sustainability اي عدم التوسع بالعجز والحفاظ على تدفقات الموازنة وقدراتها في مواجهة حالات اللايقين والمتمثلة بمواجهة المطلوبات التي تصبح عسيرة السداد مثل الرواتب والمعاشات والمنح والطوارئ (داخليا) والالتزامات ازاء الدائنين الدوليين (خارجياً). وهذا سيتطلب مستقبلاً احلال حالة التوازن في موازنةً النفقات الجارية او التشغيلية والعمل بالقاعدة الذهبية العراقية Iraqi golden rule التي ينبغي ان توفر بالفسحة المالية fiscal space اي حصر الاقتراض مستقبلاً بالموازنة الاستثمارية اي بالمشاريع والاستثمارات المدرة للدخل التي تسهم بالتنمية والتشغيل وصناعة الرفاهية المستدامة.