الفكر السياسي

الولادة العسيرة للفيديرالية في العراق

الولادة العسيرة للفيديرالية في العراق

فالح عبد الجبار

2006 / 11 / 2
مواضيع وابحاث سياسية

ثمة جيل كامل في العراق، بل في المنطقة برمّتها، لم يسمع بكلمة الفيديرالية. ولعل جيلي صادفها مصادفة بعيد ثورة تموز 1958 ونحن بعد فتيان مدرسة ابتدائية. يومها انقسم العراق الى تيار يساري وتيار قومي، ضاعت القوى الوسطية بينهما. وكان الانقسام يتجلى في أن التيار القومي يرفع شعار «الوحدة العربية» الفورية، المطلقة، الكاملة، أما التيار اليساري فرفع شعاراً معاكساً: اتحاد فيديرالي، صداقة سوفياتية! لم أفقه كلمة الفيديرالية يومها. ولا فهمتها إلا بعد عقود من ذلك. وأظن أن حال الجيل الشباب في العراق مماثلة لحال جيلي وقتذاك: كلمات مبهمة تراق من حولها الدماء وتسفك.
والمشكلة في العراق، كما في خارجه، أن جيلاً كاملاً اضطر في بحر الأعوام القلائل الماضية الى أن يعبر تخوم الجهل والصمت، ليصل الى ثقافة سياسية مفتوحة على مفاهيم ومقولات لم يسمع بها من قبل.
الأنكى من ذلك أن وسائل الاعلام الكونية في امتدادها، ما تزال أدنى في مستوى تفكيرها وخبرائها من القدرة على «شرح» المفاهيم وتحديدها بقدر معقول من الوضوح. حسبك الاستماع الى «خبراء» الفضائيات العربية.
واليوم تستعر معركة الفيديرالية من جديد بين بناة عراق ما بعد صدام.
قبل حرب 2003 بعقد ونيف كانت الفيديرالية صناعة كردية، أو قل تطويراً كردياً لمطلب الحكم الذاتي، المعترف به، وإن شكلياً ، في الدستور العراقي القديم. وكانت القضية الكردية معلماً ثابتاً من معالم السياسة العراقية، سلباً وإيجاباً. ولم يكن مصادفة أن يطور الأكراد مطلبهم في الحكم الذاتي، المقر رسمياً منذ عام 1970، ليرفعوه الى مطلب كيان فيديرالي.
والفكرة الفيديرالية هي اقتراح تقدم به أحد زعماء اليسار، وهو عربي شيعي، في مذكرة الى السيد مسعود بارزاني، ولقيت تجاوباً حاراً.
كان ذلك عام 1991، يوم قرر الرئيس المخلوع صدام حسين سحب الإدارة من كردستان العراق، و «إنزال العلم» وقطع الموارد عنها، المالية والنفطية (الوقود). رد الاكراد بإنشاء ادارة تحولت الى حكومة بكيان واضح: جهاز اداري، برلمان، شرطة، أمن، حرس، حدود، ونواة جيش، كما أُنشئت جمارك خاصة لجمع الموارد اللازمة لإدارة الشوؤن المحلية. كل ما كان ينقص الدولة الكردية هو الاعتراف الرسمي، والتبادل الديبلوماسي.
هذا هو منشأ الفيديرالية في العراق. وهي فيديرالية ذات طابع قومي، أو اثني بوجه ادق، ترمي الى تقسيم السلطات بين الحكومة المركزية والحكومة الاقليمية تقسيماً واضح الملامح. وهو تقسيم للسلطات يهدف الى توحيد البلاد سلمياً. فكلفة الحفاظ على الوحدة بالوسائل العسكرية باهظة حتى على بلد نفطي، ناهيك عن كونها قصيرة النظر سياسياً، ومدمرة إنسانياً، مثلما هي عبثية، غير مجدية، في المدى البعيد.
ابتكرت الفيديرالية في القرن الثامن عشر في العالم الغربي، وبالتحديد في الولايات المتحدة، حيث يدرس علماء السياسة بإمعان «الاوراق الفيديرالية»، التي وضعها جيمس ماديسون، ابو الفيديرالية المعاصرة. ومنذ ذلك الحين عمت الفيديرالية ارجاء المعمورة، حيث نتوفر اليوم على 22 دولة، ولربما اكثر، تعتمد الحل الفيديرالي.
لقد ارسى الفرنسي النبيل مونتيسيكو مبدأ سامياً من مبادئ الحكم هو تقسيم السلطات، الذي يمنع على الحاكم تولي أمور القضاء، أو أمور التشريع، انطلاقاً مما يعرف اليوم باسم «تصادم المصالح». فمصلحة الحاكم كصاحب سلطة تنفيذية قد لا تستقيم مع مصلحته كقاض، خصوصاً إذا كان هو ذاته طرفاً في خصومة مالية، أو جنائية.
ابتكرت بريطانيا مبدأ تقسيم السلطات على الارض نتيجة منازعات وحروب ولم تكن تعرف ما هي فاعلته. أما فرنسا فصاغت التجربة في نظريات ومبادئ. وتحولت هذه النظريات بدورها الى تجارب عمت العالم المتحضر كله. لكن تقسيم السلطات الكلاسيكي لم يكن كافياً. من هنا ابتكار الفيديرالية وسيلة اضافية لتقسيم السلطات بين مركز وطرف. ومثل هذا التدبير افضى الى تقسيم السلطة التشريعية الى برلمان لعموم الامة، والى كونغرس لتمثيل الولايات. علاوة على ذلك حظيت كل ولاية بقدر كبير من الحرية في إدارة شوؤنها المحلية، من تعليم، وشرطة، ومرور، وضرائب محلية. وإن دافع الضرائب اليوم يعرف مثلاً أنه يدفع ضريبتين، واحدة للولاية واخرى للاتحاد، او أن الضريبة مقسمة الى حصتين محلية ومركزية. وجد مبتكرو هذا النظام في ادارة الدولة أن تقسيم السلطة الإضافي عن طريق الفيديرالية يوزع المسؤوليات بدلاً من أن يركزها ويسمح بمعالجة المتطلبات المحلية، بدلاً من انتظار مركز بعيد للبت فيها.
طبقت الفيديرالية في المانيا على أيام بيسمارك، الذي يعرفه العرب باعتباره الرجل الحديدي الذي دمج ولايات المانيا دمجاً في وحدة قسرية. وهي صورة شائهة عن بيسمارك الحديدي. فالوحدة التي أقامها اعتمدت صيغاً فيديرالية، تمتع فيها أمراء الولايات بامتيازات أكبر من ذي قبل، لقاء تخليهم عن بعض الوظائف الاساسية الى الدولة الاتحادية. ولعل الابداع الاضافي جاء من الماركسيين النمساويين الذين انتبهوا اواخر القرن التاسع عشر الى مشكلة بناء الأمم والتنوع القومي. وقد ابتدعت المدرسة النمساوية افكاراً نظرية مهمة لاستخدام الفيديرالية أداة لحل المشكلة القومية في الدول المتعددة القوميات. وقد استعارها لينين، وطبقها بشكل مفيد، إلا أن الستالينية دمّرتها. وخلص الدارسون الى أن الفيديرالية لا يمكن أن تعمل بنجاح إلا في شروط الديموقراطية، كما هي حال الهند مثلاً، رغم أن نجاح الفيديرالية هناك جزئي نوعاً ما. أما في العراق فإن فكرة الفيديرالية جاءت من اليسار، لتتقبلها القيادات القومية الكردية.
وفي مجرى التهيئة لتطبيق المبدأ الفيديرالي لحل المشكلة القومية في العراق، بادرت قوى ليبرالية شيعية الى الدعوة لتعميم هذا المبدأ على العراق كله. وكان المبادر الى ذلك هو الليبرالي المعروف أحمد الجلبي، الذي طرح الفكرة مستلهماً نظام الولايات العثماني: ولاية بغداد، ولاية الموصل، ولاية البصرة. لكن نظام الولايات هذا لا يشبه ما يطرح اليوم. فولاية بغداد العثمانية كانت تضم النجف وكربلاء، والكوت، والحلة، وهي مناطق شيعية، فيما بغداد مدينة مختلطة.
مقابل الفيديرالية الاثنية ذات البعد التاريخي العالمي، وذات البعد العراقي المديد أيضاً، تبرز الفيديرالية الادارية أو الجهوية مثل مخلوق غريب في نظر معظم الاطراف السياسية الفاعلة. وهناك على الأقل صيغتان لهذه الفيديرالية. الصيغة الاولى جنوبية صرفاً، تنبع من البصرة، عاصمة الجنوب بلا منازع. فقد كان للبصرة دور أساس في إدارة جنوب العراق، ونجد، والكويت، والمحمرة. وثمة نزعة استقلالية بصرية قوية برزت ايام تأسيس الدولة العراقية عام 1921. وتتجدد هذه النزعة اليوم على خلفية الحرمانات القاسية التي عاناها الجنوب بعامة، والبصرة بخاصة رغم انها تجثم على مكامن نفط طبيعية هائلة.
وهناك نزعة اخرى لإنشاء فيديرالية شيعية بعامة. وتتنازع هاتان النزعتان مطامح البصرة مقابل مطامح النجف في الزعامة، ويعترض هاتين الاثنتين تيار اللافيديرالية أو قل تيار المركزية الذي يمثله حزبا الصدر والفضيلة. ولا تخلو الفيديرالية من مطبات. فالفيديرالية الاثنية تحمل الغام الصراع حول هوية كركوك. بينما تحمل الفيديرالية الجهوية ألغام الصراع بين تيار المركزية وتيار اللامركزية، والصراع الجهوي بين الصيغة الجنوبية للفيديرالية والصيغة الطائفية لها.
خارح ذلك ثمة صراع شامل يتعلق بالموارد، وبالذات الموارد النفطية وهي أس البلاء. فالموارد، سابقاً، كانت متمركزة، تخدم الحاكم والنخب المحيطة به بشكل رئيس، أما الفتات فيذهب الى الاطراف (المحافظات) التي يعيش بعضها في حال اسوأ من بنغلادش.
أقام الدستور توزيع الموارد الحالية بنسبة السكان على كل المحافظات توزيعاً متساوياً لكن الدستور ترك الموارد المستقبلية (غير المستكشفة) وهي كثيرة، عائمة تماماً. وهي موضوع صراع في لحظة يبدو العراق خلالها مثقلاً بأوجاع التمزقات على توزيع السلطة السياسية. ويمكن للصراع على توزيع الموارد الاقتصادية أن يجهز على البقية الباقية من وجود هذه الأمة العاثرة الحظ. هل هناك حلول ممكنة؟ نعم. لكن العمى أصاب كل الطبقة السياسية الجديدة، التي تحمل بعض سمات الرثاثة. ينبغي اعتماد حلول جزئية تدريجية بدل سياسة كل شئ او لا شئ. ووان يكون الخيط الهادي هو تخفيف العنف و بناء الإجماع….. *

* عن الحوار المتمدن.

زر الذهاب إلى الأعلى