بصدد القانون الدولي الخاص
بصدد القانون الدولي الخاص
نور طالب ناظم
2022 / 2 / 21
دراسات وابحاث قانونية
عند دراسة قواعدالقانون الدولي الخاص نجد انها تعمل على تعين القانون الواجب التطبيق في العلاقات القانونية التي يشوبها عنصر اجنبي وكذلك تساعد على تعين المحاكم المختصة في قضية مشوبة بعنصر اجنبي وتحددالجنسية والموطن والمراكز القانونية للاجانب وتنفيذالحكم القضائي الاجنبي. بالتالي نجد ان قواعد هذا القانون تختص بتنظيم عدة مجالات مهمة مثل تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القصائي الدولي وتنفيذ الاحاكم الاجنبية والجنسية وغيرها. وقبل ان نتتبع مشكلة تنازع القوانين ودراسة قواعد الاسناد كمفهوم متقدم، يجب ان لا يغيب عن اذهاننا مراحل التطور التاريخي لقواعد الاسناد وذلك لان من شان هذا التحليل التاريخي ان يضيء لنا جوانب مهمة عن كيفية ظهور هذا الفرع من فروع القانون الخاص. خصوصا ان القانون كبناء فوقي متغير ما هو الا نتاج لعملية التطور الاقتصادي الاجتماعي للمجتمعات عبر التاريخ. وعليه نجد ان قواعد القانون الدولي الخاص لم تتبلور في المجتمعات القديمة بل جاءت كحصيلة فرضتها صيرورة ارتقاء المجتمعات. فالاعراف والاخلاق والقوانين والدولة جميعها تطورت كنتيجة لتطور وسائل الانتاج ونمو قوى الانتاج. وعلى هذا الاساس نجد ان اي بناء فوقي حقوقي سياسي لا يتطور الا بوجود اساس واقعي يقوم عليه. وهذا ما نلمسه اذا عمدنا لدى دراسة القوانين في الامبراطوريات القديمة كالامبراطورية الرومانية مثلاًً ، سوف نرى انها لم ترتقي الى درجة من التطور لتعترف بحقوق الاجانب وتتسامح معها، حيث لا يمكن تصور المساواة بين الرومان والاجانب ولا بين الاحرار والعبيد ولهذا نجد ان هناك قانونين في التشريع الروماني قانون ينظم العلاقة بين الرومان يسمى القانون المدني وقانون الشعوب الذي هو عبارة عن قواعد موضوعية يخضع لها الاجانب. وعلى الرغم من تطور القانون الروماني نتيجة تلاشي الكثير من الفوارق ما عدا الفارق بين الاحرار والعبيد، الا انه لا يمكن الخروج باستنتاجات قانونية تبين لنا وجود ظاهرة تنازع القوانين بالتالي نرى ان السمة الظاهرة في القانون الروماني هي سيطرة مبدأ اقليمية القوانين المطلقة . وبعد ان غزت القبائل الجرمانية اراضي الامبراطورية الرومانية قسمت ثلثي الاراضي فيما بينها وفق تكوينهم العشائري ولم تكون دولاً مميزة، بالتالي ظلت كل قبيلة تخضع لقانونها الخاص، مما ادى الى عدم ظهور مشكلة تنازع القوانين وسيطرة مبدأ شخصية القوانين المطلقة .
ادى تحلل النظام القديم على يد القبائل البربرية الى تدهور الزراعة وضعف الصناعة ونقص الاسواق واضمحلال التجارة بسب الحروب، ونقص عدد السكان وجراء هذه الظروف واعتماداً على الاراضي الواسعة التي فتحها الرومان سابقاً، نشأ نمط اقتصادي جديد يعتمد على استغلال الفلاح الملحق بالارض. فظهر الاقطاع في اوربا وسيطرة على الارض وساد الولاء الى السيد الاقطاعي واصبحت قوانين كل مقاطعة هي السارية على السكان وتطبق عليهم مما ادى الى عدم التسامح مع القوانين الاخرى فاخذ مبدأ شخصية القوانين بالزوال تدريجياً وحل محله مبدأ اقليمية القوانين المطلقة، بالتالي لم تظهر مشكلة تنازع القوانين. وحدثت ان ازدهرت التجارة بعد الحملة الصليبية الاولى التي وصلت الى سوريا والحملة الصليبية الثانية التي وصلت الى بيت المقدس والتي ساعدت على فتح طريق البحر الابيض المتوسط فزاد التبادل التجاري بين الشرق الادنى واوربا والذي على اثره استفادت المدن المطلة على البحر والتي اصبحت جمهوريات صغيرة تحكمها عوائل قوية راكمت ثروات ضخمة فنشأ اقتصاد مزدهر يعتمد على التبادل التجاري بين المدن مما ادى الى دخول الافراد الاجانب عن كل مدينة بعلاقات قانونية مع اهاليها فاصبحت هناك حاجة الى تشريع جديد يساعد على تنظيم هذه الروابط القانونية الجديدة .انظر ( د. يونس صلاح الدين علي – القانون الدولي الخاص – الجزء الاول ص 51 )
ونتيجة لهذه الظروف التي فرضتها الضرورات العملية في هذه الجمهوريات البحرية الصغيرة توصل فقه الاحوال الايطالي القديم الى حل مشكلة التنازع بين المدن عن طريق اختيار قانون احدى المدن فاخضع العقد لقانون البلد الذي ابرم فيه والجرائم الجنائية لقانون محل وقوعه اما الاهليه فقد اخضعها لقانون الموطن الاصلي. وهكذا بدت الملامح الاولى للتفرقة بين الاحوال الشخصية والاحوال العينية وحل مشكلة تنازع القوانين من خلال قواعد الاسناد. وساعدت نظرية الاحوال الايطالية القديمة على ظهور العديد من النظريات التي تاثرت بها، ابرزها نظرية الاحوال الفرنسية التي نادت بفكرة اقليمية القوانين معتبرة ان الاصل هو اقليمية القوانين والاستثناء هو شخصية القوانين كذلك وضعت عدة قواعد اسناد منها، قاعدة خضوع حالة الشخص واهليته لقانون الموطن الاصلي، وخضوع الاموال العقارية لقانون موقعها، وشكل التصرفات القانوية لقانون بلد اجرائها. واستمر الفقه الغربي في انتاجه المعرفي نتيجة لتطور المصالح المادية الاقتصادية داخل المجتمع فظهرت نظرية المجاملة الهولندية في القرن السابع عشر والتي تاثرت بنظرية الاحوال الفرنسية. حيث وضعت عدة قواعد الاسناد اهمها، قاعدة خضوع حالة الشخص واهليته لقانون الموطن، وقاعدة شكل التصرفات القانوني لقانون محل اجرائه، وقاعدة خضوع الاموال سواء كانت عقارية ام منقولة لقانون موقعها. ثم بعد ذلك ظهرت النظرية الايطالية الحديثة على يد الفقيه الايطالي مانشيني في القرن التاسع عشر الذي نادي بمبدأ شخصية القوانين. وقد وضعت هذه النظرية عدة قواعد اسناد منها، قاعدة خضوع حالة الشخص واهليته لقانون الدولة التي ينتمي اليها بجنسيته، وخضوع ميراث العقارات والمنقولات لقانون جنسية المتوفي وقت الوفاة …..انظر ( د. يونس صلاح الدين علي – المرجع السابق)
وكذلك ظهرت النظرية الالمانية الحديثة على يد الفقيه الالماني سافيني والنظرية الفرنسية الحديثة على يد الفقيه الفرنسي انطوان بيليه التي كانت لهما دور في تطور قواعد الاسناد. كما نشأت نظرية التكييف على يد الفقيه الفرنسي بارتن من خلال مقاله الذي نشره عام 1897م والذي تكلم فيه عن التكيف وضرورة خضوعه لقانون القاضي واستند بارتن الى قضيتين مشهورتين وهما “ميراث المالطي “وقضية “وصية الهولندي “.
وفي ضوء هذا الشرح المقتضب، نرى ان تطور التشريع القانوني وظهور النظريات القانونية كان مرتبط بالتطور الحياتي الواقعي للمجتمع، حيث ساعد صعود الطبقة البورجوازية على انقاض المجتمع الاقطاعي في اوربا على تطور الشروط المادية في حياة المجتمع فحل نمط الانتاج الراسمالي بدل نمط الانتاج الاقطاعي، الامر الذي ادى الى تقدم الانتاج البضاعي بدل الانتاج الزراعي فازدهرت العلاقات المتبادلة بين هذه الامم كنتيجة لتطور تقسيم العمل والانتاج فانفصلت المدينة عن الريف وانفصل العمل التجاري والعمل الصناعي عن العمل الزراعي، بالتالي اصبحت الحاجة ماسة الى الادارة والبوليس والتشريعات القانونية الجديدة كتعبير عن طبيعة النظام السياسي الجديد والمصالح المادية الجديدة.
نطاق تطبيق قواعد الاسناد والمشكلات التي تصادف الاسناد
تنقسم القواعد بشكل عام الى قواعد تقريرية وقواعد تقويمية وتعتبر القواعد القانونية جزء من القواعد التقويمية لانها تفترض مسبقاً حدوث واقعة قانونية في المستقبل يترتب عليها حكماً قانونياً معيناً وهي بذلك تستهدف حالة سلوكية اجتماعية تقوم بتقويمها. وانطلاقاً من ذلك نجد ان القاعدة القانونية تتكون من ركنين هما الفرض والحكم، كما هو الحال في القواعد الموضوعية. ولايختلف الامر بالنسبة لقواعد الاسناد وذلك باعتبارها قواعد قانونية فهي الاخرى تتكون من ركني الفرض والحكم لكن طبيعتها الوظيفية والفنية تختلف عن القواعد الموضوعية. فالمشرع جعل من قواعد الاسناد وسيلة تساعد القاضي على حل مشكلة تنازع القوانين من خلال اختيار افضل القوانين المتزاحمة واكثرها ملاءمة لحكم العلاقة القانونية الخاصة المشوبة بعنصر اجنبي. بالتالي فان قواعد الاسناد هي قواعد ارشادية محايدة ذات طابع غير مباشر وظيفتها تحديد القانون الانسب من اجل تطبيقة على النزاع القانوني المشوب بعنصر اجنبي. وقد تكون قاعدة الاسناد مفردة الجانب تشير فقط الى اختصاص قانون القاضي او ثنائية الجانب تشير الى اختصاص قانون القاضي او قد تعمل على تطبيق القانون الاجنبي. وتتكون قاعدة الاسناد من اربعة عناصر رئيسية وهي الفكرة المسندة وضابط الاسناد والقانون المسند اليه ووقت الاسناد. وتساعد هذه العناصر التي هي جزء من مراحل التكيف في ايجاد القانون الواجب التطبيق والتي من خلالها يتوصل القاضي الى حل العلاقة القانونية المشوبة بعنصر اجنبي. وقد اخذ المشرع العراقي بمنهج التكيف وفقاً لقانون القاضي حيث نصت المادة (17) من القانون المدني العراقي في فقرته الاولى ( القانون العراقي هو المرجع في تكيف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين لمعرفة القانون الواحب التطبيق من بينها ) .
وعلى الرغم من ان قواعد الاسناد ترشد القاضي الى تطبيق القانون الاصلح بالنسبة للعلاقة القانونية التي يشوبها عنصر اجنبي الا ان ذلك لا يخلو من بعض المشكلات التي قد تصادف القاضي عند اجراء عملية الاسناد من بينها اولاً: اختلاف فكرة الاسناد في قواعد الاسناد بين الدول والذي يؤدي الى تنازع في التكيف كما هو الحال في قضية وصية الهولندي وقضية ميراث المالطي. ثانياً: قد يواجه القاضي صعوبة تتعلق بالقانون الواجب التطبيق وبالاخص عندما يكون اجنبياً ، بالتالي أينبغي له تطبيق القواعد الموضوعية وقواعد الاسناد معاً مما يجعله يتجه الى استشارة قواعد الاسناد التي قد تفضي الى تطبيق قانون اخر ام يطبق قواعده الموضوعية فقط .فاذا استشار القاضي الوطني قواعده الموضوعية فقط يتم حسم النزع. اما اذا استشار القاضي قواعد الاسناد للقانون الاجنبي الواجب التطببيق تثور مشكلة الاحالة والتي يشترط ايضاً في ظهورها اختلاف ضابط الاسناد في قاعدة اسناد قانون القاضي عن ضابط الاسناد في قاعدة اسناد القانون الاجنبي الواجب التطبيق. ومن ناحية اخرى قد تشير قاعدة الاسناد في دولة القاضي الى قانون اجنبي تتعدد فيها الشرائع والذي يكون اما تعدد اقليمي بحيث تقوم الدولة بتطبيق على كل اقليم من اقاليمها شريعة خاص بها مثل الولايات المتحدة الامريكية وسويسرا او قد يكون تعدد شخصي حيث تتعدد فيه شرائع الطوائف داخل الدولة الواحدة فتقوم الدولة بتطبيق الشريعة الخاصة لكل طائفة تبعاً لمواد الاحوال الشخصية وهذا ما نراه في مصر ولبنان وهنا نكون امام قاعدة التفويض . وجدير بالذكر ان موقف القانون العراقي من مشكلة الاحالة وقاعدة التفويض يبدو واضحاً حيث انه منع الاخذ بالاحالة وذلك وفقاً للمادة (31 )من القانون المدني العراقي ولكن باستثاء واحد وهو ما نصت علية الفقرة الثانية من المادة (48) من قانون التجارة العراقي النافذ لسنة 1984م التي تتعلق باهلية الملتزم بالسفتجة. اما بخصوص قاعدة التفويض فان المشرع العراقي قد اخذ بها وذلك من خلال ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (31) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951م.
ثالثاً: وقد تثور مشكلة اخرى تتعلق بعنصر ضابط الاسناد المتغير وتسمى بالتنازع المتغير والذي يحدث نتيجة وجود علاقة قانونية في ظل قانون قديم تبقى مستمرة زمنياً بحيث تترتب اثارها في ظل قانون جديد مما يؤدي الى تنازع في ضوابط الاسناد وهنا يكون القاضي امام تعاقب قانونين لذات العلاقة القانونية مما يجعله يواجه صعوبة في حل النزاع . وقد يلجأ القاضي الى عدة حلول يمكن ان يتبعها بخصوص مشكلة التنازع المتغير وهي نظرية احترام الحقوق المكتسبة ونظرية تطبيق قواعد تنازع القوانين الداخلية من حيث الزمان وتحديد وقت الاسناد عن طريق الحل التشريعي .
وفي الختام نود ان نلفت الانتباه الى ان هذه المقال لا يشمل جميع موضوعات القانون الدولي الخاص بل هو عبارة عن قراءة موجزة لبعض منها والتي قد تساعد القارىء على الدخول في دراسة هذا الفرع المهم من فروع القانون الخاص .
المراجع :
“استاذنا الدكتور يونس صلاح الدين علي “(القانون الدولي الخاص – الجزء الاول )
“الدكتور هشام على صادق “(المطول في القانون الدولي الخاص – الجزء الاول )
“احمد محمد غينم”( تطور الملكية الفردية).. #
#. عن الحوار المتمدن….