الجذور السياسية والاجتماعية والايديولوجية للارهاب إصلاح ديني يحرّر الدين والدولة
الجذور السياسية والاجتماعية والايديولوجية للارهاب إصلاح ديني يحرّر الدين والدولة
كريم مروة
2002 / 11 / 14
الحديث في موضوع الارهاب، هذه الايام، يشغل العالم ويشغلنا. الا ان ثمة فارقاً واضحاً يميز بين انشغال العالم بالارهاب وانشغالنا نحن به. والمصدر الاساسي لهذا التمايز هو، اولاً، تعريف هذه الظاهرة، الذي يجري تعميمه عالمياً، من قبل الادارة الاميركية، على وجه التحديد. وهو، ثانياً، التمويه المتعمد لجذور هذه الظاهرة، وللأسباب التي ولّدتها في السابق، والتي تولّدها اليوم.
والعلاقة واضحة بين التعريف والتمويه. فالتعريف هو تعريف ايديولوجي بامتياز. ووظيفته ووظيفة التمويه لجذور الارهاب هي وظيفة سياسية وأيديولوجية محددة الاهداف. الامر الذي يستدعي من الباحثين، الذين ينتمون الى معسكر الحرية والديموقراطية والتقدم الانساني، في بلداننا خصوصاً، الحذر والدقة، وأعلى قدرة من الموضوعية، وأعلى قدر من الجرأة والمسؤولية، في قول ما يرونه اقرب الى الحقيقة والواقع، من دون مراعاة لأي اعتبار.
والمقصود بالاعتبارات، هنا، ما يتصل ببلداننا، وبأوضاعها، وبتفاقم ظاهرات التخلف والفساد والاستبداد فيها، المولدة للعنف، بأشكاله المتعددة. وهي اشكال بعضها قابل للتفسير، او للتبرير، وبعضه يدخل مباشرة في باب الارهاب بمعناه الدقيق. والتحفظ، هنا، في الحديث عن الارهاب، يدعوني الى استباق بحثي هذا بطرح جملة من الاسئلة، بهدف اثارة التفكير والجدل، وما يتصل بهما من دعوة لتسديد رؤيتنا للأشياء وللأحداث. وهي اسئلة لا تنبع من رغبة ذاتية، ولا من شعور ذاتي. بل هي تنبع من واقع محلي واقليمي وعالمي، تعاني شعوبنا من نتائجه في حياتها اليومية، وتخشى من مخاطره على حاضر بلداننا ومستقبلها، وعلى حاضر البشرية ومستقبلها، في الوقت عينه.
وقد تكونت هذه الاسئلة عندي بفعل ما قرأته من ابحاث حول الارهاب، ومن جراء ما سمعته من احاديث ونقاشات حول الموضوع، كان آخرها تلك التي حفل بها المؤتمر العالمي المناهض للارهاب الذي نظمته الحكومة الجزائرية في العاصمة الجزائر، في اواخر شهر تشرين الاول المنصرم. وقد شاركت في هذا المؤتمر، وساهمت في النقاشات الواسعة المتعددة الاتجاه التي ميزت جلساته الطويلة المتواصلة على امتداد ثلاثة ايام. واذ ركزت مجمل النقاشات على ان الارهاب ظاهرة عالمية، وأن على العالم جميعاً ان يتصدى لمواجهتها، حرصت في مداخلتي على التأكيد بأن هذه الظاهرة ليست الا جزءاً من قضية اكبر، ذات امتدادات وتجليات وخصوصيات محلية واقليمية. اذ اعتبرت ان العنف، بأشكاله المختلفة ومنها الارهاب ليس، في حقيقته، سوى فعل ورد فعل، ثم فعل ورد فعل، وهلمّجرا… وهذان الفعل ورد الفعل، اللذان يشكل تكرارهما ظاهرة تاريخية تصل الازمنة بعضها ببعض، انما يثيران، بذاتهما، سؤالاً كبيراً احب ان ابدأ به اسئلتي المشار اليها.
يتمحور هذا السؤال حول طبيعة الحقبة التاريخية التي يمر فيها العالم اليوم، في مطالع القرن الحادي والعشرين. ذلك ان البشرية، اذ تنتقل من قرن كان حافلاً بمشاريع كبرى للتغيير، تواجه، اليوم، بعد انهيار تلك المشاريع، مصيراً لا ابالغ اذا ما قلت انه مصير مجهول. وأهمية التوقف عند تحديد طبيعة هذه الحقبة من تاريخ البشرية انه يساعدنا، كلاً منا في بلده، وجميعنا على الصعيد الكوني، في اعادة صوغ مشاريعنا المنهارة، الصغيرة والكبيرة، المحلية والعالمية، في اتجاه تحقيق الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية لشعوبنا، ولجميع الشعوب.
وهي عملية لا يمكن ان تعطي ثمارها الا اذا قامت على قاعدة المراجعة النقدية، محلياً وعلى النطاق العالمي، للتجارب السابقة كلها، وللمشاريع المرتبطة بها، التي طمحت الى تحقيق التغيير في اتجاه الحرية والتقدم والمساواة لجميع ابناء البشر. يؤكد ذلك، بالنسبة اليّ، ان العالم المعاصر يسير، بخطى واسعة، نحو وحدته، موضوعياً، وبالقسر، في الوقت عينه. وفي هذه الحقيقة التاريخية، بالذات، تكمن الاشكالية الكبرى التي تواجه البشرية كلها، في هذه الحقبة من تاريخ العالم. وجوهر هذه الاشكالية يتحدد في السؤال المباشر الآتي: ما العمل لكي تكون وحدة العالم الموضوعية هذه وحدة انسانية، اي غير قسرية، وغير متوحشة، تتحقق فيها الحرية للشعوب، وتصان فيها حقوق الانسان، ويحترم التعدد والاختلاف في الثقافات، وتصان القيم الانسانية من التشويه، ويسود السلام؟
ما العمل لكي يكون بالامكان منع قوى الظلم والاستبداد والاستغلال المهيمنة، باسم العولمة الرأسمالية وتوابعها، من ان تستمر في تحكمها بمصائر الشعوب، من طريق القهر والعدوان والتسلط، وأن تتمادى في تهديد الكوكب الارضي بالاحتراق؟ من هذه الاشكالية التاريخية، بالذات، التي يعبر عنها هذا السؤال الكبير، ينبغي ان يبدأ البحث الحقيقي في موضوع الارهاب. وعلينا، في هذا السياق ومنذ البداية، ان نجيب عن الاسئلة البسيطة الاتية:
كيف نواجه، نحن الشعوب المقهورة من قبل الرأسمال المعولم وتوابعه، التعريف السائد للارهاب، الذي تعممه الادارة الاميركية، بعد الحادي عشر من ايلول وقبله، وكيف نعيد صوغ هذا التعريف في شكل صحيح، وكيف نعمل لكي تتجند شعوبنا بأدوات وأشكال صحيحة للنضال ضد ارهاب الدولة الكبرى، اولاً، وضد كل ارهاب ينتمي الى الصيغة ذاتها لهذا الارهاب؟ ما العمل لكي نتمكن من جعل ارهاب الدولة الاسرائيلية هدفاً لمقاومة عالمية واسعة تشمل الشعوب والدول؟ كيف نحدد الارهاب بأشكاله وصيغه المتعددة، حتى ولو كان مصدره من عندنا، وباسم قضايانا الكبرى؟ كيف نفرق بين اشكال العنف، بين ما هو مشروع منها وما هو ارهاب حقيقي؟ ما العمل لكي يكون التمييز واضحاً بين الفعل ورد الفعل، في علاقة الصراع بين الظالم والمظلوم، في المسؤولية عن التدمير الذي يحدثه كل منهما؟ هل صحيح ان العنف، بصيغه وأشكاله المختلفة، في الامكنة وفي الاتجاهات المختلفة، هو فعل مستقل، اي انه من دون جذور ينتسب اليها، ومن دون اسباب ولدته في السابق، وتولده اليوم؟ أليس من الاصح ان نقر بأن ارهاب الدولة هو الاصل، وهو الجذر في كل عنف، وان ارهاب الافراد والجماعات، رغم اختلاف الاهداف وتناقضها، هنا وهناك، هو شكل من اشكال ذلك الارهاب، وصيغة من صيغه، ونتيجة حتمية من نتائجه؟
انها اسئلة من جملة اسئلة كثيرة تصب في الاتجاه ذاته. وعلينا ان نمتلك الجرأة في الاجابة عنها بأعلى قدر من الدقة والمسؤولية، قبل ان نذهب بعيداً في البحث في موضوع الارهاب ذاته، كظاهرة مجردة، اي غير تاريخية.
مساهمتي في الاجابة عن هذه الاسئلة تبدأ بالتمييز العام بين ارهاب الدولة وارهاب الجماعات والافراد. والنماذج القديمة والحديثة لارهاب الدولة، في تحديدي لها، تختلف في اشكالها، وتلتقي وتتقاطع في جوهرها. فالدولة التي تحتل بلداً آخر، خارج حدودها، وتقهر شعبه، وتمنعه من حقه في تقرير مصيره، انما تشكل النموذج الاول والأبرز لارهاب الدولة. والمثال الراهن البالغ التعبير عن هذا النوع من الارهاب هو ما تقوم به دولة اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، اليوم، ومنذ اكثر من نصف قرن. ولهذا النوع من الارهاب شبيه في التاريخ الحديث، يتمثل في ما شهدته الجزائر والفيتنام، وفي ما شهدته بلدان عديدة اخرى، كانت تمارس حقها في النضال من اجل الحرية والاستقلال ضد دول كبرى كانت تستعمرها وتحاول تأبيد هذا الاستعمار بالتدخل العسكري الفظ.
النموذج الثاني لهذا الارهاب يتمثل في النظام العنصري السابق في كل من جنوب افريقيا وزيمبابوي. اما النموذج الثالث فيتمثل في انظمة الاستبداد، على اختلافها وتمايزاتها، التي تقمع شعوبها، وتصادر حرياتها، وتنهب ثروات بلدانها، وتبقيها في حالة متمادية من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. الا ان النموذج الاكثر فظاظة لارهاب الدولة هو ما تمارسه الدول الكبرى من قمع وقهر وعدوان وضغط وحصار ضد الدول الصغيرة. ويتمثل هذا النموذج من ارهاب الدولة في ما تمارسه، اليوم، الولايات المتحدة، منفردة، ازاء البلدان الاخرى، بصفتها الدولة العظمى، التي تعطي لنفسها صفة القائد الاوحد للعالم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
وهي، في ذلك، تتجاوز، في شكل فظ، الامم المتحدة ودورها المفترض، الذي من اجله انشئت هذه المنظمة في اعقاب الحرب العالمية الثانية، كضرورة تاريخية. والمثال الابرز، اليوم، لهذا الدور الاميركي هو الموقف من العراق. وهو موقف لا يرمي الى تحرير شعب هذا البلد من نظام استبدادي مغامر يستمر منذ اكثر من ثلاثين عاماً في قهر شعبه وافقاره واذلاله. وهي، في اي حال، مهمة لا تعود لغير الشعب العراقي وحده من دون سواه. بل هو يرمي من وراء تدخله العسكري، اذا ما اتيح له ذلك، الى الهيمنة على هذا البلد، وعلى ثرواته وثروات المنطقة وامتداداتها، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
من هنا ينبغي لنا ان نبدأ في الحديث عن الارهاب وجذوره، وعن اشكال العنف كافة، التي يشهدها عالمنا المعاصر، والتي شهدها العالم في عصور سابقة. ويهمني، قبل البدء في تقديم قراءتي لأشكال العنف السائدة من قبل الافراد والجماعات، ما هو مشروع منها، تفسيراً في الاساس، وتبريراً في بعض الحالات، وما هو ارهاب بالمعنى الدقيق للكلمة، يهمني ان اعلن موقفي من العنف، بشكل عام. ففي اعتقادي ان العنف، كرد فعل على الظلم والاستبداد، وعلى القهر القومي والاجتماعي، من قبل المظلومين والمقهورين، لم يعد، وفق ما اثبتته التجارب في التاريخ القديم والمعاصر، هو السبيل الصحيح والوحيد للانتصار على الظلم والظالمين. ولم يعد هو الطريق الصحيح والوحيد لتحقيق الحرية والتقدم والسعادة للشعوب.
كلامي هذا لا يعني، بالطبع، ان الحرية للشعوب تأتي من تلقاء ذاتها، او تأتي منحة من المستبدين. كلا. فالنضال من اجل الحرية والعدالة والتقدم هو الشرط الاساسي لتحقيق هذه الاهداف الكبيرة. لكن النضال لا ينحصر في شكل واحد ووحيد. بل هو يتخذ، دائماً، اشكالاً وأساليب وأدوات لا حصر لها، تبتدعها الشعوب، وفق شروط تاريخية معينة، تحددها طبيعة المرحلة في البلد المعين. واذ ادعو الى تحرير النضال من اجل الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية من اشكال العنف، التي سادت قديما، وتسود حديثاً، فلأنني اعيد قراءتي للمفهوم المعمم والسائد للثورة. فالثورة هي، في نظري، عملية تاريخية لها زمنها الضروري. ولها شروطها. ويتصل كل من الزمن والشرط، ويتحدد، بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني القائم في البلد المعين. ويتصل كل منهما، ويتحدد، بمستوى الوعي الذي تمتلكه القوى المعنية بالتغيير الديموقراطي، في ميادينه كلها، في الاتجاه الافضل والارقى، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وقانونياً. وهو ما يتمثل في تحقيق الحرية والتقدم الانساني للأفراد والجماعات على مستوى كل من الدولة ومؤسساتها والمجتمع ومؤسساته.
ولذلك فالثورة، بهذا التحديد لها، ليست قفزة. ولا يمكن، موضوعياً، ان تحقق الهدف المطلوب منها بقفزة. وأرمي، بهذا التحديد للمفاهيم، الى التمييز بين من يقوده الايمان بالتغيير عن طريق الثورة، ومن يقوده اليأس الى اعمال عنف، كرد فعل على الظلم المتمادي، من ناحية، ومن يصبح العنف عنده مهنة للقتل والاجرام، تتخذ صفة الارهاب، من دون التباس، من ناحية ثانية. ولا يقلل من هذا التوصيفلهذا النوع من العنف بأنه ارهاب، احتماء القائمين به، هنا وهناك، بمرجعيات ايديولوجية وعقائدية، دينية، اسلامية، على وجه الخصوص، وعلمانية، شيوعية من امثال ما فعله بول بوت في كمبوديا. كلاهما يعلنان انتسابهما الى مرجعية ايديولوجية، حتى وهما يناقضان الاسس الجوهرية لمرجعيتيهما.
الامثلة على النموذج الاول من العنف، في بلداننا، تتمثل في ما نشهده في فلسطين من عمليات استشهادية، خاطئة، من وجهة نظري، في المبدأ والسياسة والجدوى، يقوم بها ابطال حقيقيون لا يترددون في تقديم حياتهم من اجل وطنهم، كتعبير عن اليأس المتراكم والكفاحية المتواصلة، في آن واحد. والمشكلة، هنا، بالنسبة الى هذه العمليات، انما تكمن في موقف الجهات التي تدفع هؤلاء الابطال للقيام بهذا النوع من العمل الانتحاري، بديلاً من النضال الشعبي، الذي هو اساس كل نضال، بأشكاله المعروفة كافة.
اما الامثلة عن النموذج الثاني من العنف المشار اليه فتتمثل في ما قام به بن لادن وأمثاله من العرب الافغان، في افغانستان وفي الجزائر وفي مصر وفي اليمن وفي اماكن اخرى. وأحداث الحادي عشر من ايلول في اميركا هي الصورة البشعة لهذا النموذج، تكملها في الجزائر جرائم القتل المتمادية التي يرتكبها اولئك السفاحون، الذين يمارسون مهنة القتل ضد المدنيين الابرياء، بوحشية وبدم بارد، من دون اي رادع انساني، او اخلاقي.
وأخطر ما يمثله هذا النوع من الارهاب الفردي والجماعي هو ان اصحابه يمارسونه باسم الاسلام، والاسلام، قطعاً، بريء منهم ومنه، وبريئة منه ومنهم القيم الانسانية الكبرى للدين الاسلامي، والانجازات الكبرى للحضارة العربية الاسلامية، التي امتد ويمتد اشعاعها في كل ارجاء المعمورة. الا ان المشكلة الحقيقية في ما يتعلق بهذا النوع من العنف بشقيه الذي يعلن اصحابه انتماءهم الى الاسلام هي ان بعض المؤسسات والمرجعيات والحركات والاحزاب الاسلامية لا تزال تتبنى جزءاً منه، ولا تتبرأ من الجزء البشع فيه. الامر الذي يعطي للعنف، بعامة، وحتى للعنف الذي يحمل صفة الارهاب، كذلك، مشروعية وشعبية من قبل الجماهير العربية المقهورة، في الوقت ذاته، من قبل انظمة الاستبداد القائمة في بلداننا، ومن قبل ارهاب الدولة الكبرى المتمثل بالولايات المتحدة.
وهي مشكلة لن نجد حلاً صحيحاً لها، في نظري، الا عندما يتحقق، من داخل الدين الاسلامي ومن داخل مؤسساته، اصلاح ديني، جوهره الاقرار بفصل الدين عن الدولة. وهو فصل يرمي الى تحرير الدين من التباسات الدولة وسلطاتها، وتحرير الدولة من اسقاطات ذات طابع ايديولوجي ديني هدفها خدمة المصالح الخاصة، التي تحاول الحكومات الدينية من موقعها في السلطة فرضها على الدولة والمجتمع. وهي مهمة تاريخية لا ينحصر تحقيقها في المؤسسات الدينية وحدها. بل ينبغي ان تتكثف الجهود من كل الجهات لتأمين شروط تحقيقها.
اريد ان اخلص مما طرحته من اسئلة، ومن مساهمة اولية في الاجابة عنها، الى ان المسألة الحقيقية التي ينبغي ان تشغلنا في بلداننا العربية، خصوصاً، وفي العالم، عموماً، انما تتمثل في ان جميع الشعوب هي بحاجة الى الديموقراطية، كشرط اساسي للحفاظ على الحرية، ولتأمين وضمان حقوق الانسان، ولتحقيق التقدم والعدالة الاجتماعية. ذلك ان الديموقراطية، كقيمة اجتماعية وانسانية مطلقة بذاتها، هي الاساس الذي يحول دون حصول العنف، كفعل وكرد فعل. وهي حاجة تبرز بشدة وبحدة في بلداننا العربية، اليوم، ومنذ عقود. ذلك ان الطابع المميز للحالة السائدة في بلداننا هو النزعة المتمادية نحو الاستبداد، وتقليص الديموقراطية، والحد من الحرية الفردية، والغاء التعدد، والسعي للتوحيد القسري للمجتمعات. وهي امور تتعارض في شكلها وفي جوهرها مع طبيعة الحياة.
ان بدعة الحزب الواحد، التي تسود في معظم بلداننا منذ زمن طويل، والسلطة الواحدة التي لا تتبدل ولا تتغير، والعقائد والايديولوجيات الدينية والعلمانية التي تدعي احتكار الحقيقة وترفض الاعتراف بالآخر، جميعها تتحمل المسؤولية عن الظاهرات المرضية التي تعج بها مجتمعاتنا العربية اليوم، والتي تشكل عائقاً حقيقياً امام تحرر بلداننا وتقدمها. ومن دون الاقرار بذلك، بأقصى الجرأة وبأعلى قدر من المسؤولية، وعلى قاعدة المراجعة النقدية العميقة للتجارب السابقة، لن يكون بامكان بلداننا ان تشق طريقها الى مستقبلها، وتحرر من ازماتها المزمنة. فذلك هو الشرط الضروري لكي تدخل هذه البلدان في العالم المعاصر، وتصبح جزءاً منه. وهو الشرط الضروري لكي تكون قادرة على المساهمة في العملية التاريخية الشاقة، عملية صياغة مستقبل افضل للبشرية.
اقول، بكلام آخر، انه من دون الاقرار بالواقع القائم، ومعرفته بدقة، وتحليله بعمق، ومن دون الاقرار بضرورة الخروج منه على النحو الذي اشرت اليه، ستتفاقم الازمات القائمة والمتمادية، المنتقلة من مرحلة الى مرحلة، ومن جيل من السلطات الى جيل آخر. وستتفاقم هذه الازمات، وما يترافق معها وينتج عنها من وقائع وظاهرات، انما اتخذت اشكالها المتفاقمة هذه، بفعل الانهيارات التي اصابت مشاريع التغيير القديمة والحديثة. وقد تمادت هذه الازمات وتفاقمت بفعل انصراف اصحاب هذه المشاريع عن مهمة اعادة صوغ مشاريعهم، في ضوء تجارب الماضي وتحولات العصر، وبقائهم في حالة الترهل والتراجع، واجترار افكار الماضي، وانتظار المستحيل الذي لن يأتي.
المهمة الملحة، اذن، انما تتلخص في ان تتصدى القوى الجديدة، قوى المستقبل، الشباب والمثقفون خصوصاً، لصياغة مشاريع جديدة للنهضة، مشاريع ديموقراطية حقيقية للتغيير، مختلفة، نوعياً، بسبب اختلاف الشروط التاريخية، عن المشاريع السابقة كلها، حتى وهي تستمد منها بعض افكارها، وتغتني من تجاربها. وعندما تتم صياغة هذه المشاريع، من قبل هذه القوى الجديدة، ستتوافر الشروط التي تؤدي الى ولادة كتلة تاريخية من نوع مختلف، قادرة على شق الطريق الى المستقبل. وفي مثل هذه الحالة، فقط، يمكن ان تتحرر بلداننا من الظاهرة المرضية، التي تتمثل في ما نشهده من عنف مدمر، سواء منه ذلك النوع الذي يحمل معه مشروعيته، تفسيراً او تبريراً، حتى ولو كان خاطئاً، ام ذلك النوع الذي يدخل في باب الارهاب، بالمعنى الدقيق للكلمة.
الا ان هذه الكتلة التاريخية الجديدة، التي لا بد من توفير شروط قيامها في بلداننا، بالمفرد وبالجمع، ستشكل، عندما تنشأ، جزءاً من تراكم عالمي، في الاتجاه الذي يساعد على خلق كتلة تاريخية عالمية جديدة. وهي الكتلة التاريخية التي ستوكل اليها مهمة قيام عولمة بديلة، عولمة توحد العالم على اساس انساني، نقيض لعولمة الرأسمال المتوحش، الذي ولّد، ويولّد على الدوام، كل تلك الظاهرات، التي تهدد البشرية بالفناء وتهدد الكوكب الارضي بالاحتراق.
***
تلك هي قراءتي لموضوع الارهاب، تحديداً وتمييزاً، اسباباً ونتائج، وخصوصاً للمستقبل. ووظيفة هذا التحديد للظاهرة، ووظيفة هذه الخطط لمواجهتها، تتمثلان في تحرير بلداننا، وتحرير العالم، من كل عنف يقود الى التمييز.
كريم مروّة
النهار 13/11/…. #
# عن الحوار المتمدن…