التفسير الحي ودوره في أداء العمل البرلماني خلال جائحة كورونا
التفسير الحي ودوره في أداء العمل البرلماني خلال جائحة كورونا
التفسير الحي ودوره في أداء العمل البرلماني خلال جائحة كورونا
د. محمد صباح علي
ر. مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية
يتطلب البحث في تأصيل عمل الأداء البرلماني خلال جائحة كورونا، وبيان السند القانوني لعقد الجلسات عن بعد عبر تقنية الاجتماع الكتروني، أن نبين ما يلي:-
أولا: مفهوم التفسير الحي
يقصد به التفسير المتطور أو تفسير (الشجرة الحية) مضمونه؛ بأنه يتعامل مع الدستور على انه وثيقة ذات تطور مستمر ومتواصل، فيلزم تكييف المعنى وتعديله بناءً على القيم الحديثة المتطورة، لتكون انعكاس للممارسات العملية الشائعة وما يرتبط بها من توجهات في العالم المتقدم، إذ ينطلق الدستوريون الحيويون على انه: ماذا تعنيه الكلمات في الوقت الحاضر بدلا من الماضي؛ من دون تقييد رغبات الشعب والأحياء بتفسير يقوم على الوقوف على معنى الكلمة والحرف في الماضي، ومن ثم يتم تقييد ممثلي الشعب والمواطنين برغبات كانت في الماضي، وماتت في الزمن المعاصر.
ثانيا: الأصول التاريخية والسياسية للتفسير الحي
نتج هذا المصطلح من خلال حكم بريطاني للمجلس الملكي الإمبراطوري المفسر لقانون أمريكا الشمالية البريطانية حول السماح بمدى تعيين المرأة في مجلس الشيوخ الكندي، الذي حرم النساء من الدخول للمجلس؛ استنادا لما ورد بالفصل 24 من قانون أمريكا الشمالية البريطانية الذي تضمن كلمة (الأشخاص)، وفي 29 أغسطس 1929 التمسن خمس من النساء_ التي أصبح يطلق عليهم لاحقا بالفارسات الخمس_ الحاكم العام في المجلس لإحالة سؤال محدد إلى المحكمة العليا يتعلق بسلطة الحاكم العام في تعيين النساء في مجلس الشيوخ، تم عرض السؤال من الحاكم العام على المحكمة العليا، وبتاريخ 23 ابريل 1928، أجابت المحكمة على السؤال بالنفي، انتهى إلى أن المرأة غير مؤهله بالتعيين في مجلس الشيوخ استنادا على أساس أضيق؛ وهو “بناء على فحص قانون أمريكا الشمالية البريطانية، فأن كلمة الأشخاص الواردة بالفصل 24 مقيدة بالأعضاء الرجال، وجاء الحكم النهائي للمحكمة العليا، أن كلمة الأشخاص لا تتضمن (الأشخاص النساء)، ومن ثم فالنساء غير مؤهلات للتعيين في مجلس الشيوخ”، ومع عدم القناعة التامة لبعض أعضاء المحكمة من استبعاد النساء من التعيين في مجلس الشيوخ مما يكون الأمر غير محسوما، دفع ذلك إلى مراجعة القوانين الملكية والتشريعات والأدلة الداخلية والخارجية المتعلقة بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية فلم يتوصلوا إلى أن المراد بكلمة الأشخاص تحديد جنس معين، بدلالة ما ورد بعد كلمة الأشخاص التي أعقبتها كلمة مؤهلين، وتم الرجوع إلى الفصل 23 الذي ناقش فيه الشروط المطلوبة لتعيين السيناتور، وبفحص واستدراك ما جاء بها، فلن يتوصلوا إلى أنها مقتصرة على جنس الرجال، إلا أن ما قام به هو التطبيق الجامد للأحكام، دون مراعاة الظروف والعصور المختلفة للتطبيق ومراحل التطور، وقد انتهى من ذلك السادة الأعضاء بتفسير التشريع إلى القول ” أن كلمة الأشخاص في الفصل 24 تتضمن الأعضاء من كلا الجنسين الذكور والإناث….، وستكون المرأة مؤهلة للاستدعاء، وتكون عضوا في مجلس الشيوخ الكندي، وبناء على ذلك سيطيب لهن بتواضع أن يقدمن خدماتهن لجلالة الملك”، وترجم ذلك على أن من توصل إلى هذه الدراسة والتفسير الحي قد وضع في ” قانون أمريكا الشمالية البريطاني في كندا شجرة حية قابلة للنمو والتوسع في ظل حدودها الطبيعية، والهدف من هذا هو منح دستور لكندا كبقية الدساتير المكتوبة يخضع لعملية من التطوير سواء من خلال تطبيقاته أو من خلال عقد الاتفاقات”. ونستنتج من مفهوم التفسير الحي أو المتطور أن المشرع اقتصر القول في النص التشريعي، مما يستدعي توسيع الألفاظ لفهم التشريع بشكل واضح وصريح، لغرض تطبيق التشريع على حالات أخرى لم يشملها النص ولكن هي مقصد الإرادة التشريعية الحقيقية، ولكن لضرورة أو لأخرى لم يوفق المشرع في استعمال عبارات عامة أكثر دلالة على المعنى والمضمون، واقتصر على بيان المعنى الحرفي والشكلي للألفاظ، مما خرج النص بصورة قاصرة عن تلبية احتياجات الواقع والأخذ بتطور الظروف والأحداث، للوقوف على الأهداف الحقيقية للنص واستجلاء معانية الرسمية عن طريق المفسر الذي يكون ملما بكل ألفاظ النصوص ودلالتها في الحاضر والمستقبل أكثر من المشرع الذي يقف على السطح الخارجي للنص، مما يصعب عليه المواكبة في تطبيقه في حالات التطور ودواعي الحاجة له، بعكس المفسر الذي يمكنه الموائمة بين تطبيقاته، وتوظيفه في خدمة المجتمع والظرف الذي يسود، ليسد بذلك النقص الحاصل في الأحكام في حالة قصور التشريع عن تغطية حالة أو أمر ما، ويتلافى كذلك مساوئ الصياغة التشريعية للنص لإظهار المعاني الحقيقية له.
ثالثا: نماذج من تطبيقات التفسير الحي في الانظمه البرلمانية في أمريكا وأوربا
وتتضح أهمية هذا النوع من التفسير، بعًده مكمل لتطوير الدستور كبديل عن التعديل؛ لتلبية حاجة المجتمع، ولتسهيل ذلك على السادة ممثلي السلطة التشريعية، ولا يقل عن ما تغطيه منابع التطوير الأخرى: كاتفاقات الحقوق الدولية والمؤتمرات الدستورية الدولية؛ التي يكون لها جانب أساسي لكل دولة عند وضع دستورها الأول لتضمينه مبادئ الحرية والسيادة الشعبية، وأخذ الجانب الحديث والمتطور لنظامها السياسي بما يحافظ على وحدة الدولة وأقاليمها، وهذا ما عبر عنه في فترة عصيبة رئيس المحكمة العليا الأمريكية Warren بقوله ” أن تأريخ البلد لم تخطه فقط ميادين القتال، ولا القوانين الفيدرالية التي أقرها الكونجرس، ولا الجهود التي بذلها رؤساء الجمهورية المتعاقبون، وإنما دونه كذلك – والى حد كبير – قضاة المحكمة العليا الذين صاغوا بأحكامهم منهجاً فريداً لتقدمها لأن التفسير يتضمن جميع العمليات اللازمة لانطباق القانون على الواقع”، وأكد أهمية ذلك الفقيه الفرنسي Laurent بقوله “خطأ في فهم التفسير الاعتقاد بعدم الحاجة إليه، إلا عند نقص النص أو غموضه، فلو كان الأمر كذلك لأمكن القول بان نقص القانون هو الموجب للتفسير.. أن التفكير لحظة واحدة في جوهر القانون تكفي للاقتناع بأن ضرورة التفسير تتأتى من طبيعة القانون أكثر مما تنجم عن غموضه أو نقصه، فالمشرع، وهو أمام استحالة وضع نصوص خاصة بشأن كل نزاع قد ينشأ بين الأفراد، يجد نفسه ملزماً بوضع نصوص عامة لا خاصة، وهذا يعني انه يضع مبادئ يتعين على القاضي تطبيقها على المنازعات المرفوعة إليه “، كما رأت المحكمة الدستورية الألمانية أهمية في الانفتاح وتطبيق هذا النمط من التفسير الذي عبرت عنه بالآتي ” أهمية التفسير الحي لنصوص الدستور؛ لان وضوح النص الدستوري شيء نادر أن لم يكن مستحيلاً، وذلك لتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي صاحبت وضعه، فالنص الدستوري الذي وضع قبل قرن أو أكثر لا يمكن أن يملك اليوم المحل نفسه الذي كان له أبان وضعه، ولنفرض أن نصاً أو أكثر يتمتع بهذا الوضوح المزعوم، فالأمر لا يكون كذلك بالنسبة للنصوص الأخرى التي تتضمنها الوثيقة الدستورية، ومن ثم تحديد هذه النصوص الدستورية وتفسيرها من قبل القاضي يصبح أمراً لا بد منه ولما كان النص هو الوسيلة إلى معرفة حكمته التشريعية، فعلى المفسر تقدير الغاية أو الهدف العملي من القاعدة القانونية”، ويقول في ذلك الفقيه ايرنج: “وما من قاعدة قانونية إلا وتجد منبعها في هدف محدد، وباعث عملي وعلى ذلك ينبغي على المفسر أن يستلهم الحاجات التي من اجلها وضعت القاعدة القانونية لإشباعها، فالقانون هدفه تحقيق مطالب اجتماعية واقتصادية للجماعة، وعليه يجب أن تدرس هذه العلاقات دراسة دقيقة عميقة، إذ أن التفسير ليس فناً لُّغوياً، لكنه يبحث مطالب الحياة العملية والحقائق الاجتماعية”، وطبقت المحكمة الدستورية الألمانية الفيدرالية التفسير المنطقي لنصوص الدستور عند تفسيرها للمبدأ الديمقراطي أثناء دراسة القانون الذي يجيز التصديق على معاهدة ماستريخت، وذلك عند تفسيرها للمادة(٢٠) من القانون الأساسي، التي تحيل إليها المادة (٧٩/الفقرة/٣) والمتعلقة بالديمقراطية، ونستكمل نهج الدول الذي سارت على النمط المتطور من التفسير لنصل إلى المحكمة الدستورية الايطالية، الذي أسمته التفسير المضيف، وطبقته بدءً من العام 1963 في الحكم رقم 168 الصادر في عام 1963 بشأن تنظيم المجلس الأعلى للقضاء، وطبقته أيضا في الحكم رقم 190 لسنة 1970 الخاص باستبعاد الحق بالاستعانة بحضور محامي لحضور استجواب المتهم خلال مرحلة التحقيق الابتدائي، والذي احدث دويا في القضاء الايطالي، وأيضا في القضية رقم 13 لسنة 1994 الخاصة بالحماية الدستورية لأسم الأسرة، وغيرها العديد من القرارات التي حمت الدستور والشعب والسلطة النيابية، وإذا انتقلنا إلى المجلس الدستوري الفرنسي فسنقرأ ما كتبه العميد فافورو؛ ” أن المجلس الدستوري يستطيع من خلال التفسير المضيف أن يملك سلطة تفسيرية خلاقة يستطيع من خلالها أن يكمل الخلل أو النقص أو القصور الموجود في القانون فيتمكن من أكمال النقص الحاصل في النص”، وإما القرارات التي صدرت وفقا للتفسير المضيف نذكر منها، قرار رقم 67-76 الصادر في 15/7/1976بشأن القانون المعدل للمرسوم رقم 244 لسنة 1959 بشأن النظام العام للموظفين، وقراره رقم 257-89 في 25/7/1989 الخاص بالوقاية من حالات التسريح من الوظيفة لأسباب اقتصادية، وأيضا قرار المجلس رقم 94- 352 في 18/1/ 1995 باسم رقابة الصورة، فضلا عن القرارات العديدة المؤكدة لهذا الدور التفسيري التكميلي لنصوص الدستور.
رابعا: نماذج من التطبيقات في الدول البرلمانية العربية
ولم يختلف على أهمية ذلك الفقه العربي ففي مصر؛ حيث عبر عنه الدكتور كمال أبو المجد قائلاً ” قد صار معلوماً لكل مشتغل بالقضاء ممارسةً أو دراسة أو تحليلاً… أن المحكمة الدستورية العليا تمارس دوراً إنشائيا يتجاوز حدود التطبيق الحرفي لنصوص الدستور ليصل إلى التأثير العملي على الكثير من أمور الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… وان هذا الدور الإنشائي يتحقق عن طريق قيام المحكمة بتفسير نصوص الدستور والقوانين واللوائح التي يطرح عليها أمر دستوريتها”، وحكمها الشهير، عندما قررت المحكمة الدستورية العليا، “عدم دستورية المادة الخامسة مكرر من القانون رقم (٣٨ ( لسنة ١٩٧٢ في شأن مجلس الشعب المعدل بالقانون رقم ١٨٨لسنة ١٩٨٦ التي تقرر تطبيق (الانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة) يؤدي إلى بطلان تكوين المجلس منذ انتخابه ، ومع ذلك، قررت أّنه لا يترتب على هذا البطلان إسقاط ما أقره المجلس من قوانين وقرارات، وما اتخذه من إجراءات خلال الفترة السابقة وحتى تاريخ نشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية، بل تظل على أصلها من الصحة والنفاذ ما لم يتقرر إلغاؤها أو تعديلها أو يقضي بعدم دستورية نصوصها التشريعية، إن كان لذلك ثمة وجه آخر غير ما بنى عليه الحكم بعدم دستورية المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب المشار إليه”، وقد علق الأستاذ الدكتور محمود عاطف البنا على تفسير المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن بقوله: “إن هذا الحل لا يتفق مع المنطق القانوني المجرد. فالأصل إن عدم الدستورية يستتبع البطلان وما بني على الباطل فهو باطل، ومن الواضح أن الاعتبارات التي أملت على المحكمة هذا الحل هي اعتبارات عملية تتمثل في المحافظة على الاستقرار وتفادي الانهيار الدستوري” .، إما في العراق وبالرغم من عدم وجود منهج واضح للقرارات التي تصدرها المحكمة الاتحادية العليا، فمن الصعوبة الاسترشاد إلى وجود تفسير مضاف أو متطور، يعالج الحالات الواقعية العملية التي يكتنفها غموض وبحاجة إلى تفسير، ولعل مرد ذلك لكون المحكمة العليا في العراق كانت دائما جزءً من الصراع السياسي، مما غلب على قراراتها ضبابية واضحة ونهج غير ثابت، إلا أن من الكتاب والباحثين، من رأى أن هناك أشارة إلى أتباع المحكمة للتفسير التكاملي عندما قالت: “عرف دستور جمهورية العراق الصادر عام٢٠٠٥ تعابير متعددة للأغلبية المطلوبة من أصوات أعضاء مجلس النواب عند أداء مهامه، وذلك تبعاً لدرجة أهمية الموضوع المطروح للتصويت في المجلس فقد تطلب في المادة (٦١/ثامناً/ب/٣) منه الحصول على أصوات الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب عند سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، أما في حالة سحب الثقة من احد الوزراء فلم تتطلب المادة (٦١/ثامناً/أ) منه إلا الحصول على الأغلبية المطلقة وهي غير الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه الوارد ذكرها عند سحب الثقة من رئيس الوزراء، لأن النص قد ذكرها مجردة من عدد الأعضاء، وهي تعني أغلبية عدد الحاضرين في الجلسة بعد تحقق النصاب القانوني للانعقاد المنصوص عليه في المادة (٥9/أولاً) من الدستور، ولو أراد واضع الدستور الأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء لأوردها صراحة”، وفي قرار أخر للمحكمة الاتحادية العليا فأنها أكدت على أن لكل نص مضموناً ذاتياً لا ينعزل عن غيره من النصوص الدستورية، ويفهم منها بان الدستور وحدة عضوية واحدة لا يمكن فصل نصوصه عن بعضها مما فسرت بناءً على التطورات العملية.
خامسا: دور التفسير الحي في استمرار أداء العمل التشريعي خلال جائحة كورونا
أداء البرلمانات الأوربية -1
لاحظنا أن آثار تلك الجائحة قد شلت الحياة في مختلف بقاع العالم، وعطلت أجهزة الدولة وأوقفت مؤسساتها عن العمل، وغابت بسبب ذلك مؤسسات الدولة الحيوية المهمة التي يفترض وجودها في الأزمات والأوبئة؛ كالسلطة التشريعية، لغرض تشريع القوانين لمواجهة الأزمة ومراقبة عمل السلطة التنفيذية، والاطلاع على المواقف بشكل يومي، لاسيما وان حياة الناس باتت على حافة الخطر وفتك الوباء بالناس فتكاً، فتعطلت أرزاقهم، وأنذرت منظمة الصحة العالمية باستمرار تلك الجائحة لأشهر عديدة مما يستوجب اخذ الاحتياطات الكافية للتعايش مع الوباء، وتكييف مؤسسات الدولة للتعايش مع ذلك، ولا يخفى على الجميع أن التشريعات القانونية ورتابتها قاصرة عن مواجهة الأزمة، بالإضافة إلى صعوبة إجراء تعديل أو تغيير في الدستور أو التشريعات القانونية لمواجهة هذا الظرف الطارئ أو الاستثنائي؛ من حيث الخطورة والصعوبة في اجتماع النواب لعقد الجلسة لغرض المضي بإجراءات التعديل المطلوب، مما تطلب الحاجة إلى مواجهة الظروف غير العادية بإجراءات غير عادية لضرورة الموقف وعدم التضحية بمصالح الناس، فما كان إلا اللجوء إلى التفسير الحي المتطور الذي يقوم على تفسير النص الدستوري- وكما ذكرنا آنفا- بالأخذ بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ليستخرج من النص الدستوري قاعدة قانونية تعالج الإشكال الذي تواجهه السلطات التشريعية، وتعطي للنص معنى ومضمون يتفق مع الوضع الراهن، ويأتي ذلك عن طريق قيام المؤسسة التشريعية الاستفسار من المحكمة الدستورية العليا- حسب تسمية الدولة للمحكمة- بتفسير النص الدستوري الخاص بعقد الجلسات بطريقة الكترونية وبالشكل الذي يحافظ على أرواح الأعضاء، ويؤدي إلى الاستمرار بالعمل التشريعي، وبحسب الآلية التي تراها المؤسسة التشريعية مناسبة لاستمرارها، فنجد أن البرلمان الأمريكي والكندي، قد اخذ بتطبيق الاجتماع الالكتروني، وعمل على إقرار قوانين خاصة بالصحة ومواجهة الأزمة، كما وأستأنف البرلمان البريطاني جلساته من خلال التكنولوجيا لتشريع القوانين، ومضت ايطاليا بتطبيق التجربة الالكترونية بعقد اجتماعات المجلس عن بعد ومناقشة قضايا الأزمة الصحية وارتفاع أعداد الوفيات، و مناقشة السبل للحد من عدد الإصابات، ودعا الاتحاد الأوربي أن تكون اجتماعاته عن بعد لغرض مناقشة قضايا الاتحاد الأوربي بشكل عام، والوضع الصحي لإيطاليا بشكل خاص، ووجه بضرورة تكثيف العمل البرلماني لحماية أرواح الناس، واستمرار عمل المجالس، بينما أقر البرلمان الألماني صلاحية اتخاذ قرارات من المجلس بحضور أكثر من ربع الأعضاء من أجل تيسير عمل المجلس خلال جائحة كورونا، فالقاعدة المعمول بها لإصدار قرار من البرلمان تنص على حضور أكثر من نصف الأعضاء(355عضوا)، وبموجب القرار الجديد سيكون إصدار القرارات من قبل 178 عضوا فقط. 2-أداء البرلمانات العربية
وعلى صعيد البرلمانات العربية، فقد اعتمد مجلس المستشارين داخل البرلمان المغربي تقنية التصويت الالكتروني عن بعد على مشاريع القوانين، وصادق على مشروع القانون رقم 23.20 الخاص بالمصادقة على المرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، ثم أعقبتها الجارة تونس التي فتحت نظام التصويت الكترونيا على مشاريع القوانين تماشيا مع قواعد الابتعاد الاجتماعي وتطبيق قرارات منظمة الصحة العالمية، وطبق المجلس الوطني الاتحادي في أبو ظبي تقنية الاجتماع الكتروني عن بعد واستمر المجلس في عقد جلساته ومتابعة عمل اللجان ومناقشة القوانين ذات المساس بحياة المواطن وصحته أثناء الجائحة، وطبق ذات التقنية البرلماني البحريني أثناء البدء بفتح جلساته عن طريق تقنية الاجتماع الالكتروني عن بعد.
سادسا: موقف الاتحاد البرلماني الدولي
قال مارتن شنونجونج الأمين العام للاتحاد البرلماني الدولي،” إن ما يقارب 85 % من برلمانات العالم ظلت تعمل خلال أزمة كورونا الحالية وبأشكال مختلفة واستطاعت أن تتكيف مع الأزمة وتنظم جلساتها من خلال استخدام التكنولوجيات الجديدة للعمل عن بعد وتستمر في القيام بدورها سواء فيما يتعلق بالتشريع أو بمراقبة عمل الحكومات والإجراءات التي تفرضها خلال أزمة كورونا”، واستكمل ” أن الاتحاد البرلماني الدولي كان حريصا على أن تعمل البرلمانات على حماية حقوق الإنسان في كل مكان خلال هذه الأزمة الصحية العالمية وأن تعمل وفق القواعد الديمقراطية ودون أن تعطى شيكات على بياض للحكومات”، مؤكدا ” أن استخدام تكنولوجيات العمل عن بعد بالنسبة للبرلمانات كشف عن نوع جديد من التحديات التي يجب التعامل معها في الفترة المقبلة والنظر في الحلول تحسبا لأي أسباب مستقبلية قد تضطر أحد البرلمانات للعمل عن بعد من بين تلك التحديات مسألة إن كان التصويت الإلكتروني عن بعد هو قانوني أم لا، وأيضا موضوع حماية الأنظمة عبر الإنترنت التي يمكن أن تستخدمها البرلمانات كمنصات لمواصلة عملها خلال الأزمات وسبل حمايتها من الاختراق والقرصنة الإلكترونية” وختم قوله ” إن الاتحاد البرلماني الدولي بصدد إعداد إرشادات سيقدمها إلى كافة برلمانات الدول الأعضاء بالاتحاد مستقبلا تتعلق بالدور الذي يمكن للبرلمانات أن تلعبه من أجل تحقيق أمن صحي عالمي خاصة بعد أن كشفت أزمة كورونا عن ابتعاد الكثير من الدول عن التعددية في التعامل مع الأزمة وبما يحتاج إلى التركيز على ضرورة التأكيد على أن تعددية الأطراف في التعامل مع أزمات عالمية من هذا النوع هو الضمان الأكبر لحماية المجتمعات حول العالم، والدول عليها أن تتعلم من الأزمة التي أثبتت أن تهديد فيروس كورونا لم يكن له حدود”.
سابعا: غياب الأداء التشريعي خلال الجائحة
نأسف كثيرا للبرلمان العراقي الذي لم يوفق في تطبيق التقنية الالكترونية في الاجتماع عن بعد لمناقشة وإقرار مشاريع القوانين، إما والحديث عن عدم وجود سند قانوني يجيز له عقد جلساته الكترونيا، أو التذرع بأن المحكمة الاتحادية العليا لن تتمكن من عقد نصابها بسبب فراغ في قانونها، وحتى لو كانت المحكمة منعقدة فلن يطلب المجلس التفسير بشرعية عقد جلساته الكترونيا؛ وذلك للصراعات الباردة بين المجلس والمحكمة، فيجب دائما تذكر المثل الفرنسي انه ” أمام الأزمات غير المتوقعة يجب التفكير في حلول غير متوقعة”، وبذلك لا ننكر الدور الرقابي الذي قام به مجلسنا بتشكيل خلية أزمة نيابية يشار لدورها بالبنان وتعاونها مع خلية الأزمة الوزارية وتذليل الصعوبات لها ومتابعة الشؤون الصحية والمالية للمواطنين، ونأسف كثيرا أيضا للبرلمان المصري بعدم الأخذ بتلك التقنية مع أخذه بدستور 2014 وبعد التعديل الأخير بالتفسير المرن المتطور الذي يتيح لها ممارسة ذلك. ختاما: نقول أن السند القانوني لجميع البرلمانات التي مارست أعمالها التشريعية عن بعد، كان تحت ظل التفسير المتطور الحي الذي يمنحها معان جديدة غير التي كانت عليها في صورتها ابتداءً، بما يطوعها لحقائق متغيرة ينسجم مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة في هذه الدول لغرض مواجهة الأزمة. وعلينا أن نستحضر في ذلك قول الجنرال ديغول عند الاستعداد لتمرير دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية: ” أن تحرير القواعد الدستورية يجب أن يكون بشكل مرن ومفتوح على مجموعة من التأويلات، لتستطيع هذه القواعد الدستورية الصمود أمام الزمن من جهة، ومن جهة أخرى لتستطيع هذه القواعد المرنة منح قدرة على الحركة للمؤسسات الدستورية، وخصوصا الرئاسية والبرلمانية”، وهو ما طوره وأعاد طرحه بشكل ديمقراطي فعال يخدم الحياة السياسية والاجتماعية العملية دون تقييد، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلا : “من أجل إيجاد الحلول يحتاج البلد إلى الطبقة الإيديولوجية التي تمكن من إعطاء معنى للآفاق، والطبقة التكنوقراطية التي تفصل الإمكانات التقنية الضرورية للتنفيذ، والطبقة المرتبطة بالواقع واليومي، وبالتالي من المفروض ترسيخ التناسق والفعالية الجماعية لهذه الطبقات”. ونأمل أن تعلمنا الأزمة بعد انتصارنا عليها كيفية إدارة مؤسسات الدولة خلال الأزمات بطرق حديثة نابعة من معاناتها للاستعداد لكل طارئ.