الديمقراطية أداة للتقدم الاجتماعى
الديمقراطية أداة للتقدم الاجتماعى
د. سمير أمين
2015 / 11 / 3
مواضيع وابحاث سياسية
تمثل الديمقراطية مطلبا مشروعا فى حد ذاته، بالإضافة الى كونها أداة فى نضال الطبقات الشعبية من اجل انجاز مطالبها الاجتماعية.
تقوم الديمقراطية على أساس مبدأ مفاده الاعتراف بمشروعية تعدد وجهات النظر فيما يخص الأوضاع الاجتماعية القائمة واصلاحها المحتمل وصلاحية مؤسسات الدولة والمجتمع من اجل ادارة تطوير هذه الأوضاع. ويقتضى تحقيق هذا الهدف حرية الفكر حتى تضمن مزاولة الديمقراطية ـ بهذا المعنى والتعريف ـ قدرة الابداع فى صنع مستقبل المجتمع المعني. والمقصود هو توفير الشروط الملائمة لتصبح الديمقراطية اداة تستخدمها الطبقات الشعبية من اجل دفع مصالحها.
ومن ثم فلابد من التركيز فى تحليل ونقد الأوضاع القائمة على كشف طابع مؤسسات الدولة: هل هى اقيمت لتسيير دفع مصالح الشعب ام على النقيض هل هى تقف عقبة فى سبيله؟ فلابد من التمييز بين انماط «الديمقراطية فى خدمة الشعب» وبين انماط ديمقراطية منحصرة على الأقلية.
لاتنفصل اذن قضية الديمقراطية عن قضية التقدم الاجتماعى فهما تمثلان وجهى قضية واحدة، الأمر الذى يقتضى قيام الديمقراطية الصحيحة الكاملة المطلوبة على مصالحة قيمتين هما الحرية والمساواة. علما بأن هاتين القيمتين لاتكملان بعضهما بعضا فى فعلهما، بل تدخلان فى تناقض سافر فى معظم الأحيان. على سبيل المثال تصبح الحرية التى يصاحبها تكريس الطابع المقدس للملكية الخاصة عقبة تحول دون انجاز التقدم نحو المساواة. فالملكية الخاصة هى دائما ملكية الأقلية التى اصبحت فى النظام المعاصر تنحصر على اصحاب ومديرى الاحتكارات الاقتصادية العملاقة. لتلغى حرية قرار هذه الأقلية فعالية حرية الآخرين.
رأينا (فى مقال سابق) كيف يمثل نمط الديمقراطية الذى يروجه الخطاب السائد الجارى (والمقصود تلك الوصفة التى تعرف الديمقراطية بالتعددية الحزبية واجراء انتخابات على اساسها ولاغير) عقبة تقف فى سبيل انتشار الديمقراطية الصحيحة المطلوبة. كما أننى ألفت النظر بهذا الصدد الى الطابع غير الديمقراطى فى حد ذاته لقيام الحكم على مبدأ النظام الرئاسى . فلن اعود هنا الى هذا البعد من الإشكالية.
يثبت التاريخ ان التقدم الديمقراطى كان دائما او يكاد نتاج نضال الطبقات الشعبية ضد النظام القائم، حتى كانت اعظم انجازاته قد تجلت فى اثناء المد الثورى للنضال المعنى . وبذلت طبقة كبار الملاك الرأسماليين فى المراكز المتقدمة مجهودها لافشال الحركة الديمقراطية، حتى تم تأجيل تبنى صدور الاقتراع العام (للرجال فقط دون النساء) الى عصر قريب (اواخر القرن التاسع عشر). ولم تتنازل الكتلة الحاكمة عن امتيازات الملوك والارستقراطية وقيادات القوات المسلحة الموروثة من النظام القديم لمصلحة تكريس سلطات مجلس النواب المنتخب الا بعد صراعات طويلة ملأت صفحات تاريخ القرن التاسع عشر. وكذلك، وفيما بعد، لم يرحب اصحاب المال ذو النفوذ الحاسم فى قرارات الحكم، بمطالب العمال بشأن حماية العمل وتحديد شروط الفصل من الوظيفة والاعتراف بحق الإضراب وتوفير الضمانات الاجتماعية، بل قاوموا هذه المطالب الى ان فرض الصراع الاجتماعى العمل بها فرضا. وتبدو الأمور أسوأ فى المجتمعات المسود عليها فى تخوم النظام العالمي. فلم تكن الديمقراطية بندا من بنود جدول الامبريالية. فلم تظهر فى الأفق ملامح ـ ولو متواضعة ومحدودة ـ تشير الى التوجه نحو ديمقراطية الحياة السياسية والاجتماعية عدا فى ظروف استثنائية. فظلت القاعدة فى انتشار الرأسمالية فى تخوم النظام غياب ممارسة الديمقراطية. واعتمد التحالف بين الامبريالية السائدة والطبقات الحاكمة المحلية التابعة على حماية استمرار اللجوء الى اساليب الحكم الاستبدادية.
والسؤال الذى يطرحه هذا التضاد بين واقع انجاز بعض الخطوات نحو الديمقراطية فى مراكز النظام العالمى وغيابه فى تخومه هو الآتي: أليست الفوائد التى استخرجتها مجتمعات المراكز من خلال استغلالها لموارد التخوم المسود عليها قد لعبت دورا حاسما فى تسهيل تنازلات الرأسمال الحاكم لمصلحة الطبقات الشعبية وجعل تكيف النظام الرأسمالى لاحتياجاتها امرا ممكنا؟
على سبيل المثال: حققت الطبقات العاملة فى الغرب اعظم انجازاتها، ومنها تعميم نظام الضمان الاجتماعى فى ظل دولة الرفاهية خلال العقود الثلاثة التى تلت الحرب العالمية الثانية، وهى مرحلة اتصفت بتوفير المصدر الرئيسى للطاقة (النفط) بأسعار تافهة. ثم شهدنا فى مراحل مد الحركات الشعبية فى الشرق والجنوب ونضالها من اجل الاشتراكية او الاستقلال الوطنى تبلور ملامح تشير الى تقدم ديمقراطى صحيح محتمل، نمطا يربط الممارسات الحرة فى مجال ادارة السياسة مع تحقيق انجازات ايجابية فى المجالات الاجتماعية. قامت الثورة الروسية لعام 1917 بالاصلاحات الجذرية التى أوجدت شروطا ملائمة للتقدم الديمقراطي، ومنها اصلاح زراعى اضفى للاغلبية الكبرى المكونة من فقراء الفلاحين والمعدومين الحصول على الارض، والغاء الملكية الخاصة لكبار الرأسماليين. وشهدنا فى اعوام مد الحركة الثورية تجليات واضحة لمزاولة حرية تحرك الجماهير، وتقدما حقيقيا فى ممارسة الديمقراطية. علما بان الردة التى تجلت فى الانزلاق نحو عبادة سلطة الدولة قد حدثت فيما بعد. وكانت قد خطت الصين فى ظل حكم ماو خطوات واسعة ولو اولى نحو الديمقراطية. فاخترع نظام «الكوميونة» وهى ممارسة تجمع معا سلطات ادارة الاقتصاد القروى والصناعات الصغيرة الملحقة به الى وتوفير خدمات التعليم والصحة والسكن وغيرها. ويمثل هذا الاختراع الى جانب توليها ادارة السياسة العامة البارز ابداعا فى كشف طرق جديدة لدفع ممارسة التسيس والحل الديمقراطي. لست من هؤلاء الذين امتنعوا عن نقد التجارب الاشتراكية والوطنية الشعبية وبيان نواقصها التى أوجدت ظروفا ملائمة للردات اللاحقة، بل بيان انزلاقاتها فى ارتكاب جرائم حقيقية. بيد ان الثورات المضادة قد ارتكبت وعلى نطاق اوسع، جرائم ضد الانسانية. على سبيل المثال تلك الثورة المضادة التى قام بها سوهارتو فى اندونيسيا لاسقاط نظام سوكارنو الوطنى (وقتل فى اعقابها اكثر من نصف مليون مواطن بأساليب منهجية مدروسة عمدا بمساعدة الولايات المتحدة الامريكية) على ان حدود ونواقص النظم التقدمية للقرن السابق هى المسئولة عن خيبة امل الشعوب وفقدانها ثقتها فى سلطة الدولة مهما تكن اتجاهاتها. وبالتالى هى المسئولة عن تحقيق الثورات المضادة لأهدافها بسهولة.
فلا تمثل نظم شرق أوروبا التى اقيمت على رماد انهيار الاتحاد السوفيتى «ربيع الشعوب» بصفتها المزعومة «ثورات ديمقراطية». وكذلك بالنسبة الى النظام الذى اقيم فى مصر بعد الناصرية. فلم تفتح هذه التطورات سبيلا للتقدم الديمقراطى بل على نقيض ذلك فإنها الغت احتمال انجازه على اساس اصلاح النظم الاشتراكية والوطنية الشعبية.
أزعم اذن ان العصر الجديد يتصف بردة فى مجال الديمقراطية. فسيادة السوق لاتلازمها انتشار الديمقراطية. ويختفى وراء خطاب مدح «عقلانية سيادة السوق» تحكم الاحتكارات الاقتصادية العملاقة المهيمنة فى اطار الليبرالية الفجة تحكما مطلقا. ويلغى هذا التحكم سلطة المجالس المنتخبة ويفرغها من فعاليتها. فيجتمع البرلمان ليسجل عجزه عن اتخاذ قرارات ذات معنى ومغزي. اذ يطرح خطاب السوق مقولته ومفادها ان مطالب «السوق» (والمقصود مطالب اسياد السوق، اى الاحتكارات المذكورة) لا بديل لها! بعبارة صحيحة تتحكم « السوق» فى كل شئ ولا يتحكم البرلمان فى اى شيء!
نشأت موجة الاحتجاج الشعبية التى نشهد حاليا ازدهارها فى هذه الظروف المستحدثة، عقب ما ترتب عليه انتشار سيادة السوق ونمط الحكومة غير الديمقراطية الملازمة له فواجهت الانتفاضات الشعبية تحديات جديدة مختلفة عن تلك التحديات التى واجهتها الموجة الاولى التى صدر عنها تبور البديل الاشتراكى والوطنى الشعبى للقرن السابق. وذلك للاسباب التالية:
اولا: لان نمط الليبرالية المعولمة قد تكيف لما حدث من تغيرات مهمة فى تكوين الهياكل الاجتماعية فى جميع اطراف المنظومة العالمية، مراكزها وتخومها، بل انتج هذا النمط تلك التغيرات عمدا من اجل تحقيق انقلاب فى ميزان القوى لمصلحة كبار الملاك ومديرى الاحتكارات العملاقة. فتحولت الاغلبية الصاعدة من العاملين الى وضع بائعى قوة عمل (وهو تعريف البروليتاريا)، بشكل مباشر (وهو تعريف اصحاب الاجور) او بشكل غير مباشر (وهو وضع العمال المستقلين الذين فى واقع امرهم يعملون من الباطن لمصلحة الاحتكارات الكبري). ويشير مصطلح «البلترة» الى هذا التحويل. علما بان تعميم هذا النمط من البلترة قد تم فى اطار يضمن تفتيت طبقة العمال الى اقصى الحدود.
ثانيا: وقد أتى هذا التحول فى وضع الطبقات العاملة لتقوى عليه ما ترتب من تأثير سلبى لخيبة أمل الشعوب المذكورة فيما سبق. ومن هنا نستطيع ان ندرك اسباب تخلف الحركات الاحتجاجية وعجزها عن طرح بديل متماسك للخروج من المأزق. ليس بودى ان اطرح هنا «وصفة» يجب ان يفرض العمل بها فى كل مكان! اترك هذا المنهج لاصحاب الفكر الوحيد المبتذل الذى يروجه انصاره فى البنك الدولي! وبالتالى سوف اكتفى بذكر بعض ملاحظاتى حول القضايا المطروحة
اولا: ينبغى اعطاء «الوقت للزمن» كما يقال فلن تستطيع الحركات الشعبية ان تتجاوز بسهولة حدودها المترتبة على ما سبق ذكره من تفتيت وفقدان ثقة الجماهير فى اشكال التنظيم الموروثة من التجارب التاريخية السابقة. فيتطلب ابداع اشكال جديدة ملائمة لتحديات العصر المستحدثة زمنا قد يطول . لعل مزيداً من التحاليل العلمية للاوضاع القائمة قد يفيد بيد ان المجهود المبذول لن يعوض استخراج الدروس من التجربة العملية المتكررة. لذلك رأيت ان اجراء انتخابات فورية وبت الامور وفقا لرأى الاغلبية لن يفيد . بل هو الوسيلة التى تستخدمها الثورة المضادة لوضع حد لمسيرة الحركة واستبعاد خطر تجذيرها (فى رؤية النظام القائم) وفى مواجهة هذه الاستراتيجية الامبريالية لن يتبلور البديل عدا خلال كسب الحركة قدرة على فرض احترام نضالها على ارض الواقع حتى تنجز الطبقات الشعبية مشروعها فى تنظيم نفسها بنفسها لدفع مصالحها.
ثانيا: يأتى زمن الانتخابات بعد ذلك بحيث ان تكون ذات مغزي. فيتم من خلالها تكريس سلطات الاجهزة المنتخبة من البرلمان الوطنى والمجالس المحلية ومؤسسات المجتمع المدنى (احزاب، نقابات.. الخ) ووضع حدود لسلطات الرئاسة ومؤسسات ادارة الاقتصاد الرأسمالى مثل شبه نقابة الاحتكارات الكبري.
ثالثا: تدعيم الاستقلال الوطني. فلن يتحقق اصلاح النظام الدولى القائم من «أعلي» من خلال مفاوضات دولية. لم تحدث تلك المعجزة فى التاريخ. فتبدأ التحولات من «تحت» اى فى اطار الدول الوطنية ـ او بعضها ـ حتى توجد تغيرا فى موازين القوى على الصعيد العالمى الأوسع.
فالمطلوب اذن هو ان تتخذ اجراءات تنشئ عملية الانعتاق من طوق العولمة السائدة. علما بان مضمون البرنامج الملموس سيختلف بالضرورة من قطر الى آخر. ولن يكون تنفيذ مثل هذه الخطة امرا يسيرا. اذ تمتلك الكتلة الامبريالية وسائل خطيرة لرد الفعل من فرض عقوبات اقتصادية والمناورة فى الاسواق المالية لتحطيم الثقة فى العملة الوطنية الى التدخل العسكري. ولذلك يجب اعطاء اهمية لإعادة بناء روح التضامن السياسى والمالى والاقتصادى بين دول الجنوب (إنعاش روح باندونج) ويجب ان تدرك الحركات الديمقراطية ضرورة خروجها من حبسها فى القضايا المحلية ـ وهو للأسف واقع الامر ـ بتناولها البعد الدولى فى طرح بديل فعال شامل.
رابعا: ثمة عقبة تقف امام تبلور بديل ذى معنى وهى انتشار افكار ماضوية تروى أوهاما مفادها ان الحل يكمن فى العودة الى الماضى وبما ان تجارب الماضى القريب ـ الثورات الاشتراكية الوطنية والشعبية ـ لم تأت ثمارها فخابت الآمال، فان الفكر السلفى يطرح العودة للماضى البعيد المتجلى فى قصوره لعصور نشأة الاسلام.
وفى مواجهة هذه الاوضاع ينبغى نقل مركز الصراع الى ارضيات الواقع ـ ادارة الاقتصاد والاصلاح الاجتماعى ووضع المنافسة بين التيارات السياسية العاملة فى الساحة ـ ومنها التيارات المدعية اسلامية الاستلهام ـ على هذه الأرضيات.
لكن ينبغى ايضا تطوير الفكر النقدى من خلال الدعوة الى فتح باب الاجتهاد، ذلك الاجتهاد الحر الذى اتاح فى زمنه ازدهار المجتمعات الاسلامية وتكيفها لمقتضيات العصر . فكان تجمد الفكر الاسلامى المترتب على غلق باب الاجتهاد سببا مهماً الى جانب اسباب اخرى فى التدهور الحضاري، بل فتح سبيلا لغزو الفكر (اللافكر) الوهابى لاحقا.
وخلاصة قولى إن مفهوم الديمقراطية والاشتراكية لايمكن اختزالهما فى وصفات جاهزة…… #
#. عن الحوار المتمدن……