الاقتصادية

العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي

العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي

العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي
د. صالح ياسر
العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي : الفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غنى .. من حقه أن يعرض رئيس البنك الدولي رؤيته لمسارات العولمة ونتائجها ” الباهرة “، ولكنه لا يملك الحق في توظيف المعطيات الإحصائية لتشويه وعي الناس البسطاء، من خلال إعلانه بأن العولمة قضت على الفقر أو قاربت على القضاء عليه. أقول هذا وأنا أطالع آخر تقرير صدر عن البنك الدولي نهار الأربعاء الماضي، 6/12/2001 والذي صدر تحت عنوان ذي دلالة : العولمة والنمو والفقر. والعنوان لوحده مثير، ويسمح للقارئ البسيط أن يستنتج بأن العولمة أطلقت النمو حقا، بل جعلته ظاهرة عالمية البعد، ومن ثم فإنها – أي العولمة – قد فتحت الأبواب للقضاء على الظاهرة التي ظلت تؤرق العالم منذ قرون : الفقر. ومن هنا يأتي تأكيد التقرير المذكور بأن ” العولمة كانت قوة كبيرة أسهمت في خفض الفقر “. ومن مقارنة ملتبسة تربط بين تنامي التجارة والاندماج في الاقتصادي العالمي لتصل الى نتيجة هو أن ذلك أدى الى ارتفاع مستوى المعيشة في 24 بلدا نامية، ورفع دخل الفرد بنسبة 5 في المتوسط سنويا في التسعينات. الكلام جميل جدا، في إطاره النظري، ولكنه غاب عن كاتبي التقرير، أو هكذا أرادوا هم أصلا، أن هناك العشرات من البلدان النامية الأخرى، ممن تعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة، وتتعاظم بشكل مثير مستويات الفقر والتهميش الاجتماعي، ناهيك عن حقيقة أن معدلات النمو المذكورة في التقرير لا ينبغي أن تعطي الانطباع بحدوث تحسن بارز في الوضع، إذ أن معدلات دخل الفرد في هذه البلدان متدنية أصلا، ولا يعني زيادتها بنسبة 5 حدوث تحول راديكالي في الأوضاع الاقتصادية للسكان في هذه البلدان. والأهم من كل هذا أن معيار دخل الفرد الواحد، الذي يعشق خبراء المؤسسات المالية والنقدية الدولية الرأسمالية استخدامه، هو معيار مثير للشكوك أصلا، لأنه يقدم معطيات كمية ولا يكشف عن كيفية توزيع الدخل بين الفئات والطبقات الاجتماعية في البلدان موضوعة البحث. بعبارة ابسط واكثر دلالة : إن معيار معدل دخل الفرد الواحد يضع الجميع في سلة واحدة، أي أنه لا ينشغل بعلاقات التوزيع في المجتمعات التي يحللها، لأن ذلك يعني الولوج في ” عش الدبابير ” ويكشف المستور في اللوحة الفعلية للتمايزات الاجتماعية الفعلية في هذه البلدان. لنواصل ” مشاكسة ” تقرير البنك الدولي. يقول التقرير المذكور، وفي معرض عرضه للنتائج ” الباهرة ” التي تحققت، بأن الزيادة التي ظهرت في البلدان النامية التي ذكرها التقرير كانت أكبر من الزيادة في الدول الغنية التي لم تزد، حسب تقرير البنك، عن 2 فقط. ومرة أخرى يخلط التقرير بين الحق والباطل، كما يقال. إذ أن ارتفاع معدل دخل الفرد الواحد في البلدان النامية بنسبة واحد بالمائة سنويا ( رغم تحفظاتنا على هذا المعيار) تعني أن الزيادة بالملموس تبلغ مئات الدولارات بالنسبة لـ ” الفقراء ” في البلدان المتطورة، أما زيادة الدخل السنوي للفرد الواحد بنسبة 10 ( وليس 5 بحسب التقرير)، في بلد من البلدان الفقيرة، الذي يبلغ مثلا 300 – 400 دولار سيكون بمقدار 30 – 40 دولار فقط ! والمشكل أن انطلاقة خبراء الصندوق خاطئة أصلا، إذ لا يجوز مقارنة مالا يقارن، كما يقول المناهجة، أي المقارنة بين البلدان الغنية والفقيرة، إلا إذا كان الهدف من المقارنة تضبيب الرؤيا، وهذه ممارسة أيديولوجية وليس تحليلا اقتصاديا علميا، كما ينافح مستشارو وخبراء البنك الدولي، والمؤسسات الأخرى المماثلة، التأكيد عليه دوما.
ولكن التقرير يبين، في أماكن أخرى، طائفة من الحقائق تتعارض مع ” الحقائق ” التي ذكرها في البداية. لنأخذ مقاطع من التقرير لنتبين واقع الحال بدون رتوش ” الخبراء “. · يقول التقرير أن ملياري شخص يعيش معظمهم في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي ” يتعرضون لخطر البقاء على هامش الاقتصاد العالمي “. بالرغم من هذه الحقيقة، لا يتحدث التقرير بصراحة عن الوضع الاقتصادي البائس بحد ذاته وجذوره، بل فقط عن خطر تعرض هؤلاء الناس الى ” البقاء على هامش الاقتصاد العالمي “. أي أن السادة واضعي التقرير ينشغلون بالنتائج – البقاء على الهامش – ولكنهم لا يجرأون على الحديث عن الأسباب التي جعلت هؤلاء الألفي مليون نسمة من البشر يعيشون على ” هامش الاقتصاد العالمي “. إن الملياري هؤلاء، بل واكثر منهم، هم نتاج عملية الاستقطاب الجارية على صعيد الاقتصاد الرأسمالي العالمي، تلك العملية التي تطحن البشر وتقود الى تفاقم البؤس من جهة والثروة من جهة أخرى. والشيء الذي تركته العولمة الرأسمالية في طبعتها الليبرالية الجديدة هي أنها ساهمت و” ببراعة نادرة ” في عولمة الفقر وإكسابه أبعادا جديدة حقا. ومع ذلك ينكر الخبراء أن العولمة الرأسمالية قادت الى هذه الأوضاع المأساوية لملياري نسمة واكثر، وكلهم متركزون في ” أطراف ” الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
بالرغم من كل المصائب وبلغة الأرقام التي يحفل بها تقرير البنك الدولي، إلا أن السادة واضعي التقرير ينافحون بطريقة مثيرة للشفقة والأسى. ففي الوقت الذي يقول التقرير ” أن بعض المخاوف من العولمة لها ما يبررها “، لكن كاتبيه ستدركون قائلين بروح الواثقين من ” صواب ” تحليلاتهم الاقتصادية، وهي ليست كذلك طبعا، بأن ” الرجوع عن العولمة سيؤدي الى ارتفاع جنوني في الأسعار وتدمير آفاق المستقبل بالنسبة لملايين الفقراء ” . وبالرغم من هذا الزخم الإيديولوجي الفاقع الحدة، في هذه الأطروحة، إلا أن السادة صائغي التقرير لا يقدمون للقارئ أي دليل على أن الرجوع عن العولمة سيؤدي الى ارتفاع في الأسعار، إذ انه لا حديث هنا عن نوعية السلع التي ستكون موضوعا للحديث، والتي ستؤدي الى ارتفاع في الأسعار، إلا إذا فهمنا أن المقصود هنا تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي الفاضحة حول إعادة التكييف، والمعروفة نتائجها المدمرة على الاقتصادات والمجتمعات التي طبقها تحت ” مسدسات ” الخبراء الدوليين ونصائحهم التهديدية. وفي تأكيدهم على عبارة أن ” الرجوع عن العولمة سيؤدي الى ….. تدمير أفاق المستقبل بالنسبة لملايين الفقراء ” ، يريد السادة خبراء البنك الدولي الإعلان الصريح بأن مصير الفقراء وتخلصهم من فقرهم مرتبط بالعولمة وبالعولمة فقط، وانه لا طريق آخر للبشرية غير العولمة، ولكن أي عولمة : العولمة بطبعتها الرأسمالية. تقرير السادة خبراء البنك الدولي يأتي امتدا لـ ” التنظير ” الذي قدمه فوكوياما الذي أعلن فيه نهاية التاريخ، وكان التاريخ ينتهي بقرار من هذا السيد، والذي كان بإعلانه نهاية التاريخ يريد الإعلان عن سيادة الرأسمالية ونهاية الإيديولوجيا، متناسيا أن ” نظريته ” هذه ما هي إلا عبارة ” نظرية ” إيديولوجية فاقعة من ألفها الى يائها، وليس فيها من العلم بشيء. في سبيل ضمان تقاسم مزايا العولمة بشكل اكثر مساواة، بحسب وصف السادة الذين صاغوا تقرير البنك الدولي، اقترح البنك المذكور خطة من سبع نقاط، حث فيها الدول الغنية على فتح أسواقها أمام صادرات الدول الفقيرة. ولا بد من التأكيد هنا، ومنعا لأي التباس، بأن هذه المقترحات هذه ليست جديدة، بل مضى عليها سنوات كثيرة، وصارت مادة ثابتة في المؤتمرات الدولية، والنتائج الفعلية معروفة، ومن هنا التأكيد الدائم ” حث الدول الغنية على فتح أسواقها أمام صادرات الدول الفقيرة “. إذا انتقلنا من الكلام المجرد الى ملموسه فإن معظم صادرات البلدان الفقيرة هي مواد أولية وخامات وسلع زراعية، وأن العديد من السلع الزراعية القادمة من هذه البلدان تستطيع – بسبب انخفاض تكاليف إنتاجها – منافسة السلع الزراعية التي تنتج من طرف البلدان الغنية. وبهدف قطع الطريق أمام منافسة قوية للسلع القادمة من البلدان الفقيرة تلجأ البلدان الغنية الى تقديم الدعم للمزارعين فيها لحماية الزراعة المحلية، وبالتالي تمكين سلعها من منافسة السلع القادمة من البلدان الفقيرة. هذا مع العلم أن البلدان المتطورة تتبجح بأنها تنظم اقتصاداتها وفقا لقوانين السوق والياته المعروفة، ومنها المنافسة. ومن اجل بيان حجم الدعم الذي تقدمه البلدان الغنية لقطاع الزراعة فيها، يشير تقرير البنك الدولي بأن هذه البلدان تنفق حاليا 350 مليار دولار سنويا على الدعم لحماية قطاعات الزراعة فيها. وطبعا هذا المبلغ يعادل سبعة أضعاف المبلغ الذي تقدمه البلدان الغنية الى البلدان الفقيرة كمساعدات تنموية. والمفارقة أن الجزء الأعظم من هذا المبلغ يشترط أن تشتري به البلدان الفقيرة ما يلزمها من السلع الضرورية من البلدان الغنية تحديدا، طبقا لروح ” التعاون المتبادل ” !
والخلاصة، من حق السادة خبراء البنك الدولي أن يفرحوا بما حققته العولمة من ” إنجازات باهرة ” فهذا أمر يخصهم وحدهم. ولكن ذلك لا يغير من حقائق الواقع الاقتصادي الاجتماعي المأساوي والمتفاقم باستمرار، والذي تواجهه البلدان الفقيرة، علما بأن هذه التسمية خاطئة أصلا، ومن إنتاج خبراء المؤسسات الدولية. وهذا موضوع يحتاج الى مساهمة أخرى. *

 

 

• نشر المقال في الحوار المتمدن بتاريخ 9/ 12 / 2001

زر الذهاب إلى الأعلى