السلطة ووَهْمُ الحصانة… والموجة الثورية القادمة في العراق!
السلطة ووَهْمُ الحصانة… والموجة الثورية القادمة في العراق!
د. فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
2021 / 2 / 4
إذا اتفقنا أن عموم المجتمعات البشرية (الحاكمين والمحكومين) قابلة للتعلم الانتفاعي -بدرجة نسبية معينة- من تجاربها وخبراتها وإخفاقاتها عبر التاريخ، فإن السلوك السياسي لأنظمة الحكم المغلقة بأقفال الاستبداد والفساد، لا يخضع في الغالب لهذه القاعدة.
يقول كارل ماركس: “الضرورة عمياء حتى تدركُ وعيَها، والحرية هي وعيُ الضرورة”. فكيف يمكن للبنى العقلية السياسية المغلقة أن تمتلك الوعي بضرورات التغيير الاجتماعي، في وقت تكون فيه أسيرة لعبودية إدراكها الأعمى للوقائع الجذرية الحاسمة، بل أسيرة لأوهامها “المريحة” حيال هذه الوقائع حدّ إنكارها واستبدالها بوقائع زائفة تنبع من خرافة السكون لا من ديناميكيات الضرورة؟!
لقد اعتاد هذا النمط من الأنظمة أن يغلّف نفسه بأوهام رغبوية تستبدل الوقائع بالتمنيات، تتيح له أن يتعامل مع أزماته المستعصية على نحوٍ تنفيسي ذاتوي مؤقت، دون أن يستطيع المساس بالجوهر الجدلي لهذه الأزمات التي تمارس ضرورتها الوظيفية الموضوعية في دفع حركة التاريخ الاجتماعي إلى الأمام بالمعنى العقلاني التطوري بكل ما يرافقها من آلام الولادات الجديدة ونكباتها.
وواحد من أكثر هذه الأوهام فاعلية في تسبيب حالة الخدر السياسي التي تعيشها هذه الأنظمة، هو ما يدعى بـ”وهم الحصانة” Illusion of Invulnerability، إذ يغدو العقل السياسي للمنظومة قدرياً حد الاعتقاد المتكلس أن ثمة “ترتيباً” باطنياً في جوهر الأحداث يمنع التغيير الجذري (أي انهيار النظام)؛ بل يذهب للاعتقاد أن ثمة “مناعة” أو “حصانة” مؤكدة تحول دون إحداث انقلاب جذري في موازين السلطة لصالح قوى جديدة تخرج من معطف التاريخ المجدد لتراتبياته.
ويشكّل وهم الحصانة هذا جزءاً بنيوياً أساسياً في نمطٍ أشمل من أنماط التفكير السياسي اللاعقلاني والمحرِّف للوقائع يدعى بـ”التفكير الجماعي أو المنظوماتي” Groupthink. فالتفكير المنظوماتي (وهو مصطلح اشتقه عالم النفس السياسي الأمريكي “إرفينغ جانيس” Irving Janis قبل نحو خمسة عقود) يبرز في حالات الأزمات العميقة التي تواجهها المنظومة السياسية بما تتطلبه من اتخاذ قرارات حاسمة، إذ تتجه المنظومة -عبر عدد محدود من ممثليها- إلى تبسيط المعطيات حد الابتذال، وافتعال الإجماع المتسرع، وإنكار التحديات الماثلة، وتجاهل الخيارات البديلة، والتوكيد على النزعة التبريرية الجماعية، والتشدق بخلفية أخلاقية، وتبني صور عقلية نمطية جامدة حيال الآخرين، والضغط القاهر على الآراء المخالفة، والأهم من كل ذلك التمسك الأعمى بوهم حصانتها المسبقة حيال الفشل والخطل والإخفاق، بما يؤدي في الغالب إلى كوارث سياسية تصير مَعلماً مأساوياً في تأريخ مجتمعاتها.
ويشتد هذا الوهم في أوضاع الانتكاسات الثورية بعد مدٌّ احتجاجي جارف يعجز عن بلوغ أهدافه، بسبب حالة الانكفاء الإحباطي وما تنتجه من دفاعات تجنبية لا شعورية، إذ “تنجح” قوى الثورة المضادة في إيقاف هذا المد لفترة معينة عبر قمعه وتأثيمه وشيطنته وتشتيته واختراقه. وعندها تستعيد المنظومة السياسية جزءاً من “ثقتها” بنفسها وبهيمنتها الثقافية الآفلة، فتحقن نفسها بجرعة اعتناق إضافية لوَهْمِ القدرة على التحكم بالأحداث، ما دامت (أي الأحداث) قد “أثبتت” حصانة المنظومة واستعصائها على الانهيار.
واليوم بعد مرور ما يقارب 16 شهراً على لحظة انطلاق الحراك الثوري التشريني في العراق ثم خفوته، يتضح الخدر السياسي بأعلى درجاته لدى قوى السلطة وأذرعها داخل الدولة وخارجها، بما فيها الحكومة الحالية التي انقضى 8 شهور على وجودها في الحكم. ويستطيع المراقب المحايد أن يقرأ هذا الخدر الاسترخائي في ملامح قادة التيارات والأحزاب السياسية الحاكمة بالمقارنة مع تجهمهم في مرحلة ما بعد تشرين مباشرة؛ فضلاً عن ملامح رئيس الوزراء التي انبسطت أخيراً بعد تشنجات ومخاوف وحيرة اكتست وجهه لشهور حينما أعلن وقتها أنه “الشهيد” الحي، لتتحول اليوم إلى ابتسامة ارتياح ناعمة – لا تكاد تُرى- ما عادت تبارحه تقريباً في كل الظروف والمناسبات.
إنه وَهْمُ الحصانة – إلى جانب أوهام إدراكية أخرى- يضرب بقوة في أذهان أقطاب العملية السياسية الفاشلة (بما فيها الذهن الحكومي المتخاذل والمفتون باستبدال الأفعال الملموسة بالأقوال الإنشائية الفارغة)، ليترك لديهم تشوهات تخديرية إدراكية عميقة تمدّهم بـ”نعمة” الإنكار لكل عوامل التغيير المتفاعلة جذرياً في مرجل الزمن الاجتماعي. فتشاهدهم على شاشات التلفاز وفي المؤتمرات الصحفية وفي تغريداتهم الإلكترونية المرتبكة وهم يحدقون – كخيار بليد وحيد- بساعة الزمن الفيزيائي بحثاً عن تمديدٍ أو تأجيلٍ لموعد انتخابات مبكرة ستشكّل في حال فشلها –المتوقع جداً- نقلة جديدة نحو بزوغ وعي احتجاجي أشد جذرية وتمسكاً بالتغيير مما سبقه.
فالتفكير المنظوماتي للاوليغارشية الحاكمة حالياً في العراق ليس من شأنه مكاشفة الرأي العام بمبررات رفضهم الكامل لتقديم أي تنازلات لتقاسم جزئي للسلطة مع قوى التغيير الجديدة، أو بأسباب العجز الكامل عن توفير مكاسب بالحد الأدنى للفئات المحرومة والمهمشة، أو بخلفيات التواطؤ الحكومي مع قوى ما دون الدولة الغارقة في الفساد ودماء الثوار والناشطين والمثقفين. فقرار المنظومة استقر أخيراً على تجاهل كل الاحتمالات والبدائل والتحديات الأخرى، أي إنكار الضرورات وإبقائها في حالة العمى، وعدّ الانتخابات “المبكرة” الخيار/ القرار الوحيد المتاح لمعالجة الأزمة. وكل ما عدا ذلك يمكن تهريبه إلى الأمام حيث “المعجزة” المنتظرة.
هذا الخدر السياسي وما أنتجه من وهم الحصانة، لم يقتصر على النخب السياسية الحاكمة، بل اجتاح أيضاَ – بنسبة معينة- عقول بعض الشباب المحتجين وبعض المثقفين وبعض العاملين في الحقل البحثي أو في الميدان السياسي المعارض، إذ صار شعارهم العملي أو التنظيري يتركز حول الترويج لفكرة “استثمار” اللحظة الآنية “واقعياً” أو “دستورياً” ما دامت السلطة قادرة على إعادة إنتاج “حصانتها” في كل الظروف، متجاهلين –سيكولوجياً وأخلاقياً- حالة الانتقال الثوري التي يمر بها التاريخ السياسي العراقي من القديم العبودي المحتضر إلى الجديد التحرري المستعصي على الولادة.
أتساءلُ ويتساءل مثلي كثيرون من العاملين في حقل الدراسات الاجتماعية ومن عامة الناس: هل توجد فعلاً “حصانة” أو “مناعة” للنظام السياسي الحالي أمام قوى التغيير البازغة تراكمياً على نحو تدريجي تارة وعلى نحو مباغت تارة أخرى؟ أم أن هذه الحصانة ليست أكثر من تفكير رغبوي توهمي يصيب أجزاءً من المجتمع السياسي (بشقيه السلطوي والمعارض)، في مرحلة انتقالية عسيرة ومحيّرة ومؤلمة بين حراك ثوري لم يكتمل لكنه لم ينتهِ، وبين موجة ثورية قادمة؟!…….. #
# عن الحوار المتمدن…..