السيادة الوطنية فى خدمة الشعوب
السيادة الوطنية فى خدمة الشعوب
د. سمير أمين
2016 / 9 / 28
مواضيع وابحاث سياسية
تعتبر السيادة الوطنية أداة لا غنى عنها للتحسينات الاجتماعية وتقدم عملية الدمقرطة، سواء فى شمال الكوكب أم جنوبه. ويحكم هذه التطورات منطق يكمن فيما وراء الرأسمالية، بأفق أفضل لنشأة عالم متعدد المراكز وتوطيد دولية الشعوب.
ويجب لمشروع السيدة الوطنى فى بلدان الجنوب أن «يسير على قدمين»:
(1) الانخراط فى بناء منظومة صناعية متكاملة وذاتية التمركز، تصبح فروع الإنتاج المختلفة فيها موردة ومنافذ فى آن واحد لبعضها البعض. ولا تسمح الليبرالية المنمقة ببنيان كهذا، فهى فى الحقيقة تتصور «التنافسية» كما تراها كل مؤسسة بنفسها. ويؤدى تطبيق هذا المبدأ إلى إعطاء الأولوية للصادرات واختزال دور صناعات بلدان الجنوب فى وضعية مقاولى الباطن الذين تسيطر عليهم احتكارات المراكز الرأسمالية، والتى تستقطع بهذه الوسائل جزءًا كبيرًا من القيمة المخلوقة بالجنوب وتحولها إلى ريع احتكارى إمبريالي. وفى مواجهة هذا، يتطلب بناء منظومة صناعية تخطيط سيطرة الدولة والملكية الوطنية للقرار فيما يتعلق بالعملة والنظام الضريبى والتجارة الخارجية.
(2) العمل بطريقة أصيلة على تجديد الزراعة الفلاحية، تأسيسًا على مبدأ أن الأرض الزراعية هى منفعة عامة للأمة، ويجب أن تدار بطريقة تضمن لجميع الأسر الفلاحية النفاذ إلى الأرض ووسائل استغلالها. وينبغى تصميم المشروعات على هذا الأساس من أجل تنمية الإنتاج للأسرة وللهكتار، وإعطاء الأولوية للصناعات التى تسمح بذلك. ويتمثل هدف هذه الاستراتيجية فى ضمان سيادة الأمة على الغذاء والتحكم فى تدفقات الهجرة من الريف إلى المدينة بما يتفق وإيقاع النمو فى التشغيل بالحضر.
ويعتبر التقدم فى كلا المجالين السابقين بمثابة البؤرة الرئيسية لسياسات الدولة التى تكفل توطيد التحالفات الشعبية الواسعة «للعمال والفلاحين». وهو ما يخلق أرضًا مواتية للتقدم على طريق ديمقراطية المشاركة.
أما فى بلدان الشمال فينبغى للسيادة الشعبية أن تقطع الصلة مع الليبرالية المنمقة، وهو ما يقتضى انتهاج سياسات جسورة تصل إلى حد تأميم الاحتكارات وإدخال أساليب التشريك على إدارتها. ومن الواضح أن هذا يتطلب إدارة وطنية للسيطرة على النقد والائتمان والضرائب والتجارة الخارجية.
ويطبق النظام الإمبريالى القائم طائفة متباينة من الطرق تكفل لها السيطرة على الأمم فى أطراف المنظومة العالمية والخاضعة لاستغلالها. وبالنسبة لبلدان الجنوب التى حققت تقدمًا فى بعض قطاعات التصنيع وفق النظام العالمى لتصدير الأعمال، والذى يتحكم فيه رأسمال الاحتكارات المؤمولة بالثالوث الإمبريالى (الولايات المتحدة، غرب ووسط أوربا، اليابان)، فقد اختُزِلت إلى وضعية مقاولى الباطن، وبما يوفر وسائل أساسية يتم من خلالها تحويل كتلة متنامية من القيمة المولدة فى الاقتصادات المحلية التابعة إلى ريع احتكارى إمبريالي. كما تتخذ أنماط الإنتاج فى كثير من البلدان النامية شكل النهب الجشع للموارد الطبيعية (النفط، المعادن، الأرض الزراعية، المياه، وحتى أشعة الشمس) من ناحية، ومن ناحية أخرى القيام بغارات مالية للاستيلاء على المدخرات الوطنية فى تلك البلدان. وتكون الوسيلة المستخدمة فى الغارات المذكورة هى إعطاء الأولوية لخدمة الديَن الخارجي. كذلك يؤدى العجز الهيكلى للمالية العامة فى تلك البلدان إلى خلق الفرص أمام الاحتكارات الإمبريالية لزيادة ربحية فوائضها المالية بإجبار البلدان النامية على الاستدانة بشروط مجحفة. كذلك تبث الإغارة المالية آثارها المخربة فى المراكز الإمبريالية نفسها. فالنمو المتواصل فى نسبة حجم الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى هدف يسعى إليه بشكل محموم رأس المال المالى القومى والدولى نظرًا لأنه يسمح باستثمار مربح للفوائض. وهكذا فإن الدين العام المستحق للأسواق المالية الخاصة يتيح فرص الاستنزاف المفروض على دخول العمال، ومن ثم السماح بمزيد من نمو الاحتكارات الريعية. وبذلك تتم تغذية النمو المتواصل للامساواة فى توزيع الدخل والثروة. أما الخطاب الرسمى المدعى بتطبيق سياسات لخفض الدين العام فهو محض زيف كامل، إذ إن هدف تلك السياسات الفعلى هو زيادة الدين لا تخفيضه.
وتواصل العولمة النيوليبرالية هجومها الشامل ضد الزراعة الفلاحية فى سيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد أدى الانصياع لهذا المكون الرئيسى فى العولمة إلى عملية إفقار/ إقصاء هائلة لمئات الملايين من البشر فى القارات الثلاث. وهو ما يقود فعليًا إلى إيقاف أى محاولة لمجتمعاتنا للنجاح وسط مجتمع الأمم. فالزراعة الرأسمالية الحديثة، ممثلة فى كل من الزراعة العائلية الغنية والشركات الزراعية، تسعى إلى مواصلة هجومها الكبير على الإنتاج الفلاحى العالمي.
إذ إن الزراعة الرأسمالية المحكومة بمبدأ الربحية لرأس المال الموظف فى أمريكا الشمالية والمخروط الجنوبى بأمريكا اللاتينية وأستراليا، لا تشغل سوى بضع عشرات الملايين من الفلاحين، ومن ثم تحقق معدل الإنتاجية الأعلى عالميًا، بينما مازالت نظم الزراعة الفلاحية تشمل تقريبًا نصف البشرية، ثلاثة بلايين نسمة. فماذا يمكن أن يحدث إذا عوملت «الزراعة وإنتاج الغذاء» كأى شكل آخر للإنتاج الرأسمالى بالخضوع لقواعد المنافسة فى سوق مفتوحة لا تعرف أى نوع من القيود؟ هل تسهل هذه المبادئ تزايد الإنتاج؟ فى الحقيقة بإمكان المرء تخيل إضافة خمسين مليونًا من الفلاحين الحديثين، ينتجون ما يمكن أن يقدمه للسوق ثلاثة بلايين فلاح بالإضافة إلى بقائهم فى معيشتهم المنخفضة. وتتطلب شروط نجاح هذا البديل تحقيق انتقالات كبيرة للأراضى الصالحة للزراعة إلى الفلاحين الجدد (أى الأراضى المأخوذة من المجتمعات الفلاحية التى تشغلها حاليًا)، والنفاذ إلى أسواق رأس المال (لشراء المعدات ومستلزمات الإنتاج) والنفاذ إلى الأسواق الاستهلاكية. ويستطيع هؤلاء الفلاحون المنافسة بسهولة مع بلايين الفلاحين الحاليين، ولكن ماذا سيحدث للأخيرين؟ إن بلايين المنتجين غير القادرين على المنافسة ستتم تصفيتهم خلال فترة قصيرة من الزمن لبضعة عقود.
ولعل الحجة الرئيسية لإضفاء الشرعية على البديل «التنافسي» هى أن هذا النوع من التطور قد وقع فى أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وأسهم فى تكون المجتمعات الحضرية الصناعية ثم ما بعد الصناعية الغنية، القادرة على تغذية الأمة وحتى تصدير الفائض الغذائي. فلم لا يتم تكرار هذا النموذج فى بلدان العالم الثالث اليوم؟ بالطبع لا يمكن، لأن هذا الزعم يتجاهل عاملين رئيسيين يجعلان إعادة إنتاج هذا النموذج مستحيلة فى بلدان العالم الثالث. العامل الأول هو أن النموذج الأوروبى قد تطور قبل قرن ونصف باستخدام تقنيات صناعية كثيفة العمالة. أما التقنيات المعاصرة فهى أقل بكثير من حيث كثافة العمالة. ومن ثم إذا أراد القادمون الجدد من العالم الثالث المنافسة فى الأسواق العالمية بصادراتهم الصناعية سيكون عليهم اعتماد التقنيات الحديثة. والعامل الثانى هو الانتقال الطويل زمنيًا الذى استغرقته تلك العملية، كما تمكنت أوروبا من تهجير كبير لفائضها السكانى إلى الأمريكتين. هل يمكن تخيل بدائل أخرى مبنية على إتاحة النفاذ إلى الأرض لكل السكان المحليين؟ يتطلب سياق كهذا الحفاظ على الزراعة الفلاحية والانخراط بموازاة ذلك فى عملية تغيير وتقدم تكنولوجى واجتماعى متواصلين. وذلك وفق إيقاع يسمح مع تطور المنظومة بالانتقال التقدمى إلى التوظيف خارج الزراعة. ويتطلب هذا الهدف الاستراتيجى سياسات خاصة لحماية الإنتاج الغذائى الفلاحى من المنافسة غير المتكافئة من جانب الزراعة المحلية الحديثة والشركات الزراعية الدولية. إنه نموذج يتحدى نماذج التنمية الصناعية والحضرية، حيث يقل اعتماده على الصادرات والأجور المنخفضة (وهو ما يتطلب بدوره خفض الأسعار الغذائية) ويعطى اهتمامًا أكبر لتوسعة سوق متوازنة اجتماعيًا. يضاف إلى ما سبق أن تلك الاستراتيجية سوف تيسر التكامل بين كل السياسات، بما يضمن السيادة الوطنية على الغذاء، وهو شرط إضافى لكى يكون البلد المعنى عضوًا نشطًا فى الجماعة الدولية، ويرفعه إلى المستوى الضرورى من الاستقلال والقدرة على التفاوض……… @
@. عن الحوار المتمدن…..