الإقتصاد في الدستور العراقي – د – ماجد الصوري
الإقتصاد في الدستور العراقي – د – ماجد الصوري
نص الدستور العراقي لعام 2005 في الكثير من مواده على الجوانب الاقتصادية في حياة المجتمع العراقي منها تتعلق بالسياسة الاقتصادية، ومنها تنظيمية تتناول الإجراءات الإدارية وتحديد واجبات ومهام السلطات المختلفة ومنها تحدد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفرد العراقي.
الدستور والسياسة الاقتصادية
في الباب الثاني من الدستور (الحقوق والحريات ) ، نصت المادة 25 على ما يلي: (تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته). أما في المادة 112 فأكدت على (تطوير ثروة النفط والغاز معتمدة أحدث مبادئ السوق). وهي المرة الأولى والأخيرة التي يتم فيها استخدام هذا المصطلح. ويجري الحديث الآن في الأوساط السياسية والاقتصادية، وبشكل واسع، عن اقتصاد السوق، والاقتصاد الحر، والقطاع الخاص، من أجل إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية، باعتبارها من الأسس الاقتصادية الحديثة. وللأسف الشديد لم يجر حتى الآن تحديد مفهوم اقتصاد السوق، أو القطاع الخاص الذي يراد تنميته. فالبعض من أصحاب المصالح والتابعين لهم، يروج إلى حصر مفهوم اقتصاد السوق، وبشكل متطرف، بخصخصة وتغييب القطاع العام كليا، وسيطرة القطاع الخاص على مجريات الأمور الاقتصادية بشكل كامل، وبالذات القطاع الخاص الطفيلي المرتبط ببعض السياسيين الفاسدين، ليتناسب مع مصالحهم الذاتية، مع عدم مبالاتهم بالمصالح الأساسية للوطن أو المواطن، التي يؤكد عليها الدستور في أكثر من مادة من مواده. وغير مبالين بالتطورات التي حصلت على الأنظمة الرأسمالية، والأزمات التي مرت بها، على مر الزمن، ولا يأخذون بعين الاعتبار العوامل الأساسية الفاعلة في الاقتصاد العراقي في المرحلة الانتقالية الحالية، ودورها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
إن اقتصاد السوق هو اقتصاد العرض والطلب والمنافسة الحرة، وتحرير الأسعار من أي قيد عدا ما تفرضه المنافسة الحرة غير الاحتكارية. ومع ذلك فان اقتصاد السوق لا يعني، بأي شكل من الأشكال، غياب القطاع العام ودور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية.
إن دور الدولة في تنظيم الاقتصاد، وفي ملكية منشآت القطاع العام، لم يختف حتى بعد حملة الخصخصة التي حصلت في الدول الرأسمالية، ودول الاتحاد السوفيتي السابق، في سبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، وحتى في أكثر الدول تبنيا لاقتصاد السوق الحر، الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو الحال بالنسبة لمؤسسة ناسا، والطرق العامة، وبعض المؤسسات الأخرى، وأخذت الدولة تتدخل في الأزمات المالية والاقتصادية التي حصلت، حتى وصل الحال ببعض الاقتصاديين الغربيين بوصفه بالاقتصاد المختلط.
لقد حصلت الكثير من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية في العالم منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن، وخصوصا الأزمات التي مر بها النظام الاقتصادي الرأسمالي، والحربان العالميتان، والانتصار على الفاشية. والتغيرات التي حصلت في العالم الثالث، وهزيمة النظام الاستعماري القديم. وظهور النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الاشتراكية الأخرى. إضافة إلى الحرب الباردة بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، والتطورات التكنولوجية الهائلة، والعولمة في جميع مجالاتها. كل هذه الأحداث أثرت بالفكر الاقتصادي، وأخذت النظريات الاقتصادية الجديدة كلها، تحاول العمل على التخلص من مساوئ النظامين الاشتراكي والرأسمالي، والاستفادة من ايجابياتهما قدر الإمكان، وتطبيق هذه النظريات في الدول الرأسمالية. أما أكثر الدول الاشتراكية، بقيادة الاتحاد السوفيتي، فقد بقيت متزمتة في فكرها، لم تستطع الإفادة من التطورات العلمية والفكرية الحاصلة لديها، أو لدى الدول الرأسمالية، في تطوير اقتصادياتها، وأسواقها، مما سبب في فشلها وسقوط معظمها، رغم عظمة تأثيرها الايجابي، الفكري والعملي، على بقية شعوب ودول العالم. وكانت بداية هذه التغيرات أن بدأ التفكير، وبعد الأزمة الاقتصادية الحادة في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، بضرورة تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد، والمساعدة على تفعيل الطلب من أجل تفعيل الإنتاج والعرض. فظهرت النظرية الكنزية. وظهرت نظرية اقتصاد السوق الاجتماعي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وانتشرت في بعض الدول الأوربية بعد النجاحات التي حققتها.
الدستور واقتصاد السوق الاجتماعي:
إن جوهر اقتصاد السوق الاجتماعي يلخصه واضعه ومطبقه الفريد ارمارك بالتالي: (الجمع بين مثالية العدالة والحرية والنمو الاقتصادي في منظومة متوازنة معقولة). إن ترجمة ذلك إلى الواقع تم عن طريق سن التشريعات اللازمة واتخاذ الإجراءات الفعلية لتحقيق منافسة عادلة ومنع الاحتكار، مع عدم السماح لعمليات تجارية تسئ إلى النظام الاجتماعي، وخفض معدلات البطالة، والتخفيف من حدة التضخم، وتوفير الخدمات الاجتماعية، ووضع معايير العمل، والالتزام بها، والاحتفاظ بدور الدولة في العملية الإنتاجية، وتقديم الخدمات، ما دام ضروريا.
أما الآليات التي استخدمت فهي، تكوين نقابات عمال ومنظمات مهنية قوية. وقيام الدولة بالمساعدة على تأسيس شركات مساهمة للإنتاج وإعادة الأعمار، بدعم ومساندة مصرف التنمية الألماني المملوك للحكومة، والنظام المصرفي بشكل عام. وقدمت الحكومة المساعدة المالية والمادية، في تأسيس شركات صغيرة ومتوسطة، تقوم بإنتاج سلع وخدمات تحتاجها المصانع والشركات الكبيرة. وهكذا فان الدولة لا تلغي ملكية وسائل الإنتاج العامة، أواليات التدخل العامة، ما دامت تؤدي دورا ايجابيا في عملية التنمية، وفي نفس الوقت تعمل على تشجيع ملكية وسائل الإنتاج من قبل الأفراد أو الجماعات وتحافظ عليها وتنميها، وتقوم بتشجيع كل أنواع النشاط الاقتصادي الخاص، وتعمل على المساعدة في تنظيم المجتمع، وتطبيق القوانين، من أجل الوصول إلى التوازن الاجتماعي، والتفاعل الايجابي بين مكونات المجتمع، عن طريق العدالة في توزيع وإعادة توزيع الدخل. وقد استطاعت الكثير من الدول التي قامت بتطبيق هذا المنهج، مثل ألمانيا والسويد والنمسا وبعض الدول الأوربية الأخرى، من تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة وتقديم الخدمات إلى المجتمع، مع نسبة كبيرة من العدالة في توزيع وإعادة توزيع الدخل.
وإذا ما أمعنا النظر في بنود الدستور العراقي، المتعلقة بالحقوق والحريات، فإننا نرى أن الدستور العراقي يعزز التوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، دون أن يذكره بالاسم. ففي الباب الثاني،الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المادة 22? وبعد التأكيد في أولا من هذه المادة، على حق العمل لكل العراقيين، بما يضمن لهم الحياة الكريمة، تؤكد النقطة الثانية على الأسس الاقتصادية للعلاقة بين العمال وأصحاب العمل، مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية. أما النقطة الثالثة من نفس المادة، فتؤكد على حق تأسيس النقابات والاتحادات المهنية والانضمام إليها. وفي نفس الوقت يؤكد الدستور في المادة 23 منه، على أن الملكية الخاصة مصونة، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها في حدود القانون، ولا يجوز نزعها، إلا لإغراض المنفعة العامة، مع ضرورة التعويض العادل. كما كفل الدستور في المادة 32 منه، حق الأفراد والهيئات بإنشاء مستشفيات أو مستوصفات أو دور علاج خاصة وبإشراف من الدولة. إضافة إلى التعليم الخاص والأهلي (المادة34 رابعا).. وفي المادتين 29 و30 يؤكد الدستور العراقي على أن تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، والضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش، للفرد والأسرة، في حياة حرة كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم. كما أكدت المادة 26 من الدستور على أن تكفل الدولة تشجيع الاستثمارات في القطاعات المختلفة. وفي نهاية عام 2006 تم تشريع قانون الاستثمار في العراق، من أجل تشجيع الاستثمار من قبل رأس المال المحلي والأجنبي. كما يوجد 3 مصارف حكومية متخصصة (صناعي، زراعي، عقاري) من الممكن استخدامها لتحقيق عملية التنمية، وإنشاء المشاريع الخاصة والمشتركة والمختلطة، لو تم إعادة هيكلتها وزيادة رأسمالها، وعدم شمولها بقانون المصارف رقم 94 لسنة 2004 . مع إصدار قانون وتعليمات رقابية خاصة بها. في عام 2015 قام البنك المركزي بتخصيص تريليون دينار لتعزيز السيولة لدى المصارف الخاصة، وتخصيص مبلغ 5 تريليون دينار للمصارف المتخصصة، إلا أنه حتى الآن لا توجد تعليمات خاصة بكيفية استخدام هذه المبالغ، كما لا توجد الاستعدادات اللازمة لإعادة هيكلة هذه المصارف لتقوم بمهام التنمية. وقد أعطى الدستور أهمية خاصة لأموال الدولة فأكد في المادة 27 على أن، للأموال العامة حرمة خاصة، وحمايتها واجب على كل مواطن. على أن ينظم القانون الأحكام الخاصة بحفظ أموال الدولة وإدارتها، وشروط التصرف فيها، والحدود التي لا يجوز فيها النزول عن شيء من هذه الأموال. ومن المعلوم أن أموال الدولة تشمل الأموال المنقولة وغير المنقولة. وأن أي تصرف بها يجب أن يكون عن طريق القانون. ويجري التصرف بالأموال المنقولة ( سواء كانت على شكل نقود أم أوراق مالية أم في الحساب)، بشكل عام عن طريق الموازنة العامة للدولة، التي تخضع لموافقة البرلمان. إلا أنه حتى الآن لا يوجد قانون حديث يحكم التصرف بالأموال العامة غير المنقولة. ولذلك فأن عملية الخصخصة للمشاريع العامة، لا يمكن أن تتم إلا عن طريق إصدار قانون خاص ينظم العملية، كما هو الحال بالنسبة للأراضي والمنشآت الحكومية العامة.
كل هذه المواد الدستورية تؤكد على أنه من الممكن التوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، ولمصلحة الوطن والمواطن، لو أحسنت إدارة أموال واقتصاد العراق، وتم تطبيق مواد الدستور ذات العلاقة.
الدستور والصلاحيات الاقتصادية:
تتكون السلطات الاتحادية في العراق كما نصت عليه المادة 47 من الدستور، من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى أساس مبدأ الفصل بين السلطات. وخص الدستور السلطة التنفيذية، المتمثلة بمجلس الوزراء، ومؤسساتها الإدارية، بأحقية التصرف بأموال الدولة العراقية المنقولة وغير المنقولة. فقد نصت المادة 80 من الدستور في النقطة الرابعة منها على أن من مهام مجلس الوزراء (إعداد الموازنة العامة والحساب الختامي وخطط التنمية. (وعلى مجلس الوزراء وحسب ما نصت عليه المادة 62 ) أن يقدم مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي إلى مجلس النواب لإقراره). وفي النقطة الثانية من نفس المادة، أعطى الدستور الحق لمجلس النواب، في إجراء المناقلة بين أبواب وفصول الموازنة العامة، وتخفيض مجمل مبالغها، وأن يقترح على مجلس الوزراء، عند الضرورة زيادة إجمالي مبالغ النفقات. ومن المعلوم أن على مجلس الوزراء والجهة المسئولة عن إعداد الموازنة أن تلتزم بقانون الإدارة المالية والدين العام الرقم 95 لعام 2004. وينص هذا القانون، في القسم السادس منه، على أن يقوم إعداد الموازنة الفيدرالية على خطط التنمية الاقتصادية والسعي وراء استقرار الاقتصاد الكلي والسيادة الاقتصادية. كما حدد القانون الفترات التي يتم فيها إعداد الموازنة وتقديمها إلى مجلس النواب مع الحسابات الختامية. ورغم الحق والصلاحيات التي منحت إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب، إلا أن المادة 106 من الدستور، أقرت، وبموجب قانون، تأسيس هيئة عامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية، تتكون من خبراء الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات وممثلين عنها، تقوم بالتحقق من عدالة توزيع المنح والمساعدات والقروض الدولية، ومن الاستخدام الأمثل للموارد المالية الاتحادية واقتسامها، إضافة إلى ضمان الشفافية والعدالة عند تخصيص الأموال لحكومات الأقاليم أو المحافظات. وحتى الآن لم يتم تأسيس هذه الهيئة. كما نصت المادة 111من الدستور على أن النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي. وفي المادة 112 أكد الدستور على الإدارة المشتركة للنفط والغاز، بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة،والتوزيع العادل للواردات يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرم منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، ولم يتم ذكر المحافظات المتضررة، وأعتقد أن ذلك كان سهوا عن غير قصد. وقد فرق الدستور بين المهام المالية والمهام النقدية، فأوكل المهام المالية بوزارة المالية ومجلس الوزراء، مع رقابة من مجلس النواب. أما البنك المركزي العراقي فقد أكدت المادة 103 من الدستور، على استقلاليته ومسئوليته أمام مجلس النواب. وحدد قانون البنك المركزي مسئوليته عن السياسة النقدية، إضافة إلى مسئوليته عن الإشراف والرقابة على النظام المصرفي.
الاستنتاجات:
أكد الدستور، والقوانين التي صدرت، على الكثير من المجالات الاقتصادية، في السياسة الاقتصادية، وإدارة أموال واقتصاد العراق، والمسئوليات والصلاحيات. إلا أنه وللأسف الشديد لم يتم الالتزام بها أو بتنفيذها، وبقيت الموازنة العامة للدولة، موازنة بنود شكلية. فلم يتم ربط الموازنة بخطط التنمية ولا مؤشرات الاقتصاد الكلي، وانصبت الإجراءات الاقتصادية، بدافع التوسع الانتخابي، على تضخيم عدد العاملين في الدولة، بما في ذلك القطاعات الإنتاجية، مما أدت إلى فشل في هذه القطاعات، وفي نفس الوقت تدني إنتاجية الموظف العراقي إلى 10 دقائق فقط، من أصل 8 ساعات عمل.
وحتى الآن لم يتم تقديم الحسابات الختامية لميزانيات العراق، وكشف التدفق النقدي، ولا توجد الشفافية في عرض الموازنة أو في الكشوف المالية المتعلقة بها، وكذلك هناك عجز كبير في تنفيذ الموازنة الاتحادية سواء الاستثمارية، التي تراوحت بين 35 و50 بالمئة أم التشغيلية التي تراوحت بين 78 و 88 بالمئة على مر السنين من 2005 وحتى 2014 وانتشر الفساد الإداري والمالي إلى درجة كبيرة.
إن الأموال التي حصل عليها العراق من الواردات النفطية، والضرائب والرسوم، والمنح والمعونات، والأموال المجمدة، وبقايا أموال النفط مقابل الغذاء، والقروض الداخلية والخارجية، بلغت حوالي 800 مليار دولار، من عام 2003 وحتى عام 2014 إلا أن العراق لا يزال يعاني من نــفس المشاكل السابقة فيما يتعلق بالتنمية الاقتصـــــادية والبشرية ورفع مستوى المعيشة، الأمية والفقر والسكن والكهرباء والماء الصالح للشرب وغيرها من المشاكل الدائمة الملتصقة بالدول المتخلفة. مما يدلل على أن هناك أزمة إدارية مستفحلة ناجم عن عدم تطـــــبيق بنود الدستور.
إن الغريب في الأمر، أنه لا يوجد أي خلاف بين الكتل السياسية، على أي مادة من المواد المتعلقة بإدارة أموال واقتصاد العراق إلا فيما يتعلق بالخلاف بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية.
مما يدلل على أن هناك تجاهل للدستور ومواده من قبل كل السلطات، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.