السودان في قبضة صندوق النقد الدولي، وموقف الحزب الشيوعي السوداني
السودان في قبضة صندوق النقد الدولي، وموقف الحزب الشيوعي السوداني
عادل عبد الزهرة شبيب//
أُنشئ صندوق النقد الدولي مع نهاية الحرب العالمية الثانية في سياق السعي لبناء نظام اقتصادي دولي جديد اكثر استقرارا وتجنبا لأخطاء العقود السابقة، وهو مؤسسة رأسمالية تهتم بالأشراف على السياسات الاقتصادية الكلية وسياسات القطاع المالي بما في ذلك تنظيم البنوك والمؤسسات المالية الاخرى والرقابة عليها ، كما يوجه اهتمامه للسياسات الهيكلية التي تؤثر على اداء الاقتصاد الكلي بما في ذلك سياسات سوق العمل التي تؤثر على سلوك التوظيف والاجور. ويقدم الصندوق المشورة لكل بلد عضو حول كيفية تحسين سياسته في هذه المجالات .
وصندوق النقد الدولي وهو المؤسسة الرأسمالية لا يؤمن بتدخل الحكومات في الاقتصاد الا في نطاق محدود يتعلق بتنظيمه وحماية الحقوق ، فهو يؤمن بالعمل الحر وسيادة قوى السوق وعمل القطاع الخاص على حساب القطاع العام. ويعتبر ان المشاكل الاقتصادية في أي بلد سببها غالبا يكمن في التدخل الحكومي المباشر بالعملية الاقتصادية، ولذلك فهو يضع وصفة جاهزة وشروطا عند منحه القروض حيث يؤكد على تقليص دعم الأسعار ليصل الى اقل من 5% من حجم الناتج المحلي ، وتصفية مؤسسات القطاع العام وحرية التجارة والسوق .
في عام 2016 رسم صندوق النقد الدولي في تقرير له عن السودان صورة قاتمة للاقتصاد السوداني ووصف السودان بالبلد (الهش) وانه ذو دخل منخفض نسبة لمواجهته قيودا محلية ودولية الى جانب الاختلالات الاقتصادية الكبيرة واتساع هذه الاختلالات بسبب انخفاض اسعار صادرات السلع الأولية وتقلبات اسعار الجنيه السوداني وهبوط احتياطي النقد الأجنبي بالبلاد وارتفاع معدلات التضخم بنسبة كبيرة والبالغة نسبتها 100% واتساع عجز الميزانية بسبب نقص ايرادات النفط خاصة بعد انفصال الجنوب في عام 2011 آخذا معه ثلاثة ارباع انتاج البلاد النفطي المصدر الرئيسي للعملة الصعبة والدخل الحكومي في السودان. وكان من دعوات صندوق النقد انه دعا الى تحرير سعر صرف الجنيه وخفض دعم الطاقة والقمح من اجل تعزيز النمو وزيادة الاستثمارات، وتوقع الصندوق ان يصل حجم الدين الخارجي للسودان الى 56،5 مليار دولار في نهاية عام 2018 .
وكنتيجة لاستجابة السودان لشروط الاقتراض من صندوق النقد الدولي او الاستشارات غير المتعلقة بالقروض، فقد ارتفعت اسعار السلع الأساسية كالخبز والمنتجات الغذائية في العاصمة الخرطوم والمدن والقرى السودانية الاخرى وبشكل جنوني لتخلق ازمات اجتماعية جديدة وتضعف الاستقرار السياسي، الأمر الذي يقود الى ضعضعة الاقتصاد بدلا من انتعاشه.
فما الذي ادت اليه استجابة نظام البشير السابق لنصائح وشروط الاقتراض من صندوق النقد الدولي ؟
في نهاية عام 2017، طالب صندوق النقد الدولي في تقرير له، السودان بتحرير اسعار صرف العملة المحلية (الجنيه) بالكامل في مطلع عام 2018 وبإلغاء دعم الكهرباء والقمح بين عامي 2019 و 2021 كخطوات اولية نحو تحقيق اصلاحات اقتصادية بهدف المساهمة في تعزيز اقتصاد البلاد وتخفيض فاتورة الدين العام حسب رأي الصندوق. بعد اشهر سعت البلاد الى الحصول على قرض من صندوق النقد لغرض تحسين الوضع المالي الحكومي، وقد وصل الدين الخارجي للسودان الى 52،4 مليار دولار او 111% من اجمالي الناتج المحلي بنهاية عام 2016 . وتوقع صندوق النقد ان يصل حجم الدين الخارجي للسودان الى 56،5 مليار دولار في نهاية عام 2018. واستجابة لشروط الصندوق فقد اعلنت السودان في بداية عام 2018 تخفيض مخصصات الدعم لسلع اساسية كالوقود والخبز وتزامن ذلك مع التراجع المتسارع لقيمة الجنيه السوداني امام العملات الأجنبية وتسببت هذه الاجراءات التقشفية بموجة غلاء طاحن اجتاحت البلد الذي يصنف ايضا ضمن افسد (10) اقتصاديات على مستوى العالم وفق نتائج مؤشر الشفافية الدولية على مدار السنوات الماضية .
وكالعادة تتسبب نصائح صندوق النقد الدولي بإشعال الأزمات في الدول التي تخضع لشروطه ونصائحه، كما حدث في العاصمة الخرطوم في بداية 2018 حيث خرجت احتجاجات ترفض الاجراءات الحكومية وتطالب بإعادة الدعم. وقد سببت نصائح الصندوق الحاق الضرر الكبير بالاقتصاد السوداني من جراء تعويم العملة ( الجنيه) وارتفاع تكاليف المعيشة بدرجة لا يحتملها دخل الأفراد المحدد اضافة الى ارتفاع التضخم . كما اتسعت ازمة الوقود والخبز وارتفاع اسعار المواد بشكل عام سواء في العاصمة الخرطوم او في المدن والقرى السودانية الاخرى حيث يلاحظ اصطفاف السيارات والشاحنات في طوابير طويلة امام محطات الوقود وتأثير ذلك على ازمة النقل، الى جانب تدني في انتاج الذرة والدخن وارتفاع اسعارها. كما اشتعلت ازمة الرغيف بسبب شح وارتفاع سعره حيث نجد المواطنين يصطفون في طوابير في كثير من مناطق السودان امام المخابز وقد لا يحصلون على الخبز. وقد توقف عدد كبير من المخابز بسبب شح الدقيق وارتفاع سعره حيث وصل سعر رغيف الخبز الى جنيه واكثر من ذلك.
كما يعاني السودانيون من ارتفاع اسعار المواد الغذائية عموما فقد ارتفع سعر جوال الدخن من 800 جنيه الى 1100 جنيه، وارتفع سعر كيلو السكر من 14 جنيها الى 16 جنيها، وكيلو لحم البقر من 80 الى 100 جنيه والضأن من 90 الى 130 جنيها والاسعار تختلف في الزيادة من ولاية لأخرى .كل هذا بفضل نصائح وشروط صندوق النقد الدولي، فحيثما يوجد صندوق النقد الدولي توجد الأزمات.
ان المؤسسات الرأسمالية تتخذ من الاضطرابات وعدم الاستقرار ذريعة لعدم الاستجابة لمطالب تخفيف اعباء الدين الخارجي كما وضح ذلك رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للسودان سنة 2013 ( ادوارد جميل ) حيث قال: (( سيكون من شبه المستحيل بالنسبة للسودان اعفاء ديونه حتى اذا اوفى بكافة المتطلبات الفنية والاقتصادية ، والسبب في ذلك هو ان الأمر مرتبط بقضايا سياسية تتطلب جهودا في العلاقات العامة مع الدول الأعضاء في نادي باريس )).
لقد املى صندوق النقد الدولي على السودان برنامجا اقتصاديا خماسيا لتحسين مردود الاقتصاد في ظروف صعبة جدا بعد فقدان السودان لثلاثة ارباع احتياطي النفط ونصف الايرادات المالية من جراء انفصال الجنوب عام 2011، وتستند هذه الخطة الخمسية الى حزمة من الاجراءات التقشفية بخفض التشغيل في المؤسسات العامة وتخفيض الاجور وخصخصة القطاعات العامة وزيادة الضرائب وغيرها من الاجراءات، أي خفض النفقات العمومية وعدم التزام الدولة بالتزاماتها تجاه الشعب لصالح رأس المال، مما زاد الوضع سوءً واشعل الاحتجاجات الشعبية ضد هذه الاجراءات .
وضمن مؤشر التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الانمائي لعام 2016 ، حل السودان في المرتبة 165 من بين 188 بلدا، وهذا المؤشر عبارة عن مقياس مقارن يعتمد على عدة معايير منها: الناتج المحلي الاجمالي والدخل الفردي وامد الحياة وجودة التعليم ونسب البطالة والمساواة بين الجنسين والمشاركة السياسية للمرأة ورفاهية العيش وجودة الرعاية الصحية والثقة في القضاء ومحو الامية ، وهو وسيلة لقياس مستوى الرفاه والرعاية الاجتماعية وخاصة الأطفال. ويستخدم المؤشر للتمييز بين ما اذا كان البلد بلد متقدم او نامي او من البلدان الأقل نموا وكذلك لقياس اثر السياسات الاقتصادية على نوعية الحياة، وتم تصنيف السودان في مؤشر التنمية لعام 2016 بالمنخفض، مما يعكس مدى تدهور الوضع المعيشي للسكان بفعل نصائح وشروط صندوق النقد. لقد ازدادت مظاهر الفقر والتخلف بسبب هذه السياسة حيث بلغ عدد الفقراء في السودان بحدود 75% من السكان ( 26،5% من سكان المدن و 57،6% من سكان الريف )، ويعيش منهم 15 مليون شخص تحت خط الفقر ويمتهن غالبيتهم حرفا يدوية بسيطة لا تكفي لسد ضروريات الحياة من الماء والغذاء والسكن. ويتفاقم الوضع اكثر كلما استعرت الحروب الداخلية في المناطق المتنازع عليها. كما يعيش حوالي 2،2 مليون سوداني كلاجئين داخل وطنهم بسبب النزاعات المسلحة في دارفور وكردفان وغيرها.
اليوم لا تنمية حقيقية في السودان وغيره من البلدان الغارقة في كماشة الديون الخارجية مالم تتخلص من الديون وفوائدها التي تكرس التبعية، وتبتعد عن نصائح وشروط صندوق النقد الدولي. ويشكل الدين الخارجي اليوم عبئا ثقيلا على الحكومة الجديدة بعد سقوط نظام البشير حيث فوائد الدين تحتسب بصورة مركبة ومجحفة في الوقت نفسه مما يزيد من نسبة الديون الخارجية وخاصة مجموعة نادي باريس علما ان القروض التي اقترضها نظام البشير السابق لم توجه الى التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبنى التحتية وانما ضاعت بسبب الفساد المستشري في نظام البشير وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لذلك لن نجد أي تنمية حقيقية في البلاد على الرغم من وجود عوائد بترولية تزيد عن 300 مليار دولار قبل انفصال جنوب السودان في 2011 . ويشير تقرير للبنك الولي ان السودان لا يزال يعاني من ضغوط الديون الخارجية البالغة ( 54 ) مليار دولار منها 85 % متأخرات .اما بالنسبة للمتأخرات المستحقة للمؤسسة الدولية للتنمية فبلغت 700 مليون دولار وملياري دولار لصندوق النقد الدولي وان نسبة الديون الخارجية اعلى من الحدود الاسترشادية حيث بلغت 166% من اجمالي الناتج المحلي. فما الذي ستفعله الحكومة الجديدة وما هي خططها لمواجهة تحدي الديون الكبيرة؟ هل ستواصل تعاونها مع صندوق النقد الدولي من اجل زيادة معاناة الشعب السوداني؟ ام تتجه للإنتاج الزراعي والصناعي والعمل على تطويره واقامة المشاريع والعمل على التخلص من الديون الخارجية ؟. في تصريح لوزير المالية السوداني ( ابراهيم البدوي) اشار فيه الى وجود مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على دعم مالي دولي لأغراض التمويل والاستثمار الدولي في القطاعات الانتاجية للبلاد ، مع العلم انه ليس بوسع السودان الان الاستعانة بصندوق النقد الدولي او البنك الدولي للحصول على دعم مالي نظرا لأن الولايات المتحدة ما زالت تدرج السودان كدولة راعية للإرهاب اضافة الى متأخرات الديون للصندوق .
وفيما يتعلق بموقف الحزب الشيوعي السوداني من التعامل مع صندوق النقد الدولي ،فقد اكد الحزب على رفضه لشروط صندوق النقد الدولي ورفضه لسياسة التوجه لطلب الدعم الخارجي بدلا من التوجه لإيجاد الحلول من الداخل. كما اكد الحزب على رفضه رفع الدعم استجابة لشروط صندوق النقد\ الدولي ، مبينا بان تفاقم الضائقة المعيشية والغلاء الفاحش في كل السلع والخدمات يتطلب اجراءات عاجلة تخفف من وطأة الأزمة، مؤكدا على ضرورة استرداد الأموال المنهوبة من رموز النظام البائد ووقف المضاربة بالعملات الأجنبية وردع المتاجرين فيها، مع ضرورة احتكار الدولة لصادرات الذهب والصمغ العربي والحبوب الزيتية واستيراد المواد البترولية والغذائية وتسهيل استيراد الأدوية وتخفيض الصرف على الأمن والدفاع والقطاعين السيادي والحكومي وزيادة الصرف على التعليم والصحة ورفع الضرائب عن كاهل المنتجين في القطاع الزراعي لضمان توفير الغذاء وزيادة الانتاج الزراعي مبينا بان رفع الدعم وفقا لشروط صندوق النقد الدولي المجحفة لن يحل الأزمة بل يزيدها تفاقما. وحذر الحزب الشيوعي السوداني من العواقب الوخيمة لهذه السياسات . ويرى الحزب الشيوعي السوداني ان المفاوضات مع صندوق النقد لن تفضي الى نتائج ملموسة فهي تكرار لما جرى خلال السنوات الماضية لأنها تقوم على شروط اقتصادية قاسية كما انها مربوطة بقضايا سياسية من اهمها رفع اسم السودان من قائمة الراعية للإرهاب . فالتعامل مع صندوق النقد لإدارة اقتصاد البلاد سيقع تأثير ذلك على طبقة الفقراء وليس الأغنياء .
ويرى الحزب الشيوعي السوداني انه اذا ارادت الحكومة السودانية الحصول على الأموال لحل مشكلاتها الاقتصادية فهناك بدائل كثيرة افضل من التعامل مع صندوق النقد الدولي من بينها الاعتماد على دخل الذهب الذي يقدر انتاجه السنوي بـ 12 مليار دولار وهو مورد متاح امام الحكومة ، فضلا عن القيام بإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني . اضافة الى تبديل وتقنين الاقتصاد السوداني بما يلائم التطور المطلوب .
ان اعادة العلاقات مع صندوق النقد الدولي هي استنساخ لما قام به نظام البشير المخلوع وعبء سيتحمله الفقراء بعد تنفيذ الشروط المجحفة للصندوق التي ستؤدي الى تحطيم الاقتصاد السوداني .فحيثما يوجد صندوق النقد الدولي توجد الأزمات.. *
*. عن جريدة الميدان السودانية….