الفكر السياسي

الجيش من فرية الدفاع عن الوطن إلى هيئة إعمار الوطن

الجيش من فرية الدفاع عن الوطن إلى هيئة إعمار الوطن

صادق البلادي

2011 / 2 / 16
مواضيع وابحاث سياسية

الثقافة الجديدة أقدم مجلة فكرية تصدر في العراق.أغلقت مرتين في العهدالملكي،
ولم تصدر غير ثلاثة أعداد، بقي العدد الرابع حبيس المطابع أربع سنوات، جرى
توزيعه في تموز 1958 ، مع إنتصار الثورة. وواضبت على الصدور حتى خَنقَها
انقلاب 8 شباط البعثي الفاشي. وبين نهاية عام 1979 حتى أوائل عام2003 صدرت في المنفى، من العدد 116 الى العدد 208 .وابتداء من العدد 209 عادت للصدور في بغداد من جديد، حيث تحمل عبئها الفقيد كامل شياع حتى إغتياله.
ومنذ عددها الأخير المزدوج 340/341 تقوم بنشر” نصوص قديمة” ، تختار فيه
مما نشر في أعداد المنفى،وبمقالة عن الجيش نشرت أواخر عام 1995 دعت الى حل الجيش و تحويله الى هيئة إعمار الوطن، إنطلاقا من تعرية طبيعة الجيش ، و
وإهدار الثروة الوطنية على ، واستحالة إعادة الإعمار مع تبديد الثروات على التسلح في نفس الوقت، الأمر الذي يبينه إضطرار المالكي إلى الإعلان عن إرجاء
صفقة الطائرات 16 وتحويل مبالغها الى البطاقة التموينية. وعند صدور المقالة عام 1995 أعلن عن تأييده التأييد التام الفقيد هادي العلوي، وأبدى د.كاظم حبيب
ملاحظات عديدة. إن تحقيق هذا الهدف يحتاج الى مناقشات واسعة ومتعددة تسهم
في إحداث أنقلاب في التفكير، بدونه لا يمكن البدء بتطبيق هذه الدعوة.

تجبرنا الأحداث والمتغيرات التي عشناها قطرياً وعربياً وإقليميا وعالمياً على ضرورة إعادة النظر في كل المسلمات والثوابت التي كانت تبدو رواسخ لا تزعزعها العواصف للأبد. كل الثوابت والمسلمات دونما استثناء فليس من ثبات ودوام إلا للتغير ، سيرورة دائمة بين صيرورة وفناء( كل ما عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام). المنظومة الاشتراكية و”على رأسها الاتحاد السوفييتي العظيم” صارت هباءأً منثوراً، دكتاتورية البروليتاريا التي كانت جوهر الحركة الشيوعية جرى التخلي عنها، ولكن ليس غريباً تمسك بعض من تخلى عن الجوهر أن يظل متشبثاً ببعض توابعها الديمقراطية المركزية ففيها له ما ينفع، تنظيمياً، خائن للقضية العربية من كان يجازف في التفكير علنا في ضرر خطف الطائرات وسيلة في النضال ضد العدو الصهيوني فضلاً عن تخوين من يعادي الصهيونية دون أن يعادي اليهود، بينما عملية التطبيع مع العدو الصهيوني جارية اليوم بتسارع ولا مفر منها اليوم. الجيش العراقي سيحارب لو وطأت قدم سوفييتية أرضا سعودية، هكذا نطق صدام يوما لكنه أوصل الجندي العراقي ليس فقط للفرار أمام الجندي الأمريكي القادم للعراق عبر الأرض السعودية بل ولتقبيل حذاء جندي أمريكي و “أقدامه تدوس في تراب تقدسون”*. مدير استخبارات في نظام صدام تقبل به معارضة الخارج شخصية قيادية فيها.**. الحرة كانت تموت ولا ترضع بثدييها واليوم تعيل أطفالها وعجزة أهل دارها ببيع شرفها وعفاف بناتها. هكذا هي الدنيا إن قُضي الأمر صار عاليها سافلها وسافلها عاليها. غير أن هناك بعض الأحكام فيما يخص الجيش لن تتغير. لا اعني احكام العسكريين وما يضفونه على صنفهم من هالات فهم مثل غيرهم يحودون النار لقرصتهم، بل تقديرات غير عسكريين تردد دون تمحيص مثلاً: الجيش جزء من الشعب، الجندي هو مواطن أولا ، مهمة الجيش الدفاع عن الوطن، ضرورة بناء جيش قوي للدفاع عن الوطن، وكثير مثل هذا الهراء.!!!

الجيش مؤسسة قمعية لحفظ أمن الحكام
تأسس الجيش العراقي في ظل الانتداب البريطاني عام 1921 بفوج سُمي باسم فوج موسى الكاظم ولعل ذلك تعويضا اسميا للشيعة او قشمرة لهم ربما لعدم وجود ضباط شيعة في الفوج. ولا يعقل ان يكون الانكليز المحتلون قد أسسوا الجيش للقيام بمهمة وطنية، مهمة تحرير العراق من سلطة الاحتلال البريطاني القائم لاحقا بأسم الانتداب. كان الضباط الموجودون آنذاك هم من بقايا ضباط الثورة العربية الذين لم يبق لهم مكان في دوائر حكم الانتداب ، والجنود متطوعون اكثرهم طلبا للرزق. ثم فرضت الخدمة الاجبارية زعما بضرورة مشاركة الجميع بفريضة الدفاع عن الوطن في الوقت الذي كان السبب الحقيقي هو عدم التمكن من توسيع الجيش ماليا عن طريق التطوع وحده، فالتطوع ليس كما يوهم اسمه خالصا لوجه الله وللوطن الـ ( المفدى) وبلا عوض سوي وجه الله وحب الوطن ، الذي جعلونا نتغنى به كأنه فرض منزل من السماء(حب الوطن فرض علي)، بل هو سبيل للخلاص من البطالة ولمساعدة العائلة في تدبير معيشتها. ولم تكن خزينة الدولة العراقية يوم ذاك قادرة على توسيع جيشها الا عن طريق اكراه الشباب بالقوة للخدمة في الجيش بعد ان لم تستطع توفير العدد اللازم عن طريق التضليل باسم خدمة الوطن. ففي مفاوضات ياسين الهاشمي ، رئيس الوزراء في اذار 1925 مع الجانب البريطاني اظهر رغبة الحكومة العراقية في تطبيق التجنيد الإجباري حبا بالتخلص من الازمات المالية والحصول على جيش كفوء متكامل. أشار في المذكرة التي اعدها بوصفة وزيرا للمالية في وزارة ناجي السويدي عام 1929 الى ” ان الجيش في حالته الحاضرة عاجز عن القيام بمهمة درء الاعتداء الخارجي ونفقاته باهضة ، فبناءا عليه يقتضي جعل الجيش على قاعدة التجنيد الاجباري”.وعملت وزارة عبد المحسن السعدون الرابعة على سن قانون التجنيد الاجباري باسم مضلل طبعاً
( قانون الدفاع الوطني)وكان من اجل (الدفاع ضد التجاوز الخارجي وحفظ الامن الداخلي) كما ورد نصا في مشروع القانون.
حُشيت أدمغتنا منذ الصغر أن الجيش سياج الوطن الغالي، يذود عن حياضه ضد المعتدي الأجنبي الغاشم. الجيش العراقي له من العمر خمس وسبعون سنة عدَّا فضد أي معتد أجنبي اثيم قاتل دفاعا عن تربة الوطن؟ اول مرة كانت في أحداث مايس 1941 بالأصطدام مع قوات الانكليز في الحبانية و الشعيبة مدة ثلاثين يوما فلم يصمد الجيش في القتال طويلا وفر قادته إلى ايران لكنهم سُلِّموا لحكومة نوري السعيد فأَعدم القادة العسكريين انتقاما منهم لاشتراكهم في تلك الحركة. صار لحركة مايس موضوعياً دور وطني في النضال من اجل تحقيق استقلال العراق من السيطرة البريطانية رغم انها قد تكون بدأت في إطار الصراع على السلطة التي احتكرتها مجموعة نوري السعيد وهو ضابط أيضا وكانت مجموعته قد أبعدت قبيل ذلك رشيد عالي الكيلاني الذي كان رئيسا لمجلس النواب فالتف حوله العقداء الاربعة. وفي عام 1948 زجت حكومة العهد الملكي بالجيش العراقي في الحرب الفلسطينية الاولى ورغم النوايا الصادقة لضباط وجنود الجيش العراقي الا أن ايديهم كانت مغلولة، ومنهم تعلم الفلسطينيون المفردة العراقية ماكو – ماكو أوامر . وفي معارك ايلول الاسود 1970 لم يتمرد الضباط العراقيون بل نفذوا الاوامر بالانسحاب، اذ كانت هذه المرة أكو أوامر، لكنها اوامر بالانسحاب، وهكذا مثلما تضرر الفلسطينيون من ماكو اوامر عام 1948 تضرروا عام 1968 من اكو أوامر. في الوقت الذي لم يقع على العراق حتى الثمانينيات اعتداء اجنبي ليثبت الجيش العراقي قدرته القتالية للذود عن حياض الوطن نجده قد ابلى (بلاء حسنا) في الدور الذي اعد له اساسا الا وهو مهمة قمع الحركات الداخلية المعارضة للحكومات القائمة أن عجزت قوات الشرطة عن ذلك. فكان الضرب المتكرر للحركة الكردية وللتمردات في الفرات الاوسط وضرب الاثوريين. ففي انتفاضة سوق الشيوخ تموز عام 1935 اضطرت الحكومة إلى اشراك الجيش فارسلت اربعة افواج من الجيش لاخمادها ورغم توجيه القوى الوطنية النداء إلى (الجنود الشجعان: لا تنصاعوا إلى خداع الحكومة و اوامرها و قادتها.. انهم يخدعونكم ويدفعونكم لمقاتلة اخوانكم وابناء وطنكم… التحقوا بصفوف الثورة) الا أن الفلاحين ذوي البزة العسكرية وقفوا ضد اخوتهم من فلاحي الفرات الاوسط، فبأمر من وزير الداخلية وباشراف رئيس اركان الجيش بكر صدقي( قام الجيش العراقي بحملة شعواء حرقت البيوت وقطعت الاشجار وابعدت رؤساء العشائر المشتركين وفرض الغرامات النقدية على الثوار وجردهم من السلاح.. والقى القبض على جميع الموظفين والاهلين الذين لهم علاقة بالثورة وسيقوا إلى المجلس العرفي العسكري) كما ورد في تاريخ الوزارات العراقية للأستاذ عبد الرزاق الحسني ج 4، ص 225.
قد يكون فيما كتبه الأستاذ الحسني هنا اشارة خفية إلى تناقض هذا السلوك مع ما يفترض من سلوك جيش مسلم فهو قد يذكر هنا بوصية الخليفة الاول ابي بكر إلى جيش اسامة بن زيد: (لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلة ولا تقطعوا شجرة مثمرة).
وهكذا كان الجيش زمن الحكم الملكي أداة قمع المعارضة عندما يشتد ساعدها، مثلاً بعد وثبة كانون 1948 وبعد انتفاضتي تشرين 1952 و 1956 إذ أعلنت الأحكام العرفية وراحت طواحين مجالسها العرفية العسكرية ترسل المناضلين إلى السجون أفواجا أفواجا، كما كان اغلبية رجال الحكم الملكي ضباطا في الجيش العثماني وفي جيش الملك فيصل خلعوا البزة العسكرية، لا ذهنية العسكر، ذهنية الخنوع لذي الرتبة الأعلى، زيادة خيط واحد فقط، باسم الضبط العسكري،والتسلطُن والتفرعُن على ذي الرتبة الأدنى، واحتقار المدني. كانت مقدرات العراق طيلة سنوات الحكم الملكي بيد العسكر من ضباط الجيش العصملي سابقاً. فنوري السعيد وجعفر العسكري وتحسين العسكري وجميل المدفعي وطه الهاشمي وياسين الهاشمي ومولود مخلص وعلي جودت الايوبي ضباط سابقون. يشير الدكتور عبد الاميرعلاوي في ندوة (العراق والمستقبل الديمقراطي) في ديوان الكوفة في لندن يوم 29/4/1995 إلى ما قاد اليه توسيع الجيش: ” أن الجيش كان يتحين الفرص لفرض نفوذه بعد أن ازداد عدده ونما سلطانه فانتهز فرصة ثورة الاشوريين عام 1933 لقمعها بكل قسوة، وكان ذلك نقطة تحول في تاريخ العراق وتسلط الجيش على الحكم وغياب الدستور والاستهتار بالقوانين وتزييف الديمقراطية “وعدد الدكتور علاوي المناسبات التي تدخل فيها الجيش في السياسة بعد ذلك في 34، 35 (الفرات الأوسط)، 36( انقلاب بكر صدقي) 41 (حركة رشيد عالي الكيلاني) دون أن يشير إلى استخدامه ضد الانتفاضات الوطنية الأخرى ابان الحكم الملكي.
وجمهورية 14 تموز 1958 قامت بانقلاب عسكري ساندته جبهة الاتحاد الوطني ولكنها بقيت حتى الاطاحة بها يوم 8 شباط 63 دكتاتورية عسكرية فردية. وقام انقلاب شباط 63 أيضا بالاعتماد على قطعات من الجيش وشارك في التحضير له رئيس مجلس السيادة أيام قاسم، الفريق الأول نجيب الربيعي. وهكذا انتقل الحكم بانقلاب شباط 63 إلى ثلة عسكرية أخرى: عبد السلام وعبد الرحمن عارف والبكر وطاهر يحيى وناجي طالب . وفي 17 تموز 68 قام آمر حرس القصر الجمهوري بخيانة سيده فسلم مفاتيح القصر لثلة أخرى من الانقلابيين العسكريين فتشكل (مجلس قيادة الثورة) من العساكر: احمد حسن البكر، صالح مهدي عماش، حردان التكريتي، حماد شهاب، سعدون غيدان، ومعروف ما قام به (الجيش العقائدي) البعثي ضد الحركة الكردية التي لم يشفع لها وقوفها لجانب الانقلاب ضد حكومة قاسم في البداية فشنت الحرب ضد الاكراد، واعطى صدام نصف شط العرب وأراضي عراقية إلى شاه ايران ليتخلى عن مساندة الحركة الكردية، وقصف مدينة حلبجة بالغازات السامة ونفذت جريمة الانفال وطالت الحرب ضد الجارة ايران تنازل خلالها صدام عن اراضي عراقية للسعودية وسمح للأتراك استباحة الحدود العراقية متى شاؤوا، ودمرت البصرة وضربت النجف وكربلاء دون احترام لحرمة العتبات المقدسة، وجفت الاهوار، كل هذه الاعمال وغيرها قبل بها الجيش العراقي ونفذها، وماكان له الا التنفيذ، فهو قد اوجد ودرب وروض افراده من اجل تنفيذ الاوامر خير اداء، فرصاصة لا تميت ليست رصاصة. والشرف العسكري لا يكتمل الا بالقتل.
منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى 14 تموز 1958 كان الحكم اساسا بيد عسكريين خلعوا الخاكي وجعلوا الجيش أداة ضغط لتداول السلطة فيما بينهم وأداة قمع ضد القوى الوطنية من اجل الاحتفاظ بسلطتهم باسم حماية الامن الداخلي. وبعد تموز 1958 قاد الدولة عسكريون وتدرجوا في سلك الجيش العراقي من عبد الكريم قاسم إلى العارفين فالبكر ثم تولاها رسميا الفريق الركن فيما بعد المهيب الركن (ابو المكرمات) و(ابو قادسية صدام)، ( ابو ام المهالك) ومنذ القادسية وبدلة الخاكي تغطي شاشة التلفزيون والصفحات الأولى لصحف النظام حلم كل عسكري بحكم المهنة، وحلم كل مهووس بجنون العظمة: ” تضخيم الجيش وتكثير العتاد وان تكون عدته وعدده يتناسبان وما للبلاد من ماضِ عسكري وما لها من طموح إلى المجد.. وأن تسود البلاد بدلات الخاكي وتضيق بقرقعة السلاح.. تطمينا لرغائب الأمة” هذا كان طموح ياسين الهاشمي كما عبر عنه في مذكرة بتاريخ 13 تموز 1934 وما لم يتوفق الهاشمي في تحقيقه حققه ” خير تحقيق” المهيب الثاني في دولة البعث التكريتية. ولكن بأي ثمن؟ ولأي هاوية أودى بالعراق تحقق هذا الحلم؟ اذا كان ياسين الهاشمي حقق فرحته برؤية فتيان العراق يحملون رماح الكشافة فصدام جعل جيش العراق يعتبر رابع جيش في العالم. المدفع العملاق كلف مليارين من الدولارات قبل أن يكمل صنعه ولن يكمل فقد رضخ صدام لتدميره وفق قرارات الأمم المتحدة، صواريخ الحسين والعباس، الأسلحة الجرثومية والكيماوية، القنبلة الذرية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من التصنيع، مليون شخص يلبسون الخاكي الرسمي (هنيئا لمجهز الجيش بالملابس، كم هي أرباحه السنوية، وعدي أو شخص أخر يعلم كم دفع المجهز المسكين عمولة لتحط الصفقة عليه)، مئات المليارات المصروفة على شراء الأسلحة، وما حققته من الملايين عمولات ورشاوى(في ألمانيا، دولة القانون ،التي يزدهر فيها اقتصاد السوق الحر( قل اقتصاد السوق الحر ولا تقل الرأسمالية!) والتي احتلت عام 1994 المرتبة الثانية عالميا في تصدير الأسلحة، تخصم الرشاوى المدفوعة على شكل عمولات للمتنفذين في الدول المستوردة من ضريبة دخل الشركات المجهزة، أي تدعم بفلوس دافع الضريبة الألماني).
ليس نظرياً فحسب بل التاريخ الفعلي يبين ان الجيش العراقي كمؤسسة وبالرغم من توفر اعداد ليست بالقليلة في صفوفه ضباطا وجنود يتمتعون بالروح الوطنية والإخلاص للشعب والاستعداد للتضحية في سبيل الوطن يبقى أداة رئيسية لتنفيذ المهمة التي أسس من اجلها مهمة الحفاظ على النظام القائم وقمع الحركات الشعبية المعارضة للنظام (انظر المقابلة مع ثابت حبيب العاني في رسالة العراق عن قوة نفوذ الحزب الشيوعي في الجيش اثناء حكم قاسم ومع هذا صار الجيش نفسه اداة حكم قاسم وما لحقه من تصفيات جسدية للشيوعيين). عواقب مرض الايدز لا تعتمد على نوايا الفيروس أشريفة كانت كي تعتاش فقط أو بنية سوء، نية إضعاف مناعة الإنسان لتهلكه. فعاقبة الايدز حتى ألان، مهما كانت نية الفيروس، هلاك المصاب به، وكذلك أن طابع الجيش لا يتحدد بنوايا وانحدار أفراده مهما خلصت وإنما يبقى موضوعيا أداة قمع لقوى الشعب ووسيلة لحسم الصراع على السلطة بين أفراد الفئة الحاكمة وهدفا لقوى المعارضة لتحييده على الأقل من اجل الوصول لأخذ الدور في الجلوس على تخت الحكم من اجل اخذ النصيب في الاستحواذ على فضلة الإنتاج.بتعبير العالم الكبير علي جليل الوردي.
والرفيق المرحوم زكي خيري كان على كل الصواب في تشخيصه للجيش بأنه:
(تأسس وفقا لسياسة الاستعمار البريطاني وأهدافه في استعماله كقوة بوليسية لقمع حركة الشعب العراقي التحررية… وتغدق الأموال والامتيازات على الضباط فتحولت الفئة العليا منهم إلى برجوازية بيروقراطية من حيث نمط حياتها وأيديولوجيتها والتحمت مصالحها مع مصالح الدولة… وعمد النظام الملكي إلى ترسيخ الطائفية في الجيش العراقي فلم يفسح المجال للانتساب إلى كلية الأركان والرتب العليا إلا لعدد قليل من الشيعة فضلا عن ترسيخه التربية الشوفينية لاستعمال الجيش لقمع تطلعات الشعب الكردي في التمتع بحقوقه القومية المشروعة.. وجهد النظام الملكي في تحويل الجنود إلى أدوات للطاعة العمياء بيد ضباطها لضرب تحركات الشعب وتطلعات جماهيره الكادحة..وتقاوم بوحشية تأثيرات الحركة الثورية على الجيش وتقمع أي بوادر للوعي الوطني والطبقي بالمحاكم العسكرية الصارمة والتوجيه الأيديولوجي المستمر الذي يعمل على تمويه جميع التناقضات الطبقية والتأكيد على أن الجيش منقذ الوطن. أن كل الانقلابات المتوالية اعتمدت على نفس المؤسسة العسكرية دون أن تحدث فيها أي تغيير جذري بل عمدت تقويتها وتعزيز اتجاهها المعادي للشعب والجيش العراقي كمؤسسة كان ولا يزال أداة قمع بيد أعداء الشعب الكادح باستثناء فترات تفكك فيها الضبط العسكري الوظيفي التقليدي، بقي الجيش(عهد عبد الكريم قاسم) كجهاز امينا على تقاليده العسكرية الرجعية المعادية للشعب الكادح وللديمقراطية والشيوعية وبقي اداة صماء بيد كبار الضباط والطبقات الحاكمة رغم أن مزاج جماهير الجنود والكثير من ضباط الصف وفريق من صغار الضباط كان معاديا للرجعية، فالجيش العراقي القائم هو دعامة الانظمة الدكتاتورية والطبقات المالكة في العراق.) (دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي). ولعل شهادة الضابط المتقاعد محمد حسن الطريحي احد الذين خبروا المؤسسة العسكرية من داخلها ابلغ شهادة، فهو قد شارك في قمع حركات سوق الشيوخ عام 1935 وشارك في انقلاب بكر صدقي عام 1936 باعتباره من جماعة الاهالي واشترك في حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 حيث احيل بعدها على التقاعد، لكنه بقي على صلة بجماعة الاهالي. فعن اشتراكه في ضرب الجيش لحركات العشائر (انتفاضة) سوق الشيوخ عام 1935 ، يذكر انه لما علم أن اسمه ورد في قائمة بأسماء الضباط الذين ساهموا في قمع الحركة لمنحهم نوط الشجاعة ونوط الخدمة ذهب إلى الضابط المسؤول وقال له، كما جاء في مذكراته التي نشرتها مجلة الموسم الصادرة عن أكاديمية الكوفة في هولندا في إعدادها 14،15، 16 : “طلبت شطب اسمي من القائمة وقلت إنني لم أقم بأي عمل من اعمال الشجاعة التي استحق عليها هذا النوط، كما انه لا يشرفني على صدري في قتال ابناء عمومتي وخؤولتي لأغراض سياسية محلية بحتة، ولو كان هذا النوط ممنوحاً لي في قتال أعداء الأمة والوطن وهم المستعمرون والطامعون في هذا البلد لكنت أتشرف به، وحتى نوط الخدمة لا اعتبره خدمة للوطن بل خدمة لحفنة من الساسة الذين اشتروا الوطن وباعوه”.ص 213 عدد14 .
ولكنه رغم موقفه الوطني الصادق ورغم كونه من جمعية الإصلاح الشعبي قام بتنفيذ الاوامر الصادرة اليه وصوب نيران مدافعه بدقة إلى أهدافها امتثالاً للضبط العسكري الذي هو لدى العسكري فوق كل شيء ساعة الساعة. ويكتب عن بكر صدقي قائد الانقلاب عام 1936، والذي عرفه عن كثب اذ كان ألطريحي من اعضاء جمعية الاصلاح الشعبي ومن جماعة الاهالي وطلب من وزارة الدفاع اجازة لمدة أربعة أشهر ليتفرغ للعمل السياسي بعد نجاح الانقلاب.
يكتب قائلاً: ” والحقيقة أن بكر صدقي كان كل شيء فهو الحاكم الحقيقي للبلاد ويسير الامور على طريقته العسكرية كما يفعل الضباط عندما يستلمون السلطة، وقد عطل الوزارة وشل عملها وصار دكتاتورا لا يطاق” (الموسم ص 39 عدد15). ويؤكد في حديث له مع كامل الجادرجي يوم كان في السجن قبيل ثورة 14 تموز 1958 ” اذا تولى الجيش الامر وانا لست من مؤيدي تدخل الجيش في السياسة لانه يصبح حزبا سياسيا مسلحاً ومعنى ذلك سيطرة الدكتاتورية العسكرية والقضاء النهائي على الديمقراطية” الموسم ص 71 عدد16.
هكذا كان الجيش وسيبقى يؤدي نفس المهمة حتى وان تغيرت الفئات الحاكمة، يقدم الامتيازات لفئة من الضباط و ينقذ اعدادا كثيرة من البطالة ويؤدي مقابل ذلك واجبه في الدفاع عن سلطة الفئة الحاكمة، لا الدفاع عن الوطن كما يوهمون الناس المستضعفين في الارض ويضللونهم فمن أين للمستضعف أو العامل وطن؟ لماذا لا يعرف المستضعفون والكادحون ولا يستوعبوا قول الامام علي بن ابي طالب (الفقر في الوطن غربة)؟ وأنّى لهم ذلك ووسائل التضليل والإظلام المسماة وسائل التوجيه والإعلام، بيد الحاكمين يعمل لهم فيها مثقفون باعوا انفسهم ليشتروا متاع الدنيا. فالتضليل متواصل للمرء منذ التنويمة الاولى للطفل تهدهده الام الحنون وترضعه
” حبّ الوطن” وان يموت في سبيل الحفاظ على ما استحوذ عليه القوم والمسرفون من كد وتعب الاخرين، إلى المدرسة ومناهجها . كنت مثل غيري اقرأ في المدرسة دون ادراك بعد ما علي حفظه:
مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح
لم اكن قد رأيت الملك بعد فلم يكن هناك تلفزيون ولم تكن الصحافة متقدمة سنوات الحرب العالمية الثانية ولم تكن صور الملك وولي عهده الأمين معلقة على حيطان الصفوف، لكني كنت اصرخ ، لا انشد، مع الآخرين ” نفديك بالأرواح” ماسألت احداً عما يجب أن يدفعني لحماية الملك بروحي التي كانت يومها تخاف من ظلام الطاق وترتعب من الجرذي وتخشى الجني والطنطل ولكنها تُحشى بالاستعداد لواجب حماية الملك بالروح. مثلما صارت عقول البعثيين تحشى فيما بعد بالاستعداد لبذل الروح والدم فداءا لأبي هيثم ومن بعده لصدام. الا تذكرون صراخهم يطوفون الأحياء وهم يصرخون مرعبين الناس بالصراخ:
بالروح بالدم نفديك ابو هيثم
بالروح بالدم نفديك يا صدام
هذا هو الوجه الحقيقي، الوجه غير المستور لفرية الدفاع عن الوطن التي تربى عليها الجيش. يشير الرفيق زكي خيري في الكتاب المشار اليه إلى أن مسألة تكوين جيش يدافع عن الاستقلال الوطني أصبحت من النقاط الأساسية في النضال التحرري ضد الهيمنة الامبريالية والى سعي الضباط الأحرار لجعل الجيش أداة لحماية الشعب وحقوقه العادلة. حققت ثورة 14 تموز تحرير جيش العراق من التبعية الاستعمارية وتنوعت مصادر تسليحه و أوصله صدام للمرتبة الرابعة بين جيوش العالم وللمرتبة الثانية بين مستوردي الاسلحة ولربما المرتبة الاولى في العالم في نسبة النفقات العسكرية من اجمالي الدخل الوطني ، الامر الذي صار مفخرة للقوميين العرب سواء منهم من ارتدى عباءة الاسلام او حمل شعارات اليمين او تلفع براية اليسار الحمراء فتناسوا دكتاتورية صدام وصدقوا كذبة أن تحرير القدس يمر عبر تحرير عبدان وان الكويت اشارة القضاء على اسرائيل ، لكن الواقع بين أن الجيش رغم المشاعر الوطنية لكثير من منتسبيه، لم يحقق كمؤسسة لا الدفاع عن الوطن و لا تحرير فلسطين ولم يصبح اداة لحماية الشعب وحقوقه العادلة رغم تحرره من التبعية للأستعمار ورغم ضخامة تسلحه. ومع ذلك تسعى أطراف المعارضة بشتى فصائلها إلى طرح مهمة جعل الجيش في خدمة الشعب لا لخدمة أطماع الساسة. دخول جمل سم الخياط اسهل من دخول غني إلى الجنة، ومع هذا فدخول الاغنياء للجنة اسهل ألف مرة من خلق جيش يحمي الشعب ضد الطغاة والبغاة. وكثير من الاغنياء اشتروا صكوك الغفران. كثير من الساسة يدعون الناس للتخلي عن الحلم بطوبى والعمل من اجل مجتمع عادل، ولكنهم يمنون الناس بسراب الجيش المدافع عن الشعب. قد يدرك البعض منهم سراب ما يطلقون عليه دمقرطة الجيش لكنهم يفعلون ذلك لغرض في نفس يعقوب: حكم القادم والاستئثار بما يدره الانفاق العسكري من ارباح بشكل عمولات أو رشاوى أو مقاولات ، يجوز لنا أن نحلم بامكانية ترويض فيروس الايدز ليقوي جهاز المناعة أن كان يجوز لنا أن نتمنى جيشا لا يساهم في القمع. أن حلم تحقيق الشيوعية اقرب للمنال من طوباوية تحويل الجيش لحماية الشعب. ولكن هذا لا يعني أن من الممكن الاطاحة بالنظام دون العمل لكسب منتسبي الجيش للتخلي عن النظام الايل للسقوط، ومن اجل حقن دماء الالاف من ابناء الشعب مدنيين ورجال جيش، لربما لا بد من التفكير حتى بعقد صفقة تضمن لصدام حياته ليخرج من العراق دون اغراقه بمزيد من الدماء، فضمان عدم اراقة دماء جديدة ــــــــــــــ وعدم التسبب في دمار آخر افضل بكثير من التفكير باطفاء شهوة الثأر والانتقام للدماء التي اغرقت تربة البلاد نتيجة سياسة صدام.

الجيش أداة إتلاف الثروة الوطنية
الانفاق العسكري تبديد مرعب ورهيب للثروة الوطنية، فقد بلغ ارقاما خيالية منذ كان الدينار وقبل أن يهوي إلى الحضيض. فقد بلغ الانفاق العسكري، كما جاء في مقالة لنضال الليثي في جريدة الحياة ليوم 7 أيلول 1995، في الاعوام 81،82،83 على التوالي 16.24، 25، 25.3 بليون دولار، بليون وليس مليوناً ولا ملياراً، بينما كانت ايرادات النفط للأعوام الثلاث المذكورة 4.10 ،10.1، 8.7 بليون دولار فقط ، الامر الذي يعني أن الانفاق العسكري تجاوز ايرادات النفط عدة اضعاف، واذ وصلت نسبة الانفاق العسكري إلى ايرادات النفط خلال الاعوام المذكورة ما يعادل 236.1 و 5.248 و 4.324 بالمائة . ولا بد أن تكون هذه الارقام دون الحقيقية فعلاً لما تحاط بها من سرية، خاصة سنوات الحرب. كما ونشرت الصحف مؤخراً عن صفقة لشراء 400 دبابة من روسيا بمبلغ قدر بين 2 إلى 3 مليارات دولار تتم بعد رفع الحصار. وصنع المدفع العملاق كلف وقبل أن يكمل إنتاجه ملياري دولار، وكما ذكر د. كاظم حبيب في رسالة خاصة ” أن الأغراض العسكرية استنزفت خلال الفترة الواقعة بين 1976 – 1990 ما يزيد على 250 مليار دولار من ميزانية الدولة العراقية ، بما فيها إنتاج الأسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية، دع عنك مصادرته لما يقرب مليون إنسان من القوى القادرة على العمل وأبعادها عن عملية الإنتاج”.
وضخامة إتلاف الثروة الوطنية على الانفاق العسكري ليس حكراً على زمن صدام وحده بل في كل عهود الدولة العراقية ومنذ نشأتها، ففي تقرير لياسين الهاشمي عن الوضع الاقتصادي وضعه عام 1928 عندما كان وزيراً للمالية ذكر أن ما استورده العراق من الرز الهندي بلغ 529 ألف روبية ومن الطحين 227 الف روبية واعتبر خروج هذا المبلغ الجسيم خسارة لا مسوغ لها، لكنه لا يتحدث بنفس المنطق عن مصروفات الجيش، فهو يذكر أن مصروفات البسة الجيش وحدها بلغت 983 ألف روبية، ومصروفات البسة الشرطة 591 ألف روبية و مصروفات شرطة السجون 65 ألف روبية ورغم أن استيراد ملابس الخاكي وحدها تجاوزت ضعف المبلغ ” الجسيم” الذي انفق على استيراد المواد الغذائية الاساسية للناس . يعلن الهاشمي: ” أن المواد الأولية للأقمشة متوفرة في البلاد ، فتشجع طفيف من الحكومة يمكن بواسطته الحصول على ملابس الجيش من الاقمشة الوطنية، وبالتالي يمكن ادخار هذه المبالغ في البلاد”. ومن ميزانية عام 1936 التي بلغت 4728.780 دينار خصص للجيش 2596720 دينارا فيما بلغت ميزانية الري 976500 دينارا ومخصصات الخدمات الاجتماعية والصحة 746000 دينارا، إلى أن حصة الجيش تقارب 55%. وكثير من مشاريع مجلس الأعمار إبان العهد الملكي كان مخصصا لاغراض عسكرية ، ويشير الطريحي في مذكراته عن اصدار عبد الكريم قاسم بعد ثورة تموز 1958 لقانون اعيد بموجبه الضباط المحاولون على التقاعد لأسباب وطنية إلى الجيش ومنحهم رتبتين وعين بعضهم في وظائف مدنية فصار الراتب التقاعدي لأحدهم نتيجة هذا القانون 220 دينارا بعد أن كان 18.5 دينارا. فتصور مدى الامتيازات الكبيرة التي تخصص للجيش! إذا كان الراتب التقاعدي أواخر الخمسينيات قد تجاوز المئتين دينارا، فكم تبلغ ميزانية التقاعد العسكري اليوم والجيش قد تضخم سرطانياً، والفرقاء الأوائل والأولوية والعمداء وغيرهم من ذوي النسور والنجوم صار لا حصر ولا عد لهم في جيش ” الظافر” صدام الذي أغدق عليهم الرتب وطمرهم بالامتيازات ليشتري ذممهم ويتقي شرهم، واني يتاتى له هذا وهو الخبير ب: ” اتق شر من أحسنت إليه” وهو الذي يشك بابنه وأخيه، فلم يكن امامه غير أن يقدم الضباط وجبات وجبات إلى الاعدام أو تدابير قتلهم بحوادث مفتعلة أو في أحسن الأحوال احالتهم على التقاعد. ولا بد أن عدد المتقاعدين العسكريين وخاصة بفضل سياسة “القائد الضرورة” يشكل جيشاً يفوق جيوش بعض الدول عددا ولربما من حيث النفقات ايضاً.
تبين مما تقدم أن الجيش اساسا، وكما اثبت تاريخ الجيش العراقي هذا ايضاً مؤسسة قمعية مهمتها – أو بغض النظر عن النوايا الشخصية الطيبة والخيرة من منتسبيه – هي القيام بحماية سلطة الحاكمين الذين ينهبون اموال البلاد بصورة ” شرعية”: الرواتب الضخمة والمخصصات والميزانيات الخاصة، السرية منها والعلنية، وبصورة غير شرعية: الاختلاسات والرشاوى و”الهدايا” وفرض الحصص والأتاوات على المقاولين ، والقيام بعمليات غزو خارجية اشباعا لرغبة الحاكمين وتحقيقا لاطماعهم. ومن اجل ضمان قيام الجيش بهذه المهمة يصرف عليه، تسليحاً ونفقات، مبالغ طائلة وفي الفترات التي لايؤدي فيها مهماته الفعلية في قتل الناس – وهي والحمد لله الفترات الاطول في عمره – يتلهى افراده بألعاب باهضة الكلفة تسمى تمارين ومناورات وفرضيات، وغالباً ما تستبدل هذه اللعب من طيارات ومدافع ودبابات وكثير غيرها من المعدات العسكرية الأخرى قبل أن تؤدي وظيفتها الفعلية باسم تحديث التجهيزات العسكرية التي يتفنن تجار الاسلحة بالتسابق في تجديدها والاسراع في تجاوز ” مرحلة الحداثة” و ” مرحلة ما بعد الحداثة” و” مرحلة ما بعد بعد الحداثة” والمدللون الفاسدون يركضون وراء كل جديد حتى وان كانت ملابس الملك الجديدة، خاصة بعد أن يكتشفوا أن هذا يحقق أيضا ارباحاً ومكاسب مادية أضافية.

عراق بعد الصدام والجيش
ايا كانت الحسابات والتقديرات والسيناريوهات فأن صدام زائل لا محالة، لكن ذكره مقروناً باللعنات سيبقى شاخصاً لفترة طويلة، على الاقل حتى ازالة آثار الدمار المادي الذي حل بالعراق نتيجة حكمه البشع، ويقدر الاقتصاديون أن العراق بحاجة إلى عدة عقود، إلى عشرات السنين، كي يعود باقتصاده إلى مستوى عام 1960.
تبلغ قيمة الخسائر التي لحقت الاقتصاد العراقي، حسب تقديرات الدكتور عباس النصراوي، أكثر من 600 مليار دولار، أي مايزيد ستين مرة على القيمة الحقيقية للناتج المحلي الاجمالي لعام 1993، وهذه تشمل قيمة ما دمرته حربا الخليج، وتعويضات الحربين، والديون الخارجية. ويجب أن تضاف أيضا نفقات لجان التفتيش للأمم المتحدة التي ستبقى لفترة طويلة تراقب تقيد العراق بتنفيذ القرار الخاص بتدمير أسلحة الدمار الشامل من نووية وجرثومية وكيمياوية. ويرى د. النصراوي “أن مستقبل العراق الاقتصادي سيكون قاتما حقاً خلال العقود القادمة ما لم يجر إرجاء أعادة جدولة تقليص أو شطب المطالب المالية الخارجية أي تعويضات الحرب والديون الأجنبية”.
والأمر الأقرب لمنطق واقع السياسة يقول أن مصلحة دول الجوار وكذلك مصلحة أمريكا هي في إبقاء العراق ضعيفاً اقتصاديا وإطالة وضعه القاتم.
أن جسامة الجهود والمواد اللازمة لأعمار العراق وتسديد الاستحقاقات المفروضة عليه تتطلب وضع أوليات تؤمن توفير الحد الأدنى من الضرورات المعاشية والصحية والتربوية ومكافحة الفلتان الأمني وتزايد الجرائم، جرائم السلب والنهب والقتل والاختلاس المستشرية والمتزايدة باستمرار، حسب تقديرات الأمم المتحدة يتهدد الموت جوعا حياة مليون عراقي، وأكثر من 4 ملايين يعانون من سوء التغذية وتفتك الأمراض بعشرات بل مئات أللآلاف من الناس وتفشي أوبئة نتيجة الدمار الذي حل بالمؤسسات الصحية أمر متوقع في كل حين، ومن غير الممكن أبدا ضمان توفير هذه الأوليات الأساسية اللازمة لحياة الناس مع استمرار إهدار الموارد على إدامة جيش في العراق، أن كل دولار واحد يصرف على أطلاقة واحدة هو سلب وجبة إرضاع من رضيع مشرف على الموت جوعاً ، هو قتل متعمد، والموافقة على هذا الإهدار هو مشاركة في القتل العمد، تعمير جزء صغير من منشأة عسكرية واحدة هو تأجيل تعمير غرفة عمليات في مستشفى، كسوة أمير لواء واحد تكفي أكساء عشرات أطفال الأهوار الذين تشردوا نتيجة تجفيف الأهوار أو أطفال كردستان الذين يتمتهم جريمة الأنفال، جزء طفيف من صفقة شراء الدبابات التي عقدها نظام صدام مع روسيا تكفي لإصلاح ما خربته الحرب من منشآت النفط التي بدونها لا يمكن للعراق أن ينهض ثانية . ولكنن من غير المنطقي حرمان الجيش من مستلزمات وجوده من عدة وعتاد ورجال دون التفكير بمسألة وجود أساسا، وما يكلف هذا من نفقات يحتاجها البلد اشد الحاجة لتدبير مستلزمات الحفاظ على الملايين من خطر الموت جوعاً أو مرضاً وتأمين حد ادني مستوى حياة تليق بالإنسان، بدون توفرها يصبح كل حديث عن حقوق الإنسان لغوا باطلا يستر به الحاكمون الجدد مواصلة نهب ثروات الشعب لمصلحتهم ومصلحة ذويهم وأنصارهم.
أن التوجه الجاد والفعلي لإعادة أعمار عراق ما بعد صدام يجب أن يكون بالضرورة على حساب الجيش فلا إهدار دولار واحد على شأن عسكري وطفل واحد من أطفال العراق بتهدده الموت جوعاً أو مرضا، ولأي سبب ينبغي أعادة تسليح الجيش والابقاء عليه؟ اكتب على اهل العراق الحرمان والهلاك من اجل حماية التيجان؟ وهذه هي مهمة الجيش الفعلية كما رأينا. ام كتب عليهم التصفيق لثياب الملك الجديدة المسماة الدفاع عن الوطن؟ هل ستر النسيان اختراق طائرة اسرائلية أجواء العراق وقصفها المفاعل الذري؟ يجوز أن ما بقي في الذاكرة فقط ما ورد في البلاغ العسكري العراقي من أن طائراتنا الظافرة أجبرت العدو الصهيوني على الفرار، كأنه كان على الطائرة الاسرائلية أن تبقى معلقة في سماء العراق بعد قصف المفاعل وليس أن تفعل ما تفعله طائراتنا الظافرة: العودة سالمة لقواعدها بعد انجاز مهمتها ! ولم يستطع الجيش في حرب الخليج الأولى لا استعادة ما وهبه صدام للشاه من ارض العراق ومياهه، ولا الاحتفاظ بما اسماه الحقوق المضافة.
وفي حرب الخليج الثانية لم يستطع حماية العراق من التدمير الذي ارجع العراق قروناً للورا، وذلك رغم كل مئات المليارات من الدولارات التي صرفت عليه وجعلت عرب المرابد يتفاخرون به وكرابع جيش بالعالم. ما كان نفع ذلك؟ يقول المثل العراقي(أن أبا العورة يبين عند العبور). وقد انكشفت، لكننا لا نريد أن نقر بما رأته أعيننا بل نريد تصديق ما ملئت به آذاننا من أوهام وأحلام عن الجيش.
في مقابلة الدكتور النصراوي مع الثقافة الجديدة المنشورة في العدد 260 أيلول 1994 يدعو إلى أن ” الوضع الصحي والمعاشي والتربوي ينبغي أن تكون له الأولوية بعد الحرمان الطويل” ويدعو باستحياء وخجل بل ربما بنوع من الوجل، إذ أن فيها يدعو إليه مس بواحد من قدس الأقداس بواحد من الأغلاط التي صيرتها كثرة الترديد واحدة من الحقائق، انه يدعو إلى إمكان إهمال :” بعض المنشآت المهدمة مثل المنشآت العسكرية التي لا حاجة اليها في عراق مسالم” لكنه وربما لبعض هذا الوجل لا يتعمق أو لا يفصح عما يعينه مثل هذا الرأي في آخر المطاف ألا وهو: حل الجيش، أن أسلحة الدمار الشامل ليس فقط لا يحتاجها عراق مسالم بل هي محرمة عليه، وسيخضع العراق لسنين طويلة للرقابة في هذا الخصوص، ما هي الأصناف من الجيش التي يحتاجها العراق لإعادة تعميره؟ أيحتاج لمجموعة من صواريخ الحسين والعباس؟ أيحتاج لقوة جوية محدد مجالها الجوي؟ أيحتاج إلى فرق الدبابات؟ أيحتاج إلى صنف المدفعية وقد دمر المدفع العملاق قبل أن يصل المرحلة التجريبية؟ أن كانت ثمة مؤسسات في الجيش يحتاجها العراق المكتوب عليه أن يكون مسالما فهي فقط تلك التي لها علاقة بالشؤون المدنية وتحقيق الأمن الداخلي ومراقبة التهريب. ولهذه حاجة للمنشآت الطبية العسكرية لتحلق بوزارة الصحة، وصنف الأمور الهندسية يلحق بهيأة للأعمار، ودوائر التجنيد تلحق بهيأة الأعمار وتقوم بسوق “المجندين” للخدمة المدنية الإلزامية في هيأة الأعمار الوطني. وبهذا توفر وتكثف الجهود والقدرات من اجل الأعمار ولا تبذر الأموال على حديد يصدأ أو يصهر قبل أدائه مهمته أو يؤدي مهمته في قتل أبناء الوطن كما جرى في كردستان، وحلجبة شاهد يجب إلا ينسى، وكما جرى أثناء انتفاضة آذار/ شعبان 1991 وفيما بعد في الاهوار.
صعب طرح مثل هذا الرأي وركام القرون الخوالي كله يقيد تفكيرنا ويجبرنا على تصديق فرية ضرورة وجود جيش من اجل الوطن، وكذلك واقع “النظام العالمي الجديد” ذو القطب الواحد الذي يدين العسكرية لا للحق. ورغم هذا لابد من الجهر بأن من غير الممكن إعادة تعمير العراق وإعادة بناء الجيش في آن واحد. وهل يمكن مسك رمانتين موقوتتين في يد مشلولة؟ أن تحقيق ضرورة حل الجيش العسكري وإقامة هيأة أعمار الوطن على أساس الخدمة المدنية الإلزامية تحتاج إلى توافر جهود كل الحريصين على مستقبل الوطن من مفكرين وسياسيين وعسكريين أيضا يضعون مصلحة العراق فوق المصلحة الشخصية. أما مسألة حماية امن العراق من عدوان خارجي فينبغي العمل من اجل أن تكون ضمن نظام امن شرق أوسطي وخليجي ويتكفل مجلس الأمن الذي فرض القيود على عراق الغد ضمانه. أن العراق، بتقديرات الدكتور فاضل ألجلبي، سيستدين ليأكل ، أفليس من الكفر والحرام ترك فرد جائع واحد يموت لتخصيص ما يكفي قوته يصرف على عتاد عسكري ليصدأ ويستبدل بأحدث منه بعد حين.
لنتذكر رائعة السياب” الأسلحة والأطفال” فهو لم يخصص الأسلحة الامبريالية والرجعية فقط، بل الأسلحة عموماً:
لمن المدافع والرصاص
وبأي قلب في غد
ستغوص أطراف الرماح
أَلِأَجْلِنا
إنا نطالب بالسلام……&

&.     عن الحوار المتمدن….. .

زر الذهاب إلى الأعلى