القانونيةالمقالات والبحوث

القانون قد يخلد من شرعه

القانون قد يخلد مَّنْ شَرَّعهُ
سالم روضان الموسوي
(القانون المدني الفرنسي انموذجاً)
عندما يبحث المختص في القانون عن تاريخ القوانين المؤثرة والمهمة في الحياة العامة، سوف يقع ناظره على القانون المدني الفرنسي الصادر عام 1804، الذي مضى على صدوره اكثر من مائتي عام، وما زال مؤثراً في الحياة العامة الفرنسية، وكذلك في اكثر من ثمانين دولة ممن اعتمدته مصدراً مهماً من مصادر قوانينها المدنية، ويسمى هذا القانون “بقانون نابليون”، وتكاد هذه التسمية هي الأشهر، لانه صدر في عهد نابليون بونابرت، ويشير احد الكتاب ان نابليون لم يكن حقوقياً وإنما رجل عسكري، لكنه كان يحضر اكثر جلسات اللجنة المكلفة بكتابة ذلك القانون، وكان يشارك في المناقشات ويتدخل أحيانا في إقرار بعض المواد، وهذه اللجنة شكلها نابليون عام 1800 وأنهت أعمالها عام 1804 وأعضائها من اهل الاختصاص حصراً وكانت برئاسة رئيس محكمة التمييز وعضوية مفوض الحكومة لدى محكمة التمييز واحد قضاتها ومفوض الحكومة لدى محكمة الغنائم، وتولت اللجنة دراسة مشاريع ومحاولات تقنين القانون المدني السابقة، ومن ثم عرض على مجلس شورى الدولة ومجلس Tibunat وهو مجلس مختص بدراسة مشاريع القوانين، وآخرهم المجلس التشريعي، ومن ثم صدر بعنوان (قانون نابليون) ومازال العنوان لغاية الآن لم يلغى رسمياً، نقلاً عن الدكتور وليد غمرة رئيس هيئة التفتيش القضائي اللبناني في بحثه الموسوم (التقنين المدني الفرنسي : تاريخه واثره) المنشور في كتاب (مائتي عام على إصدار القانون المدني الفرنسي ـ منشورات الحلبي الحقوقية ـ طبعة عام 2005ـ ص10)، لذلك نجد ان ديمومة القانون قد أصبحت محل نظر واعتبار لدى الجميع وعقدت ندوات ومؤتمرات بهذا الصدد، حتى ان بعض الكتاب اعتبر بان القانون المدني الفرنسي كان متأثر بالفقه الإسلامي ومنهم الدكتور فوزي ادهم (قاضي لبناني) بان الفقه المالكي قد اثر في القانون المدني الفرنسي والقانون الدستوري لأن الدكتور فوزي وجد في بعض المصادر التاريخية ما يؤيد ذلك على وفق ما يدعي في بحثه الموسوم (اثر الفقه المالكي في القانون المدني الفرنسي “قانون نابليون” ـ المصدر السابق ـ ص49)، وهذا يوضح بان القانون المدني الفرنسي من حيث الجودة في الصياغة والمضمون التي جعلت الآخرون يعتقدون بانه من سنخ أفكارهم وعقائدهم، لذلك فان توفر المناخ السليم لتشريع قانون أو كتابة دستور، بلا ادنى شك سيعطينا نصاً ثابتاً واضحاً مستقراً، ويحفظ الحقوق بتجرد ودون ميول شخصية، ومن بين أسباب جودة التشريع المدني الفرنسي ان لجان من المختصين تولت كتابته ، ووجود اهل الاختصاص يعطيناً أجواء بعيدة عن المناخ السياسي الملتهب والمصاب بادران التدليس والتحايل والدوافع والبواعث الشخصية والنفعية، وفي تجربتنا العراقية وجدنا تشريعات عديدة سواء قبل عام 2003 أو بعده نصوص تعبر عن مزاج شخصي أو فئوي ولا تمثل المصالح العامة للبلد، وقد يكون واقع التشريع بعد عام 2003 مثال على سوء الصياغة التشريعية، فما ان يصدر القانون حتى يتعرض إلى التعديل بعد شهر او شهرين، مثال ذلك قانون الانتخابات، أو يتعرض الى الحكم بعدم دستوريته لمخالفته أحكام الدستور، أما في فترة ما قبل عام 2003 فان الحال قد يكون اقل نسبياً وارى ان السبب طول مدة حكم النظام السابق وكثرة التشريعات التي غطى بعضها الجيد على البعض السيء الآخر، ولترسخ مؤسسات إصدار التشريع مثل مجلس الشورى (مجلس الدولة حاليا)، لكن يبقى القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 واحد من افضل القوانين التي صدرت في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية ولغاية الآن، حتى ان البعض يخشى من أي محاولة لتعديله حتى لا يتم العبث برصانته في تشريع لاحق لا يرتقي إلى مستوى القانون النافذ، فيشوه صورته البهية، وهذا القانون هو امتداد لسلسلة القوانين العربية التي تأثرت بالقانون المدني الفرنسي، ومثلما خلد القانون المدني الفرنسي نابليوت بونابرت، فانه قد خلد اسم الدكتور عبدالرزاق السنهوري الذي اسهم بكتابة القانون المدني المصري والقانون المدني العراقي وغيره من القوانين الأخرى، مع ان الدكتور السنهوري لم يكن منفرداً وإنما كان بمعية أشخاص آخرين، لكن اسمه سطع في سماء التشريع بسبب دوره المتفرد في نقل أحكام القانون المدني الفرنسي إلى القوانين الأخرى، فكان سبب تخليده هو القانون المدني الفرنسي أيضاً، وهذا يدل على ان القانون السليم والرصين، هو قانون يوسم من كتبه او اسهم في كتابته بوسم الشرف ودوام استذكاره لعقود لاحقه حتى وان توفاه الله، وقد يقول البعض ان السنهوري اشتهر ليس لأنه نقل القانون الفرنسي، وإنما لأنه أصلاً مختص في علم القانون، قد يكون هذا القول صحيح لو لم يكن نابليون من اسهم في تشريع القانون الفرنسي وهو لم يكن حقوقياً وإنما كان عسكرياً، ونقلاً عن احد الكتاب فان نابليون يقول من منفاه في سانت هيلينHélène Sainte عن هذا القانون الاتي (إن مجدي الحقيقي ليس في أني ربحت أربعين معركة، فواترلوا ستمحي ذكرى العديد من الانتصارات، ولكن ما لا يمحى، وما سيبقى خالداً فهو تقنيني المدني)، لذلك فان سبب تخليد هذه الأسماء ليس بسبب الاختصاص فحسب، وإنما بالإخلاص في العمل المجرد من الهوى حيث ان الفيلسوف أرسطو يقول (بان القانون هو العقل المجرد عن الهوى)، كما لم يكن السنهوري من ذوي الثروة والوجاهة المالية ولم يكن يوما فقيهاً منحازاً إلى النظام والسلطة والسلطان، وإنما كان راضياً بكفاف عيشه وعلى وفق ما قاله المرحوم محسن ناجي بقوله الاتي (رحم الله السنهوري فقد كان فذاً عظيماً ورائداً من رواد المدارس الفقهية الاجتماعية، عاش بالكفاف ومات بالكفاف، وكان لو أراد لن يصبح من ذوي الثراء، لقد كان عازفاً عن السلطة والسلطان ولم يكن يوماً فقيهاً منحازاً يدعو للنظام( نقلاً عن بحث المرحوم محسن ناجي الموسوم (لعوامل الاقتصادية والاجتماعية، واثرها في الفقه والتشريع ، والفقيه المنحاز) المنشور في مجلة القضاء التي تصدر عن نقابة المحامين وعلى الموقع الإلكترونية لمجلس القضاء الأعلى.
ومن خلال العرض نرى ان القانون الجيد هو القانون الذي لا يقف عند حماية الحقوق ونشر الأمن القانوني فحسب وإنما سيخلد من كتبه وسيضعه بين الأحياء في ذكراهم وان رحلوا عن الدنيا، فهل نجد اليوم من يكون مستحقاً للتخليد، ام إننا سنجد أشخاص يلحقهم وصف القانون الذي يصدرونه عندما يكون سيء ويقول احد الكتاب (القانون السيء أسوء أنواع الطغيان) كما ان ذلك القانون قد يسهم في تفكيك الأمم والدول ويضعفها، ويرى الكاتب الفرنسي الكسندر فيالا (Alexandre Viala) من جامعة مونبيليه (بان الاتحاد الأوربي بما وصل اليه من نظام ديمقراطي فانه يعاني من فوضى القواعد القانونية التي تؤدي إلى ظهور خطر تفكك الاتحاد وخسارة المكاسب التي تحققت ، وهذه الوظائف الخطيرة والكبيرة للقانون دعت العلماء في شتى العلوم الإنسانية إلى التعامل مع مفردة القانون بمزيد من الحذر والتأني وملؤا المكتبات بالبحوث والدراسات)، وعندما نفحص القوانين النافذ ونجد ان بعضها او اغلبها سيء إما من حيث المضمون او من حيث الصياغة او من حيث كلاهما، فماذا سنقول عن الذي اسهموا في كتابتها وإصدارها، فاعتقد ان وصف السوء الذي لحق بالقانون سيلحق بهم أيضاً وسيبقى قائما طالما استذكر القانون أو أشير اليه، بنما القانون الجيد سيبقى يخلد من شرعه أينما ورد ذكره.
قاضٍ متقاعد
زر الذهاب إلى الأعلى