الفكر السياسي

بعض السمات الجوهرية لعلمانية الدولة

بعض السمات الجوهرية لعلمانية الدولة

بعض السمات الجوهرية لعلمانية الدولة

د. فلاح اسماعيل حاجم

2006 / 7 / 1

لا اعتقد ان مبدءاً تعرض للتشويه وسوء الفهم مثلما تعرض له مبدأ العلمانية, ولا اعتقد ان مسألةً استأثرت باهتمام كبير ومتعدد الجوانب ودار حولها نقاش مستعير مثلما دار حول مفهوم فصل الدين عن الدولة. فالجدل حول العلاقة بين الدين والدولة كان محتدما وقاسيا ومعقدا الى الدرجة التي جعل الكثيرين ينظرون الى فصل الدين عن الدولة ومبدأ العلمانية باعتبارهما مترادفين. ومع ان مفهوم فصل الدين عن الدولة يعتبر اساسيا, الأ انه ليس الوحيد من عناصر علمانية الدولة. على ان تصويرفصل الدين عن الدولة باعتباره علمانية لم يأت من فراغ, انما هو امتداد لمفاهيم كانت تعد من قبيل المسلمات في القرنين السابع عشر والثامن عشر, حيث كانت القوى الصاعدة في اروربا تواجه مقاومة عنيفة من طرف السلطة الدينية ممثلة بالكنيسة, تلك المؤسسة التي وفرت تعاليمها السند الايديولوجي لسلطة الاقطاع المهددة بالسقوط والمستنفذة لرصيدها المادي والمعنوي. فأن تكون علمانيا في القرنين المذكورين معناه انك تقف ضد الكنيسة والسلطة الروحية المقدسة. ولا غرابة في ذلك, فلم يكن هنالك ثمة من تمييز بين السلطتين الروحية (الدينية) والدنيوية. فما زلت من رعايا الدولة عليك الخضوع لقوانينها الدنيوية (الوضعية) مثلما عليك الألتزام بتعاليمها الدينية.
ان مهمة تحديد السمات الجوهرية لمبدأ العلمانية تنطوي على صعوبة كبيرة وذلك بسبب التطور المتسارع للمجتمع والدولة, اذ ليس من المنطقي الحديث عن سمات العلمانية في ظروف العولمة وثورة المعلومات, وحيث تتكامل قواعد القانون الدولي مع مثيلاتها في القانون المحلي في الكثير من الجوانب (وخصوصا فيما يخص حقوق الانسان), مثلما كان الحديث يجري عن تلك السمات في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, حيث التمييز على اساس الدين والعنصر يكاد يكون مشرعاً.
ان واحدة من اهم سمات علمانية الدولة هي فصل المؤسسات الدينية عن هيكلية الدولة والحيلولة دون امتلاك التعاليم الدينية صفة الالزام والشمولية. ولا يقل اهمية عن ذلك منع الكيانات السياسية السائدة, الدينية منها وغير الدينية, من استثمار صلاحياتها السلطوية و نفوذها لتكريس ونشر ايديولوجيا محددة وفرضها على اجهزة الدولة المختلفة. ذلك ان واحدة من مميزات الدولة العلمانية هو التزام مبدأ الحياد بالعلاقة تجاه المكونات الاجتماعية المختلفة, بالاضافة الى ان العلمانية تفترض اشاعة مبدأ التكافؤ والمساواة بين تلك المكونات. هذا من جهة, ومن جهة اخرى فأن العلمانية تكمن في تحرير المجتمع من قيود الفكر الواحد, والغاء الاستخدام التعسفي للتعاليم الدينية او الايديولوجية, ذلك ان واحدا من الاهداف المهمة للعلمانية يكمن في تأمين التعايش السلمي لمختلف الايديولوجيات (الدينية وغير الدينية) وبالشكل الذي يحول دون التمييز على اساس الانتماء الديني او الطائفي والسياسي.وبهذا الخصوص اجد مناسبا الأشارة الى ان العلاقة بين القانون والايديولوجيا تميزت, على الدوام, بالتشابك والتعقيد, وربما كان ذلك بسبب الارتباط الوثيق لكليهما بالسياسة. ولا اعتقد ان هنالك ضرورة للتذكير بجدلية العلاقة بين الحق (القانون) والسياسة ومدى خضوع احدهما للآخر وشروط ذلك الخضوع. ان تحليلا بسيطا لعلاقة السياسة بالحق سيبين بأن السياسة كانت على الدوام بوصلة الحق, اي ان الحق كان بمثابة مرآة السياسة العاكسة ووسيلتها الاكثر اهمية في تنفيذ الارادة السائدة اجتماعيا. فالقاعدة السياسية سرعان ما تتحوّل الى قاعدة للحق (قاعدة قانونية) حال تبنيها واقرارها من قبل اجهزة الدولة الشرعية وذات العلاقة. فاغلب القواعد المثبتة في منظومة الدولة القانونية تعكس المبادئ الاساسية لقيم وافكار سياسية في مرحلة زمنية محددة. لكن لأولوية السياسة على الحق واخضاعها له حدودها ايضا, ففي ظروف معينة يكون النشاط السياسي محكوما بالقواعد القانونية وخاضعا لها. ذلك ان وظيفة السياسة تكمن في تحديد الخطوط العامة لصياغة قواعد الحق, في حين تقوم الاخيرة بتنظيم النشاط السياسي من خلال تحديدها لقواعد اللعبة على الساحة السياسية, وربما كانت قواعد التشريعات الانتخابية وانظمتها الاكثر تجليا في هذه المعادلة, حيث التشريع يقوم برسم الاطار العام لنشاط الكيانات السياسية وبالشكل الذي يؤمن عدم خروج البرامج السياسية لتلك الكيانات عما هو مرسوم لها من حدود. من هنا تبدو واضحة العلاقة الجدلية بين كل من الايديولوجيا والسياسة والحق, ومن هنا ايضا تبرز اهمية مبدأ العلمانية, باعتباره المبدأ الوحيد الذي بامكانه تنظيم العلاقة بين الايديولوجيات المختلفة والتوجهات السياسية المتناقضة وباعتباره الضمانة الضرورية للحق ومصدر حمايته من تعسف السياسة والايديولوجيا على حد سواء. بالاضافة الى ذلك فأن مبدأ العلمانية يقوم بتأمين حيادية الدولة من خلال ضمان استبعاد التأثيرات السياسية والايديولوجية على اجهزتها المختلفة وعلى كافة المستويات. فاختيار الوزراء وفق الاستحقاقات الانتخابية, على سبيل المثال, سيوصل الى جهاز الدولة التنفيذي عناصر قد ترى في برامج احزابها وايديولوجيتها المرجعية الاولى لنشاطها, ما يوقع الجهاز التنفيذي في اشكالية التقاطع بين المصلحة العامة للدولة ومصلحة الكيان السياسي لذلك المسؤول. من هنا ينبغي النظر الى حيادية الدولة ليس باعتبارها مفهوما مبسطا ومجردا, بل باعتبارها منظومة معقدة من العلاقات يلعب التشريع فيها الدور الحاسم. وربما اكتسب الرجوع الى تجربة البلدان المختلفة في معالجة هذه الاشكالية اهمية استثنائية,وخصوصا في ظروف العراق الحالية. فالمادة (ل . 141-6) من القانون الفرنسي (حول التعليم) اشارت صراحة الى ان “الخدمة العامة في مجال التعليم العالي تعتبر علمانية ومستقلة عن اي تأثير, سياسي كان او اقتصادي, ايديولوجي او ديني ; و تسعى لضمان موضوعية المعرفة وتحترم اختلاف الآراء. وعليها تأمين امكانية التطور العلمي الحر”. فيما حرّم الجزء 4 من الفقرة 21 للقانون الفيدرالي النمساوي (حول الجامعات) اعضاء الحكومة الفيدرالية وحكومات الاقاليم (المقاطعات) واعضاء المجلس الوطني (البرلمان) والمجالس النيابية المحلية وكذلك قادة الاحزاب السياسية الدخول في عضوية مجالس الجامعات. وفي اطار تأمين استقلالية الخدمة المدنية الحكومية عن التأثيرات الدينية والايديولوجية من جهة, وضمان حقوق الفرد الدستورية مثل حرية الرأي والمعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية, من جهة اخرى, تتضمن تشريعات الكثير من الدول العلمانية قواعد ملزمة لتنظيم هذه العلاقة الشائكة (القانون الايطالي حول الخدمة الحكومية لعام 1983, والقانون الكندي حول التوظيف للعام 1967 , وقانون الولايات المتحدة الامريكية حول اصلاح نظام الخدمة الحكومية لعام 1978, وقانون المملكة المتحدة حول تحديد الصلاحيات في مجال الخدمة الحكومية لعام 1992, والقانون الالماني حول الموظفين الفيدراليين لعام 1985 …..الخ. وربما كان القانون الاساسي لالمانيا الفيدرالية (الدستور) الاكثر تفصيلا في مجال حل الاشكالية بين الانتماء السياسي والديني والقناعة الايديولوجية, وبين ما يمكن ان نطلق عليه الالتزام الوظيفي. فاضافة الى اشارته لحرية الرأي والمعتقد (الفقرة 1 من المادة 4), اكد الدستور الالماني لعام 1949 على “حق ممارسة الحقوق المدنية والسياسية اضافة الى امكانية تسنم المسؤوليات الحكومية بغض النظر عن المعتقد الديني…..”.
لقد احدث تأسيس هيئة الامم المتحدة في العام 1945 ومجموعة اخرى من المنظمات الدولية والاقليمية نقلة نوعية في مجال تعزيز مبدأ علمانية الدولة, وكان للمواثيق والمعاهدات الدولية مثل الاعلان العالمي لحقوق الأنسان (عام 1948), والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966وغيرها الكثير اثر بالغ الاهمية في تثبيت ذلك المبدأ ليس فقط لأن تلك المواثيق واللوائح شكلت مرجعية عليا بالنسبة للكثير من الدوّل, واصبحت مصدرا رئيسيا من مصادر التشريع المحلي, وانما لأن العناصر الاساسية للعلمانية باتت تشكل الموضوعات الاكثر اهمية في تلك الوثائق, اذ قلما تجد لائحة دولية خالية من احد تلك العناصر. فمفاهيم مثل حرية الفكر والمعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية….الخ وجدت تجلياتها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948 (المواد 18 و 19). و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام لعام 1966 (الفقرتين الاولى والثانية من المادة 18). واللائحة الدولية لمحاربة التمييز في مجال التعليم لعام 1960(الفقرة ب من المادة 5). وفي الكثير من اللوائح والمعاهدات الدولية الاخرى.
ان العلمانية لا تعني القطيعة الكاملة بين الدين والدولة, بقدر ما هي تنظيم العلاقة بينهما ومنحها بعدا قانونيا, ذلك ان تداخل بعضهما بالبعض الآخر سيؤدي ,كما تثبت التجربة التأريخية, الى الاساءة لقدسية التعاليم الدينية وذلك باثقال تلك التعاليم بامراض الدولة مثل الفساد الاداري والمالي والمحسوبية وسوء استخدام السلطة…..الخ. وبالمقابل فأن دمج المؤسسة الدينية بمؤسسة الدولة (او اعتبار تعاليم الدين مرجعية لتلك الدولة) في بلد متعدد الملل والنحل والمذاهب والقوميات تبدو مسألة بالغة الصعوبة. بالاضافة الى ذلك فأن مجالات كثيرة يمكنها ان تشكل نقاط التقاء وتعاون بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة؛ فنشاطات كثيرة كانشاء صناديق لدعم المشاريع الخيرية (رعاية الايتام واعالة اسر الشهداء وبناء المستشفيات وغيرها) يمكنها ,اذا ما تم تفعيلها في حدود القانون, ان توفر على الدولة جهدا كبيرا. وربما كان تنظيم السياحة الدينية واحدا من مجالات هذا التعاون في العراق تحديداً… #

#  عن الحوار المتمدن..

زر الذهاب إلى الأعلى