الاقتصادية

الرأسمالية شاخت والحركات الاجتماعية قد تأتي بتقدميين أو فاشيين

الرأسمالية شاخت والحركات الاجتماعية قد تأتي بتقدميين أو فاشيين

د. سمير أمين

2019 / 5 / 3

حاوره: روبن رامبوير. ترجمة : سعيد بوخليط31 /ديسمبر/ 2017

“يمثل الفكر الاقتصادي الكلاسيكي الجديد لعنة على العالم الراهن” هكذا يشير، سمير أمين البالغ من العمر 81 سنة، والذي لا يعتبر ليِّنا بالنسبة للعديد من زملائه الاقتصاديين. ثم أيضا قياسا لسياسات الحكومات : “الادخار من أجل تقليص المديونية ؟ يشكل أكاذيب مقصودة”، “ضبط القطاع المالي؟ بمثابة جمل جوفاء”.

يعالج سمير أمين إشكالية تجاوز الرأسمالية المتأزمة بالقول : “حان الوقت كي يتحلى اليسار بالجرأة ! عليه أن يشكل جبهة ضد الاحتكارات”،قبل أن يضيف: “أن تكون ماركسيا يقتضي بالضرورة أن تكون شيوعيا، لأن ماركس لا يفصل أبدا النظرية عن الممارسة”، و”الانخراط في النضال من أجل تحرير العمال والشعوب”.

يحلل سمير أمين الأزمة، ثم يتطرق إلى النضال ضد جبروت الاحتكارات الرأسمالية ومن أجل مجتمع آخر.

انسوا نورييل روبيني، ألياس دوم، الاقتصادي الأمريكي الذي صار مشهورا لكونه تكهن سنة 2005 بتسونامي النظام المالي .هاهو سمير أمين، الذي سبق له التنبؤ بالأزمة منذ بداية سنوات السبعينات: “خلال تلك الحقبة أنا واقتصاديين أمثال فرانك كنيت، جيوفاني أريغي، إيمانويل واليرستين، هاري ماجدوف، بول سويزي، أكدنا بأن الأزمة الجديدة الكبرى ابتدأت. نعم، كبيرة وليست صغيرة نتيجة اهتزازات مثلما هيأت لذلك إشارات قبلية، يتذكر سمير أمين، أستاذ شرفي، ومدير منتدى العالم الثالث، في داكار. ومؤلف العديد من الكتب التي ترجمت على امتداد كل العالم.

يضيف سمير أمين: “لقد نظروا إلينا كمجانين، أو كشيوعيين تصوروا رغباتهم كحقائق. كل شيء يسيرعلى مايرام، السيدة لاماركيز. لكن الأزمة الكبيرة ستبدأ حقا خلال تلك الحقبة،واستمرت مرحلتها الأولى من سنة 1972 إلى 1980”.

لنتكلم أولا عن أزمة السنوات الخمس الأخيرة .أو بالأحرى أزمات : ماسمي بالقروض العالية المخاطر، ثم القروض، الديون، المالية، الأورو أين نحن من ذلك؟

حينما انفجر كل شيء سنة 2007 مع أزمة القروض العالية المخاطر، فقد بقي الجميع أعمى .اعتقد الأوربيون أن: “مصدر الأزمة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وسنعمل على امتصاصها بسرعة”. لكن، حتى إن لم تأت الأزمة من هناك، لا نطلقت بالتأكيد من مكان آخر. لقد كُتب عن غرق هذا النظام، منذ سنوات 1970 . فالشروط الموضوعية لأزمة النظام تواجدت في كل مكان، لأن الأزمات ملازمة للرأسمالية، تنتجها بطريقة متواترة، وبكيفية أكثر عمقا خلال كل مرة . لا ينبغي الوقوف عند كل أزمة على نحو منفرد، بل وفق رؤية كلي .لنأخذ الأزمة المالية .إذا انحصرنا في إطارها، فلن نضع أيادينا سوى على أسباب محض مالية، مثل اختلال الأسواق .إضافة إلى ذلك، تبدو الأبناك والمؤسسات المالية هي المستفيدة الأساسية من تمدد رأسمال، مما يجعل من السهولة بمكان وسمها باعتبارها وحدها المسؤولة.لكن يلزم التذكير، أنه ليس فقط المؤسسات المالية العملاقة، بل عموما استفادت أيضا المتعددة الجنسيات من توسع الأسواق المالية. 40% من ربحها مصدره عملياتها المالية.

ماهي الأسباب الموضوعية التي قادت إلى حدوث الأزمة؟

الأسباب الموضوعية قائمة في كل مكان .إنها هيمنة : “احتكارات الأقلية أو الاحتكارات المطلقة” التي وضعت الاقتصاد في أزمة تراكم، حيث قلة الاستهلاك ثم أزمة الربحية. وحدها القطاعات الاحتكارية المهيمنة أمكنها تعزيز مستوى ربحها المرتفع، لكن مع تقويض لربح وكذا مردودية استثمارات منتجة، واستثمارات على مستوى الاقتصاد الواقعي.

“رأسمالية احتكارات الأقلية أو الاحتكارات المطلقة”هو الاسم الذي أعطيتموه، إلى ما يمثل بحسبكم مرحلة جديدة في تطور الرأسمالية. وفق أي شيء تختلف هذه الاحتكارات عما كان سائدا منذ قرن؟

يكمن الجديد في مصطلح مطلق . فمنذ بداية القرن العشرين، كانت هناك قطاعات مهيمنة في الميدان المالي وكذا الصناعي مثل صناعة الحديد، الكيمياء، السيارات، الخ.. لكن هذه الاحتكارات كانت جزرا كبيرة مستقلة فعلا وسط محيط شركات صغيرة ومتوسطة .بيد أنه، منذ ثلاثين سنة، لاحظنا تمركزا لرأسمال دون قياس عام .بهذا الصدد أشارت مجلة فورتشن إلى وجود في الوقت الراهن لخمسمائة احتكارات تسيطر بقراراتها على كل الاقتصاد العالمي، وتهيمن صعودا ونزولا على قطاعات شتى لا يمتلكونها مباشرة. لنأخذ الفلاحة. فيما مضى، كان بوسع الفلاح أن يختار فيما يخص أنشطته بين العديد من المقاولات. حاليا، تصطدم مقاولة فلاحية صغيرة أو متوسطة مبدئيا بالكتلة المالية للأبناك وكذا الاحتكارات الضخمة لإنتاج الأسمدة، ومبيدات الطفيليات والتعديل الوراثي للكائنات بحيث تعتبر شركة مونسانتو النموذج الأكثر إثارة. ثم، في مرحلة تالية، ستجد أمامها مجموعات التوزيع وكذا المحلات الكبرى. جراء هذا التحكم المزدوج، تتقلص باستمرار، استقلاليتها وكذا عائداتها.

لهذا السبب فضلتم اليوم الحديث عن نظام يرتكز على “أعلى درجات دخل احتكاري” بدل “أقصى درجات الربح”؟

نعم. السيطرة تكفل لهذه الاحتكارات إيرادا يُقتطع من الربح الكلي للرأسمال الذي يتم الحصول عليه باستغلال العمل. هذا الدخل يصير إمبرياليا في نطاق كون هذه الاحتكارات تتم في الجنوب. الدفع بهذا الإيراد نحو أقصى مستوياته يركز العائدات والثروات بين أيادي نخبة صغيرة على حساب الأجور، لكن كذلك أرباح الرأسمال غير الاحتكاري. هكذا تصبح التفاوتات المتفاقمة عبثية. يقارن الوضع إلى حد ما، بملياردير يمتلك العالم قاطبة ثم يترك الجميع إلى البؤس.

يطرح الليبراليون ضرورة تنمية الكعكة بالاستثمار ثانية في الأرباح .فقط بعد إمكانية إنجاز التوزيع..

لكننا لا نستثمر أبدا في الإنتاج، مادام لا يوجد طلب . يستثمر الدخل في الهروب إلى الأمام نحو الأسواق المالية . تمدد منذ ربع قرن لاستثمارات في الأسواق المالية لم نشاهد قط نظيرا له في التاريخ. تجاوز حجم الصفقات في هذه الأسواق 2500000 مليار دولار، بينما الناتج الإجمالي هو 70000 مليار دولار. تفضل الاحتكارات هذه الاستثمارات المالية عن التي للاقتصاد الواقعي. إنه “تمويل “النظام الاقتصادي. يعتبرهذا النمط من الاستثمار المنفذ الوحيد كي تتواصل رأسمالية الاحتكارات المطلقة” .بهذا المعنى، ليست المضاربة آفة لهذا النظام، بل اقتضاء منطقيا لها .داخل الأسواق المالية – وليس فقط في الأبناك- تحقق هذه الاحتكارات أرباحها وتتنافس فيما بينها حولها. خضوع تسيير الشركات التجارية أو الصناعية لقيمة مساهمات البورصة، استبدال المعاشات برسملة النظام من خلال التوزيع، تكييف مبادلات مرنة والتخلي عن تحديد نسبة الفائدة من طرف الأبناك المركزية وترك هذا المسؤولية إلى الأسواق ينبغي أن تفهم جميعها في إطار ذاك التمويل.

يقوم هذا الاختلال للأسواق المالية منذ بضع سنوات ضمن خط التسديد. تكلم المسؤولون السياسيون عن تخليق العمليات المالية ثم “القطع مع رأسمالية – الكازينو . هل سيكون إذن التنظيم حلا للازمة؟

كل ذلك مجرد ثرثرة، وجمل فارغة من أجل تضليل الرأي العام. هذا النظام محكوم عليه بمواصلة سباقه المعتوه نحو المردودية المالية. سيفاقم الضبط أكثر الأزمة. إلى أين يذهب إذن الفائض المالي؟ لا موضع معين! يقود ذلك إلى إنقاص ضخم للرأسمال سيُترجم ضمن أشياء أخرى بانهيار للبورصة. لا تمتلك احتكارات الأقلية واستئثارها على “الأسواق” ثم عبيدها السياسيين من مشروع ثان غير إصلاح نفس النظام المالي. ليس مستبعدا أن الرأسمال أدرك كيفية إصلاح النظام قبل خريف 2008 . لكن هذا يستوجب مبالغ هائلة من الأبناك المركزية قصد استبعاد كل القروض السامة وإصلاح مجمل الربح وكذا التوسع المالي .ويلزم أن يقبل العمال الفاتورة بشكل عام، ثم شعوب الجنوب خاصة .إنها الاحتكارات من بيدها المبادرة .وأعطت استراتجياتها دائما النتائج المنشودة، بمعنى مخططات التقشف.

بالضبط، تتوالى مخططات التقشف هذه، تحت مبرر تقليص ديون الدول. لكننا نعلم أن هذا يفاقم الأزمة. فهل المسؤولون بلهاء؟

ليس كذلك !يتجلى كذب بهذا الخصوص. فحينما تدعي الحكومات توخيها اختزال المديونية، فإنها تكذب عمدا. ليس الهدف تقليص الدين بل مواصلة تسديد فوائد الديون، وبالأحرى وفق نسب أيضا أكثر ارتفاعا.تحتاج على العكس، استراتجية الاحتكارات القائمة على التمويل، إلى نمو المديونية – الرأسمال وتستفيد من ذلك، فهي توظيفات مهمة. في غضون ذلك، يفاقم التقشف الأزمة، فيبرز بجلاء تناقض. مثلما قال ماركس، فالبحث عن أقصى مستويات الربح يقوض الأسس التي تخول له ذلك .ينهار النظام أمام أنظارنا لكنه محكوم عليه كي يتابع سباقه المجنون.

بعد أزمة سنوات 1930، أمكن الدول على أية حال التغلب جزئيا على هذا التناقض، ثم الرهان على سياسة تستلهم النظرية الكنزية جون مينارد كينز .

نعم، لكن متى وُظفت هذه السياسة الكنزية؟ في البداية ، جاء الجواب السريع الجواب على أزمة 1929تحديدا مثل اليوم :سياسات التقشف، مع انحداره اللولبي. لقد أكد الاقتصادي كينز بأن ذلك عبثيا ويلزم القيام بعكسه .لكن لم يتم الإصغاء إليه سوى بعد الحرب العالمية الثانية .ليس لأن البورجوازية اقتنعت لحظتها بأفكاره، بل لأن الطبقة العاملة تبنته. مع انتصار الجيش الأحمر على النازية والتعاطف مع المقاومين الشيوعيين، كان الخوف من الشيوعية حاضرا حقا. اليوم، بوسع بعض – ليسوا بعدد وافر جدا- الاقتصاديين البورجوازيين الأذكياء القول بأن مقاييس التقشف عبثية .ثم إذن؟ بما أن رأسمال ليس مرغما من طرف خصومه كي يتحلى بالاعتدال، بالتالي سيتواصل ذلك.

ماهي الصلة بين الأزمة المنبثقة منذ سنوات ثم أزمة سنوات 1970؟

بداية أعوام 1970 ، عرف النمو الاقتصادي انهيارا. خلال بعض السنوات،هبطت نسب النمو إلى النصف قياسا لما كانت عليه إبان الثلاثين سنة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية : في أوروبا من 5 إلى 5،2 %وفي الولايات المتحدة الأمريكية من 4 إلى 2 %هذا الانحدار المباغت صاحبه سقوط من نفس الأهمية بالنسبة لاستثمارات في القطاع المنتج. سنوات الثمانينات، تفاعلت مارغريت تاتشر وريغان مع ذلك عن طريق خوصصات، ثم تحرير الأسواق المالية وكذا سياسة متقشفة صارمة جدا. لم ينته السعي برفع نسب النمو، لكن الإبقاء عليها عند مستوى منخفض جدا .فضلا عن ذلك، لم تكن قط غاية الليبراليين تصحيح النمو،مهما قالوا بهذا الخصوص .بل تجلى الهدف خاصة في إعادة توزيع العائدات نحو الثروة.مهمة مُنجزة.وحاليا،عندما ننتقل في بلجيكا من -01٪ إلى 0 1 +٪ للنمو، يهلل البعض : “لقد انتهت الأزمة !” وضع مضحك.

تقارنون بين سنوات 1990و 2000 مع سنوات القرن السابق : وجه ثان لما عرف بـ الحقبة الجميلة”.

أجريت المقايسة بين الأزمتين الطويلتين، لأنه لافت للنظر جدا، لقد بدأتا تحديدا مع فارق مائة سنة : 1873 و1973 . أيضا، لهما في البداية نفس الأعراض ثم كان جواب الرأسمال نفسه، أي ثلاث مجموعات معايير تكميلية. أولا، تركز ضخم لرأسمال مع الموجة الأولى للاحتكارات، تلك التي حللها رودولف هيلفردنج، جون هوبسون ثم لينين. خلال الأزمة الثانية، سيتجلى ما أسميه بـ الاحتكارات الشاملة” التي ظهرت سنوات 1980 .

ثانيا، العولمة. تمثلت الأزمة الكبرى الأولى في التسريع بالاستعمار، الذي يعتبر صيغة أكثر فظاظة للعولمة .أما الموجة الثانية، فتحيلنا على مخططات التقويم الهيكلي لصندوق النقد الدولي، والتي يمكننا وصفها باستعمار جديد. أما المقياس الثالث والأخير فهو: التمويل.عندما يتم تقديم التمويل باعتباره ظاهرة جديدة، فهذا يضحكني .ما هو الجواب الذي أعطي للأزمة الأولى؟ وول ستريت ثم حي السيتي (لندن) سنة 1900 ! وهذا ترتبت عنه نفس النتائج .أولا، خلال فترة قصيرة حيث بدا أن الأمور سارت على ما يرام، لأنهم أرهقوا الشعوب، لاسيما شعوب الجنوب .كان ذلك بين سنتي 1890إلى غاية 1914″الحقبة الجميلة . لقد تمسكوا بنفس الخطابات حول “نهاية التاريخ” ونهاية الحروب. كانت العولمة مرادفة للوئام والاستعمار من أجل غاية متحضرة .لكن، إلى أي شيء قاد مختلف ذلك؟ إلى الحرب العالمية الأولى، الثورة الروسية، أزمة 1929، النازية، الامبريالية اليابانية، الحرب العالمية الثانية، الثورة الصينية، إلخ.. بوسعنا القول أنه بعد 1989، تحقق ثانية ما يشبه الحقبة الجميلة ، إلى غاية2008، مع أنها واكبتها منذ البداية حروب الشمال ضد الجنوب .أرسى الرأسمال خلال تلك الحقبة، البنيات كي تنجح الاحتكارات في الاستفادة من إيرادها. وبما أن التعميم المالي أدى إلى أزمة 1929، ثم قاد مؤخرا إلى أزمة 2008 . بلغنا حاليا نفس اللحظة العصيبة التي تعلن عن موجة جديدة من الحروب أو الثورات.

ليست مسلية جدا، صورة المستقبل.. حينما كتبتم بأن :”عالما جديدا بصدد التشكل، بوسعه أن يصير أكثر وحشية، لكن قد يصبح أيضا أفضل” .إلى ماذا يعود هذا؟

لا أملك الكرة البلورية .لكن الرأسمالية ولجت مرحلة الشيخوخة، التي يمكن أن تقودها إلى حمامات دم ضخمة . مع حقبة كهذه، تؤدي الحركات الاجتماعية والاحتجاجات إلى تغيرات سياسية، نحو الأحسن أو الأسوأ، فاشيين أو تقدميين. هل ينجح ضحايا هذا النظام في تشكيل تناوب إيجابي، مستقل وراديكالي؟ هكذا اليوم الرهان السياسي.

ماهي خصائص هذه الرأسمالية الشائخة التي قد تقود بحسبكم إلى”عصر جديد من حمامات دم كبرى”؟

لم يعد يوجد مقاولون مبدعون، بل (سماسرة، متآمرون). فالحضارة البورجوازية، مع نظام قيمها : “الذي يمدح طبيعيا المبادرة الفردية ، ثم الحقوق والحريات الليبرالية، بل وحتى التضامن على المستوى الوطني ” ترك المكان إلى نظام دون قيم أخلاقية. انظروا إلى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المجرمين، ثم الدمى والتقنوقراطيين المشرفين على الحكومات الأوروبية، وكذا مستبدي الجنوب، الظلامية (طالبان، طوائف مسيحية وبوذية…)، الفساد المعمم (في العالم المالي خاصة…). بوسعنا إذن وصف الرأسمالية اليوم بالشيخوخة، والتي يمكنها تدشين حقبة جديدة من الجرائم .في ظل حقبة كهذه، تؤدي احتجاجات الحركات المجتمعية إلى تغيرات سياسية صوب الأفضل أو الأسوأ، فاشيين أو تقدميين. مثلا أزمة سنوات 1830 قادت نحو الجبهة الشعبية في فرنسا، لكن كذلك النازية في ألمانيا.

ماذا يعني هذا بالنسبة لحركات اليسار الحالية؟

نعيش حقبة ترتسم وفقها موجة حروب وكذا ثورات. هل سينجح ضحايا هذا النظام في تشكيل تناوب إيجابي، مستقل وراديكالي؟ إنه رهان اليوم سياسيا.يلزم على اليسار الراديكالي اتخاذ مبادرة بناء جبهة، وكتلة مناهضة للاحتكارات تضم كل العمال والمنتجين ضحايا: “أوليغارشيات الاحتكارات الشاملة”،حيث طبقة كبيرة من الطبقات المتوسطة ،والمزارعين، ثم شركات الصغيرة والمتوسطة…

تؤكدون بأن اليسار يلزمه التخلي عن كل استراتجية تساعد الرأسمالية على الخروج من الأزمة.

حان الوقت للتحلي بالجرأة !لسنا في حقبة تاريخية يشكل معها البحث عن “تسوية اجتماعية” رأسمال/عمل تعاقبا ممكنا كما الشأن بعد – الحرب مع الاشتراكية الديمقراطية لدول الرعاية الاجتماعية. تتصور بعض التجليات النوستالجية إمكانية “الارتداد” برأسمالية الاحتكارات وجهة وضعيتها مثلما كانت خلال عقود .لكن التاريخ لا يسمح قط بارتدادات كهذه إلى الوراء .نعيش لحظة تاريخية يلزم خلالها أن يكون اليسار الجذري شجاعا. أتكلم عن يسار مقتنع بضرورة تجاوز النظام الرأسمالي جوهريا .أيضا، يسار يركز نظره على ضرورة ابتداع اشتراكية لا تكون بالضرورة نموذجا موجودا سلفا. تقوم في بلدان الشمال، الشروط الموضوعية من أجل فصل رأسمال الاحتكارات. هذا يبدأ بتحالف اجتماعي وسياسي يطوي الأغلبية الساحقة.

موجودة هذه الشجاعة اليوم؟

يعتبر انعدام الشجاعة لدى اليسار في الوقت الحالي أمرا فظيعا. تتذكرون مدى سعادة الاشتراكيين الديمقراطيين حينما انهار النظام السوفياتي، وبرفقته الأحزاب الشيوعية لأوروبا الغربية؟ قلت لهم : “أنتم بلهاء. سيكون الدور المقبل سقوطكم، لقد احتاجت الرأسمالية إليكم فقط بسبب وجود التهديد الشيوعي”. بالتالي،عوض تجذرهم ، فقد انزلقوا على العكس نحو اليمين.أصبحوا اشتراكيين ليبراليين .راهنا، يستمر نفس الوضع، سواء صوتنا على الاشتراكي الديمقراطي أو اليمين. يقول الجميع :”لا يمكننا القيام بأي شيء، فالسوق من يقرر، ووكالات التصنيف الائتماني، وكذا الحزب المتسيد على رأسمالية الاحتكارات”.بل نرى قبول مكونات مهمة لليسار الراديكالي بذلك خشية أو ارتباكا. أيضا هناك أشخاص يدعون “شيوعيين ، لكنهم يصرحون بإمكانية أن لا يكونوا سوى جناحا يساريا للاشتراكي الديمقراطي. دائما نفس منطق الملاءمة مع الرأسمالية. إن منطق “الأقل ضررا”، “المفروض من طرف أوروبا” يشكل بامتياز دليلا : “أوروبا، ليست جيدة، بيد أن تدميرها سيكون أكثر سوءا”. لكن الذهاب ضمن سبيل الأقل سوءا ، يعني أن نبلغ في نهاية المطاف :”الأكثر سوءا”. منذ سنتين، قيل لليونانيين، هيّا،علاج طفيف من التقشف ثم انتهى الأمر! كم انقضى حاليا؟.

ماهي كلمات نظام “التحالف الاجتماعي والسياسي” الذي تمتدحونه؟

تكمن الفكرة الرئيسية في خلق جبهة مناهضة للاحتكارات.بالتالي يحتاج الأمر إلى مشروع كلي يسائل ثانية سلطة “الاحتكارات الشاملة” .فلايمكننا تخيل أن الأشخاص بوسعهم تغيير العالم تماما بمعجزة فعل فردي،فكرة نجدها ثانية عند حركات اشتراكية عديدة ولدى فلاسفة مثل طوني نيغري.هذا يبدأ من منطلق تفسير وجود خيارات في سياسات التقشف. يعود ذلك، حسب صيغة شعبية، إلى تكسير خطاب الرأسمال عن”التنافسية وتخفيض الأجر” .لماذا لانقول العكس، أن الأجور ليست كافية والأرباح جد ضخمة؟

يؤدي هذا في أفضل الحالات، إلى تقليص خفيف للتفاوتات…

طبيعيا ليس كفاية .إن يسارا حقيقيا عليه أن يقلب الاختلال المجتمعي الذي تحدثه الاحتكارات. استراتجيات من أجل ضمان التوظيف الأقصى وضمان أجور مناسبة، تسير بشكل متواز مع النمو. ببساطة غير ممكن دون نزع ملكية الاحتكارات .يلزم تأميم قطاعات الاقتصاد الأساسية .التأميمات في مرحلة أولى، مرتبطة بالدولة، وتحويل ملكية الرأسمال الخاص إليها .لكن ترتكز الشجاعة هنا بـ إضفاء الطابع الاشتراكي”على تسيير الاحتكارات المؤممة. لنأخذ هذه الاحتكارات المهيمنة على الفلاحة، الصناعات الكيميائية، الأبناك، أسواق التوزيع الكبرى. و”إضفاء الطابع الاشتراكي”عليها يعني أن هيئات التسيير تضم ممثلين للفلاحين، وعمال هذه الاحتكارات القديمة بالتأكيد، لكن أيضا تنظيمات للمستهلكين وقوى محلية (تهتم بالبيئة، المدرسة، السكن، المستشفيات، التمدن، النقل…) إن اقتصادا اشتراكيا لا ينحصر عند إضفاء الطابع الاشتراكي على إدارته. ليست الاشتراكية تحديدا برأسمالية دون رأسماليين.يجب أن تُدمج العلاقة بين الإنسان، والطبيعة والمجتمع.لكن أن نواصل في إطار أنّ الرأسمالية تقترح يعني العودة إلى تخريب الفرد، الطبيعة والشعوب.

وماذا عن وول ستريت وكذا حي السيتي؟

يلزم “الحد من التمويل”. نستعيد ثانية مع كتاب فرانسواز موران، عالَما بدون وول ستريت. هذا يقتضي حتما وببساطة إلغاء خالصا لرساميل المضاربات والتقاعد، التي صارت عمليات أساسية في التمويل. ينبغي إبطال هذه الأخيرة لصالح نظام التقاعد بالتوزيع .يلزم إعادة التفكير كليا في النظام البنكي، الذي صار خلال العقود الأخيرة، ممركزا كثيرا وفقط بعض العمالقة من يصنع القانون. حينئذ، يمكننا تصور “بنك للزراعة” أو “بنك للصناعة” حيث تشكلت إرشادات الإدارة المنتقاة من زبناء الصناعة وممثلي مراكز البحث وكذا مصالح البيئة.

كيف تنظرون إلى حركات مثل محتلين، وكذا الساخطين ثم النقابات المناضلة ضد الاحتكارات؟

أن تتواجد في الولايات المتحدة الامريكية حركة مثل احتلوا وول ستريت يمثل إشارة مدهشة. عدم الامتثال لإقرارات كما هي مثل : “ليس هناك خيار” و”التقشف ضروري” يعتبر جد إيجابي. كذلك بالنسبة للناقمين في أوروبا. لكنها حركات تبقى ضعيفة، لا تلتمس ثانية بما يكفي خيارات تلعب النقابات دورا جوهريا، لكن يلزم إعادة تعريفها. كلمات النظام كما اشتغلت منذ خمسين سنة مضت. قبل خمسة عقود، كان لأربعة عمال ضمن خمسة وظيفة مؤكدة ودائمة، فانعدمت البطالة تقريبا.اليوم، فقط 40 ٪ يحظون بوظيفة مستقرة، و 40٪ يشتغلون بعقد مؤقت، ثم 20٪ في عداد العاطلين. إذن، الوضع مختلف جذريا. فلا يمكن للنقابات الاقتصار على مطالب لاتهم سوى نصف طبقة العمال. من الضروري مطلقا أن نأخذ بعين الاعتبار حق العاطلين وكذا أفراد تحكمهم سلطة عقد مؤقت .يتعلق الأمر غالبا بأشخاص مهاجرين أصلا، ثم النساء والشباب.

كيف تنظرون إلى العلاقة بين نضال الطبقات في الشمال والجنوب؟

نزاعات الرأسمالية/الاشتراكية وشمال/جنوب، غير قابلة للفصل.الرأسمالية نظام عالمي ويلزم إذا توخت الصراعات السياسية والاجتماعية، الفعالية، أن تدار في آن واحد داخل الحلبة الوطنية وكذا على المستوى الدولي.هذا ماتوخى ماركس قوله بعبارته :”يا عمال العالم، اتحدوا!” فأن تكون شيوعيا يعني أيضا أن تكون أمميا. من اللازم حتما تبني في الصراع بين الشمال والجنوب قضية المناخ، والموارد الطبيعية والبيئة.التملك الخاص لتلك الموارد وكذا الاستغلال المفرط للأرض يجعلان مستقبل البشرية قاطبة في خطر. أنانية الاحتكارات في الشمال عبر عنها بوش بفظاظة حينما قال : “نموذج الحياة الأمريكي غير قابل للتفاوض”. تقوم هذه الأنانية على الحيلولة دون وصول الجنوب إلى المصادر الطبيعية ( 80٪ من مجموع الإنسانية).

أعتقد بأن البشرية لا يمكنها قط الانخراط جديا في بناء الخيار الاشتراكي إذا لم نغير هذا “الأسلوب الحياتي” في الشمال، لكن هذا لا يعني أن الجنوب ليس له سوى التحلي بالصبر.على العكس، تقلص نضالات الجنوب الإيراد الامبريالي وتضعف وضع الاحتكارات في الشمال، مما يدعم نضال الطبقات الشعبية في الشمال، كي تضفي الطابع الاشتراكي على الاحتكارات. الرهان في الشمال أن لا يقتصر الرأي العام مدافعا فقط على امتيازاته مقارنة مع شعوب الجنوب.

ألا تهدد أصلا اقتصاديات البلدان المنبعثة مثل الصين، البرازيل، روسيا، وإفريقيا الجنوبية شيئا ما سلطة “الاحتكارات المطلقة”؟

منذ سنة 1970، هيمنت الرأسمالية على النظام العالمي عبر خمسة مميزات : الهيمنة على منافذ الموارد الطبيعية،التحكم في التكنولوجيا، وكذا الملكية الذهنية، الوصول بامتياز إلى وسائل الإعلام، التحكم في النظام المالي وكذا النقدي، وأخيرا احتكار أسلحة الدمار الهائلة. أسمي هذا النظام (أبارتيد على المستوى العالمي). ينطوي على حرب دائمة ضد الجنوب، بدأت منذ سنة 1990 من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الحلف الأطلسي، أثناء حرب الخليج الأولى. والحال أن البلدان الصاعدة، لاسيما الصين، بصدد تقويض هذه الامتيازات. أولا، التكنولوجيا. لقد انتقلنا من العبارة الفرنسية: “صنع في الصينmade in china ” إلى نظيرتها الانجليزية :”made by china” .لم تعد الصين مجرد ورش عالمي لفروع أو المساهمين في العاصمة الكبرى للاحتكارات. بل تسيطر على التكنولوجيا التي طورتها بنفسها . في بعض الميادين، لاسيما المجالات المستقبلية للسيارة الكهربائية، الشمسية، إلخ .. إنها تمتلك تكنولوجيات متقدمة عن الغرب. فضلا عن ذلك، تسمح الصين بتقويض النظام المالي المعولم .بل تمول تحطيمه الذاتي بتمويل العجز الأمريكي وتشيد بالتوازي أسواقا إقليمية حرة أو مستقلة من خلال “مجموعة شنغهاي” والتي تضم روسيا، لكن ضمنيا أيضا الهند وآسيا الجنوب الشرقي.في عهد كلينتون، ارتقب تقرير للأمن القومي الأمريكي حربا وقائية ضد الصين. ولمواجهة هذا اختار الصينيون المساهمة في الموت البطيء للولايات المتحدة الأمريكية بتمويل عجزها. سيكون الموت المفاجئ لوحش من هذا النوع خطيرا جدا.

وبلدان أمريكا الجنوبية؟

بالتأكيد أضعفت الديمقراطيات الشعبية في أمريكا اللاتنية المردود الامبريالي. لكن ستعترضهم صعوبات كي يذهبوا أبعد في تطورهم ماداموا يهدهدون وهم تطور وطني رأسمالي مستقل .نرى ذلك بوضوح في بوليفيا والإكوادور أو فنزويلا. ونلاحظ الأمر في البرازيل بشكل أقل لأنه بلد كبير جدا له موارد طبيعية ضخمة . لقد بدأوا التعاون بينهم ضمن “التحالف البوليفاري لشعوب قارتنا الأمريكية”، لكنها مجموعة تبقى متواضعة جدا غاية الآن مقارنة مع التعاون العسكري والاقتصادي والديبلوماسي لفريق شنغهاي، المنفصل عن الاقتصاد العالمي المسيطر عليه من طرف الاحتكارات الغربية. مثلا، لاشيء مؤدى عليه بالدولارات أو الأورو . أيضا، بوسع أمريكا الجنوبية”الانفصال”عن رأسمالية الاحتكارات. يتوفرون بهذا الخصوص على الإمكانيات التقنية وكذا الموارد الطبيعية كي يبادروا إلى تجارة جنوب- جنوب. وهو مالم يكن واردا منذ عقود……. #

#.  عن الحوار المتمدن…..


facebook sharing button
twitter sharing button
pinterest sharing button
email sharing button

زر الذهاب إلى الأعلى