المفهوم المادي عن التاريخ – قراءة ايكولوجية 1
المفهوم المادي عن التاريخ – قراءة ايكولوجية 1
ثامر الصفار
(Thamer Alsafar)
2012 / 10 / 14
المفهوم المادي عن التاريخ
قراءة ايكولوجية
د. ثامر الصفار
باحث ايكولوجي
القسم الاول
(( بإستثناء الراهب أورتيس، من مدينة البندقية، وهو كاتب أصيل وذكي، فأن أغلب معلمي “مبدأ السكان” هم كهنة بروتستانت……الكاهن والاس، ثم الكاهن تاونسند، وأخيراً الكاهن مالثوس، وتلميذه المتعصب توماس تشالمرس، هذا دون أن نذكر كويتبي الكهنة الأقل جدارة في هذه السلسلة in this line …. ومع إدخال “مبدأ السكان” [الى الإقتصاد السياسي]، دقت ساعة الكهنة البروتستانت)) [1].
وكما فعل وليام كوبت الذي أعد لائحة الإتهامات للكاهن مالثوس عام 1819، فأن ماركس أيضا إنتقد بصلابة تطفل اللاهوت الطبيعي على الإقتصاد السياسي الذي مثلته أفكار مالثوس. أن نقد مالثوس، ومجمل مفهومه عن علاقة السكان بالأرض المعروض في عمله، كان موضوعا ً أساسيا ً لعمل ماركس في الإقتصاد السياسي منذ عام 1844 وحتى وفاته عام 1883. وبالإمكان أستخدام ذات العدسات لمعاينة عملية نشوء المفهوم المادي عن التاريخ، بأعتباره معالجة متميزة للمجتمع، وإن بصورة جزئية. أن نقد مالثوس فيما يتعلق بالأرض، ونقد برودون في علاقته مع الصناعة – إضافة الى قطيعة ماركس مع مادية فيورباخ التأملية – قد مثلت لحظات حاسمة في تطور المفهوم المادي عن التأريخ والمفهوم المادي عن الطبيعة عند ماركس.
خطوط أولية لنقد الإقتصاد السياسي
مثل مؤلف أنجلز خطوط أولية لنقد الإقتصاد السياسي نقطة انطلاق النقد الماركسي لمذهب مالثوس. فبعد لقاء ماركس بأنجلز في مدينة كولون في أواخر عام 1842، حيث كان ماركس محرراً للجريدة الرينانية، وأنجلز في طريقه الى إنجلترا ليعمل كاتبا ً في مصنع النسيج الذي يملكه والده شراكة مع أحد الأصدقاء، والصراع داخل حركة الهيغيليين الشباب في أوجه، تولدت الفكرة التي تحققت بعد عامين عندما نشرت الحوليات الألمانية – الفرنسية عام 1844 مؤلف أنجلز خطوط أولية وبدأت مسيرة التعاون الخالد بين ماركس و “عازف الكمان الثاني” كما يحلو لأنجلز وصف نفسه تواضعا ً.
في خطوط أولية وضح أنجلز أن جوهر نظرية مالثوس عن السكان يكمن في مفهومها الديني عن الطبيعة. فهذه النظرية هي “التعبير الإقتصادي للدوغما الدينية، فيما يتعلق بتناقض الروح والطبيعة والفساد الناتج من كليهما”. لكنها لم تكن فقط دوغما دينية، بل كانت أيضا محاول لدمج اللاهوت البروتستانتي مع الحاجة الإقتصادية للمجتمع البرجوازي. وتـُظهرالنتيجة البشعة، المباشرة، للمُلكية الخاصة في “تقسيم الإنتاج الى جانبين متضادين – الجانب الطبيعي والجانب الإنساني – الأرض التي هي ميتة وقاحلة اذا لم يخصبها الإنسان، والنشاط الإنساني، الذي تكون الأرض شرطه الأول والأساسي”[2]. فالمجتمع البرجوازي دفع بالسكان خارج أرضهم ومهد الطريق، بذلك ، لإستغلال أشد قسوة لجانبي الإنتاج، الطبيعي والإنساني:
“إن جعل الأرض، التي تشكل بالنسبة لنا كل شيء، التي هي الشرط الأول لوجودنا، موضع متاجرة، قد كان الخطوة الأخيرة الى المتاجرة بأنفسنا. وقد كان ولا يزال حتى أيامنا، عملاً لا أخلاقيا لا تتفوق عليه غير لا أخلاقية الإغتراب الذاتي. وحال الإستئثار الأولي بالأرض – إحتكارها من قبل عدد قليل من الأفراد، وحرمان البقية من الشرط الأساسي لحياتهم – لايختلف البتة من حيث اللاأخلاقية عن المتاجرة المتولدة بالأرض” [3].
ومن أجل الدفاع عن نظام الأستغلال هذا للبشر وللطبيعة، وفي نفس الوقت، إنكار أية إمكانية للتطور، تبرز نظرية السكان لمالثوس ــ “هذا المذهب الخسيس، السافل، هذا التجديف الكريه على الطبيعة والبشرية” المصممة خصيصا لإقناع البشر على قبول القوانين الجائرة للإقتصاد السياسي. كما انتقد أنجلز بحدة واضحة، بعد معاينة دقيقة لنظرية مالثوس، الطبيعة القاسية التي لا ترحم لمقدماتها، حيث ترى إمكانية تطبيق مبدأ السكان نفسه في جميع المراحل الزمنية وفي جميع الأماكن دون أي إعتبار للظروف التأريخية. فحسب مالثوس يمكن تطبيق مبدأ السكان على المستعمرات في أستراليا وأمريكا، في زمانه طبعا، وعلى أوروبا المكتظة بالسكان، و”إذا شئنا أن نكون منسجمين[مع هذا المنطق] تعين علينا أن نعترف بأن الأرض كانت فائضة السكان حتى عندما لم يكن يوجد سوى إنسان واحد” ونستنتج بالتالي:
“بما أن الفقراء، على وجه الدقة، هم الفائضون، فلا يتعين فعل أي شيء من أجلهم عدا تسهيل موتهم جوعـاً قدر الإمكان، وإقناعهم بأنه يستحيل تغيير أي شيء في هذا الصدد، وبأن الخلاص الوحيد لأجل طبقتهم يتلخص في التكاثر أقل ما يمكن”[4].
بالضد من ذلك اكد أنجلز ضرورة رفض “الزعم الجنوني القائل ان الأرض عاجزة عن إطعام الناس”. واصفا ً إياه بأنه “أسمى آيات الحكمة في الإقتصاد السياسي المسيحي”. فهو باطل ” مادام من الممكن، على العموم، إعتبار الثلث فقط من الأرض محروثا ً، وما دام من الممكن زيادة منتوج هذا الثلث من الأرض الى ستة أضعاف وأكثر”. لكن نظرية مالثوس ” كانت عاملا ً انتقاليا ً ضروريا ً بالتأكيد …. فمنها نستمد أقوى الحجج الإقتصادية في صالح التحويل الإجتماعي [ الإنتقال الى الإشتراكية]……لانه حتى لو كان مالثوس على حق بالتأكيد، لكان من الضروري مع ذلك الشروع حالا في هذا التحويل، لأن تنوير الجماهير المنجز بفضل هذا التحويل، من شأنه، وحده دون غيره، أن يجعل من الممكن أيضا ً الحد المعنوي من غريزة التكاثر، الذي يعتبره مالثوس نفسه أسهل وسيلة ضد فيض السكان وأكثر الوسائل فعالية”. ولأصبحنا نفهم ذل الإنسانية بسبب الملكية الخاصة ونظام المزاحمة والتنافس” وكل هذا يحفزنا على وضع حد لإذلال البشرية هذا عن طريق القضاء على الملكية الخاصة والمزاحمة وتضاد المصالح”.
كما تنبهنا نظرية مالثوس الى حقيقة ان الإقتصاد السياسي، برغم كل حديثه، آنذاك، عن الطبيعة وحتى عن المادية، يبقى “مسيحيا ً من حيث الجوهر”. بيد أنه من الضروري التنبيه هنا الى قصور مادية القرن الثامن عشر التي “لم تفعل غير ان جعلت الطبيعة، عوضا عن الإله المسيحي، مطلقا ً، مضادا ً للإنسان”[5].
وتمثلت السمة اللاتأريخية لمذهب مالثوس في رفضه فكرة التطور والتحسين. أي رفضه لأية فكرة تقول بإمكانية التقدم السريع والمتواصل في مسألة زراعة الأرض من قبل الإنسان أو في تربية الحيوانات، وكل إمكانية للتقدم الإجتماعي. أما أنجلز فقد رفض هذا التشاؤم خصوصا ً وهو يشهد التطور الحاصل في العلوم خلال القرن الثامن عشر، وتحديدا ً تطور علم التربة، حيث أشار الى النجاحات التي حققها السير همفري ديفي ويوستوس ليبيخ. كما أبطل أنجلز إدعاء مالثوس القائل بنمو السكان حسب متوالية هندسية بينما الغذاء حسب متوالية حسابية فيقول:
” ان نظام مالثوس يقوم كله على الحساب التالي: أن عدد السكان ينمو، حسب زعمه، بمتوالية هندسية: 1+2+4+8+16+32 الخ، وان القوة المنتجة للأرض تنمو بمتوالية حسابية:1+2+3+4+5+6. الفرق جلي، مرعب، ولكن هل هو صحيح؟ أين يقيم البرهان على إن القوة المنتجة للأرض تنمو بمتوالية حسابية؟”
ثم يستعرض أنجلز مثالا ً، مهتديا ً بخطى روبرت أوين الإشتراكي الطوباوي الذي سبق أنجلز بثلاث سنوات في نقده لمالثوس، يتطرق فيه الى عنصر ثالث أهمله مالثوس في حساباته ونعني به “العلم” الذي يتطور بشكل سريع أو “يجري على الاقل بنفس السرعة التي يجري فيها نمو السكان…. [أي] إنه ينمو أيضا بمتوالية هندسية” وبالتالي فإن:
” من المضحك التحدث عن فيض السكان ما دام يوجد في وادي ميسيسيبي من الأرض غير المحروثة ما يكفي لأجل نقل كل سكان أوروبا اليه”.
وإذا كان مثال أنجلز قديما ً، حسبنا أن نرى الطفرات العملاقة التي حصلت خلال العقود القليلة الماضية في جميع الميادين العلمية، وخصوصا في ميدان الإتصالات والكومبيوتر.
وبالتالي فان القول بأن حالة الفقر هي نتاج لقانون طبيعي او لحكمة ربانية إنما هو قول كاذب وباطل. فالحق انها بسبب ” قانون الإنسان الذي يقف بالضد من قانون الطبيعة”[6]
في عام 1844 بدء ماركس،هذه المرة، بتوجيه سهام نقده الى نظرية مالثوس، حيث كان مهتما بالكيفية التي جرى فيها الهجوم على قانون الفقراء الإنجليزي المستند على فكرة “القانون الداخلي للطبيعة، وهو ما ينسجم مع نظرية مالثوس”. ففي هذه النظرية لم تكن “حالة الفقر والإملاق المتواترة نتيجة حتمية للصناعة الحديثة” بل بسبب “قانون الفقراء الانجليزي” فالعلة حسب مريدي مالثوس تكمن في قانون الضمان الإجتماعي، ولهذا السبب عُدل قانون الفقراء ليرفع عن عاتق الحكومة مسؤولية مساعدة الفقراء. وفي هذا الإطار فإن إنتقال المذهب الطبيعي للكاهن مالثوس الى ميدان الإقتصاد السياسي، يمثل قضية جوهرية لايمكن إغفالها والتقليل من شأنها.[7] حال الطبقة العاملة في إنجلترا
ويذكر أنجلز في مؤلفه حال الطبقة العاملة في إنجلترا، أن نظرية مالثوس عن السكان وقانون الفقراء الجديد الذي صيغ على أساسها هي “إعلان حرب صريح من قبل البرجوازية ضد العمال…. إن قانون الفقراء القديم المستند الى قرار عام 1601 ( الرابع والثلاثون للملكة إليزابيث) قد أنطلق ، ببساطة، من فكرة أن واجب الأبرشية * حماية الفقراء. فمن لا عمل له يستلم مساعدة مالية، وكان الفقير ينظر الى الأبرشية بإعتبارها مسؤولة عن حمايته من المجاعة. وكان يطالب بحصته الإسبوعية بإعتبارها حقا ً له وليس فضلا ً أو صدقة، وهذا ما لم تتحمله البرجوازية”.
ويتضح من هذا أن نظرية السكان المالثوسية قد صُممت لتزيل من الأذهان أية فكرة أو تصور بأن مساعدة الفقراء هي “واجب” حكومي و”حق” للفقير. إضافة الى التأكيد على إن الفقراء هم ” الفائضون عن الحاجة” وليس ثمة داع لحمايتهم من الجوع. من هنا غدت نظرية مالثوس ” النظرية المحببة” للبرجوازية إذ مثلت المبرر العقلاني لإنشاء بيوت العمال او “باستيلات الفقراء”[8]
وفي سياق رده على نظرية مالثوس طور أنجلز مفهوم جيش العمل الإحتياطي أو فائض السكان النسبي الذي أصبح، فيما بعد، مفهوما ً مركزيا ً في الإقتصاد السياسي الماركسي. إذ يقول أن ” مالثوس…. كان…محقا، حسب طريقته، في التأكيد على وجود فائض السكان دائما، وجود عدد كبير من السكان في العالم دائما، وهو مخطىء فقط عندما يؤكد أن عدد السكان يفوق قدرات وسائل المعيشة المتوفرة”. إن ما يفسر تدني الإجور وحالة الفقر المنتشرة هو فيض السكان في علاقته بالبطالة وليس بتوفر الغذاء. إذ أن “جيش العمل الاحتياطي” العاطل عن العمل، موجود دائما في الصناعة، ويعتمد كبر هذا الجيش وصغره على مدى حاجة السوق لتشغيله. بهذا السبيل يظهر لنا “فائض السكان”. لكن العمال ” مقتنعون بأنهم، بأيديهم الملطخة والوسخة، ضروريون، أما الرأسماليون الأغنياء، الذين لا يؤدون أي عمل، فهم الفائض من السكان”[9]
ويتضح أن مفهوم البروليتاريا، قد ظهر أيضا بصيغته الواضحة في سياق معارضة الماركسية لنظرية مالثوس. فقد كان عمال المصانع في إنجلترا يعيشون ظروفا سيئة جدا، تحيطهم القذارات والأوبئة والجوع. وقد نجح أنجلز في مؤلفه هذا بجر القارئ للسير معه في شوارع مانشستر، واصفا ً كل ما تقع العين عليه، فاتحا ً العيون على حقيقة التباين في إسلوب عيش الفقراء عن أغنياء مانشستر. فتحدث عن بيوتهم الفارهة المحاطة بالحدائق في مناطق جورلتون وآردويك، أو على سفوح جيتام هل وبرغتون وبيندلتون ذات الهواء العليل، التي تجتازها العربات الصغيرة المتجهة الى المدينة كل ربع او نصف ساعة. كما لاحظ كيف شق “الأرستقراطيون طريقا ً مختصرا ً لهم يمر وسط مساكن العمال دون أن تقع أعينهم ولو للحظة واحدة على المستنقع العفن الذي يحيطهم يمينا ً ويسارا ً”[10].
في رواية العطر للكاتب باتريك زوسكيند ثمة أسلوب رائع في وصف المدينة التي تولد فيها الشخصية الرئيسية:
” في العصر الذي نتحدث عنه هيمنت على المدن رائحة نتنة لا يمكن لإنسان عصرنا الحديث أن يتصور مدى كراهيتها. فالشوارع كانت تنضح برائحة الغائط ، وباحات المنازل الخلفية برائحة البول، وأدراج البنايات برائحة الخشب المتفسخ وروث الجرذان…. أما الغرف غير المهَواة فقد كانت تنضح برائحة الغبار الرطب… ومن المدافئ كانت تفوح رائحة الكبريت”.
وينطبق هذا الوصف على إستعراض أنجلز لحال الطبقة العاملة في المدن الصناعية، مركزاً على السموم البيئية. فبالإعتماد على تقارير الأطباء ومفتشي المصانع وعلى ملاحظاته الشخصية، قدم أنجلز تحليلا تفصيليا لحالة الصحة العامة. وبإستخدامه لإحصائيات جمعها موظفو الصحة العامة، فقد كان ريادياً في مناقشة نسبة الوفيات وعلاقتها بالطبقة الإجتماعية. وأوضح من خلال عينات من بعض المناطق أن بيوت العمال التي لا تتوفر فيها أية تهوية لا تسمح بخروج المواد السامة العالقة في الهواء حيث تبقى غازات الكاربون الناتجة عن عملية الأحتراق وعن تنفس البشر القاطنين في المسكن حبيسة في الداخل. وطالما لم يكن ثمة نظام للتصريف الصحي لفضلات البشر والحيوانات فإنها تتراكم وتتعفن داخل البيوت وفي الساحات والشوارع مؤدية الى تلوث كبير في الهواء والماء. وكان من نتيجة ذلك إرتفاع نسبة الوفيات بسبب الأمراض المعدية كالسل والتايفوئيد.
كما وصف أنجلز أيضاً التشوهات الخلقية التي يسببها مرض الكساح الناتج عن سوء التغذية، بالرغم من عدم معرفة العالم ،آنذاك، بأن النقص في فيتامين D هو الذي يسببها. كما عرض حالات مرضية بما فيها وصفا دقيقا للإلتهابات المفصلية، وأمراض العيون، والتسمم بمادة الرصاص، ومرض الرئة السوداء.[11]
ومن الطريف أن نذكر أن تلك الفترة قد شهدت أيضا مدافعين عن نظام المصانع. فعندما أُستدعي عدد من الأطباء للإدلاء بشهاداتهم أمام لجنة تحقيق خاصة بالمصانع حول أهمية ضوء الشمس لتطور صحة الاطفال، أنبرى أندرو أوريه، وهو أحد مدراء المصانع بالقول أن ضياء المصابيح المشتعلة بالغاز هو كاف وخير بديل عن أشعة الشمس![12]
أما رؤية ماركس للبروليتاريا فقد تطورت ضمن معارضته للإقتصاديين السياسيين الكلاسيكيين على شاكلة مالثوس وأوريه. ومع إغتراب الحاجات الإنسانية العامة الذي هو من مميزات الرأسمالية، وفقا لماركس “النور والهواء الخ ــ أبسط نظافة حيوانية ـ لم تعد حاجة للإنسان… ولم يبق للأيرلندي سوى حاجة واحدة فقط ـ الحاجة الى أن يأكل، أن يأكل البطاطا، وإذا شئنا الدقة، البطاطا المتعفنة، أردء أنواع البطاطا. ولكن في إنجلترا وفرنسا ثمة أيرلندا صغيرة في كل مدنهم الصناعية”. وحسب ماركس ايضا فإن “التلوث الشامل” الذي يميز المدن الصناعية الكبرى هو البيئة المعاشة من قبل الطبقة العاملة. وهكذا فإن البروليتاريا هي طبقة شاملة تتعرض لـ “تلوث شامل” ومعاناة شاملة، طبقة مهددة بخسارة إنسانيتها، طبقة يمكنها أن تحرر نفسها فقط من خلال تحرير الإنسانية.[13]
لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية
أدى الإهتمام المتزايد لماركس بموضوعة الصراع الطبقي، وحالة البروليتاريا، وتحليل الإقتصاد السياسي المعروض في أكثر اشكاله الوحشية، نظرية مالثوس، الى إدراكه بأن المذهب الطبيعي الفيورباخي ومفهومه المجرد، الساكن، عن الطبيعة، لم يعد كافيا، إذ لن يوصلنا إلا الى طريق مسدود لابد من تفاديه وتجاوزه. يقول أنجلز في لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية “أن العديدين من الهيغليين الشباب الأكثر حزما قد دفعتهم الضرورات العملية لنضالهم ضد الدين القطعي، الذي لا يقبل الجدل، نحو المادية الأنجلو – فرنسية”. لكن ذلك ولدّ تناقضا في أوساط الهيغليين سيما وأن المنظومة الهيغلية إتخذت موقفا رافضا للمادية، ناظرة الى الطبيعة بأعتبارها وجودا مغربا للفكرة المطلقة ولا اكثر من ذلك، “بمعنى تقهقر الفكرة”. فقام فيورباخ “بسحق هذا التناقض، معلنا من جديد وبكل صراحة، إنتصار المادية. فالطبيعة توجد مستقلة عن كل فلسفة. فهي الأساس الذي نمونا عليه نحن، الناس، نتاجها ايضا. وخارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شيء،أما الكائنات العلوية التي ولدت من مخيلتنا الدينية فليست سوى إنعكاس خيالي لوجودنا نحن”. وهكذا ” فقد رفعت الرقية، ونُسف ” المنهج” [ الهيغلي] وأ ُلقي جانبا”[14].
بيد أن مادية فيورباخ التجريدية، رغم كل أهمية تفنيدها للمنظومة الهيغيلية، ظلت ساكنة، لا تأريخية في مفهومها، وبدت وكأنها لن تقودنا الى أي شيء. لقد كانت خالية من مفهوم النشاط التحويلي، الممارسة. ولهذا بدت كمادية فارغة، مجرد نسخة مقلوبة من المنظومة الهيغيلية خالية من أي محتوى خاص بها، وظلت تسير في ظل المنظومة الكبيرة التي فندتها، بعيون ماركس الذي كان آنذاك مهتما بفهم الأساس التأريخي للصراع الطبقي، وخصوصا الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا. زد على ذلك فقد أظهر الهيغلي الشاب ماكس شتيرنر وهو الإسم المستعار للفيلسوف الألماني كاسبار شميدت (1806 – 1856) في مؤلفه الأنا وشخصه عام 1844 بان إنسانية فيورباخ المجردة، يمكن إبطالها ديالكتيكيا ،وبسهولة، طالما أنها تفتقد الى أية أرضية أصيلة، وتحويلها الى مجرد عقيدة أنانية أو عدمية على شاكلة “لا شيء يعنيني أكثر من نفسي” وعليه فإن ” كل الاشياء لاتعنيني”[15].
الأيديولوجيا الألمانية
في الأيديولوجيا الألمانية أكد مؤسسا الماركسية على إن فيورباخ قد قبل الواقع المعاش، الموجود، وأساء فهمه في آن معا. فالإنسان وجوهره هما شيء واحد بالنسبة لفيورباخ، وليس مسموحا وجود تناقض بينهما. وفي أذابته الإغتراب الديني في الوجود المادي لم يعد فيورباخ قادرا على رؤية الإغتراب الأرضي الحقيقي. وبالتالي فقد فشل في تطوير مادية عملية. فالطبيعة الفيورباخية والجوهر الفيورباخي كانا تجريدات، حتى ولو أرتدتا زيا ماديا:
“إن “جوهر” السمكة هو “وجود” ها، الماء. “جوهر” السمكة النهرية هو ماء النهر، ولكن هذا الماء يكف عن أن يكون “جوهر”ها، ويصبح بيئة غير صالحة لعيشها، ما أن يخضع هذا النهر للصناعة، ما أن يتلوث بمواد صابغة وغير ذلك من النفايات، ما أن تمخره البواخر، ما أن يوجهوا الماء في قنوات ويحرموا السمكة من البيئة الصالحة لعيشها، بمجرد الكف عن ضخ الماء الى القنوات”
ويدل هذا القول على أن وجود السمكة كان مغربا كنتيجة للممارسة الإنسانية. وعليه فإن مثل هذه التناقضات بين الوجود والجوهر تطالبنا بوضع حلول عملية بحتة. [16]
موضوعات عن فيورباخ
وعليه يبدو أن قطيعة ماركس مع مادية فيورباخ كانت مسألة محسومة. وفي سياق هذه القطيعة بدأت بذور مادية جديدة، عملية، بالنمو وخصوصا المفهوم المادي عن التأريخ. وقد حدثت القطيعة في ربيع عام 1845 بعد أن طـُرد ماركس من فرنسا بطلب من الحكومة البروسية وإضطر للعيش في بروكسل. حيث بدأ هناك بكتابة موضوعات عن فيورباخ التي وجدها أنجلز بعد أربعين عاما ونقرأ فيها لماركس:
” إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها – بما فيها مادية فيورباخ – هي أن الأشياء، الواقع، الحساسية، لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع أو بشكل تأمل، لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل تجربة، لا بصورة ذاتية. ونجم عن ذلك أن الجانب العملي، بخلاف المادية، إنما طورته المثالية، ولكن فقط بشكل تجريدي، لأن المثالية لا تعرف، طبعا، النشاط الواقعي، الحسي كما هو في الأصل”.
أي إن المادية قد جرى فصلها عن التأريخ وعن الوسيط الإنساني العملي اللذان فهمتهما الفلسفة المثالية وإن كان بشكل تجريدي. ولهذا يؤكد ماركس على أن هدف المادية الجديدة سيكون ” إدراك أهمية النشاط (الثوري) ، (النقدي – العملي)”. الهدف هو إعادة السيطرة على الجانب العملي للحياة، حرية الإنسان، وإبعاده عن المثالية مع إبقاء أساسه المادي.[17]
وفي نقده للـ “المادية السابقة” بسبب طابعها التأملي، فإن ماركس كان، في نفس الوقت، وهو ما أرجو الإنتباه له، ينتقد مادية أبيقور. فالأبيقوريون ” رؤا وقت الفراغ المقدس بإعتباره الحياة المثالية وليس (الحياة العملية)”[18]. ومع ذلك تبقى مادية الأبيقوريين أكثر عملية ، أي أكثر وعيا سياسيا في رفضها للفهم المثالي الأفلاطوني عن الجماهير والدولة الهيلينية، من مادية فيورباخ، وهو ما كان ماركس واعيا له. والواقع أن ابيقور، كما حاجج ماركس في إطروحة الدكتوراه، قد سعى الى إبراز الجانب العملي – مشددا على الصدفة ، وبالتالي على حرية الإنسان – للمادية التي كانت قبل أبيقور شكلا من أشكال المادية الحتمية .
لقد نسّي فيورباخ، كما يطرح ماركس، أن الإغتراب الذاتي الديني، ظهور النسخة، الخيال، ركوب العالم الديني على ظهر العالم الحقيقي، كان يعني ايضا أن الأشكال العلمانية قد طُبعت بطابع الإنشقاق الذاتي والتناقض الداخلي، وعليه يتوجب نقدها وتجاوزها. “وعليه، حين يُكتشف، مثلا، سر العائلة المقدسة في العائلة الأرضية، يجب إنتقاد العائلة الأرضية نفسها نظريا وتحويلها ثوريا بشكل عملي”[19]. لقد كان نقد الأساس الديني للفكر بمثابة الخطوة الأولى ، فقط ، في نقد التناقضات الأرضية الحقيقية. ولو طبقنا هذا المبدأ على المفهوم المادي الماركسي عن الطبيعة، يمكننا القول بأن إزالة المفاهيم الغائية من الطبيعة، أي الإغتراب الذاتي للبشر عن الطبيعة، مثلما عبر عنه اللاهوت المسيحي، كان، ببساطة، الخطوة الاولى في نقد الإغتراب المادي، الحقيقي، للبشر عن الطبيعة ضمن عملية الانتاج.
وبرفضه للماهوية – تقدم الجوهر على الوجود – يطرح ماركس “أن الجوهر الإنساني ليس تجريدا ملازما للفرد بمفرده. إنه في حقيقته، مجموع العلاقات الإجتماعية كافة”[20]. بتعبير آخر، أن البشر لا يتشكلون من بضعة طبائع إنسانية، ثابتة، كامنة في كل فرد منهم، بل إن التأريخ بأكمله لم يكن سوى تطور – تطور ذاتي – للطبيعة الإنسانية من خلال المعايشة الإجتماعية.
وبعد أن يستعرض ماركس تأثيرات نقد شتيرنر على فيورباخ، تمكن من إظهار مدى عجز مفهوم فيورباخ المجرد عن الإنسانية في مواجهة نقد قزّم الإنسانية الى مجرد أنوية فيقول “أن الذروة التي بلغتها المادية التأملية، تتمثل في إعتبارها الحساسية نشاطا عمليا، مجرد تأمل لأفراد بمفردهم في (المجتمع المدني). أن وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع (المدني) ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع البشري أو البشرية التي تتسم بطابع إجتماعي”. وبالتالي، فان مادية عملية تدرك بأن “التطابق بين تبدل الظروف والنشاط الإنساني لا يمكن بحثه وفهمه فهما عقلانيا إلا بوصفه عملا ثوريا…..وأن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تقوم في تغييره”[21].
كان من نتائج مادية ماركس الجديدة تحول تركيز الفكر المادي من الطبيعة الى التأريخ دون إنكار الأسبقية الأنطولوجية للطبيعة، فالطبيعة موجودة قبل التأريخ بدون شك. وقد سعى ماركس الى خلق حالة من التداخل بين مفهومه المادي عن التأريخ ومفهومه المادي عن الطبيعة، ليشكلا معا ميدان التأريخ الطبيعي بصيغته البيكونية التي تضم الإنتاج البشري. إلا إن تركيز نقده الإجتماعي إنصب بشكل تام على التطور التأريخي للإنسانية وعلاقتها المغرّبة بالطبيعة وليس على تدرج وإرتقاء الطبيعة بحد ذاتها. إذ إن “من الممكن النظر الى التأريخ من جانبين، من الممكن تقسيمه الى تأريخ الطبيعة وتأريخ الناس. ولكن هذين الجانبين مترابطان بصورة لا إنفصام لعراها: فما دام الناس موجودين، فإن تأريخ الطبيعة وتأريخ الناس يشترطان أحدهما الآخر بصورة متبادلة. إن تأريخ الطبيعة، أو ما يسمى العلوم الطبيعية، لا يهمنا هنا، أما تأريخ الناس، فيتعين علينا الإهتمام به”[22].
وقد تبلورت صيغة المادية الجديدة، أكثر فأكثر في الأيديولوجيا الألمانية (1846) حيث حسم مؤسسا الماركسية فيه أمرهما فيما يتعلق بالقطيعة النهائية مع مادية فيورباخ الإنسانية، الطبيعياتية، والتأملية البحتة، وإستبدلاها بمادية إنسانية، طبيعياتية، وعملية، أي المفهوم المادي عن التأريخ. وبرغم أن القطيعة مع فيورباخ كانت الميزة الرئيسية لهذا المؤلف، الذي لم يُنشر في حياتهما، إلا انه إنطوى أيضا على نقد شامل لأنوية شتيرنر – التي أعتبرها شتيرنر الرد الديالكتيكي على إنسانية فيورباخ، وعلى من سموا أنفسهم ” الإشتراكيون الحقيقيون” من الذين حاولوا إنشاء إشتراكية أستنادا الى إنسانية مجردة وطبيعياتية فيورباخية – وتتلخص طريقة الهيغلي الشاب شتيرنر في إظهار ان الدين، الرب، الغائية، مفاهيم ملازمة في كل مقولات العالم، أي إفتراض “سيادة الدين سلفا” وبالتالي قام بتفنيدها بأعتبارها دينية. واعتبر شتيرنر ان “الانسان” والانسانية نفسها مفهوما دينيا فرفضها كلية[23]. في حين رأى مؤسسا الماركسية الحاجة الى مواجهة جميع هذه الأراء المجردة، التأملية، أراء “النقد النقدي” بإسلوب تطوير مفهوم مادي عن التأريخ فيقولان:
” المقدمات التي نبدأ بها ليست اعتباطية؛ وهي ليست عقائد جامدة؛ ان المقدمات فعلية لا يمكن التجرد منها إلا في الخيال. ان المقصود هنا أفراد فعليون، ونشاطهم وظروف حياتهم المادية، سواء منها الظروف التي يجدونها جاهزة، ام التي يخلقونها بنشاطهم بالذات. وهكذا يمكن اقرار هذه المقدمات بالسبيل التجريبي الصرف.
ان المقدمة الاولى لكل تأريخ بشري، انما هي، بالطبع، وجود افراد بشريين أحياء. ولهذا ان الواقع الملموس الأول الذي تجدر ملاحظته هو التنظيم البدني لهؤلاء الأفراد، وعلاقتهم التي يشترطها هذا التنظيم بسائر الطبيعة. وبدهي انه لا يسعنا هنا ان نتعمق، لا في دراسة خصائص الناس انفسهم الفيزيائية، ولا في دراسة الظروف الطبيعية–العلاقات الجيولوجية، والأوروغرافية، و الهايدروغرافية، والمناخية ، وغيرها من العلاقات التي يجدون انفسهم فيها. ويتعين على كل علم لتدوين التأريخ، أيا كان، ان ينطلق من هذه الأسس الطبيعية ومن تلك التغيرات التي تطرأ عليها في سياق التاريخ بفضل نشاط الناس.
يمكن تمييز الناس عن الحيوانات من حيث الوعي، من حيث الدين – وعلى العموم بأي شيء كان. وهم انفسهم يبدأون يميزون انفسهم عن الحيوانات ما ان يبدأوا ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم – وهذه خطوة يشترطها تنظيمهم البدني. ان الناس، إذ ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم، انما ينتجون ايضا بطريقة غير مباشرة حياتهم المادية بالذات.
ان الأسلوب الذي ينتج به الناس وسائل العيش الضرورية لهم، يتوقف قبل كل شيء على خواص وسائل العيش بالذات، التي يجدونها جاهزة والتي يتعين تجديد انتاجها.
واسلوب الانتاج هذا انما يجب النظر اليه ليس فقط من حيث انه يعني تجديد انتاج وجود الأفراد الفيزيائي. فهو ايضا بدرجة أكبر اسلوب معين لنشاط هؤلاء الأفراد، نوع معين لنشاطهم الحيوي، نمط معين لحياتهم. وكما يكون نشاط الأفراد الحيوي، كذلك يكونون هم انفسهم. وما يمثلونه، يتطابق، بالتالي، مع انتاجهم – يتطابق سواء مع ما ينتجونه أم مع كيف ينتجونه. وما يمثله الأفراد – انما يتوقف، بالتالي، على ظروف انتاجهم المادية.
ان هذا الانتاج يبدأ للمرة الاولى مع نمو السكان. وهو يقتضي ايضا معاشرة الأفراد فيما بينهم. وشكل هذه المعاشرة يتوقف بدوره على الإنتاج” [24]
وهكذا فقد انطلق مؤسسا الماركسية من أنطولوجيا مادية أو حقيقية، كانت الطبيعة فيها، والعالم المادي، شرطا مسبقا للوجود الإنساني، وكان إنتاج وسائل العيش الضرورية شرطا مسبقا للحياة الإنسانية بكل نواحيها، وبالتالي شرطا مسبقا للمجتمع الإنساني. بعد ذلك يواصل التحليل الماركسي مساره ليتابع تطور مختلف أنماط الإنتاج إرتباطا بالمراحل المختلفة من تطور تقسيم العمل والملكية على امتداد التأريخ الإنساني، وخصوصا مراحل العبودية والإقطاع والرأسمالية.
ثم نقرأ لهما ايضا أن فيورباخ يتحدث عن “الإنسان” بدلا من ” الإنسان الفعلي، التأريخي” وعلى الشاكلة نفسها فإنه يضع الطبيعة بدلاً من التأريخ الطبيعي. وهو يدرك وجود خلل في التناسق بين الإنسانية والطبيعة وبالتالي فهو يدرك إغتراب الطبيعة. لكن رده لم يتعد البحث عن “الجوهر الحقيقي” للأشياء، للطبيعة، للإنسانية. وهو لا يرى الطبيعة وهي تتغير مع التأريخ “انه لا يلاحظ ان العالم الحسي المحيط به، ليس شيئا ما، معطى مباشرة منذ الازل….بل…نتاج تأريخي، نتيجة لنشاط جملة كبيرة من أجيال بشرية”.
ان ما سماه برونو باور بقضية “المتضادات بين الطبيعة والتأريخ”، يعكس، حسب ماركس وأنجلز، نزوعا الى رؤية الطبيعة والتأريخ وكأنهما “( شيئان) منعزلان احدهما عن الآخر”، وكأنما الطبيعة التأريخية والتأريخ الطبيعي ليسا جانبين لواقع مادي واحد. والواقع، خلاف ذلك، إذ أن “هذه القضية ستزول من تلقاء ذاتها، إذا أخذنا بالحسبان ان الصيغة السيئة الشهرة – ( وحدة الإنسان مع الطبيعة) – كانت دائما قائمة في الصناعة….وحتى….العلوم الطبيعية ( البحتة) لا تحصل على هدفها، وكذلك على مادتها، إلا بفضل التجارة والصناعة، بفضل نشاط الناس الحسي”. فمن جانب لا يمكن اختزال الطبيعة الى التأريخ الإنساني. ومن الجانب الآخر، فإن الطبيعة كما نفهمها، لا يمكن ان تنفصل عن التأريخ الإنساني وعن نشاط الناس الحسي مثلما يتطور حسب تقسيم العمل، منطويا على علاقات معينة مع الطبيعة. “ويقينا، ان أسبقية الطبيعة الخارجية تبقى في هذه الحال، ويقينا ان كل هذا لا يصح على الناس الأوائل الذين انبثقوا عن طريق الولادة العفوية generatio aeqivoca [ أي لم يخلقهم الرب]”. ومع ذلك يبقى صحيحا ان “المادة، الطبيعة، الطبيعة التي سبقت التأريخ الإنساني ليست تلك الطبيعة التي يعيش فيها فيورباخ، انها طبيعة لم يبق لها الآن وجود في أي مكان – ما عدا بعض جزائر المرجان الأسترالية الحديثة المنشأ – ولا وجود لها بالتالي بالنسبة لفيورباخ ايضا”. وفي النهاية فإن قصور مادية فيورباخ تمثل في إنفصالها عن النشاط ، عن الممارسة، والتأريخ. فـ “ما دام فيورباخ مادي فهو لا يتعامل مع التأريخ، وما دام انه يدرس التأريخ فهو ليس ماديا بالمرة. فالمادية والتأريخ مفصولان عنده كليا”[25].
بخلاف ذلك نجد ان ماركس وأنجلز يلاحظان ان:
” المقدمة الاولى لكل وجود بشري، وبالتالي لكل تأريخ….هو ان تتوفر للناس إمكانية العيش كيما يكون في مقدورهم أن “يصنعوا التأريخ”. ولكن العيش يقتضي قبل كل شيء الغذاء والشراب والمسكن واللباس وأشياء أخرى {الظروف الجيولوجية، الهايدروغرافية…الخ}. أذن، العمل التأريخي الأول إنما هو إنتاج الوسائل الضرورية لأجل تلبية هذه الحاجات، إنتاج الحياة المادية ذاتها؛ والحق انه فعل تأريخي، شرط أساسي لكل تأريخ، لا بد من أدائه في كل يوم وكل ساعة، الآن كما منذ الاف السنين …. وذلك كي ….يستطيع الناس ان يعيشوا”.
ويتضح، إستنادا الى ما سبق، أن “إنتاج الحياة – سواء حياة الشخص المعني بالذات، بواسطة العمل، أم حياة الغير، بواسطة الأنسال – يتبدى في الحال كعلاقة مزدوجة: فهي علاقة طبيعية من جانب، وعلاقة إجتماعية من جانب آخر” [26].
ولم يكتف ماركس وأنجلز عند مناقشة التطور التأريخي لتقسيم العمل بتقديم عرض لأنواع الملكية – القبلية، المشاعية القديمة، الإقطاعية، والملكية الخاصة البرجوازية – بل شددا ، بصورة كبيرة، على لحظة الظهور التأريخية لحالة العداء بين المدينة والريف. “ان تقسيم العمل ضمن حدود هذه الأمة او تلك يؤدي في المقام الأول الى إنفصال العمل الصناعي والتجاري عن العمل الزراعي، ويؤدي بالتالي الى إنفصال المدينة عن الريف والى التضاد بين مصالحهما”. ولو كان المجتمع القديم يعتمد أساسا على المدينة، والمجتمع الإقطاعي على الريف، فإن العداء بين المدينة والريف يصل ذروته فقط في ظل الرأسمالية “ان أكبر تقسيم للعمل المادي والروحي” هو في الواقع “التضاد بين المدينة والريف” و “لايمكن ان يقوم إلا في إطار الملكية الخاصة – وهذا التضاد يعبر بأحّد شكل عن خضوع الفرد لتقسيم العمل، لنشاط معين مفروض عليه – وهو خضوع يحول أحدهم الى حيوان مديني محدود والآخر الى حيوان ريفي محدود، ويولد يوميا ومن جديد التضاد بين مصالحهما”. وقد أدى هذا التقسيم الى إنعزال سكان الريف وعدم “التفاعل مع العالم” وبالتالي إنعزالهم عن كل “حضارة” وبالتالي ” فإن القضاء على التضاد بين المدينة والريف هو شرط من الشروط الأولى للوحدة الاجتماعية”[27].
الهوامش
[1] كارل ماركس، رأس المال، المجلد 1، الجزء 2، الفصل 23، القانون العام للتراكم الرأسمالي، دار التقدم موسكو، ص 164-165 الهامش.
[2] كارل ماركس وفردريك انجلز، مختارات في 15 مجلداً، المجلد 1، خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي، دار التقدم موسكو، ص 91، 81.
[3] المصدر السابق، ص 78.
[4] المصدر السابق، ص 88-89.
[5] المصدر السابق، ص 91- 93، 64.
* الابرشية هنا هي الكنيسة التي كان التقسيم الاداري لانجلترا يستند عليها. أي انها وحدة من الوحدات الادارية.
[6] المصدر السابق، ص 92-93. وايضا روبرت أوين، مختارات (لندن: وليام بيكيرنغ، 1993) المجلد 2، ص 361.
[7] كارل ماركس، كتابات مبكرة، ملاحظات انتقادية حول”ملك بروسيا والاصلاح الاجتماعي، (نيويورك:فينتج،1975) ص 408-409.
[8] فردريك انجلز، حال الطبقة العاملة في انجلترا (شيكاغو: اكاديمية شيكاغو،1984) ص 308-317.
[9] المصدر السابق، ص 113-117، 309.
[10] المصدر السابق، ص 79-84.
[11] المصدر السابق،ص 126-128، ومقتبس ايضا من الكوكب الهش، جون فوستر، نيويورك 1994، ص 57-59.
[12] لويس مومفورد، المدينة في التاريخ، نيويورك، 1961، ص 472.
[13] كارل ماركس، كتابات مبكرة، مخطوطات 1844، ص 302، 359-360.
[14] ماركس وانجلز، مختارات في اربع اجزاء، الجزء 4،موسكو، دار التقدم، ص 17-18. ورد في النص الانجليزي تعبير Positive Relegion وقد ترجمته دار التقدم للاسف على انه الدين الايجابي مما ولد الكثير من سوء الفهم لعدم انسجامه مع الفكرة، والاصح ترجمته بالدين القطعي او الذي لا يقبل الجدل.
[15] ماكس شتيرنر، الانا ونفسها، جامعة كمبردج، 1995، ص 5، 7، 324.
[16] ماركس وانجلز، منتخبات في 15 مجلدا، المجلد 1، الفصل الاول من ” الايديولوجيا الالمانية” دار التقدم، موسكو، ص 144-145.
[17] المصدر السابق، موضوعات عن فيورباخ، ص 98.
[18] ماركس وانجلز، المؤلفات، نيويورك: انترناشينال بوبليشر،1975، المجلد 5، يمكن الاطلاع على النص الانجليزي على الربط التالي:
www.marxis.org/archive/marx/works/cw/volume05/index.htm
[19] ماركس وانجلز، منتخبات في 15 مجلدا، المجلد 1، موضوعات عن فيورباخ، دار التقدم، موسكو، ص 99.
[20] المصدر السابق، ص 100.
[21] المصدر السابق، ص 99-101.
[22] المصدر السابق، الايديولوجيا الالمانية، ص 104.
[23] المصدر السابق، ص 105.
[24] المصدر السابق، ص 107-109.
[25] المصدر السابق، ص 118-122. من المفيد الاشارة هنا الى ان نظرية دارون حول الجزائر المرجانية كانت قد نُشرت قبل بضعة سنوات فقط قبل ان يستخدمها ماركس كمثال. وتقول هذه النظرية باقرار ان الجزائر المرجانية باعتبارها طبيعة حديثة التكوين او المنشأ من حيث الزمن الجيولوجي، وظلت نقيه، عذراء لم يمسسها البشر.
[26] المصدر السابق، ص 124.
[27] المصدر السابق، ص 109، 153… *
*.عن الحوار المتمدن…..