الفكر السياسي

العدالة الانتقالية الطريق الامثل للتحول الديمقراطي

العدالة الانتقالية الطريق الامثل للتحول الديمقراطي

د. علي مهدي
باحث

(Ali Mahdi)
2014 / 11 / 28 – 

مرت على الشعب العراقي حقب طويلة من الحروب والصراعات المسلحة مقترنة مع انظمة حكم تميزت بالتسلطية وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان، فان موضوعة العدالة الانتقالية تحتل مكانة مهمة وآنية لعملية الانتقال الديمقراطي الجارية في البلاد منذ 2003 لجملة من الدوافع والأسباب.

ان نظام العدالة الانتقالية هو مجموعة متكاملة من الاليات والطرق التي يتم اعتمادها لمعرفة ومعالجة وقائع انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تساهم في كشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم، بما يحقق المصالحة الوطنية الشاملة ويحفظ الذاكرة الجمعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرارها، وتساهم في الانتقال من حالة الاستبداد الى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الانسان. وهو بذلك يعني برنامج للتحول السلمي للمجتمعات التي عانت من حروب و صراعات مسلحة وانتهاكات خطيرة في مجال حقوق الانسان جراء عهود من التسلط والاستبداد على مختلف المستويات الى مجتمعات تدخل مرحلة البناء الديمقراطي وتكرس قيمها.

فالعدالة الانتقالية ما هي إلا وسيلة لتجاوز روحية التشفي والكراهية والعدوانية التي عانى منها المجتمع، وهي آلية فعالة لتجاوز التراكمات السلبية لانتهاكات حقوق الإنسان، بصورة تساهم لانتقال متدرج الى الديمقراطية وعلى أسس راسخة، حيث تهيئ شروط التسامح والمصالحة والاستقرار داخل المجتمع، بعيدا عن ثقافة الثأر والانتقام والانتقائية، ومن اجل إن لا تتحول العدالة الانتقالية الى عدالة انتقامية.

وقد حظيت العدالة الانتقالية في الآونة الأخيرة، اهتمام مختلف الأوساط السياسية والحقوقية وعموم المعنيين بعمليات التحول الديمقراطي، ويرجع ذلك للانتشار الواسع لمبادئ الديمقراطية وقيمها و اتساع الثقافة الحقوقية وتأثيرها وتنامي دور منظمات المجتمع المدني ونشاطها وبالتالي كان هناك الاعلاء من شأن حقوق الانسان والتي بات يحظى بمكانة بارزة في تقييم المجتمعات، وقد تجلى ذلك من خلال الملفات العديدة التي تم فتحها بعد سقوط حواجز التردد والخوف بعد انتفاضات الربيع العربي، مما نتج عن صدور خطابات وكتابات متعددة تحاول إن تعالج هذا المفهوم، ومن خلال تتبع مسار العدالة الانتقالية لبعض البلدان، فان هذا الاهتمام تجسد بصدور بعض القوانين التي صدرت والمؤسسات التي تشكلت، حتى إن بعض الحكومات انشأت وزارات متخصصة لهذا المجال[1].

ان هذه المادة هي لتعريف القارئ وإحاطته بأهمية العدالة الانتقالية للوضع في العراق حيث يمر في مرحلة التحول الديمقراطي متزامنة مع أوضاع أمنية غير مستقرة، وستتطرق المادة الى ظروف النشأة والتطور لهذا المفهوم مع التوقف امام بعض التجارب في البلدان التي سلكت هذا النهج وبالأخص العراق.

في التعريف:

ان العدالة الانتقالية مفهوم زئبقي (مرن) يستعصى على الضبط والتقنين بسبب ارتباطه بمنعطفات تاريخية حاسمة تشهد غالباً زخماً في الإحداث المتسارعة[2] ، فلا يوجد تعريف مستقر عليه تماما وملزم حاليا له. فقد عرف البعض العدالة الانتقالية( جملة من الآليات المتخذة خلال فترة الانتقال الديمقراطي بغية كشف الحقيقة قصد طي صفحة الماضي في مجال انتهاك حقوق الإنسان تحديداً، مع ما يستتبع ذلك من محاسبة ومصالحة بغية إرساء دولة القانون والمؤسسات)[3]، إما المركز الدولي للعدالة الانتقالية يعرفها ب ” مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بها دول مختلفة من اجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية ولجان التحقيق وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات”[4] وعرفت الأمم المتحدة العدالة الانتقالية في احد تقارير الأمين العام للمنظمة” باعتباره مفهوم يتعلق بكامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المسائلة وإقامة العدل وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية( أو عدم وجودها مطلقاً) ومحاكمة الإفراد، والتعويض وتقصي الحقائق والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات، والفصل أو اقترانهما معاً”.[5]وقد تبنى مشروع القانون اليمني للعدالة الانتقالية نفس ما جاء في تعريف الأمين العام للأمم المتحدة،
أما القانون الأساسي للعدالة الانتقالية بتونس والذي صوت عليه المجلس الوطني التأسيسي التونسي في كانون الأول 2013، فقد عرف العدالة الانتقالية بأنها: “مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ، ومحاسبة المسؤولين عنها ، وجبر ضرر الضحايا ، ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية، ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها، ويرسي ضمانات عدم التكرار، والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يسهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان”.

وقد عرف المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض المصرية العدالة الانتقالية وبما يتناسب مع اوضاع دول الربيع العربي بأنها:” مجموعة من التدابير والإجراءات القضائية وغير القضائية يتم الاضطلاع بها خلال مرحلة ما بعد الثورات للتصدي لانتهاكات حقوق الانسان وغيرها من صور إساءة استعمال السلطة التي وقعت في ظل نظام استبدادي او قمعي او خلال فترة تغيير هذا النظام، وهي ترمي أساسا الى القصاص العادل للضحايا وجبر الاضرار التي لحقت بهم وذويهم وإصلاح مؤسسات الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية بهدف الانتقال بالمجتمع الى صميم مرحلة الديمقراطية ومنع تكرار ما حدث من انتهاكات وتجاوزات.[6]” ومن خلال هذا التعريفات يمكن اعرف العدالة الانتقالية بالاتي:” مجموعة من الإجراءات التصالحية تتم عبر الأجهزة القضائية او غيرها بهدف نشر فكر سلمي في المجتمع الذي تسوده انتهاكات في مجال حقوق الانسان بغية التعايش والتسامح والاندماج ونبذ فكرة الانتقام التي تمر عبر المصالحة الشاملة وإنصاف وتعويض الضحايا من آثار النظام الاستبدادي كآلية للانتقال الديمقراطي ونشوء دولة المؤسسات

ان من خلال استعراض بعض التعريفات حول العدالة الانتقالية، يتضح هناك بعض الخصائص التي تميزها عن غيرها وهي تتجسد في الاتي:

ان العدالة الانتقالية في حالة من الصيرورة والتشكل الدائم وهي ليست بالمعطى المتكامل والنهائي، فكل تجربة تحاول ان تبدأ من التجارب التي سبقتها وتضيف في نفس الوقت ما تتميز به من سمات وخصائص، فليست هناك أنموذج متكامل ممكن الاسترشاد به أو استنساخه.

العدالة الانتقالية تمثل مجموعة من الاجراءات والتدابير كوسيلة لنقل المجتمع الى مرحلة التحول الديمقراطي وعدم النكوص والعودة الى مرحلة التجاوزات والانتهاكات لحقوق الانسان فهي ليست غاية بحد ذاتها انما وسيلة لهدف محدد. وعادة ما تتخذ هذه الاجراءات عبر القضاء الرسمي.

الفترة الزمنية للعدالة الانتقالية غير مفتوحة وعادة ما يتم تحديد سقف زمني لها حيث تمثل حالة انتقالية وتقتصر على فترة التحول الديمقراطي. وتتميز إجراءات العدالة الانتقالية بنسبتيها والتي ترتبط بظروف المكان والزمان، فكلما كان مستوى القمع والإرهاب شديد الوطأة وان الانتهاكات لحقوق الانسان جسيمة وممتدة لفترات طويلة كفترات نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا والنظام الديكتاتوري في العراق، كانت الحاجة لإجراءات فعالة أكثر، ولطبيعة التغيير في السلطة دور في مستوى الإجراءات ، عندما يكون التغيير سلميا والانتهاكات التي ارتكبت محدودة ستكون إجراءات العدالة الانتقالية ايضاً محدودة والعكس هو الصحيح ايضاً.

ان الاسس التي ترتكز عليها العدالة الانتقالية هو ان العدالة الجنائية التي تتسم بقدر من الصرامة والانضباط للنصوص القانونية في مواجهة الجناة، بغض النظر عن طبيعة جرائمهم ومراكزهم، فان العدالة الانتقالية التي تقترن بالتحول والرغبة في ولوج مرحلة سياسية جديدة غالبا ما تتسم بالتعاطي مع تركة الماضي بقدر من المرونة، رغبة في تعزيز مسارات التنمية والديمقراطية[7]. أي بقدر ما تتسم به العدالة الجنائية من حالة الاطلاق فان العدالة الانتقالية تتميز بالنسبية و المرونة لتجاوز الانتهاكات السابقة لحقوق الانسان من خلال المصارحة والاعتذار وطلب العفو وتعويض المتضررين ورد الاعتبار لهم ولذويهم للوصول الى المصالحة الوطنية الشاملة وبما يؤمن انتقال متدرج للمجتمع الى ضفة البناء الديمقراطي ويحافظ على التنمية والموارد.

العدالة الانتقالية وبعض التجارب:

على الرغم من مفهوم العدالة الانتقالية ظهر في منتصف القرن العشرين ، فان حضوره تكثف بشكل خاص منذ سبعينات القرن الماضي ، وقد تبنى نهج العدالة الانتقالية أكثر من 30 دولة من مختلف قارات العالم، من بينها أليونان، الأرجنتين، تشيلي، ألمغرب، جنوب إفريقيا، رواندا، غواتيمالا وغيرها من التجارب وقد كانت اليونان بوصفها البلد الأول الذي طبقت فيه العدالة الانتقالية في أواسط السبعينات من القرن الماضي(1975-1977) على اثر سقوك الحكم العسكري فيها، حيث تم مسائلة الحكام عن خروقات حقوق الإنسان، كما أدت جهود لجنة تقصي الحقيقة في الأرجنتين الى محاكمة الطغمة العسكرية عام 1983 بعد ثلاث سنوات من ابعادهم من السلطة على اثر الحرب على جزر الفوكلاند مع بريطانيا، وقد قضت لجنة تقصي الحقائق في تشيلي عام 1990 بمحاكمة الدكتاتور بينوشيه الذي تسلم السلطة على اثر انقلابه الدموي عام 1973 بتهمة ارتكاب جرائم ضد حقوق الانسان وقد تمخضت عن توفير تعويضات لصالح الضحايا او لذويهم، وقد كانت لتجربة لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا التي هي الابرز من نوعها في معالجة ضحايا انتهاكات حقوق الانسان ومرتكبيها، وقد جاءت بعدها محاكمة مجرمي الحرب الاهلية في يوغسلافيا، وبعد ذلك قادة جمهورية الصرب على الجرائم التي ارتكبت في البوسنة حتى سنة 2005 وقد تمت محاكمة مجرمي الحرب الاهلية بين قبائل الهوتو والتوتسي عام1995- 1998 في رواندا، وقد تلت ذلك متابعات جنائية لانتهاكات حقوق الانسان في غواتيمالا وتشيلي، وتم تبني آليات متباينة لتحقيق اهداف المرحلة الانتقالية، ويمكن تحديد هذه التجارب بثلاث اجيال متعاقبة، اذ تشترك كل مجموعة من الحالات في عدد من السمات الرئيسية التي تجعلها متمايزة عن سواها.

الجيل الاول: وقد جاء بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال محاكمة مجرمي الحرب من الالمان واليابانيين، فيما عرف بمحاكمات نورمبرغ وطوكيو، وتمحورت هذه العدالة بفكرة التجريم والمحاكمات الدولية وتمثلت اهم آليات عملها في اتفاقية الابادة الجماعية التي تم اقرارها ، وإرساء سوابق لم يعد من الممكن بعدها تبرير انتهاكات حقوق الانسان، تحت دعاوى طاعة الاوامر، او الضرورات العسكرية، وشكل مرتكبو انتهاكات حقوق الانسان مركز الاهتمام في مساعي تحقيق العدالة، وان السمة الغالبة لهذا الجيل من العدالة الانتقالية، هو الطابع الدولي لآليات تحقيق العدالة والتي ركزت بشكل اساسي على ملاحقة مرتكبي الانتهاكات ومحاسبتهم، ولم تلتفت بالقدر ذاته الى الضحايا.

الجيل الثاني: في ظل الحرب الباردة اصاب الركود ادبيات العدالة الانتقالية، حيث كان هناك التغاضي عن العديد من الجرائم الخاصة بانتهاكات حقوق الانسان ولمبررات مرتبطة في حالة الصراع الذي كان دائر ما بين المعسكرين وحلفائهما، وأستمر ذلك حتى التغييرات السياسية في اوربا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفييتي حيث برز مفهوم العدالة الانتقالية بنمط جديد، وقد تمت اجراءاته في هذه الدول من خلال مؤسسات الدولة وتجاوز فكرة المحاكمات، وان احد الاسباب لذلك سلاسة عملية التغيير ومحدودية الانتهاكات لحقوق الانسان، وقد اختصرت اركان العدالة الانتقالية على تشكيل لجان الحقيقة والتعويضات. وقد تطور هذا المفهوم في ظل الفترات الانتقالية لحكم الديكتاتوريات العسكرية في امريكا اللاتينية ، بعد انظمة الحكم العسكري ، وقد كان هناك توافق دولي على الحاجة لإجراءات العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق الانسان الماضية بتطبيق محكم لحكم القانون ، بما يسمح بالتنمية الاقتصادية. ويمكن اعتبار ان الجيل الثاني من العدالة الانتقالية يتوازى مع( مدخل التصالح) الذي يركز على ضحايا الجريمة ، والتعامل مع الاضرار الملموسة التي لحق بهم ، من خلال عملية غير رسمية للتوسط بين الطرفين، وتجهد المنظمات الدولية والمهتمين في هذا الشأن لغرض الاستفادة من مبادئ “العدالة التصالحية” لغرض توظيفها عند مراحل الانتقال للبلدان الاخرى.

الجيل الثالث : ان انشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافية في سنة 1993 شكل بداية جيل جديد من العدالة الانتقالية، اذ تجدد النزاعات ادى لتكرار حالات تطبيق العدالة الانتقالية مع تجاوز حالة الاخذ بمبدأ الحصانة ليصبح الاستثناء وليس القاعدة، وقد تم تشكيل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في 1994، ثم في 1998، وتم اقرار النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وفي هذه المرحلة تتم الاحالة دائما الى القانون الدولي الانساني، والقانون الدولي لحقوق الانسان، واستلهام تجربة محاكمات نورمبرغ، ودخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ في عام 2004، وإقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان. ان اهم ما يميز هذا الجيل من العدالة الانتقالية هو الجمع ما بين الاليات الدولية والمحلية لتحقيق اهداف العدالة الانتقالية، ويرى البعض الاخر انه جيل العدالة الانتقالية الهجين والذي يجمع ما بين الطابع الدولي والطابع المحلي لآليات تنفيذ العدالة( القضاة ، القوانين المعمول بها، الموظفين..) ومن التجارب لهذا النمط ، لجنة الحقيقة والمصالحة في هاييتي1995، حيث ابتكرت اللجوء الى المؤسسات الهجين ، والتي انتشرت فيما بعد في كوسفو 1999، سيراليون 2002، كمبوديا2003 [8]، وان تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا ساهمت في ترسيخ مفهوم العدالة الانتقالية والتي تم انشأها في عام 1995 بموجب قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية رقم 34 للعام 1995، وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة عبارة عن هيئة لاستعادة العدالة على شكل محكمة وبموجبها فان الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الانسان تمت دعوتهم للإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، واختير بعضهم لجلسات إفادة عامة علنية وفي نفس الوقت فان مرتكبي اعمال العنف ضدهم كان بإمكانهم الإدلاء بشهاداتهم وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية وكان من سلطاتها ايضا منح عفو للمتهمين الذين يثبت عدم ارتكابهم جنايات وتحديد موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية. وكان من سلطات اللجنة التي ترأسها كبير اساقفة البلاد القس ديسموند توتو ونائبه البروفيسور الكس بورين منح التعويضات للضحايا أو ورثتهم، كما اعتمدت تصور العفو المشروط أو الجزئي كسبيل لتحقيق العدالة بدلا عن العدالة العقابية، فعوضاً عن تقديم المنتهكين لحقوق الانسان الى المحاكم اعتمدت اللجنة جلبهم للاعتراف بأخطائهم وطلب الصفح ممن ألحقوا بهم الأذى .[9]

على الرغم من أن العديد من الدول العربية قد شهدت تغيرات جذرية في نظمها الحاكمة، فإنها لم تشهد تجارب مكتملة لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية.

في المغرب تم تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة أواخر عام 2003 للتصدي لإرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، خاصة الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والاختفاء القسري للأشخاص، خلال المدة من عام 1956 الى عام 1999، دام عمل هذه الهئية عامين 2004-2005، باشرت الهيئة اعمالها في البحث والتحري لأكثر من 25000 ملف وقررت في شأنها جبر الضرر الفردية الخاصة ب 20000 ضحية أو ذويهم عند وفاتهم، وأشرفت على استخراج الرفات من قبور فردية وجماعية ونظمت جلسات استماع عمومية للضحايا، وأخرى للحوار حول قضايا الاصلاح والبناء الديمقراطي، وأصدرت في نهاية اعمالها تقريراً ختامياً من (750) صفحة احتوى على مجموعة من التوصيات، وقد تضمن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 جميع التوصيات التي صدرت من الهيئة، بحيث ادمج فيه ما يقارب مئة مقتضى يتضمن المبادئ والمعايير والحقوق الإنسانية والضمانات المتعلقة بها.[10] وتبقى التجربة المغربية برغم كل ايجابياتها لكنها غير متكاملة عند تطبيقها لآليات العدالة الانتقالية. وهي تشكل أولى المحاولات الرامية الى معالجة انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في فترة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية . ان تجربة المملكة المغربية والتي جاءت من خلال النظام نفسه، ويصطلح عليها بعدالة الحد الادنى لافتقادها لأحد الاركان المهمة وهو الحق في مقاضاة المسؤولين عن الانتهاكات حيث وضع نظام الحكم حدوداً على استحقاق العدالة الانتقالية لتفادي إحالة أي من المسؤولين السياسيين أو الامنيين للمحاكمة، فقد تم الاكتفاء بآليات التحقيقات المستقلة لأسر الضحايا دون منح حقوق التقاضي، أو إدانة مسؤولين سابقين أو حاليين بارتكاب الانتهاكات، وهو ما قد يؤدي لاستمرار الانقسامات، وفقدان الثقة في اجراءات إقرار العدالة الانتقالية، وتشترك الجزائر في تجربة الحد الادنى من العدالة الانتقالية عندما جرى تطبيق المصالحة الوطنية دون استكمال اركانها.

فقد شهد الشعب الجزائري خلال سنوات الأزمة الإرهابية منذ 1992عمليات قتل غير قانوني وتفجيرات ومجازر جماعية وتعذيب وإغتصاب كان ضحيتها 200.000 قتيل وما يزيد عن 7000 مفقود ومئات النساء المغتصبات وآلاف الأيتام ، بعد انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية الجزائرية تم اصدار قانون الوئام المدني 1999 وقد حقق هذا القانون نتائج معتبرة حيث قل العنف نسبيا مقارنة بالسنوات السابقة. وبعد مضي خمس سنوات أصدر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 2005 المرسوم الرئاسي رقم 05-278 كملحق تحت عنوان “مشروع الميثاق من اجل السلم والمصالحة الوطنية”، والذي يحدد إطارا للتدابير اللازمة لإنهاء النزاع الداخلي من خلال العفو على المتورطين في الاعمال الارهابية والتعويضات عن المتضريين، لكن المشرع لم يجز لذوي حقوق الضحايا ان يتأسسو كطرف مدني امام الجهات القضائية للحصول على تعويض على اساس المسؤولية المدنية للدولة[11]، ولم يتم اقرار اجراءات التقاضي ونسبة الجرائم للمسؤولين في الاجهزة الامنية. والتجربة الجزائرية في تطبيق العدالة الانتقالية تمثل مثال مهماً على تطبيق المصالحة الوطنية دون استكمال اركان العدالة الانتقالية والتي اقتصرت على العفو العام عن المتورطين في احاث العنف، وإنهاء الملاحقات القضائية بحق المنتمين لجبهة الانقاذ الذين قبلوا بنزع السلاح، والتوقف عن اعمال العنف. والتعويضات عن المتضررين.

وبالنسبة لدول الربيع العربي ، وتحديداً تونس، مصر، ليبيا، واليمن، فهناك بعض الجهود التي تُبذل لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، تدعمها في بعض الأحيان دول أو منظمات دولية تعمل على نشر الوعي بهذا المفهوم، وحث النظم الجديدة على الأخذ بآلياته. وقد أسفرت تلك الجهود عن إصدار لقوانين العدالة الانتقالية في تونس واليمن. بينما أصدر المجلس الوطني الانتقالي بليبيا، القانون رقم 17 لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، وتم انشاء هيئة عليا سميت الهيئة العليا لتطبيق معايير النزاهة والوطنية.
وتعد تونس من أكثر الدول العربية تقدما بصفة عامة في إجراءات العدالة الانتقالية. فقد أسندت ملف حقوق الإنسان إلى وزارة مختصة ، هي “وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية”. وتضمن برنامج عمل الحكومة المؤقتة بعد الثورة موضوع “العدالة الانتقالية” كإحدى الأولويات الأربع في عملها، كما أنشأت آلية خاصة لتعويض الضحايا وتأهيلهم، هي “صندوق شهداء وجرحي الثورة وضحايا ألاستبداد”. ووفقا للمرسوم رقم 97 لسنة 2011، تم تشكيل لجنة شهداء الثورة ومصابيها، تضم في عضويتها ممثلين عن المجتمع المدني، ورئاسة الحكومة، والمجلس الوطني التأسيسي، وتم إنشاء لجنة فنية للإشراف على الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية، وكل ذلك يتزامن مع ما يتم إجراؤه من محاكمات جنائية لرموز النظام السابق. يمكن النظر إلى التجربة التونسية كأفضل المحاولات الجارية حاليا في المنطقة العربية لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية.
وفي مصر، وعلى الرغم من أن القوى الثورية والحكومات المتعاقبة التي أدارت شؤون البلاد بعد الثورة قد اتخذت بعض الإجراءات التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار في مصر ، فإنها لم تستوف كافة المعايير المتطلبة لتحقيق العدالة الانتقالية الناجزه. ومن أهم الإجراءات التي تم تبنيها ، والتي تتوافق مع مفهوم العدالة الانتقالية، تشكيل عدة لجان لتقصي الحقائق حول العديد من الأحداث المهمة والجسام التي اتسمت بالعنف في أنحاء عديدة في مصر إبان الثورة وعقبها، وكذا إنشاء المجلس القومي لرعاية أسر الشهداء ومصابي الثورة، مع وجود وزارة متخصصة للعدالة الانتقالية.

العدالة الانتقالية في العراق:

ان عملية التحول الديمقرطي في العراق وإجراءات العدالة الانتقالية التي انبثقت في خضمها،جاءت بفعل احتلال الولايات المتحدة للعراق وإسقاطها للنظام، وليس بتأثير حركة جماهيرية مدعومة من قوى سياسية أو من خلال اتفاق مساومة بين النظام القائم وقوى التغيير، كما هو في اغلب تجارب المجتمعات التي عاشت التحول الديمقراطي، حيث في العادة يكون للقوى السياسية المعارضة دور في تغيير النظام القائم ويكون لها المبادرة في مسك زمام عملية التحول الديمقراطي وبالتالي ضبط اجراءات العدالة الانتقالية وفق خطة متكاملة، وهذا ما لم يحدث في العراق، حيث تولت سلطة الائتلاف المؤقت لوحِدها لعب هذا الدور في ظل رأي عام دولي رافض للاحتلال وموقف اقليمي متوجس وعدائي لإفشال إغراضه، و غياب واضح لطبقة سياسية عراقية لها تماس وتأثير فاعل على مجرى الاحداث، لان النظام الديكتاتوري بسياسته القمعية القاسية تجاه اي شكل من إشكال المعارضة وتبعيث المجتمع بطرق الأغراء والإكراه ، لم يتح الفرصة لظهور اي طبقة سياسية تكون هي البديل في حال سقوطه، هذه الطبقة التي تتحسس المزاج العام ولها القدرة في تحديد مستوى ايقاع المسار المطلوب عند الاخذ بإجراءات العادلة الانتقالية، دون احداث اي اختلال بنيوي لطبيعة الانسجام المجتمعي القائم.

كان العراق بحاجة الى خطة متكاملة للتحول الديمقراطي ليتجاوز فيها عهود التسلط والتمييز والنزعة العنفية والعدوانية عبر تبني اليات العدالة الانتقالية، تستجيب لأولويات الشعب العراقي ومتضمنة كشف الحقيقة ومسائلة ومحاكمة مرتكبي انتهاكات حقوق الانسان وتعويض الضحايا وذويهم والقيام بإصلاحات مؤسسية، ترسي الاسس السليمة لمصالحة وطنية شاملة، حتى لا تتكرر تلك الانتهاكات مجدداً.

وكان على سلطة الائتلاف المؤقتة الاستعانة بالامم المتحدة والمنظمات الدولية لحقوق الانسان اللتين لهما خبرات عظيمة في المساهمة بتنفيذ اجراءات العدالة الانتقالية، بدل سياسية الانفراد وعدم مراعاة طبيعة المجتمع العراقي.

ومن جملة إجراءات العدالة الانتقالية التي اتخذها مدير السلطة المؤقتة للائتلاف السفير بول بريمر قرار رقم 1 اجتثاث البعث في 16/5/2003 والقاضي بفصل وتطهير مؤسسات القطاع العام من العبثيين ذوي المراتب الحزبية العليا الاربعة، ويقدر عدد من شملهم هذا القرار ب 20 الف شخص وهذا يعتبر تطهير عمودي وعلى اساس حزبي. والإجراء الاخر قرار 2 والصادر في 23/2/2005 والمعنون بحل الكيانات والذي قضى بحل وزارة الدفاع والتشكيلات المرتبطة بها وكذلك كافة المؤسسات الامنية والقرار رقم 3 القاضي بحل وزارة الاعلام، وهذا التطهير يسمى بالأفقي وعلى اساس الوظيفة، ان الرقم المعترف به طبقاً لقرارات لجنة إعادة المفصواين والمسرحين بثلاث ارباع المليون منهم ما يقارب 350 و 400 الف من الجيش[12] وكان قرار حل الجيش تلقى الانتقادات من اغلب دول العالم، ويعتبر الجيش العراقي اكبر مجال للتوظيف في الدولة والتعبئة الاجتماعية والاعتزاز الوطني، وان هذه العدد الهائل الذي شملهم الفصل والتطهير يرتبط به ما يقارب الثلاثة ملايين مواطن في الحسابات الاجتماعية- لو قدر متوسط عدد افراد الاسرة العراقية بخمسة اشخاص- وهذا ما شكل الحاضنة الاجتماعية الواسعة للقوى التي ناهضت التغيير والتحول الديمقراطي وكانت بمثابة المغذي للتعبئة البشرية للحرب الاهلية التي اندلعت رحها منذ 2006 حتى تحول قسم منها الى ادوات للقوى الاقليمية تمارس الارهاب لفرض اجندتها على مسار التحول الديمقراطي، وقد لعبت سياسية الاستثناءات من قرار اجتثاث البعث التي ابتدئها السفير بول بريمر دوراً في تأجيج الصراعات بين القوى السياسية للاستئثار والاستقواء.

وعلى مستوى اصلاح الجهاز القضائي ومحاسبة ومحاكمة منتهكي حقوق الانسان تم اصدار قرار تشكيل المحكمة الجنائية المركزية وإعادة تشكيل مجلس القضاء وفي يوم 10 كانون الاول 2003 صدر امر بتأسيس المحكمة الجنائية العراقية الخاصة والمعنية بجرائم الحرب ضد الانسانية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الابادة الجماعية او الجرائم ضد الانسانية او جرائم الحرب وكذلك انتهاكات القوانين العراقية المرتكبة من 17/7/1968 الى 1/5/2003. وحول الاجراءات الخاصة بالتعويض وجبر الضرر لمن صودرت اموالهم واملاكهم، فقد تم تشكيل هيئة دعاوى الملكية لإعادة الاملاك والعقارات المستولى عليها والمصادرة لأسباب سياسية وعرقية للفترة من 1/7/1968 حتى 9/4/2003 وأخر الاجراءات بهذا الصدد في فترة سلطة الائتلاف المؤقتة هو تعين فريق عمل برئاسة مالك دوهان الحسن في 26/5/2004 المعني بالتعويضات والفصل في مسألة من يحق لهم الحصول عليها والآليات التي ينبغي العمل بموجبها. وبعد انتقال السلطة الى العراقيين تم إنشاء بعض الكيانات التي هي مكملة لإجراءات تطبيق العدالة الانتقالية. حيث صدر قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005 التي حاكمت بعض رموز النظام السابق، وفي مقدمتهم الرئيس السابق للنظام صدام حسين، وتم تشكيل مؤسسة الشهداء وفق قانون رقم 3 لسنة 2006 والتي تعالج الوضع العام لذوي الشهداء وتعويضهم مادياً ومعنوياً بما يتناسب مع حجم التضحيات التي قدمها الشهداء والمعاناة التي لقيها ذويهم بعد استشهادهم. وتم تشكيل مؤسسة السجناء السياسيين التي تشكلت وفق قانون رقم 4 لسنة 2006 والتي تعالج الوضع العام للسجناء والمعتقلين السياسيين وتعويضهم مادياً ومعنوياً بما يتناسب مع حجم التضحيات التي قدموها والمعاناة التي لاقوها جراء سجنهم واعتقالهم. وتم الاتفاق على المادة 58 من قانون ادارة الدولة الانتقالية والتي اصبحت المادة 140 من دستور 2005 والتي تعالج التغييرات التي اجراها النظام السابق للهياكل الادارية لبعض المحافظات بهدف التغيير الديمغرافي لأسباب سياسية وعرقية. وفي سنة 2008 صدر قانون المساءلة والعدالة ليحل محل أمر رقم 1 الخاص باجتثاث البعث والذي شكل هيئة معنية بتنفيذ هذا القانون والتي تسمى بهيئة المساءلة والعدالة والذي ابقى على مضمون القرار السابق، لكن تم اعطاء ايحاء للاسم بانه معني بالعدالة الانتقالية وتتصاعد الاصوات التي تنادي بتحديد سقف زمني لبقاء هذه الهيئة وتحويلها قضاياها الى القضاء العادي.

ان الدول التي ابتلت بالحروب او بفترات من القمع السياسي الممنهج، عادة ما تعالج هذا الماضي بعدة طرق، فإما ان تتغاضى عن ارث النزاع وانتهاكات حقوق الانسان بإصدار قوانين عفو عن مرتكبي هذه الجرائم، وكما حدث في اقليم كردستان بعد انتفاضة ربيع 1991 وسيطرة الجبهة الكردستانية على السلطة في الاقليم بعد انسحاب الادارة المركزية منها، او مواجهة الضحايا مع مرتكبي الانتهاكات بحقهم وجها لوجه وملاحقة مجرمي الحرب وتشكيل لجان للتحري وكشف الحقيقة، وتطهير مؤسسات الدولة من مرتكبي الانتهاكات وتقديم التعويضات للضحايا وذويهم بعد الاعتذار لهم وإنشاء نصب تذكارية وإعادة الممتلكات المصادرة وتعديل المناهج الدراسية والقيام بإصلاحات قانونية ومؤسساتية تتواءم مع المعايير الدولية وسن القوانين لترفع اشكال الظلم الذي هو اساس النزاعات، وهذا ما اختطته التجربة في جنوب افريقيا وبعض الدول الاخرى .

ولكي تؤدي اجراءات العدالة الانتقالية النتائج المتواخاة منها، لابد من توفر بيئة آمنة و سيادة القانون واستقلال القضاء وفي ظل اطر من المؤسسات الشرعية يتم اختيار اعضائها من خلال تشاور مجتمعي تساهم فيه مختلف القوى والاطياف، و تعمل وفق مبدأ المواطنة دون اي تمييز او انتقائية مع الاخذ بنظر الاعتبار العمل بسياسة تجنب اي شعور جماعي بالذنب، وبأفق زمني معقول مع اهمية اقتران هذه الاجراءات بتعجيل دورة الحياة الاقتصادية مع تبني اصلاحات في مجال بناء المؤسسات الدستورية،ان ما جرى في العراق من عمليات للتطهير على مستوى المؤسسات والعزل السياسي من دون ارتكاب اي انتهاكات يحرمها القانون ولا تمثل تعدياً على حقوق الانسان، جعل من التجربة يطغي عليها اليات العدالة الانتقامية بدل العدالة التصالحية التي كان الشعب العراقي احوج لها ليضمد به جراح دام لعهود من الزمن، ان الممارسة الانتقائية وغير المتكاملة لمفهوم العدالة الانتقالية مع تهميش بعض أطياف المجتمع، وعدم استقرار امني والطائفية الدينية وبيئة اقليمية متربصة وغياب مفهوم سيادة القانون، لم يمكن العراق من بلوغ المصالحة الحقيقية، ومن ثم التطبيق الأمثل لمفهوم العدالة الانتقالية… &

& عن الحوار المتمدن..

زر الذهاب إلى الأعلى