انعكاسات الأزمة الراهنة على ” البلدان النامية “
انعكاسات الأزمة الراهنة على ” البلدان النامية “
د. صالح ياسر
2001 / 12 / 9
ملاحظات ضرورية لابد منها
بدأت بلدان ” العالم الثالث ” تحس بالأثر المتوقع لأحداث 11 سبتمبر وتداعياتها على المستوى الاقتصادي. بلدان هذا العالم إذن في قلب الأزمة المندلعة اليوم في قلاع رأس المال. ولكن الطرافة في كل هذا هو أن هناك كم غير قليل من الدراسات ومن بعض ” المنظرين” يريد أن يقنعوا بسطاء هذا العالم ومهمشيه بأن يركزوا جهة النظر فقط نحو إبراز دور العوامل الخارجية، وإهمال العوامل الأخرى، في الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية التي بدأت نذرها من جديد باندلاع أحدث ركود قد يكون طويل المدى، ولا نتساءل عن الأسباب الفعلية التي جعلت ذلك التأثير ممكنا بل وضروريا. ومن نافل القول أن “العوامل الخارجية “، ومع أهميتها، ما كان لها أن تفعل فعلها ما لم تكن الساحة المحلية في بلدان عالمنا ” الثالث “، بتناقضاتها وبنياتها، لتشكل تربة خصبة مهيأة لانفجار الأزمة. إذن، ما كان يمكن للأزمة أن تأخذ مداها وتفعل فعلها التدميري في إقتصادات ” البلدان النامية” راحلة إليها من القطب الرأسمالي المتقدم، دون أن تتوفر لها، منطقيا وعمليا، الشروط والأسس المتمثلة بنضوج أو هيمنة علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تشترط إعادة إنتاج التخلف والتبعية من جهة والهيمنة والإرغام من جهة أخرى.
هكذا إذن، فإن الاقتصار في التحليلات ( بصدد الأزمة) على الصعيد النظري بإبراز دور ” العوامل الخارجية ” وإدانة دور العلاقات الاقتصادية الدولية الرأسمالية فقط، على أهمية ذلك، غير كاف لوحده إذ هو ليس سوى ممارسة دور إيديولوجي تقوم به القوى الاجتماعية المسيطرة في معظم ” البلدان النامية ” لتعتيم الواقع الاجتماعي وتناقضات التطور الرأسمالي التبعي وسيادة أسس التقسيم الاجتماعي الرأسمالي للعمل داخل هذه البلدان. إن الأزمة الاقتصادية هي نتيجة طبيعية لتفاقم التناقضات المرافقة للتطور الرأسمالي، على الصعيد المحلي والعالمي. وهذا التفاقم هو عملية موضوعية يستلزمها التطور الرأسمالي ذاته، وأن هذه البلدان ليس خارج السيرورة الإنتاجية الرأسمالية العالمية، بل أحد مكوناتها أصلا. ومن هنا ينطرح سؤال مهم : لماذا تأثرت “البلدان النامية ” بتداعيات أحداث 11 سبتمبر، وما هي عوامل الأزمة في هذه البلدان، وهل هي خارجية أم داخلية، أم حصيلة الفعل النشيط لكليهما ؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من تناول الاقتصاد العالمي كبنية تتعايش فيها عدة أنماط إنتاجية يتمفصل فيها نمط الإنتاج الإمبريالي في البلدان الرأسمالية كنمط مهيمن، وأن تطور الأنماط الأخرى مشروط بعلاقة التبعية مع النمط المذكور. وإذا انطلقنا من فرضية أن أزمة الرأسمالية في حقل الاقتصاد هي أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان المتطورة، ونظرا لأن عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية في ” البلدان النامية ” – نتيجة ظروف تاريخية سنشير إليها لاحقا – ليست محكومة بآلية داخلية خاصة بنمط ( أو أنماط) الإنتاج المهيمنة فيها فقط، مستقلة عن نمط الإنتاج الإمبريالي المسيطر بل هي مرتبطة به عضويا، فإن الأزمة في المراكز الإمبريالية ستجد انعكاساتها في التخوم الرأسمالية عبر العلائق المتشكلة تاريخيا. ومن المؤكد أن حدة التأثير الأزموي تتوقف على مدى علاقة التبعية البنيوية لمستويات البنية المذكورة.
ولكن من الضروري الإشارة الى أن تبعية أو ” ثانوية ” هذه الظاهرة – التطور الرأسمالي في ” البلدان النامية ” – ليس سوى أحد جوانب المسألة التي من المهم تناولها بصورة جدلية في إطار التأثير المتبادل للعوامل الخارجية والداخلية للتطور ( والأزمة) وملموسية المعالجة وتاريخيتها. ولكي نستطيع التقدم خطوة للأمام في فهم ” خصوصية ” الأزمة في بلداننا فإن من الضروري القيام بتحليل معمق وملموس، في الوقت نفسه، لظهور الرأسمالية في هذه البلدان وتعرضه لـ “تعديل ” في أطرافها. إن هذا ” التعديل ” يتمثل في أصل ونمط انبثاق عناصر الرأسمالية والمراحل التي تمر بها، إنه تعديل لميكانيزم إعادة الإنتاج في ” الأطراف ” ولكن دون تغيير مضمون فعل اشتغال قوانين الرأسمالية.
لن ندخل في تفاصيل الظروف التي رافقت دخول الرأسمالية الى ” البلدان النامية “، ولا في التفاصيل الدقيقة التي مرّ بها النمو الرأسمالي خلال مراحله المتعاقبة ،لأسباب تتعلق بضيق المساحة، ولكن نود الإشارة، هنا، الى أن هذا النمو لم يتحقق في إطار السيرورة الداخلية لعلاقات الإنتاج، بل ” بفضل ” التدخل الإمبريالي العنيف الذي حطم السيرورة الداخلية وأعاد بناءها وتكيفها وربطها تبعيا بحاجات تطوره المباشر، مخضعا بنيتها الاجتماعية الجديدة لضرورات التراكم الرأسمالي ولعملية إعادة الإنتاج الموسع في الدول الإمبريالية ذاتها. وبذا أصبحت البنية الاجتماعية في ” البلدان النامية ” جزءاً عضويا من البنية الرأسمالية التي اتخذت في مرحلة تاريخية محددة طابعا كونيا. ومن المهم التذكير بأن هذا المستوى من الممارسة الاقتصادية الرأسمالية على مستوى دولي ترافق مع مستويين آخرين للممارسة : الممارسة السياسية والممارسة الإيديولوجية من قبل البلدان الرأسمالية المتطورة باتجاه التشكيلات الاجتماعية المتخلفة تهدف الى إعادة إنتاج الوضع الراهن، إعادة إنتاج التطور والتخلف، إعادة إنتاج الجهاز الرأسمالي الدولي الموحد، بكل ما يحمله من وظائف إنتاجية وسياسية وإيديولوجية لكل البنيات المندمجة معه، وبكل ما يحمله من تناقضات ناجمة عن الممارسات الملموسة في المستويات الثلاثة.
والخلاصة، أن الكشف عن السمات المميزة لتطور الرأسمالية ولاشتغال قوانينها العامة في ظروف ملموسة، في ” البلدان النامية “، يجب أن ينطلق من تحليل جانبين هامين هما :
· رؤية الطابع التاريخي للقضية، أي انخراط البلدان ” المستعمرة والتابعة ” في النظام الرأسمالي في وقت متأخر عن البلدان الرأسمالية المتطورة. إن هذا التأخير ليس شكليا، بل أن تلك البلدان دخلت مدار الرأسمالية على أساس تقسيم العمل الرأسمالي الذي كان قائما،أي أنها انخرطت في النظام الرأسمالي الدولي بمثابة عناصر خاضعة لعملية إعادة الإنتاج الرأسمالية الكونية الطابع، أملى شروطها المنتصرون في معاركهم لتقسيم وإعادة تقسيم العالم بين الضواري الاستعمارية.
· وتعني الملاحظة أعلاه ضرورة معالجة خاصية تطور العلاقات الرأسمالية في بلداننا، أي ضعفها وتفككها و ” ثانويتها ” وذلك بالارتباط الوثيق لوضع هذه البلدان غير المتكافئ والتابع، بوصفها هدفا للاستغلال الإمبريالي في النظام الاقتصادي العالمي.
وإضافة لذلك لابد من التذكير بأن القوى المسيطرة في ” مراكز ” النظام الرأسمالي و ” أطرافه ” معا تعطي للأزمة مضمونا إقتصادويا صرفا وتقديمها وكأنها أزمة خارج الحقل العام للصراع الاجتماعي. ولكن هذه الأزمة هي، في واقع الحال، أزمة في الحقل الاقتصادي للصراع الاجتماعي وليس أزمة مقطوعة الجذور عن ذلك الصراع، بحسب تعبير الشهيد مهدي عامل.
من المجرد الى الملموس : بعض ملامح وأثار اللوحة الكارثية !
لم يكن قد مرّ ما يقارب الشهرين على الهجمات الانتحارية التي وقعت في 11 سبتمبر 2001 على الرموز الاقتصادية والسياسية والعسكرية في قلب العالم الرأسمالي / الولايات المتحدة حتى بات واضحا وضوح الشمس بأن اقتصاديات ” الأطراف ” المتخلفة قد بدأت تشعر بوطأة ذلك الهجوم وتداعياته، وعلى وجه التحديد الاقتصادية منها. وفي مساعي محمومة لتجنب عواقب هذه الأزمة والكوارث الاجتماعية والاقتصادية المنتظرة، يحاول الزعماء السياسيون وصناع القرار في هذه البلدان اتخاذ طائفة من الإجراءات والقرارات السياسية والاقتصادية.
وإذا كانت ماكنة الدعاية في المراكز الإمبريالية تركز على نتائج الأزمة الاقتصادية الراهنة و التجليات الخارجية لها ( وليس تحليل جذورها وأسبابها وأبعادها الفعلية) من قبيل الخسائر في الوظائف وتناقص ثقة المستهلكين… الخ، فإن المشكلات التي تواجهها بلدان ” الأطراف ” تتعلق بالنتائج الكارثية المتوقعة والمترتبة على أحداث سبتمبر والتي من شأنها أن تدفع الى انحباس أفق النمو وتعظيم معدلات الفقر في هذه البلدان مؤدية الى تهميش ملايين إضافية من سكان هذه البلدان بسبب تداعيات الأزمة في ” المراكز ” المتقدمة وانتقالها الى بلدان ” الأطراف “.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، من المتوقع أن تتضاءل العوائد التي ظلت تكتسبها الدول الأفريقية شبه الصحراوية من السياحة والتي 7 مليارات دولار سنويا بصورة دراماتيكية في ظل عزوف السياح عن السفر الى مناطق مثل مصر وكينيا والمغرب وجنوب أفريقيا مما سيؤدي الى فقدان الملايين لوظائفهم في هذا المجال. وحتى الخامات والمواد الأولية المصدرة الى الخارج ستتعرض الى انخفاض الطلب العالمي عليها بسبب الانكماش الاقتصادي والركود الحالي. فمثلاً صناعة الماس الأفريقية باتت هي الأخرى تساورها المخاوف من انخفاض الطلب على السلع الكمالية الذي أصبح أمرا واقعا لا يمكن تجنبه.
ومن جانب أخر وارتباطا بحجم المخاطر فقد ازدادت تكاليف التجارة العالمية بما فيها رسوم التأمين العالية والتكاليف الأمنية علاوة على الأعطال والتأخيرات المطولة في الإجراءات الجمركية، وكل هذا من شأنه أن يجبر الكثير من المصنعيين والمصدرين الأفارقة الى الخروج من السوق. وبحسب كبير الاقتصاديين في بنك ستاندر جنوب أفريقيا فإن جنوب أفريقيا تواجه هذه الأيام أسوء تراجع اقتصادي لم تشهده منذ فترة طويلة. ومن الطبيعي الإشارة الى أن المصاعب سوف تختلف من دولة لأخرى حيث أن الأمر سيحتاج الى أشهر أخرى قبل أن يتم تحديد الآثار الناجمة. ولكن من المؤكد أن هناك دولاً سوف تتراجع الى عدة سنوات بينما تتراجع دولاً أخرى الى عقود من الزمان.
وبحسب توقعات المركز المغربي للتنبؤات الاقتصادية ستكون خسائر الاقتصاد المغربي خلال عامي 2002 و 2003 بسبب أحداث سبتمبر الماضي حوالي ستة مليارات دولار من الناتج الوطني. وقد ذكرت وكالة الشرق الأوسط نقلا عن الحبيب المالكي رئيس المركز أن أحداث سبتمبر تسببت في تراجع أداء الاقتصاد الوطني. وكان قطاع السياحة هو أول المتأثرين، وتمثل ذلك في إلغاء مائتي آلف ليلة سياحية طالت أساسا الفنادق الكبيرة التي يرتادها السياح الأمريكيون. كما حذر المالكي من تضرر الصادرات المغربية من هذه الأزمة مشيرا الى أن الشروط التفضيلية التي منحت لباكستان والهند على هامش هذه الأحداث ستتسبب في إحداث منافسة شديدة للصادرات المغربية. ولهذا يمكن القول أن المغرب لن تستطيع مواجهة التحديات الراهنة التي أفرزتها الأزمة خصوصا في ظل تراجع الطلب الخارجي على المنتجات المغربية وتراجع السياحة ومحدودية الاستهلاك الداخلي والاستثمارات المحلية وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملة المغربية.
ومن جهة أخرى لم يكن الاقتصاد المصري بمعزل عن هذه الأزمة في طل تعاظم آليات ومديات العولمة الرأسمالية. فقد أحبطت أحداث سبتمبر وتداعياتها محاولات الحكومة المصرية لإنعاش الاقتصاد والخروج به من دائرة الركود والكساد الذي أصابه منذ حوالي 18 شهرا. فقد أحجمت البنوك عن تمويل مشروعات سياحية تتجاوز استثماراتها 10 مليار جنيه في ضوء الخسائر الضخمة المتوقعة في هذا القطاع التي تبلغ نحو 3 مليار دولار. كما جمدت أحداث سبتمبر مشروعات وتوسعات جديدة في العديد من قطاعات الاقتصاد المصري ومن بينها القطاع العقاري. هذا إضافة الى أن هذه الأحداث ألقت بضلالها السلبية على قطاع السياحة حيث تقرر أخيرا إعادة النظر في تنفيذ عدة مناطق سياحية في البحر الأحمر تبلغ استثماراتها التقديرية حوالي 8 مليارات جنيه. وعلاوة على ذلك يواجه قطاع الملابس والمنسوجات أفاق معتمة وهو الذي تبلغ صادراته السنوية الى السوق الأمريكية لوحدها حوالي 800 مليون دولار. هذا وكان قطاع السياحة في مصر من أكثر القطاعات تضرراً من أحداث سبتمبر وتداعياتها. وبحسب تصريحه لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية قال الأمين العام للحكومة المصرية، صفوت النحاس، أن ” التقارير أشارت الى حدوث عجز في الدخل السياحي قدره مليار و 631 مليون دولار نتيجة الانخفاض المتوقع في أعداد السائحين القادمين الى مصر بنسبة 50 “. وإضافة لذلك فقد انخفضت الحجوزات في الفنادق بنسبة تتراوح بين 40 و 50 . وقد أدى الانكماش في حركة السياحة الى عمليات تسريح واسعة للعمال، والى إلغاء نسبة معتبرة من رحلات الطيران الجوية تراوحت بين 30 و 75 ، هذا إضافة الى تزايد الأعباء التي تتحملها شركات الطيران نتيجة زيادة أسعار البنزين وخدمات تموين الطيران وارتفاع تكلفة عمليات إعادة التأمين. وبحسب تقرير أعدته المجموعة الوزارية الاقتصادية لرصد الخسائر المتوقعة استنادا الى افتراض استمرار العمليات العسكرية الحالية في أفغانستان حتى منتصف العام المقبل وعلى ضوء التوقعات العالمية بدخول فترة مديدة من الركود على الصعيد العالمي، نتيجة تضرر قطاعات عالمية عديدة بسبب أحداث سبتمبر وفي مقدمتها الأسواق المالية والطيران والسياحة والنفط والتأمين والتجارة العالمية، بحسب ذلك يقدر التقرير المذكور الحد الأدنى للخسائر المحتملة بنحو 4 مليارات جنيه والحد الأقصى بنحو 8 مليارات جنيه. ويشير التقرير الى أن أكثر القطاعات تضررا هي السياحة التي ستتراجع بنحو 25 الأمر الذي سيعرض الشركات السياحية والفنادق وكافة الخدمات المرتبطة بهذا القطاع لخسائر كبيرة. ويواجه الميزان التجاري وضعا لا يحسد عليه نتيجة تراجع الصادرات السلعية المصرية بنسبة 10 ( هذه الصادرات تجاوزت 7 مليار جنيه خلال النصف الأول من هذا العام) بسبب الأعباء التي فرضتها شركات التأمين العالمية على عمليات إعادة التأمين في السوق المصري، وتراجع الطلب بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي المدى. هذا بالإضافة الى زيادة تكلفة الواردات في ظل تراجع قيمة الدولار أمام العملات الأخرى. كما تشير التوقعات الى انخفاض عائدات مصر من العملات الصعبة. فقد أشار السيد صفوت النحاس في تصريحه المذكور أعلاه أن ” التقديرات المتوقعة تشير الى انخفاض حصيلة النقد الأجنبي بحوالي مليارين و 428 مليون دولار وذلك نتيجة الانخفاض المتوقع في الموارد السياحية والنقل الجوي ورسوم قناة السويس والاستثمارات في الخارج “. هذا مع العلم أن مصر تعاني ومنذ اكثر من عامين من أزمة اقتصادية من ابرز مظاهرها تباطؤ في النشاط الاقتصادي وأزمة في السيولة النقدية، الأمر الذي دفع الحكومة المصرية إلى خفض قيمة عملتها ( الجنيه) لمرتين متتاليتين خلال ستة شهور في محاولة منها لكبح جماح ” حيتان ” السوق السوداء والحيلولة دون اندلاع أزمة في الدولار.
وفي باكستان أشار بنك باكستان المركزي الى أن البلاد تواجه مستقبلا اقتصاديا غير واضح بسبب قربها من مسرح العمليات العسكرية التي تشنها الولايات المتحدة على أفغانستان. ويجئ هذا التحذير بعد أيام قليلة من قول إسلام أباد أن هذه الحرب ستكبدها خسائر تقد بنحو 2.5 مليار دولار. وأكد البنك على أنه يظل من الصعب التكهن بالوضع على المدى المتوسط بسبب القلق بشأن الآثار السياسية والاقتصادية المترتبة على العمليات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة ضد أفغانستان والتباطؤ العالمي.
هذه الأمثلة هي غيض من فيض كثير، حيث الانكماش في بدايته وملامح أثاره المدمرة تطول الجميع وبدون استثناء، والخلاف الوحيد هو في مستويات ودرجات تأثر هذا الاقتصاد أو ذاك بآثار وتداعيات هذا الركود. وسوف تتعاظم هذه الآثار ارتباطا بارتقاء الركود الى حالة أزمة عميقة تطول الجميع ولن توفر أحدا، وعندها سيشعر الجميع بـ ” بركات ” الرأسمالية المعولمة والأثر المدمر للعلاقات الاقتصادية الدولية الرأسمالية.
وماذا يقول لنا ” منظرو ” البنك الدولي ؟
في تقرير صدر أخيرا تحت عنوان ” أفاق الاقتصاد العالمي والدول النامية 2001 ” كشف البنك الدولي النقاب عن أن الاقتصاد العالمي يتجه بشدة الى الكساد. ولكن التقرير وبدلا من فهم الأزمة الحالية على حقيقتها، يقدم وصفة تعكس رأي خبراء البنك المعنيون بكل شئ باستثناء مصالح البلدان النامية. يقول التقرير المذكور بأن الحل الوحيد للأزمة هو تحرير التجارة وخاصة في الدول الفقيرة التي ستكون الأشد تأثرا بهذا الكساد. البنك الدولي يعترف أولاً بوجود أزمة، وهذا أمر طيب، وأنها ستكون ذات تأثير كبير على ” البلدان الفقيرة ” وهذا شئ طيب كذلك. ولكن المشكلة تبدأ عندما نطلع على المقترحات التي يقدمها التقرير من أجل أن تتجاوز هذه البلدان أي تأثيرات لاحقة عليها، وذلك من خلال تأكيد خبراء البنك على تحرير التجارة. ! وهؤلاء الخبراء هم طبعا على دراية واسعة وتفصيلية بطبيعة السلع التي تصدرها كل من هذه البلدان والبلدان المتطورة. واستنادا الى ذلك لابد من التذكير بأن العلاقات التجارية الدولية محكومة بآليات التبادل اللامتكافئ، الناجم عن التطور المتفاوت، الذي يجري لصالح البلدان المتطورة ذات الإنتاجية العالية والتي تستغل وضعها المتميز هذا في علاقات التبادل الدولية. وترجمة مطلب أو مقترحات البنك الدولي بتحرير التجارة يعني ببساطة شديدة سحق أخر ما تبقى من ” قلاع اقتصادية” في البلدان الفقيرة، أي تهميشها وجعلها أكثر فقرا.
يكمن خلف تحليلات و “نصائح ” خبراء البنك الدولي والمؤسسات المالية والنقدية الدولية انتمائهم الى الفكر النيوكلاسيكي الذي يتقل مركز الثقل في تحليلاته من مجال علاقات الإنتاج الى مجال التداول، مفرغين قضايا القيمة والتوزيع من أي مضامين اجتماعية محددة. وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية تظل أفكار النظرية النيوكلاسيكية للتبادل الدولي هي المسيطرة عند صياغة ” النصائح ” المذكورة. ومن المفيد التذكير بأن هذه النظرية تعتمد على نموذج التجارة الثنائية القائم على المزايا النسبية لنظرية ريكاردو التي صاغها في القرن التاسع عشر وعلى فرضية وجود نظام اقتصادي مفتوح وكامل المنافسة. وهذا الافتراض هو مجرد بنية نظرية ولا أساس له في الواقع، في ظروف هيمنة الاحتكارات المتعدية الجنسيات محليا وعالميا، إضافة لوجود إجراءات حمائية وتميزية حادة تمارسها نفس البلدان المتطورة التي تسود فيها مبادئ ” الاقتصاد الحر “. ومن المؤكد أن تطبيق ” نصائح ” منظري البنك الدولي القاضية بتحرير التجارة وخاصة في ” الدول الفقيرة ” لا يخدم في الواقع سوى مصالح وأهداف البلدان الأكثر تطورا ( وهي هنا وبالملموس البلدان الرأسمالية المتطورة) في عمليات التبادل التجاري الدولي من جهة، ويؤدي في نهاية المطاف الى تعزيز عدم التكافؤ في النمو، واستنادا الى ذلك تعميق عدم تكافؤ التبادل من جهة أخرى. والقراءة السريعة لهذه ” النصائح ” تبين أن هؤلاء الخبراء لا يقدمون نصائح مجانية، فهم الأبعد عن هذه ” النيات ” الطيبة. إنهم على العكس يروجون لإملاء إستراتيجية تنموية تعتمد بصفة أساسية على ظروف وتطورات العلاقات الاقتصادية السائدة على الصعيد العالمي. ونظرا لأن الخاصية المميزة لهذه العلاقات هي إتسامها باللاعدالة واللامساواة واللاتكافؤ فإن تطبيق نصائح خبراء البنك الدولي لا يؤدي سوى الى نتيجة واحدة ووحيدة : تعميق التفاوت الاقتصادي على الصعيد العالمي، وتهميش دور البلدان النامية في التقسيم العالمي للعمل. وببساطة شديدة فإن تطبيق ” نصائح ” هؤلاء الخبراء سيفضي، في العادة، الى جعل الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا، وهذا هو جوهر قانون التراكم الرأسمالي. ويمكن القول أن هؤلاء الخبراء تلاميذ أوفياء للفكر الاقتصادي الكلاسيكي والكلاسيكي الجديد، برغم ادعاءاتهم بأنهم يتمسكون بأقصى درجات الحياد عند صياغة تحاليلهم وتقديم ” نصائحهم” في التقارير التي يكتبونها لسادتهم القابعين في غرف مكيفة وأثيرة، المهتمين قطعا ليس بـ ” تقليص الفقر ” بل بتأبيد علاقات الهيمنة/الخضوع على الصعيد العالمي، و ” تطويرها ” وفقا للظروف الملموسة. وفي ظروف التطور اللامتكافئ وبالتالي التبادل اللامتكافئ على الصعيد العالمي فإن تحرير التجارة سيفضي الى نتيجة واحدة ووحيدة هي تعميق الفقر وعولمته. ويبدو أن هذا هو ما يشكل جوهر ” نصائح ” هؤلاء الخبراء.
ملاحظة كتبت هذه الملاحظات بمناسبة مرور شهرين على احداث 11 ايلول/2001…… #
#. عن الحوار المتمدن…