الاقتصادية

الفساد في إطارعلم الاقتصاد السلوكي:التصدي والمعالجات

الفساد في إطارعلم الاقتصاد السلوكي:التصدي والمعالجات

د.مظهر محمد صالح: الفساد في إطارعلم الاقتصاد السلوكي:التصدي والمعالجات

بين مظاهر الفساد الاصغر الذي يحدث على نطاق ضيق وضمن اُطر اجتماعية قائمة ونواميس حاكمة يبتدئها موظف الخدمة العامة في استخدام العلاقات الشخصية للحصول على منافع وافضليات وينتهي بقبول الهدايا او تقاضي الرشوة سراً…..وبين مظاهر الفساد الاكبر الذي يحصل في اعلى الهرم الوظيفي الحكومي،وهو النوع الذي يستشري في النظم الشمولية او في الانظمة التي لاتمتلك سياسات كافية في مراقبة الفساد الاكبر والتصدي له والتي يجسدها في الغالب عدم وضوح الرؤية حول فصل السلطات.وبين هذا وذاك اجد في ظاهرة الفساد المسمى : بالفساد النظمي systemic corruption  هو الاقرب في تفسير مظاهر الفساد المتفشية او الوبائية endemic في العراق والناجمة بالاساس عن ضعف التنظيم الاداري وتعثر العمليات الادارية ضمن الهرم الوظيفي الحكومي الواحد.اذ يولد ذلك الضعف او الوهن في التركيب الاداري حالة من التناقض او الترابط العكسي في العلاقات الوظيفية.فكلما يزداد التدهور الاداري في النوع تزداد ممارسة الموظفين الحكوميين للفساد ، كالرشوة والابتزاز واختلاس الاموال العامة وغيرها.ويتزامن الوهن الاداري مع ظاهرة شيوع ثقافة الافلات من العقوبة ،فضلاً عن ظهور قوى وظيفية تتصرف على وفق اهوائها وبحرية عالية،وظهور قوى محتكرة للنفوذ الوظيفي ويرافق ذلك نقصاً في الشفافية والافصاح مع تفاوت صارخ في الاجور والمرتبات والامتيازات والحوافز.

وعلى الرغم من ذلك،تتفق المدارس الفكرية والاتجاهات الاخلاقية كافة  بأن الفساد هو إستخدام الرشوة عموماً للتأثير في تصرفات الموظفين الحكوميين.وبشكل اعم، حصول مكاسب شخصية من خلال الوظيفة العامة عبر الرشوة والابتزاز واختلاس المال العام.ولما كان الفساد يمثل السلوك غير المشرف لمثل اولئك الذين يمسكون بالسلطة،كالمديرين ومختلف الموظفين الحكوميين عبر استخدامهم غير الشرعي للصلاحيات العامة وتسخيرها لمنفعتهم الشخصية ،فانه من الناحية الفلسفية والدينية والاخلاقية يعبر عن عدم نظافة الروح والنفس والاخلاق والانحراف عن المثل والمباديْ الانسانية السامية.أذ عدٌ السياسي والخطيب الروماني البارع (شيشيرون) 106-43ق.م هو اول من عرف الفساد بالرشوة والتخلي عن العادات الطيبة بعد الفيلسوف اليوناني( افلاطون)384-322ق.م.

2-نشأة الفساد النظمي وتجذره.

لمتفاجئنىٍ المعلومات التي ساقها ذلك التقرير الذي صدر عن مؤسسة صندوق النقد الدولي في العام 1999ميلادية  وكان بعنوان:الفساد حول العالم.اذاشارفي واحدة من فصوله ان طابوراً طويلاً من المتقدمين على وظيفة في دائرة الضرائب في دولة من دول غرب افريقيا،وان كل المتقدمين يرغب في التعيين بدون راتب!!! وقتها كان موظفو العراق يتقاضون راتباً شهرياً لايكفي سوى معيشة يوم واحد او لايسد حتى نفقات النقل الشهرية بين المنزل ومكان العمل!! وهكذا تساوت نتيجة العمل المجاني بين الموظف في العراق وطالب الوظيفة في ذلك الطابور في غرب افريقيا خلال العقد التسعيني الماضي.وقد صار تدهور مستوى المعيشة هو الصفة الغالبة بعد ان بلغ التضخم معدلاً سنوياً تجاوز حاجز ال 50% ،ملتهماً مدخرات الافراد من ذوي الدخل المحدود وعلى رأسها فئة  الموظفين الحكوميين (الممثلين للطبقة الوسطى)لينظموا الى صفوف الطبقة الفقيرة ويشكلان معاً قوى محرومة من مصادر العيش والحياة ،وهي تمثل في الوقت نفسه نسبة قدرها 85%من الامة العراقية المعدمة، التي بات صافي مركز ثروتها (سالباً).

وفي خضم الفساد النظمي الذي امسى يدار مجاناً من قوى وظيفية شبه جائعة تمارس الحرمان على نطاق واسع،  اباح النظام السياسي السابق في تسعينيات القرن الماضي أمران خطيران في السلوك والتصرف الوظيفي وهما:

-حرية العمل بالاعمال الشاقة خارج ساعات الدوام الرسمي (بالنص :التحول الى عمال طين)كانت دعوة لجميع العاملين في السلك الوظيفي، ابتداءً من القضاة وانتهاءً بالمعلمين.

-السماح  للموظفين العموميين بقبول الهدايا من الزبائن لكونها تجمل العلاقات الانسانية في الظرف الصعب!!.

ان قوة الانحدار والوهن في الجهاز الوظيفي تجسدت في ظاهرة تحول او تبدل سلوك الطبقة الوظيفية يوم ادركت ان الوظيفة الحكومية ومسؤلياتها كخدمة عامة وبدون دخل او اجر مجزي والاستمرارفي هذا الحال الى  النهاية،لابد من ان يغير العلاقات والمباديْ الوظيفية. فممارسة الوظيفة العامة كخدمة مشرفة للجمهور و بدون مكافئة مجزية تساعد على العيش واستمرارالحياة،قد حولت حق استمرار الاشتغال في المكان الوظيفي بدون  مقابل(من غير وجه حق)  الى حيازة وظيفية مدرة للدخل من غير وجه حق ايضاً!! إذ صار الموظف الحكومي ينظر الى نفسة عبر الهرم الوظيفي بمثابة حائز على امتياز يبيح له تسيير الاعمال لمصلحته اولاً وعلى وفق شروط الحيازة.وهكذاأشاع الفساد النظمي صراعات داخل الطبقة الوظيفية المحرومة نفسها،وهي تمارس الرشوة والابتزاز على بعضها البعض ،فضلاً عن اتساع نطاق الاختلاسات من المال العام.وان مصدرتسويغها هو قوة الحيازة وقدرتها على توليد الدخل من منابعه الوظيفية غير الشرعية.وطالما لايكافيْ العمل المبذول الاجر الممنوح،فقد منحت الوظيفة العامة أعرافاً مرنة خلاف العمل والانضباط المؤسسي المعهود عند التعاطي مع المحيط الخارجي ،او مايسمى بالطرف الثالث وهم الزبائن والتوسع في تفسير حدود التعامل مع الاطراف المذكورة بمطاطية تُسوغ قبول الرشوة والابتزاز والاعتداء على المال العام.فلكون الموظف يعطي من جهده الذي لايكافأه اجراً يعتد به (اي ان العمل لايكافي الاجر)فان الامتياز الوحيد المتاح لموظف الخدمة العامة هو التمتع بالحيازة الوظيفية من حيث الزمان والمكان والصلاحية. فالوظيفة العامة اصبحت ليست مهمة مشرفة وخدمة عامة،وانما هي حيازة دون مقابل مجزي ،تتطلب ان تدر دخلاً مجزياً يتناسب مع الزمان والمكان والصلاحية الوظيفية المنوحة له سواء في قبول الهدايا او تلقي الرشوة وغيرها. وعدت الحيازة الوظيفية والاحتفاظ (بالزي الوظيفي) البديل السهل  لقاء الخيار الذي منحة النظام السياسي السابق لطبقة الموظفين ،وهو العمل في المهن الشاقة(البدلة الزرقاء) خارج وقت الوظيفة(تحديداً اعمال الطين) لقاء الاحتفاظ بمراكزهم الوظيفية باْجور ورواتب رمزية لا تسد رمق العيش.

 تغير النظام السياسي في العراق والفساد النظمي بات ارثاً اصاب في تفشيه الجهاز الوظيفي في الدولة الكبيرة التي تعاظمت فيها اعداد الموظفين الحكوميين المعينين من 850الف موظف في العام 2003 الى قرابة 4ملايين موظف في مطلع العام 2014 ويقال ان اشباح الموظفين ومن يتقاسم الراتب الشهري معهم من الموظفين الحقيقين الفاسدين،اوشراء الوظيفة الحكومية شيْ لايستهان به هو الاخر في تجذر ظاهرة الفساد النظمي!.

3-علم الاقتصاد السلوكي ومعالجة تجذر الفساد

ا-مدخل تعريفي

يعدعلمالاقتصاد السلوكي منهج من مناهج التحليل الاقتصادي الذي يدمج  التبصر السايكولوجي  بسلوكيات الافراد ،بغية تفسير القرارات الاقتصادية.وقد اندفع هذا العلم من ملاحظته للتصرفات غير الطبيعية او الشاذة للافراد والتي لايمكن تفسيرها بنماذج الخيار العقلاني المعيارية.وأخذ يوفر التفسيرات اللازمة حول التصرفات غير الطبيعية او الشاذة للافراد عن طريق تقديم المعرفة البشرية والاجتماعية والتحيز العاطفي في عملية صنع القرار.فعلى الرغم من الفروض المعيارية التي تبنتها المدرسةالنيوكلاسيكيةفي الاقتصاد،والقائلة بأن الافراد يمتلكون طاقة غير محدودة من العقلانية وقوة الارادة والانانية لمصلحتهم،والتي اذا ما اجتمعت كلها تؤدي الى مجتمع شديد الرخاء معتمدة في ذلك على ارث الاقتصاد التقليدي الذي يرى بالجنس البشري قوة مطلقة العقلانية ذلك بتأثرها  (بالدارونية) التي هي الاخرى ترى في المصلحة الذاتية حالة وظيفتها البحث عن افضل الطرق المتميزة لانفسنا.ولكن يبقى التساؤل : من هو المسؤول عن الاخطاء التي ارتكبت منذُ مئات السنين والتي قامت على فرضية ان البشر هم عقلانيون في تصرفاتهم؟.

بناء على ذلك، ظهر علم الاقتصاد السلوكي في العقود الاربعة الماضية كمنهج للتحليل الاقتصادي يفسر: لماذا يتصرف الافراد بصورة غير عقلانية؟

يعد هذا العلم من بين العلوم الاكثر حداثة في مجال الدراسات الاكاديمية التي تجمععلم الاقتصاد بعلم النفسوالتي اخذت تؤدي دورها الاساس في صنع القرارات الاقتصادية.اذ وجد في الحياة الواقعية بان الافراد هم ميالون الى العاطفة والاثارة والحب والغيرة والاسى التي جميعها تجعلهم يتصرفون بشكل غير عقلاني!

فالخيارات الاقتصاديةفي علم الاقتصاد السلوكي لايمكن تفسيرها من خلال تطبيق نظرية الخيارات المعيارية القائمة على بديهيات التفضيلaxioms of preference.

فالعالمان Amos Tversky and Daniel Kahneman قد وجدا ان الافراد عندما يواجهون حالة من عدم اليقين او عدم التأكد فأنهم لايتصرفونعقلانياًولا حتى عشوائياً او بصورة متخبطة،بل انهم يتصرفون بطرق مؤكدة ومسندة وقابلة للتنبؤ.ومن الناحية النموذجية،فأنهم يستخدمون طرقهم العقلية المختزلة جداً او يلجؤون الى حساباتهم التقريبيةrules of thumb او الاحكام المبنية على التجربة العملية لا على المعرفة العلمية والتي جميعها اطلق عليها الكاتبان في اعلاه –بالافعال الموجهةheuristics.فعندما تلسعك نيران  المدفأة  ستأخذ حذرك في المستقبل!!!فالانسان مسير بعواطفه وسلوكياته في الغالب وليس بالضرورة مخير بعقلانيته او خياراته العقلانية المبنية على مصلحته الذاتية كما تخبرنا التيارات المدرسية الرئيسة في الاقتصاد!!

ب- نظرية الوخز الهاديnudgetheory: السبيل في معالجة الفسادالنظمي.

كما لاحظنا آنفاًبان الاقتصاديين السلوكيينقد وجدوا بأن كافة الانحرافات النفسية والعصبية تجعل الافراد يصنعون خياراتهم على نحو يبدو مخالف او مناقض لمصالحهم المفضلة.وعليه فأن فكرة الوخز الهاديnudging تقوم على الابحاث العلمية التي تظهر امكانية تحويل الافراد الى اتخاذ افضل القرارات. وقد ظهرت فكرة الوخز الهادي في كتاب صدر عام2008 بأسم:Freakonomics والذي تصدى فيه مؤلفاه: بأظهار امكانية علم الاقتصاد السلوكي ودوره في تحسين فاعلية الاداء الحكومي،حيث انتهى المؤلفان نفسهما بالعمل في وحدتين استحدثت في مكتب كل من الرئيس الامريكي اوباما والاخر في مكتب رئيس وزراء بريطانيا كاميرون،باسم وحدة الوخز الهاديnudging unit.فعلى سبيل المثال يذكر الكاتبان من تجاربهما في الوخز الهادي وكيفية حث الناس على دفع الضريبة السنوية المتأخرة عن سياراتهم:حيث ارسلت عبارة في رسالة تبليغ المكلف بالضريبة جاء نصها:ادفع والا ستفقد سيارتك،ولوحظ ان الدفع قد ازداد مرتان.وعند وضع صورة فوتوغرافية لسيارة الشخص المكلف بالضريبة السنوية الى جانب العبارة آنفاً ازداد الدفع الى ثلاث مرات!! انه الوخز الهاديnudging.

ان تجذر ظاهرة الفساد النظمي بالعراق امست بحاجة الى قيام الدولة بأستخدام دورها الابوي في حماية المجتمع من الفساد النظمي مثلما تحمي المجتمع من الجريمة والحرب،وهي الدولة الابوية الراعية nanny state-.وعليه لم يعد تطبيق احكام قانون العقوبات لوحده كافياً،فلابد من استخدام الوخز الهادي ضمن ستراتيجية وطنية تتصدى لتجذر الفساد النظمي.لذا نقترح  الاتي:

اولا، يقوم المفتشون العموميون  بأجراء مسح اساسي للوظائف الاكثر تعاطياً للرشوة او الاختلاس وشاغليها في مختلف الوزارات والدوائر، ومن ثم اعادة تنصيب شريحة وظيفية منتقاة تحل محل الفئة الوظيفية المؤشر عليها ممارسة ظاهرة الحيازة الوظيفية والميل نحو تعاطي الرشوة. على ان يجري تمييزالشريحة المنتقاة ممن هم مشهود لهم  بالنظافة او النزاهة الحقةو الكفاءة والاخلاص ، ويتم شمولهم بحوافز مادية ومعنوية ومنها اعلان اسماؤهم في لوحة الشرف ، قبل ان يتولوا اشغال الوظائف الاكثر حساسية.

ثانياً،تحويل مكاتب المفتشين العموميين بالتعاون مع الوزارة الى وحدات  للوخز الهادي وضمن سياسة وطنية موحدة بما يحقق القضاء على الفساد النظمي تدريجياً ضمن مدة زمنية محددة.. *

*. عن شبكة الاقتصاديين العراقيين

زر الذهاب إلى الأعلى