العراق: الوقوعف عند مفترق طرق بإصلاحات محدودة لاقتصادِ في أمَس الحاجة إلى التحول
مع التحول الإيجابي في اتجاهات أسواق النفط العالمية، يتوقع أن تتحسن الآفاق المستقبلية للعراق. وهذا ما يرصده الإصدار الجديد من المرصد الاقتصادي للعراق لربيع 2021 بعنوان “التقاط الفرصة للإصلاح وإدارة التقلبات” حيث يتوقع أن يتعافى الاقتصاد العراقي تدريجياً على خلفية ارتفاع أسعار النفط وارتفاع حصص إنتاج مجموعة (أوبك+)، مع توقع النمو في الناتج المحلي الإجمالي تدريجياً بنسبة 1.9% في 2021 و6.3% في المتوسط في عامي 2022-2023. ومن المتوقع أن يؤدي الارتفاع في عائدات النفط جنباً إلى جنب مع التأثير الناتج عن خفض قيمة العملة إلى تقليص العجز في المالية العامة إلى 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021.
ومع ذلك، يواصل الوضع المالي اتساعه حيث يتوقع أن تبلغ احتياجات تمويل الموازنة في المتوسط 13.7 مليار دولار أمريكي سنوياً (7.5% من الناتج المحلي الإجمالي) خلال فترة التوقعات (2021-2023)، وهو مستوى مرتفع مقارنة مع مستويات ما قبل جائحة كورونا. وعلى الرغم من تقليص النفقات غير الملزمة بموازنة عام 2021، إلا إنها بقيت تتضمن إصلاحات أساسية مثل التدابير الخاصة بتحسين إدارة المالية العامة وتحصيل الإيرادات المحلية. ومن شأن تنفيذ هذه الإصلاحات أن تساعد في تخفيف العجز في المالية العامة وضغوط سعر الصرف. ومع ذلك، تبقى القضايا الأكثر هيكلية مثل أجور موظفي القطاع العام وأوجه الجمود في المعاشات التقاعدية دون معالجة.
ووجد التقرير أن هذا التحسن الحذر في التوقعات يخفي مخاطر كبيرة يمكن أن تتحقق في أي وقت. ومن شأن الاعتماد على النفط في تحقيق النمو والصادرات والإيرادات إلى جانب تزايد أوجه الجمود في الموازنة، أن يهدد استقرار الاقتصاد الكلي مع دورات الانخفاض في أسعار النفط والإخفاق في تنفيذ الإصلاحات المالية الهيكلية في عام ستجرى فيه الانتخابات. إن استمرار نقص الاستثمار، المرتبط بضعف تنفيذ الاستثمار العام ومناخ الأعمال غير المواتي للاستثمارات الخاصة في القطاعات غير النفطية، يعيق البرامج الداعمة للنمو وتقديم الخدمات. وقد يؤدي التأخير في طرح اللقاحات المضادة لفيروس كورونا إلى فرض عمليات إغلاق إضافية ستكون لها تأثيرات سلبية حادة على أنشطة قطاعات الخدمات. وأخيراً، قد يؤدي التدهور المحتمل في الأوضاع الأمنية وفي خضم التوترات الجيوسياسية الإقليمية إلى تقويض العديد من المكاسب الاقتصادية التي تحققت فيما مضى.
ولإدارة هذه المخاطر وتجنب تكرار الأداء الاقتصادي السابق، فإن العراق لديه طريق للمضي قدماً ألا وهو طريق الإصلاحات الطموحة التي حددتها الحكومة العراقية فيما يعرف بـ”الورقة البيضاء”. ويشير المرصد الاقتصادي إلى أن تجربة العراق قد أظهرت مرة بعد الأخرى وجود علاقة عكسية بين أسعار النفط وتوجهات الإصلاح؛ فالحكومات المتعاقبة كانت تشرّع الإصلاحات تحت وطأة ضغوط انخفاض أسعار النفط وتواصل التصورات الشعبية حيال تفشي الفساد وسوء تقديم الخدمات العامة. وأدى مثل هذا الاقتران الى ظهور توترات اجتماعية وسياسية قوّضت نجاح العديد من معظم مبادرات الإصلاح.
وتعليقاً على هذا التقرير قال ساروج كومار جاه، المدير الإقليمي لدائرة المشرق بالبنك الدولي: “تُعد الإصلاحات الهيكلية أمر جوهرياً لخلق مستقبلِ اقتصادي مستدام في العراق. “إن إعادة البناء بشكل أفضل هي الركيزة الأساسية لخلق الوظائف الضرورية للشباب والمساعدة في استعادة التوازن في نفوس المواطنين العراقيين، ناهيك عن التحولات المطلوبة لبناء فرص اقتصادية متكافئة للمرأة العراقية”.
لكن الأمور تبدو مختلفة بالنسبة للعراق هذه المرة؛ فالبلد يقف في مفترق طرق وبلوغه نقطة أصبحت فيها الحلول السريعة محدودة، وأضحى الاقتصاد بحاجة لتحول جذري إذا كان يُراد له أن يكون قادراً على خلق الوظائف لأعداد الشباب المتزايدة من السكان. ويقدر إصدار الربيع لعام 2021 من المرصد الاقتصادي للعراق أنه بإمكان العراق أن يحصل على مكاسب مالية سنوية قدرها 11 مليار دولار أمريكي إذا تم تنفيذ السياسات الداعمة للنمو في القطاعات غير النفطية جنباً إلى جنب مع معالجة أوجه الجمود في موازنته المالية. ويمكن لتسريع برنامج التلقيح ضد فيروس كورونا أن يسهم أيضاً في تسريع عملية التعافي وأن يعكس بشكل تدريجي اتجاه مسار الارتفاع في معدل الفقر الوطني الذي تم تسجيله خلال صيف عام 2020. ومع وصول أسعار النفط الى مستوى يتجاوز 60 دولاراً للبرميل، أصبح بوسع العراق الشروع بشكل فعال في تنفيذ الإصلاحات التي اشتملت عليها “الورقة البيضاء” وتوظيف هذه المكاسب غير المتوقعة في التخفيف من أثر التداعيات المحتملة لمثل هذه الإصلاحات والاستثمار في رأسماله البشري والمادي.
وإذا كانت زيادة معدل مشاركة المرأة في القوى العاملة من بين المجالات التي لم تتم الإشارة إليها على نحو صريح في “الورقة البيضاء” إلا أنها تمثل شرطاً أساسياً لبلوغ التحول الاقتصادي في العراق. وتقدر مشاركة الإناث في القوى العاملة في العراق من بين المراتب الأدنى في العالم، وحتى عندما تتمكن النساء من الالتحاق بصفوف الأيدي العاملة فإن احتمالية أن يواجهن البطالة تبلغ ثلاثة أضعاف ما هو عليه بالنسبة للذكور. وتختلف العقبات التي تواجهها العراقيات في دخولهن الى سوق العمل والبقاء فيه إلى حد كبير حسب الاختلاف فيما ينتمين إليه من مجموعات اجتماعية واقتصادية وما يتعرضن له من منعطفات مهمة في حياتهن. وللتصدي لتلك العقبات ومعالجتها، هناك حاجة الى التدخلات في سوق العمل لضمان تحقيق مواءمة أفضل بين العرض والطلب في سوق العمل. وتشتمل مثل هذه التدخلات على التركيز على توفير برامج تدريب المهارات المستندة الى سوق العمل وتسهيل الوصول إليها، وتحسين الوصول الى رعاية أطفال ميسورة التكلفة وذات جودة معقولة، وتوفير الحوافز للقطاع الخاص للاستثمار في القطاعات التي توظف عدداً أكبر من النساء، وإتاحة خيارات يقبلها المجتمع العراقي لتوليد الدخل بالنسبة للنساء، فضلاً عن تقديم الدعم اللازم لمثل هذه المبادرات بغرض توسيع نطاقها على مستوى العراق. وهناك مجموعة من القوانين واللوائح التنظيمية تسهم في الحد من وصول النساء الى فرص العمل بما في ذلك القانون المبهم لزواج القاصرات والحالات الحادة لانعدام المساواة بين الذكور والإناث في حقوق الملكية والميراث. وهناك حاجة إلى إدخال التعديلات على مثل هذه القوانين واللوائح التنظيمية؛ ولكن وعلى الرغم من أن التصدي للمعايير الاجتماعية قد يكون أمراً صعباً، إلا أن بعض التدخلات التي تهدف الى تصحيح المفاهيم الخاطئة يمكن أن يكون لها أثر إيجابي وفعال في رفع مستوى مشاركة النساء في سوق العمل في العراق.
ويورد التقرير مجموعة غير شاملة من التوصيات التي يمكن أن تسهم في مساعدة حكومة العراق على بلوغ هدفها المتمثل في زيادة نسبة مشاركة النساء في سوق العمل بمقدار 5 نقاط مئوية بحلول عام 2025. وتدعو هذه التوصيات إلى تحقيق مواءمة أفضل بين العرض والطلب في سوق العمل (على سبيل المثال، من خلال إنشاء خدمات موثوقة لتحقيق هذه المواءمة) وصياغة حلول خاصة بالنوع الاجتماعي في بيئة العمل، وبناء إطار تشريعي شامل (على سبيل المثال، من خلال التخلص من القيود المفروضة على المهن وقطاعات العمل).
وإلى جانب القيمة الجوهرية لتمكين المرأة العراقية، فإن زيادة المساواة بين الجنسين في سوق العمل هي عين الاقتصاد الذكي. إن تعزيز مشاركة المرأة في القوى العاملة في العراق ليبلغ المستوى المسجل في بلدان مجموعة الدخل التي ينتمي إليها العراق، من شأنه أن يزيد من نصيب الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 31%؛ وهو ما يمثل مكسباً كبيراً في ثروة هذا البلد.. *
* عن البنك الدرلي