الفكر السياسي

الفاشية وليدة الرأسمالية

الفاشية وليدة الرأسمالية

محمد علي

2015 / 6 / 26

في ظل علم اليوم، لا يمكن أن يكون الانتصار على الفاشية مجرّد ذكرى لحدث وقع في التاريخ منذ 70 عاماً، بل إن الأهمية الكبرى لهذا الحدث ترتبط بما تمثله الفاشية من أخطار وتهديد للبشرية قاطبة، كما يرتبط بالتضحيات الكبرى التي دفعتها الشعوب مثل شعوب الاتحاد السوفياتي، دفاعاً عن بلدانها وعن البشرية برمتها وتوخيا لسحق الهتلرية في عقر دارها. صحيح أن النازية كانت تسعى في عدوانها إلى القضاء عل الأنظمة الرأسمالية في ألغرب، وغلى توسيع مستعمراتها التي أحست بأنها كانت مجحفة، ولكن الهدف الأساسي الذي كانت ترمي إليه أيضا يتمثل في القضاء على الاتحاد السوفياتي، البلد الاشتراكي الأول في العالم.

لقد شكلت الفاشية بمنطلقاتها العنصرية وممارساتها الوحشية أكبر تهديد للإنسانية، مستخدمة كل ما لديها من أشكال وأساليب وحشية وقوة تدميرية، للسيطرة الكلية على الشعوب الأخرى (أعراق وأجناس أدنى)، حيث ألحقت بالبشرية أكبر الخسائر في تاريخها، ولذلك فإن هذا الانتصار هو عيد لكل شعوب العالم، وإن كان الجيش الأحمر وشعوب الاتحاد السوفياتي السابق، قد لعبت الدور الأساس والأهم في البطولة والتضحية التي بلغت 26 مليون إنسان ، أي نصف العدد العام لضحايا هذه الحرب الجهنمية.

ومع أن احتفالات النصر تحمل معها التقدير والتكريم للضحايا والبطولات التي دفعت، ولا سيما في روسيا والاتحاد السوفياتي، وشعوب أوروبية أخرى، إلا أنها تحمل أيضاً معاني أخرى تتعلق بلفت نظر العالم لخطر بروز ظاهرات فاشية جديدة في عنصريتها وفكرها، وفي أساليب ممارستها وعدوانيتها ضد العمال والشعوب الأخرى واستثمار ثرواتها. فالتحول الذي أحدثه سحق الهتلرية، قد أعفى الشعوب الأخرى من التضحيات الكبرى، وأتاح لها الدخول في مرحلة جديدة تسمح لها ظروفها بتحقيق طموحاتها في التحرر والتقدم والحصول على استقلال وسيادة أوطانها وتحقيق أهداف كادحيها، وإرساء علاقات دولية جديدة تقوم على أساس احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار طريق تطورها، وتبادل مصالحها المشتركة.

لكن هزيمة الفاشية لا تعني بالضرورة وفاتها النهائية، حيث أنها ليست شخصاً أو زعيماً، تنتهي بانتهائه أو انتحاره، كما فعل هتلر حينما تأكد من هزيمته، وليست من صنع زعيم فرد …يخلف زعيماً آخر يعتمد نهجاً يختلف نسبيا ويعبر عن هذه الجريمة، بل إن الفاشية هي وليدة النظام الرأسمالي الذي وصل في أزمته، وفي ظل تطور متفاوت بين دوله في قدراتها الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعسكرية، إلى اعتماد العدوان وشنّ الحروب حلا لأزمته، حتى مع الدول ذات الطبيعة الرأسمالية نفسها والتي تستهدف، طبقا لتناقض مصالحه مع مصالحها كدول راسمالية، إعادة اقتسام العالم والسيطرة على ثروات الشعوب وأسواقها طبقا لميزان القوى الفعلي.

لقد جاءت الفاشية والنازية وتنامت على إثر الأزمة الرأسمالية التي انطلقت عام 1929، وفي ظل التطور المتفاوت للدول الرأسمالية في ذلك الوقت؟. ونتج عن هذا التفاوت بينها في التطور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري حربان عالميتان هما الأكثر شراسة في تاريخ البشرية، الحرب الأولى التي انتهت 1919، والثانية التي انقضت عام 1945 والقاسم المشترك بين الحربين هو أنهما انتهتا بهزيمة الفاشية.

لقد كانت الحرب مظهراً يفصح عن مطامع الاحتكارات الرأسمالية وأدواتها وقدراتها الجديدة، في خدمة مصالحها الطبقية الرامية إلى استغلال شعوبها والشعوب الأخرى، ونهب ثرواتها بقوة العدوان والإجرام والدمار. ومن الواضح أن هذه العدوانية تزداد قوة وترابطاً بازدياد تصاعد أزمات النظام الرأسمالي الاحتكاري، قائد هذه الحروب، وضرورة إنقاذه. ولولا امتلاك قدرات تدميرية هائلة ومتساوية تقريبا لدى عدة دول متنافسة أو متناقضة المصالح، لوقعت الحرب العالمية الثالثة الأشد فتكاً وتدميراً للبشرية بسب ما تملكه من قوة تدميرية أشد فظاظة، لذلك نرى اليوم أن التنافس والصراع على المصالح والسيطرة على الثروات والمناطق الأهم في العالم، ومنهاً المنطقة العربية والشرق أوسطية، يتخذ شكلاً قديما وجديداً في آن واحد. ولعل المحللين المعادين للإمبريالية كانوا على حق حينما نعتوه بأنه عبارة عن سايكس بيكو جديد. ومن مظاهر الجدة فيه هو أنه عدوان إمبريالي بالوكالة، أي أن الإمبريالية تعتمد قوى وأدوات محلية، ترمي إلى تحقيق نفس أهداف الإمبريالية، بالنهب المستمر للثروات العربية وأسواقها.

وبذلك تتحاشى الإمبريالية الحروب المباشرة كما كانت في الماضي، وخاصة بعد فشلها في أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وسوريا، بسبب الكلفة البشرية والمالية العالية التي لا تستطيع تحملها الاحتكارات الرأسمالية، وتسعى أيضاً إلى إظهار طابعها العدواني ومظاهره الفاشية، وفي نفس الوقت تتجنب القوى والأدوات التي تستخدمها أو تستفيد من دورها.
فمع انفجار الأزمة الرأسمالية الرئيسية في عام 1908، والانعكاسات التي تركتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمالية، يشهد المرء على الصعيد الاجتماعي تنامي ظاهرة العنصرية في البلدان الرأسمالية، في مختلف الجوانب ولا سيما إزاء الهجرات الوافدة ذات اللون الأسمر والأسود، التي ترد إلى العمل في مختلف المجالات، بسبب عدم توفر العمل في بلدانها الأصلية.

ولا ينفصل عن الأساليب الفاشية والإجرام الوحشي، ذلك الدور الذي تقوم به الإمبريالية منذ سنوات عديدة في العراق، وأفغانستان ومؤخرا في ليبيا وسوريا والذي يرتبط بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش وأخواتها، تدريباً وتمويلاً وتسليحاً، بهدف جعل المنطقة العربية مسرحاً لتيارات وتنظيمات متقاتلة تمارس أبشع أنواع الإجرام والإرهاب باسم الدين والمذهب أو الإثنية والقبلية وباسم المصالح الطبقية المتسترة، هادفة من وراء ذلك إلى تحويل مسار نضالات الشعوب التحررية، إلى حروب تتخذ طابعاً محلياً وإقليميا متخلفاً، وتستخدم في أساليبها وإلغائها للآخر، شكل الفاشية وممارساتها، ويستهدف مخططها تفتيت بلدان المنطقة وإلحاق أوسع دمار بها.

وترفق القوى الإمبريالية هذه الحروب بتخويف دول المنطقة من بعضها البعض لتصبح سوقاً مفتوحة للسلاح وإنفاق مئات مليارات الدولارات لشرائه، لتخفيف أزمة الرأسمالية وإنعاش المجمعات العسكرية الصناعية في البلدان الرأسمالية بصناعة الأسلحة الفتاكة؟. وفي نفس الوقت تستنزف هذه الحروب طاقات البلدان العربية، هادفة من ذلك إلى إحكام السيطرة على المنطقة والاستئثار بثرواتها بما يعالج أزمة الرأسمالية على حساب العمال والجماهير الكادحة؟.
وبالإضافة إلى ذلك يحتاج هذا الدمار الهائل للمدن والبنى التحتية، عندما تنتهي هذه الحروب، إلى إعادة إعمار، تكون قوى رأس المال المسيطر الذي خطط للتدمير والتسليح، هو نفسه الذي يستثمر في ما يسمى إعادة الإعمار؟
وفي ضوء ذلك يمكننا القول بأن الفاشية وإن هُزمت عام 1945، إلا أن أسبابها الكامنة في النظام الرأسمالي الذي يخلقها، ما تزال موجودة. وإن تسليط الضوء عليها وإبراز أخطارها، لا ينبغي أن يقتصر على الماضي بل يتعلق بالحاضر والمستقبل، وهكذا يمكن الاستنتاج بأنه لا يمكن القضاء النهائي على الفاشية إلا بالقضاء على الرأسمالية التي تخلقها.. #

#.  عن الحوار المتمدن…

زر الذهاب إلى الأعلى