العولمة والمياه
العولمة والمياه
ثامر الصفار
(Thamer Alsafar)
2007 / 4 / 20
حكاية مؤتمر
الماء هو عنصر اساسي من عناصر الحياة فهل يمكن اعتباره حاجة انسانية ام حق انساني؟ هذا السؤال كان محور النقاشات التي دارت عام 2000 في مدينة هيج الهولندية ضمن اجتماعات المنبر الدولي للمياه التي استمرت اربعة ايام.
لم يكن شعار المؤتمر يختلف عن الشعارات الاخرى التي تعقد في ظلها مؤتمرات الامم المتحدة حول موضوع المياه، لكن المؤتمر كان مختلفا لجهة نوعية المشاركين فيه. حيث حضرته وفودا تمثل منظمة المياه العالمية والبنك الدولي المعروف عنهما دعمهما ومساندتها للشركات الصناعية والسعي لاقامة مجاميع ضاغطة (لوبي) على الهيئات الحكومية في جميع انحاء العالم، كما حضرت ايضا الشركات الكبرى في العالم المختصة بالمياه. وكان هاجسهم بالطبع الوصول الى افضل السبل التي تحقق ارباحا عالية من خلال بيع المياه في الاسواق العالمية.
وبموازاة مؤتمر هيج عقد وزراء الموارد المائية لاكثر من 140 بلدا اجتماعا لهم باشراف الامم المتحدة ايضا. الا انه كان مؤتمرا شكليا فاوراق اللعب كانت بايدي الشركات الكبرى التي تحضر المؤتمر الاساسي.
كان النقاش الدائر حول تعريف المياه كـ “حاجة” ام “حق” يتعدى الحدود اللغوية ليصل الى صلب الموضوع: من المسؤول عن ضمان حصول البشر على الماء – جوهر الحياة-؟ السوق ام الدولة؟ الشركات ام الحكومات؟
اما لماذا فتح النقاش وكل الحاضرين من طينة واحدة كما يقال، فان ذلك يعود الى مشاركة – ربما عن طريق الخطأ- مجموعة صغيرة تعرف باسم ” مشروع الكوكب الازرق” وهي منظمة من منظمات المجتمع المدني يتألف اعضاؤها من اختصاصين في مجال البيئة وعدد من المثقفين والعمال يعملون سوية لتحقيق هدف مشترك يتلخص في تثبيت اعتبار الماء حقا انسانيا عاما.
ومع كل الجهود التي بذلتها هذه المنظمة الا انها لم تنجح في مسعاها حيث كانت اجندة بقية الحاضرين هي الاقوى. وهكذا انتهى المؤتمر بعد ان وضع تعريفا رسميا للماء على انه ” حاجة” انسانية يمكن من خلاله للقطاع الخاص، عبر نظام السوق، تحمل مسؤولية توفير وايصال هذا المورد الجوهري لحياة البشر مقابل حصوله على الارباح. اما وزراء الموارد المائية فقد تحولوا الى شياطيين خرس ولم يعترضوا على هذا التعريف خصوصا وانهم على علم بان التعريف الاخر، الماء حق انساني، يعني ان على حكوماتهم ان توفر لشعوبها هذا المورد الحيوي بشكل عادل وغير ربحي وهو ما يتعارض مع رياح العولمة التي تجتاح العالم.
هذه الحكاية القصيرة كانت البداية لعملية فصل الماء عن الارض وعن باقي ” المشاعيات”. وبداية التراجع عن مكتسبات نضال دام اكثر من مائتي عام من اجل الديمقراطية. فبعد ان شهد القرن الماضي ولادة الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان تدخل البشرية القرن الواحد والعشرين والماء ليس سوى سلعة خاضعة لهيمنة النخب الاقتصادية ولقوانين السوق المحكومة بالعرض والطلب حيث يحصل على الماء من هو قادر على دفع ثمنه.
ولوضوح الصورة علينا فهم قوى العولمة الاقتصادية التي تعيد اليوم تشكيل حياتنا ومجتمعاتنا وبلداننا. فعالمنا الذي يعاني من ازمة مياه حادة يرزح تحت رحمة الاقتصاد العالمي الذي تحكمه الشركات متعددة الجنسية . وفي عصرنا المعولم تتخلى الحكومات يوما بعد يوم عن مسؤولياتها في خدمة المصالح العامة، ويوما بعد يوم تزداد حقوق الشركات لتتجاوز على حقوق المواطنين. علينا ان نفهم القوى المحركة للعولمة من اجل فهم مسببات ازمة المياه وعندها فقط يمكننا وضع حلول لها.
العولمة الاقتصادية
نعني بالعولمة الاقتصادية ذلك النموذج التنموي الذي يجري تبنيه في العديد من البلدان ومنها عراق المستقبل. وهو نموذج مبني على الايمان بحتمية وجود اقتصاد عالمي واحد ذي قوانين شاملة تصوغها الشركات والاسواق المالية. ويستتبع هذا الايمان التركيز على حماية ورعاية الحريات الاقتصادية وليس الحريات الديمقراطية والبيئة وهي ما كانت تميز مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا نشهد مرحلة انتقالية جديدة في التاريخ زبدتها الهجوم على جميع مناحي الحياة. ففي ظل اقتصاد السوق كل شيء معروض للبيع: الصحة، التعليم، الثقافة، التراث، الجينات الوراثية، الموارد الطبيعية بما فيها الماء والهواء.
ان اعطاء الاولوية للحريات اقتصادية على حساب الحريات الديمقراطية ليس شيئا جديدا بالنسبة للرأسمالية. فحسب رأي المفكر الاقتصادي جوزيف شومبيتر ان الديمقراطية عبارة عن ” ترتيبات مؤسساتية للتوصل الى قرارات سياسية يحصل الافراد من خلالها على سلطة اتخاذ القرار عن طريق المشاركة في انتخابات قائمة على التنافس”، اي باختصار انها ديمقراطية من يملك الثروة على اساس ان المؤسسات والشركات التي تضع الترتيبات هي صاحبة الثروة. (انظر الرأسمالية والديمقراطية، الثقافة الجديدة العدد 278).
تعود جذور العولمة الاقتصادية الى نحو خمسمائةعام عندما بدأت الامبراطوريات الاوربية بالتنافس فيما بينها للسيطرة على الموارد الطبيعية الثمينة كالذهب والفضة والنحاس والخشب المخزونة طبيعيا في أسيا وافريقيا. وتأسست عهدذاك عدد من الشركات متعددة الجنسية، اي التي تعمل خارج حدود بلدانها، ونذكر منها شركةالهند الشرقية وشركة هادسون باي للنقل البحري. وصدرت مراسيم ملكية بريطانية تمنح الحق لهاتين الشركتين، وهما مثال فقط، بالبحث عن كل ما يمكن ان يولد ارباحا للامبراطورية في البلدان الخاضعة لها.
ورغم تغير اهمية الموارد حسب متطلبات التنمية الاقتصادية، التي تغيرت هي الاخرى بفعل التطور التكنولوجي، ظل نموذج التنمية، العولمة الاقتصادية، ثابتا لا يتغير في معظم الاطوار. ولو اعدنا قراءة ” البيان الشيوعي” لرأينا انه يؤكد على ” ان البرجوازية، من حيث استغلالها السوق العالمية، قد اعطت صفة الكوزموبوليتية (العالمية) للانتاج والاستهلاك في كل البلدان… فبدل العزلة المحلية والقومية والاكتفاء الذاتي في السابق، لدينا تعامل في كل اتجاه، اعتماد متبادل عالميا بين البلدان… وزبدة القول ان البرجوازية تخلق عالما على صورتها” (انظر العولمة ورأس المال، الثقافة الجديدة العدد 281).
وبالتالي فان ما نشهده اليوم ليس سوى تسريعا حميما لذات النموذج، خصوصا بعد ازالة جدار برلين وانتهاء حالة التوازن العالمي بين نموذجي التنمية الرأسمالي والاشتراكي الذي كان سائدا قبل سقوط الجدار. فمنذ تلك اللحظة ازدادت شهية الشركات العملاقة، باعتبارها المهيمنة ضمن النموذج الراسمالي للتنمية، لفتح اسواق جديدة وتوسيع نطاق عملها ليشمل اركان العالم الاربعة.
ومع بروز الولايات المتحدة الامريكية قوة صناعية جبارة، في اعقاب الحرب العالمية الثانية، وانتاجهالكميات هائلة من السلع الاستهلاكية، انفتحت شهيتها لاسواق جديدة خارج حدودها وبالتالي كان عليها تشجيع ورعاية فكرة نشوء اسواق اقتصادية حرة خالية من اية معوقات. واستمرت السياسة الامريكية في هذا الطريق لتصيغ لاحقا ايديولوجيتها التي عرفت باسم ” اجماع واشنطن”.
استخدم هذا المصطلح لاول مرة عام 1990 من قبل جون وليامسون وهو باحث في معهد الاقتصاد الدولي الذي يمثل العقل المفكر للخط المحافظ للمؤسسات الامريكية الحاكمة. وهذا ” الاجماع” ليس سوى مجموعة من التشريعات الحكومية تزيل جميع القيود التي تعيق التجارة والاستثمار وانتقال رؤوس الاموال وتمنع الحكومات من التدخل في هذه العمليات التجارية، واصبحت لاحقا ايديولوجية النظام العالمي الجديد. وتستند جميع هذه التشريعات على فكرة ان مصالح رأس المال تعلو على مصالح المواطنين. ولهذا السبب اطلق المعارضون للـ ” اجماع” اسم ” مفتت الديمقراطية” كونه يلغي الحقوق الديمقراطية للشعوب ويقف بالضد من الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
ويستند مذهب الحرية الاقتصادية على مجموعة من المبادئ كانت قد وضعتها ما يعرف باسم ” اللجنة الثلاثية” التي تشكلت في اوائل السبعينات من القرن الماضي واوكل اليها مهمة تجميع 325 شخصية من النخب السياسية والاقتصادية في العالم تضم مدراء تنفيذيون لاكبر الشركات العالمية والبنوك، ورؤساء الدول الصناعية الكبرى ورؤساء الوزارات فيها،اضافة الى كبار الموظفين الحكوميين وبضعة اكاديميين ورجال اعلام ممن هم على نفس الشاكلة. وفي اول تقرير لهذه اللجنة صدر تحت عنوان ” ازمة الديمقراطية” اعلن اعضاء اللجنة ان المهمة المركزية في عصرنا ترتبط بنموذج الحكم الحالي، فالعالم حسب التقرير يعاني من ” فرط الديمقراطية” – تخيلوا لدينا تخمة من الديمقراطية ويجب معالجتها!!.
واستمر ” الثلاثيون” في عملهم ليضعوا مسودتهم لاعادة تشكيل الاقتصاد العالمي ومؤسساته الادارية: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي اللذان تأسسا في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة GATT لعام 1947 ، وبديلتها منظمة التجارة العالمية عام 1995. ولانشاء عالم بلا حدود دعا الثلاثيون مرارا الى تخفيض الرسوم الجمركية وغيرها من الرسوم على التجارة العالمية خصوصا تجارة الانسجة والملابس والاحذية والالكترونيات والحديد والسفن والكيميائيات. واقترحوا ايضا، بهدف تقليل عبأ الديون على الدول الفقيرة، ان يقوم صندوق النقد والبنك الدوليان بفرض ” برامج اصلاح بنيوية” على هذه الدول، مطالبة اياها باحداث تغيرات جذرية على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية بما ينسجم مع اولويات السوق العالمي الحر. اي “اعطاء تذكرة المرور الى نادي العولمة” حسب تعبير الخبير في شؤون التخطيط الدكتور جعفر عبد الغني.( انظر مقابلة مجلة الثقافة الجديدة العدد 281 معه).
ومن خلال دعم وتشجيع فكرة اعادة هيكلة الاقتصاد العالمي تمكن الثلاثيون من تسريع عملية العولمة الاقتصادية خصوصا في العقد الاخير من القرن الماضي. وفي طريقهم هذا داسوا باقدامهم على الامم المتحدة واهملوا وجودها، واعتبروا انفسهم قادة تتركز مهمتهم في خلق اجماع ايديولوجي لبناء النظام العالمي الجديد. وهكذا نجد اليوم نخبة عالمية تخطط اقتصاد العالم مركزيا وتضيف المزيد من القهر والظلم على البشر والطبيعة.
الشركات متعددة الجنسية
قبل عقدين من السنين اشار تقرير للامم المتحدة الى ان عدد الشركات الكبرى ( متعددة الجنسية) في العالم قد بلغ حوالي سبعة الاف شركة، اما اليوم فقد تجاوز عددها 45 الف شركة. وتتربع في قمتها حسب معهد العلوم السياسية في واشنطن مائتا شركة تتجاوز مبيعاتها السنوية اجمالي اقتصاديات 182 دولة من دول العالم الـ 191. وهي مسؤولة بشكل مباشر عن افقار اربعة اخماس البشرية. ومن بين اكبر مائة اقتصاد عالمي نجد اسماء 53 شركة بدلا من اسماء الدول القومية.
وفي تقرير نشرته مجلة غلوبل فورتشن عام 2000 اتضح ان شركة اكسون موبل – على سبيل المثال- تفوقت في ريعها الاجمالي على الريع الاجمالي لـ 22 دولة. وتأتي بعدها شركة وول مارت التي تتفوق في اقتصادها على اقتصاد 178 دولة. ونرى ايضا ان شركة جنرال موتور تتفوق على اقتصاد هونغ كونغ او الدنمارك، والمبيعات السنوية لشركة فورد لسيارات هي اكبر من العائد القومي لكل من النرويج وتايلند معا. وشركة رويال داتش/شيل، التي تعاقدت معها الحكومة العراقية مؤخرا لوضع حاسبات الكترونية لمعرفة صادراتنا النفطية، يفوق دخلها السنوي على مداخيل بولونيا وجنوب افريقيا، وشركة برتش بتروليوم فاقت في دخلها السنوي على مداخيل السعودية وفنلندا والبرتغال سوية. وتبرز ايضا اسماء اخرى مثل ميتسوبيشي وتويوتا وميتسي ولكل منها مبيعات سنوية تفوق عوائد مصر وايرلندا.
ويتضح ايضا ان مبيعات وارباح اكبر مائتا شركة قد استحوذت على حصة كبيرة من نمو الاقتصاد العالمي. حيث نمت مبيعاتها، حسب معهد العلوم السياسية، حوالي 160 مرة ونمت ارباحها بحوالي 224 مرة بين عامي 1983 و1997. في حين ان اجمالي النمو في الاقتصاد العالمي لنفس الفترة لم يتجاوز 144 مرة اي حولي النصف. كما شهدت الفترة ذاتها اضطرادا في اندماج الشركات ببعضها بهدف تركيز الثروة. ففي عام 1998 فقط وصلت قيمة صفقات الاندماج الى 1.6 ترليون دولار امريكي اي بزيادة عن عام 1997 بنسبة 78%.
وبفعل عمليات الاندماج هذه غدا الانتاج العالمي والتسويق متركزين في ايدي حفنة من الشركات الامبراطورية. فبعد اندماج اكسون موبل وبرتش بتروليوم-اموكو، على سبيل المثال، وفر لهم سيطرة على معظم سوق انتاج وتكرير النفط. واصبحت الشركة التي تكونت من اندماج اربع شركات امريكية (انترناشونال بيبر، جورجيا-باسفيك، كمبرلي-كلارك، وويرسهاوسر) تهيمن على صناعة الورق. كما ان اندماج شركة نستله و يونيليفر الاوربيتين قد وفر لهما السيطرة على حصة الاسد من صناعة الاغذية.
ومع ذلك تبقى مصيبة الشعوب الكبرى هي في قطاع الخدمات حيث بدأت المؤسسات الربحية تهمين على هذا القطاع وبالاخص في جانب الرعاية الصحية، التعليم، والمياه التي كانت سابقا من اختصاصات المؤسسات الحكومية. ففي مجال الرعاية الصحية شهدت الفترة الماضية اندماج شركة كولومبيا وشركة هيلث ترست الامريكيتين ليكونا شركة ربحية عملاقة تختص بالرعاية الصحية تتجاوز مبيعاتها السنوية مبيعات شركة ايستمان كوداك واميركان اكسبريس لبطاقات الائتمان. وفي مجال التعليم وحدت الشركات الامريكية ( اي تي اند تي، فورد، ايستمان كوداك، فيزر، جنرال الكتريك، وهاينز) جهودها للسيطرة على المدارس الثانوية الخاصة.
ونصل الى قطاع المياه الذي كان هدفا للمؤسسات الربحية، لنجد ان شركتي فيفيندي وسويس الاوربيتين هما المسيطرتان على هذا القطاع تماما مثل سيطرة شركتي فورد وجنرال موتور الامريكيتين على قطاع صناعة السيارات. ففي عام 2000 احتلت شركتا فيفيندي وسويس المرتبة 91 و118 على التوالي من ضمن اكبر 500 شركة عالمية. فكلاهما معا يمتلكان شركات او حصص في شركات تمتد مساحة عملها على اكثر من 30 دولة في القارات الخمسة. وتسيطران على عملية ايصال المياه الى اكثر من مائة مليون انسان.
وبرغم الحجم الكبير لهذه المسؤولية فان المؤسسات ومدراءها والمستثمرين فيها يحمون انفسهم تماما ويخلون مسؤوليتهم عن اية اضرار يقومون بها للمجتمع والناس والبيئة. فقانون المؤسسات الذي اوجدته الشركات وطورته على مدى قرن من الزمان يوفر لها حماية كاملة ضد اي تجريم لها. انه كالدرع الذي يلف جسد المؤسسات ليوفر لها حصانة تمكنها وبحرية كاملة من القيام بكل ما ينتج المزيد من الارباح حتى لو كان ذلك على حساب الافراد والمجتمعات والبيئة.
تبضيع الطبيعة
لم يدرك البشر الا مؤخرا ان القوة الدافعة التي تقف وراء نشوء الشركات العملاقة وتوسع الاقتصاد العالمي، ونعني بذلك ” الزامية النمو” تقف بالضد تماما من الطبيعة. يقول الباحثان هيرمان دالي وجون كوب ، في كتابهما الموسوم ” من اجل الصالح العام” ان الاقتصاد التقليدي المستند الى مبدأ “الزامية النمو” كان متجذرا في تعريف ضيق “لرأسمال” كموجودات من صنع البشر كالبضائع والخدمات، المكائن والمنشآت. حيث غفل التعريف، حسب تعبير دالي وكوب، ” الراسمال الطبيعي”، موارد الارض التي تجعل النشاط الاقتصادي ممكنا. واذا ما نظرنا الى السرعة الفائقة التي يجري فيها تخريب عالم الطبيعة عبر الزراعة الصناعية، ازالة الغابات، التوسع في البناء على حساب الاراضي الزراعية وغيرها، في ظل طاقة تحملية محدودة للطبيعة فان التصادم مع الطبيعة سيحصل في الاجيال القادمة لا محالة.
وتأخذ الناشطة البيئية وعالمة الفيزياء الهندية فاندانا شيفا المسألة الى مدى ابعد حيث تصف “الزامية النمو” بانه “شكل من اشكال السرقة” من الطبيعة والبشر. ومثالها على هذه السرقة بسيط وواضح، فالكثير من الشركات التي تعمل في صناعة الاخشاب تقوم بتحويل الغابات الى غابات احادية حيث تزيل جميع النباتات وتبقي فقط على نوع واحد لتجني منها ارباحا هائلة وهي بذلك تقوم بسرقة وحرمان الطبيعة والغابات من تنوعها الذي يساعدها في الحفاظ على التربة والمياه وتقوم ايضا بسرقة وحرمان البشر الذين يعتمدون على هذه الغابات كمصدر لغذاءهم ووقودهم ودوائهم، وتعرضهم لاخطار الجفاف والمجاعة.
وسط هذه الانتقادات الحادة تبرز موضوعة تبضيع الطبيعة والحياة. فالى زمن ليس بالبعيد جدا كانت جوانب معينة من الحياة والطبيعة لا يمكن اعتبارها بضائع قابلة للبيع والشراء. ثمة اشياء ليست للبيع – الماء والهواء، الصحة والتعليم، الثقافة والتراث. فهذه العناصر الجوهرية للحياة والطبيعة كانت جزءا من الارث المشترك او حقوقا لكل البشر، وبكلمة اخرى انها من “المشاعيات”. ففي الهند مثلا كان من التقليدي ان لا يدخل الفضاء والهواء والطاقة والماء ضمن ” حدود علاقات الملكية” ولا يجوز اعتبارها ملكية خاصة فهي ملك عام ومشاع. ولم يكونوا خاضعين لقوى السوق وقانون العرض والطلب. وكان ينظر اليها باعتبارها موارد ناضبة وبالتالي فان من الواجب حمايتها من قبل الحكومات عبر القطاع العام.
اما تبضيع المياه، بصورة خاصة، فقد اعتبر هجوما صريحا وسافرا على المشاعيات. حيث اشار التقرير الذي اصدرته مؤسسة الابحاث العلمية والتكنولوجية والبيئية ( منظمة غير حكومية مقرها في نيودلهي وترأسها الدكتورة فاندانا شيفا) الى ان المياه في الهند هي ” الحياة نفسها، فكل تقاليد الهند وتراثها يعتمد اساسا عليها” فالمياه هي ” شريان المجتمع” وبالتالي فهي ” ارث مشاع ومقدس يتوجب المحافظة عليه وادامته”. وفي الاسلام نرى ان مصدر كلمة الشريعة هو ” الطريق الى الماء” والقران الكريم حافل بالايات التي تبين اهمية الماء وحسبنا ان نتذكر ” وجعلنا من الماء كل شيء حي”.
فهل يمكن بعدكل هذا ان يتحول هذا السائل المقدس الى بضاعة تشترى وتباع كما هو حالنا اليوم في ظل الاقتصاد المعولم. ففي الهند مثلا وبفعل ضغوط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لاستحصال ديونها من الهند اضطرت الحكومة الهندية الى بيع حقوق استغلال المياه الى الشركات العالمية وبضمنها طبعا شركتي سويس وفيفاندي، والى الشركات الصناعية الكبرى التي تستهلك كميات هائلة من المياه في مصانعها، ونتج عن هذا استغلال غير طبيعي لموارد المياه وتحول ” الارث المشاع” الى ” ملكية خاصة”.
ولم يقتصر الامر على هذا اذ امتد التبضيع ليشمل مناحي جديدة من الحياة. فمع توسع سيطرة الشركات الكبرى على اسواق العالم ظهرت صناعات جديدة لتتاجر بما تبقى من العناصر الاساسية في حياتنا. ونذكر على سبيل المثال الصناعات البايوتكنولوجية التي قدمت نفسها على انها ” علم الحياة” فبدأت شركات مثل مونسانتو و نوفاريتيس بتحويل البذور والجينات الى بضاعة يمكن بيعها وشراءها على انها اغذية مطورة جينيا ومنتوجات صحية. وهو نفس ما قامت به شركات المياه التي قدمت بضاعة المياه الى كل قادر على شرائها.
بهذا يمكن القول بان كل شيء الان هو معروض للبيع للحصول على المزيد من الارباح ولا بأس من اقتباس مقتطف قصير من حديث للمدير التنفيذي لشركة سويس الذي يجلي الصورة تماما ” المياه هي منتوج هام، انها منتوج كان يجب ان يكون مجانيا الا ان عملنا هو ان نبيعه لنكسب الارباح لانه لا يمكن لاحد الاستغناء عنه”.
مخططات الخصخصة
من السمات المميزة لاجماع واشنطن هي ضرورة الاستحواذ على المؤسسات العامة المعنية بموضوعة المياه لكي تتم عملية تبضيع المياه. فقد جرت العادة ان تكون مؤسسات تنقية المياه وايصالها الى المستهلك من ملكية الحكومات المرطزية في بعض البلدان او من ملكية الحكومات المحلية او المجالس البلدية في بلدان اخرى، لكنها اليوم تخضع لملكية شركات كبرى غالبا ما يكون اصحابها من الاجانب بهدف صريح وهو كسب الارباح. ومن خلال عملية خصخصة المياه هذه تحولت المياه الى سلعة جرى تسعيرها وعرضها في الاسواق ليشتريها من هو قادر على دفع ثمنها.
ان عملية خصخصة المياه تجري عادة في ثلاثة اشكال. الاول تقوم فيه الحكومات بالبيع الكامل لمؤسسات الدولة المعنية الى الشركات الخاصة مثلما حصل في بريطانيا. والثاني يتبع نموذجا جرى تطويره في فرنسا تحصل الشركات الخاصة بموجبه على حق الايجار لمؤسسات الدولة المعنية بايصال مياه الشرب الى المواطنين وتتحمل فيه الشركات كافة تكاليف التشغيل والصيانة مقابل حصولها على كافة الاموال التي يدفعها المواطنون والاحتفاط بالارباح لنفسها. اما الشكل الثالث فهو نموذج اكثر تقييدا، حيث تتعاقد بموجبه الشركات الخاصة مع الحكومة لادارة عملية خدمة المياه مقابل حصولها على اجور ولا يمكنها الاحتفاظ بالارباح لنفسها. وبرغم ان جميع الاشكال الثلاثة تحمل في طياتها بذور الخصخصة الا ان الشكل الثني هو الاكثر انتشارا وهو ما يعرف اليوم بالقطاع المشترك.
ان التحول من القطاع العام الى الخاص يقدم، طبعا، مجموعة من القضايا التجارية التي تحكم عملية ايصال الخدمات المائية. ونقصد بذلك ان الشركات الخاصة والمستثمرين فيها لا هم لهم سوى زيادة الارباح اما موضوعة ديمومة توفر المياه وحقوق المواطنين في الحصول على مياه نقية فانها غير مهمة لهم. بكلمة اخرة نقول انه طالما تتحول المياه الى بضاعة فان السوق وقانون العرض والطلب هو المتحكم الاول فيها.
ولضمان تدفق الارباح وزيادتها تلجأ الشركات عادة الى زيادة اسعار الخدمات المائية. ففي فرنسا مثلا ارتفعت الاجور التي يقدمها المواطن بنسبة 150 في المائة. وفي بريطانيا ارتفعت بنسبة 106 في المائة بين عامي 1989 و1995 وارتفعت في الوقت ذاته ارباح شركات المياه بنسبة 692 ي المائة. ونتيجة لذلك ارتفع عدد من تم قطع المياه عنهم من المواطنين في بريطانيا بنسبة 50 في المائة. اما في الهند فان المواطن يدفع ربع دخله الشهري لقائمة الماء.
ومع كل ذلك لا تزال الحكومات التي تعاني من الضائقة المالية تلجأ الى خصخصة قطاع المياه كحل لمشاكلها. ولا بد من الاشارة الى انه بالرغم من ان العراق يعتبر من البلدان الغنية بالنفط فانه ليس من الغريب ان تصدح الاصوات في القريب العاجل بحجة ما نواجهه من مشاكل امنية وغيرها مطالبة بالتخلص من اعباء قطاع المياه عبر خصخصته باحد الاشكال الثلاثة التي ذكرناها خصوصا اون معظم شبكات المياه تعاني من التلف هذا ان كانت موجودة اصلا في بعض المناطق وبدلا من ان تتحمل الحكومات مسؤليتها في اعادة اعمار القديم ومد شبكات جديدة في المناطق التي تفتقر اليها فانها ستتفق مع الخصخصة. ولو ان الامر يتوقف عند هذا الحد لامكننا الاتفاق مع هذا الحل الا ان المسألة تتعدى ذلك. اذ يتوجب على الحكومات ان تضمن وتكفل التمويل والارباح للشركات ويتوجب عليها ان تلغي الضرائب على الشركات الخاصة وارباحها وغيرها من امور التي تبقي العبأ المالي على الحكومات لا بل تجعلها في ضائقة مالية اكبر من السابق. ومثال على ذلك ما حصل في بوليفيا وجمهورية التشيك، حيث تحمل المواطن العادي كلفة الاصلاحات ومد الشبكات الجديدة للمياه اضافة الى اجور المياه العادية التي يدفعها بشكل شهري الى الشركات، اي انه هو من يدفع ثمن المنشأت وليس الشركات في حين ان الارباح تكون من حصة الاخيرة فقط!!
وللموضوع بقية….. #
#. عن الحوار المتمدن…