بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001
بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001
د. صالح ياسر
2002 / 9 / 12
بعيدا عن قراءات تبسيطية، يعد خطاب ” حال الاتحاد ” الذي ألقاه الرئيس الأمريكي بوش في بداية هذا العام (2002) بمثابة الإطار العام للتوجه الاستراتيجي الجديد إذ أنه أبقى الباب مفتوحا على مصراعيه لمواصلة الولايات المتحدة لـ ” الحرب على الإرهاب ” ، وأضاف الى ذلك نحته لمفهوم ” محور الشر ” مدشنا جبهة جديدة، بإضافة هذه الدول وقائمة إضافية من الدول المارقة والتي تنتج أسلحة الدمار الشامل.
ومن المفيد التذكير كذلك منعا لأي التباس بأن هذا الخطاب لم يكن ظرفيا، بل إنه يشكل امتدادا طبيعيا لـ ” حركة فكرية ” داخل مراكز صناعة القرار في الولايات المتحدة تهدف صياغة معالم وعناصر التصور الامريكي لحقبة ” ما بعد الحادي عشر من ايلول ” بما في ذلك بلورة العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة. وتمثل العقيدة الجديدة تطورا نوعيا بالمقارنة مع تلك التي تبلورت في بداية التسعينات اثر انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وحل حلف وارشو. فقد كانت العقيدة الأولى تقضي بتوفير الجاهزية القتالية لخوض حربين إقليميتين كبيرتين في وقت واحد. هذه الجاهزية القتالية على ضخامتها ومخاطرها لم تعد كافية لإشباع نهم صقور الإدارة الأمريكية، ودفعهم الأمر الى ” إعمال ” الذهن لبلورة عقيدة عسكرية جديدة قادرة على ضمان هيمنة عالمية للولايات المتحدة وفقا لـ ” أحسن الظروف “.
1. معالم العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة
إستنادا الى مايكل ت. كلار، الاستاذ في جامعة هامشر ومؤلف كتاب Resource Wars: The New Landscape of Global Conflict, Metropolitan Books, 2001 الصادر عام 2001 ( لموند ديبلوماتيك عدد تموز/2001 ) تقوم الهيكلية الاستراتيجية للدفاع الاميركي على ركائز ثلاث. اولاً، المركزية الاميركية، أي العقيدة القائلة باستخدام القوات لما فيه اقصى المراعاة للمصالح الوطنية، بما في ذلك ابان العمليات المشتركة مع الحلفاء. ثانياً، السيطرة العالمية او القدرة على ايصال قواتها الى أي مكان وفي أي زمان وضمن مطلق الظروف. اخيراً، التفوق الدائم، بمعنى آخر اللجوء الى العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية تأمينا للغلبة الدائمة للقوات المسلحة الاميركية.
ومنعا لأي التباس لابد من الاشارة الى أن هذه الافكار ليست في مجملها جديدة. فهناك ادارات اخرى سعت الى تفضيل هذه الركيزة او تلك. لكن الشيء المهم هنا هو انه لم يصل التفكير الاستراتيجي قبل اليوم الى بلورة هذه الركائز بهذا القدر من التماسك والوضوح والحماسة، الى درجة يمكن معها القول اننا نشهد انقلابا في التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة الاميركية.
ومن متابعة التفكير الاستراتيجي يلاحظ أن العقيدة العسكرية الاميركية سعت على الدوام الى جعل استخدام القوات المسلحة في الخارج متوافقا مع مصالح الولايات المتحدة الامنية الاساسية. لكن الاهداف الاستراتيجية كانت تكتسي في السابق طابعا أخلاقيا وتروج لمفاهيم من قبيل : ” الدفاع عن الديموقراطية ومكافحة الشمولية والحفاظ على السلام ….. الخ “. واذا لم يصبح مصير هذه الاهداف الزوال التام في عهد جورج بوش الابن، فانها باتت مرهونة بدقة للدفاع عن
” المصالح الوطنية “.
وبالملموس، ماذا تقول العقيدة العسكرية الجديدة ؟
للإجابة على هذا السؤال لابد للعودة الى وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد. ففي حديث له أمام طلاب جامعة الدفاع الوطني في 31/1/2001، حدد رامسفيلد جوهر العقيدة العسكرية الجديدة للولايات المتحدة بأنه يتمثل في ” امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا
· الانتصار على قوتين تهاجمان الولايات المتحدة، ( أي مسرحين للحرب ،ص.ي)
· خوض هجوم مضاد قوي،
· احتلال عاصمة بلد معاد وإقامة نظام جديد فيها “.
ويعني هذا إضفاء تعديل هام على العقيدة العسكرية التي ظلت سارية المفعول لحد الان.
وقبل ذلك كانت اهداف السياسة الدفاعية الرئيسية قد مرت بثلاث مراحل اساسية، حسب بول ماري دولا غورس ( لوموند ديبلوماتيك عدد أذار/2002 ).
1. قبل السبعينات كانت سياسة الدفاع الأميركية تضع نصب أعينها الاستعداد لخوض “حربين ونصف الحرب”، بحسب المذهب الذي تبناه أنذاك الرئيس الامريكي الاسبق ريشارد نيكسون. ففي إطار الحرب الباردة حيث كانت البلدان الاشتراكية تشكل كتلة واحدة، كان من المفترض – بحسب هذه العقيدة – الاستعداد لحرب محتملة ضد الاتحاد السوفيتي وأخرى من الصنف نفسه ضد الصين وثالثة في الوقت نفسه لكن بحجم أقليمي ضد بلدان عدوة لا تقاس قدرتها العسكرية بالجبارين الآخرين. ومن هذه النزاعات مثلا الحرب الكورية والفيتنامية او الحملات العسكرية في لبنان وغواتيمالا وسانتا دومينغو. وقد دفع النزاع الايديولوجي بين الاتحاد السوفياتي والصين، والذي توج بقطيعة سياسية – اقتصادية، الرئيس ريتشارد نيكسون الى تبني مبدأ “الحرب ونصف الحرب” الذي يتحسب لمواجهة رئيسية مع الاتحاد السوفياتي او مع الصين اضافة الى نزاع اقليمي من النوع المذكور آنفا.
2. مباشرة بعد انتهاء ” الحرب الباردة “، اصدرت ادارة الرئيس بوش الاب عام 1991 وثيقة بعنوان “نظرة الى القدرة العسكرية الاساسية” تتضمن مبدأ جديدا بات يتوقع حدوث “نزاعين اقليميين كبيرين” والتهيؤ لهما.
3. وحين إنتخب بيل كلينتون رئيسا للولايات المتحدة أكدت إدارته التوجه السابق وذلك في تقويمها الشمولي عام 1993، وعام 1997 في وثيقة حول ” سياسة الدفاع الرباعية” (اربع سنوات) حيث اطلق على هذه النزاعات اسم “حروب رئيسية في مسرح عمليات”.
لم يكتف السيد رامسفيلد، في الخطاب المشار اليه اعلاه، بتوسيع احتمالات النزاع من اثنين الى اربعة “رئيسية تدور في مسرح عمليات” بل حاول صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في ” معسكر الاعداء ” نفسه ” المنظمات الارهابية ” ذات “التطلعات الدولية” والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن ان تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر لا يتحدد فقط بمصدره بل ايضا بطبيعته.
ولاشك أن قراءة متفحصة لجوهر هذه العقيدة تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ “الثورة في المسائل العسكرية” المرتبطة بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق ” تفوق نوعي على الخصم ” يتيح ضمان مبدأ ” السيطرة الاستراتيجية “.
وطالما شدد واضعو الخطط العسكرية الاميركية على ان نظريتهم في “السيطرة الاستراتيجية” وجدت استجابة لكل اشكال النزاع. ويجري تطبيقها بحسب طبيعة الخصم وعدده وقوته الصناعية وبنيته التحتية وحجم مدنه ولا سيما نظامه السياسي وما المطلوب القيام به لقلبه او تحييده. فالنظرية تترك المجال واسعا امام التجريبية في تطبيقها، وذلك يعني ان الخبراء الاميركيين (سواء في الادارة او في مؤسسات الابحاث المتعاقدة مع هذه الادارة) قد درسوا بدقة تنفيذها خلال حروب الخليج والبوسنة ومن بعدها في كوسوفو
ولم يكتف رامسلفيد بتحديد مسارح الحرب التي ستنشط فوقها قوة الردع، والتي يتعين امتلاكها في إطار العقيدة العسكرية الجديدة، بل إنه حدد أهداف تلك القوة بما يلي :
” – حماية الأرض الوطنية والقواعد العسكرية في العالم،
– الانتقال الى مسارح عمليات بعيدة،
– تدمير معاقل العدو،
– ضمان أمن أنظمة المعلومات والاتصال،
– تطوير استخدام التكنولوجيا الخاصة بالتنسيق بين القوات،
– حماية الفضاء والترسانة الفضائية الأمريكية “.
من العقيدة العسكرية الى الموازنة السنوية : التلاحم بين العسكر ورأس المال !
لا يكفي تحديد معالم العقيدة العسكرية الجديدة للولايات المتحدة، على أهمية ذلك، من دون تجسيدها على أرض الواقع بـ ” قوة نارية محددة “، وهذه الأخيرة لن تتحقق بدون إنفاق مالي ملموس يمكن ملاحظته من خلال النظر الى الموازنة السنوية الجديدة للولايات المتحدة. فقد أحال الرئيس الأميركي جورج بوش مشروع الموازنة الفيدرالية لعام 2003 (تشرين الأول 2002-أيلول 2003) الى الكونغرس الأمريكي والتي بلغت 3.13 تريليون دولار ( التريليون = 1000 مليار) من بينها 379.3 مليار ( أي ما يقارب الثلاثمائة وثمانين مليار) يذهب الى وزارة الدفاع ( البنتاغون، وهذا المبلغ الأخير يمثل نسبة 40 % من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم. وتعكس القراءة الأولى لهذه الموازنة مجموعة من السمات المميزة، من بينها :
· العسكرة المتعاظمة للاقتصاد الأمريكي وتعاظم دور المجمع الصناعي العسكري بعد تضاؤله عشية انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية حقبة الحرب الباردة. ويتجلى ذلك من خلال ملاحظة المبالغ المخصصة لموازنة الدفاع للعام 2003 التي وارتفعت أرقامها الى 48 مليار دولار لتبلغ 379.3 مليار دولار فقط. وتعد هذه الزيادة بأنها الأكبر في الموازنة العسكرية منذ بداية ولاية الرئيس السابق رونالد ريغان قبل أكثر من عشرين عاما. وسيتواصل هذا الجهد خلال الموازنات الأربع المقبلة لان النفقات العسكرية في العام 2007 ينبغي أن تصل الى 451 مليار دولار. وإذا ما ربطنا هذا المبلغ مع المبلغ المقترح للبرامج العسكرية لوزارة الطاقة والتي خصص لها في هذه الموازنة 15.7 مليار وسترتفع الى 17 مليار في عام 2007، لتبين لنا أن مجمع الصناعة الحربية يقف وراء برنامج تسليحي طويل المدى مرتبط شديد الارتباط ببلورة استراتيجية وعقيدة عسكرية جديدة، التي حددنا جوهرها وأهدافها في مكان آخر، مرتبطة بعسكرة العولمة وتأمين الدور العالمي الأوحد للولايات المتحدة ورسالتها ” التحررية ” الجديدة والمهمة الجديدة المناطة بهذه الاستراتيجية في ” الحملة العالمية ضد الإرهاب ” والأولوية المعطاة لتحديث الأسلحة، بهدف الاستعداد الأفضل “للحروب غير التقليدية”.
· إبلاء أهمية استثنائية لما يسمى بالحملة ضد الإرهاب، حيث يتضمن مشروع موازنة وزارة الدفاع للعام المالي 2003 بندا من 27.2 مليار دولار لمحاربة الإرهاب. ومن المعلوم أن البنتاغون اعتبر أن كلفة الحرب ضد الإرهاب في العام 2003 تصل الى 13 مليار دولار في الشهر.
· على خلاف معظم الميزانيات السابقة خلال السنوات الأخيرة والتي كانت تحقق فائضا، اتسمت هذه الميزانية بوجود عجز كبير فيها، أي أن حجم النفقات اكبر من حجم الواردات. وإذا أخذنا النفقات العسكرية الكبيرة التي لن تتنازل عنها إدارة بوش تحت ذرائع مختلفة، من بينها مكافحة الإرهاب والدور العالمي للولايات المتحدة، أمكننا أن نستنتج بأن هناك ” ضرورة ” لتقليص الإنفاق في مجالات أخرى كي يمكن تقليص العجز الى أدنى حد ممكن. ولهذا من المتوقع أن تحقيق التوازن في الميزانية سيتم على حساب النفقات المخصصة للبرامج الاجتماعية التي ستطولها يد صائغي الموازنة. لقد وفرت أحداث 11 سبتمبر 2001 الإجرامية الفرصة السانحة لتصفية العديد من البرامج الاجتماعية، وتقليص الدعم الاجتماعي تحت ذريعة تعزيز القدرة الدفاعية للولايات المتحدة من اجل مواجهة التحديات الجديدة التي طرحها الإرهاب الدولي !
· ولكن معاينة طبيعة أنواع الأسلحة، بما فيها تلك المضادة للصواريخ المراد إنتاجها وحجم النفقات الضخمة المخصصة لذلك ، والتي بلغت في هذه الموازنة 8.7 مليار دولار، تبين لنا أن الأمر لا يتعلق بمهمات ” مواجهة تهديدات الإرهابيين “، وإنما ببلورة عقيدة عسكرية جديدة مشتقة من إستراتيجية كونية تعتمدها الولايات المتحدة. لنتأمل بما قاله السيد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الذي يشكل المدخل الصحيح لفهم طبيعة الإنفاق وعناصره الأساسية. لقد أكد رامسفيلد على ما يلي ” نحن نحتاج اليوم ليس فقط لتحقيق الانتصار على الإرهاب وإنما لأن نكون مستعدين لتحقيق الانتصار في حروب الغد “. ويعكس هذا التصريح تعاظم الروح العسكرية ونزعات الهيمنة العالمية. فبدلا من الانشغال في صياغة سياسة اقتصادية – اجتماعية تهتم بشؤون المواطنين، يهتم ساسة البيت الأبيض في صياغة خطاب ينمي الروح العسكرية الرامية ليس الى تحقيق انتصارات في حروب اليوم فقط، ولكن الاستعداد ” لتحقيق الانتصار في حروب الغد “.
إن النتيجة الأساسية التي يمكن استخلاصها من العرض السابق هي أن الادارة الامريكية لا تكتفي بالاعلان الصريح والمكشوف عن أنها باتت ترى أن القوة ضرورية وشرعية لتحقيق اهدافها الاستراتيجية، ولكنها على قناعة تامة بأن هذا الامر لوحده غير كاف إذا لم تتوفر مستلزمات ذلك، والتي يمكن ملاحظتها في حجم الانفاق العسكري وطبيعة الاسلحة الجديدة التي يتم انتاجها لدحر الخصم على الارض وفي البحر والجو والفضاء الخارجي !
من المفيد، في الختام، الإشارة الى ما قاله الأكاديمي الروسي المعروف أرباتوف، أحد أهم العارفين بالشؤون الأمريكية والمدير الفخري لمعهد الولايات المتحدة وكندا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، حين طرح ملاحظة لماحة قوامها ” أن المخاطر والتحديات في القرن الجديد قد تغيرت، ولكن للأسف لم يتغير تفكير العديد من السياسيين الذين تربو في أجواء ( الحرب الباردة). فهؤلاء مستمرون بالتفكير حسب معاييرها محاولين حل مهمات الحاضر انطلاقا من تصورات ألامس عن العالم “. ومن المؤسف أن وزير دفاع الدولة الأعظم، رامسفيلد، هو احد هؤلاء السياسيين وصقور الحرب الساخنة، وليست الباردة طبعا. ففي عهد قيادته لوزارة الدفاع دشنت الولايات المتحدة الأمريكية أول حروبها العالمية في قرن جديد كان يفترض أن يكون قرنا للسلام والتعاون والأمل، ولكنه انقلب رأسا على عقب مبتدأ بحملة حربية عالمية البعد نعرف جميعا بدايتها ولكن ليس هناك من أحد بقادر على تحديد نهايتها، فقد انطلق المارد من القمقم ولن يتوقف حتى تحقيق ” النصر “. ولكن السؤال : على من سيتم ” النصر ” ؟
الجواب على هذا السؤال يمكن استخلاصه من تعميق التحليل وإعمال النظر في جوهر العقيدة العسكرية الجديدة للولايات المتحدة والأهداف التي طرحتها، والتي لا يقبل الساسة الأمريكان أي نقاش بصددها، حتى من طرف حلفائهم الأوربيين !! فـ ” امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا ” ستحرر الأمريكيين على ما يبدو من الاعتماد على الحلفاء الأوربيين. ولاشك أن كلام بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي، كان شديد الصراحة حين قال في مؤتمر ميونيخ الأمني في اذار الماضي بما معناه أن المعارك هي التي ستحدد التحالفات. وإذا دفعنا هذا الكلام الى نهايته المنطقية أمكننا أن نستنتج بأن واشنطن تختار عدوها، ولا تكتف بذلك فقط بل تقرر الائتلاف المطلوب لإلحاق الهزيمة بهذا العدو، وقد تفعل ذلك لوحدها. هل يحق لنا أن نستنتج من ذلك كله أن الحاجة الى حلف ثابت من نوع ” حلف شمال الأطلسي ” ، واستنادا لدوره الذي لعبه في حرب أفغانستان، تحتاج الى إعادة نظر، بل أن تلك الحاجة قد تقترب من الصفر . لا يمكن المجازفة في تقديم جواب محدد على هذا السؤال، ولكن تفكيك العقيدة العسكرية الجديدة الى أجزاءها المكونة تسمح في طرح هذا التساؤل.
2. «اعادة تقييم الوضع النووي» – بالون إختبار أم عقيدة نووية جديدة لمعاقبة ” المارقين ” ؟
ومن جهة اخرى عاد شبح الخطر النووي من جديد، بعدما توصل ” العمالقة النوويون “، في فترة سابقة، الى حقيقة أن استخدام هذا السلاح يؤدي الى نتيجة واحدة : لا يوجد منتصرون. وقاد ذلك الى تغيير مجرى الصراع. فقد أدى ” نظام الثنائية القطبية ” وما إرتبط به ما أطلق عليه بـ ” توازن الرعب ” الى عدم اندلاع أي حرب شاملة على المستوى العالمي، والذي استبدل الى حروب اقليمية محدودة لحل التناقضات بين العمالقة بالواسطة. وبعد إنهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي والتداعيات التي تلته فقد انهار ” نظام الثنائية القطبية ” ليحل محله “نظام القطب الواحد” حيث تلعب الولايات المتحدة اليوم في هذا ” النظام ” دور القطب الاوحد الذي يعيد إنتاج العالم وفق ” المقاسات ” الامريكية لضمان الهيمنة عليه بأليات اشد قوة، بإستخدام توليفة من وسائلها وبتجلياتها المختلفة، بما في ذلك العودة مجددا الى التهديد بإستخدام السلاح النووي. والحديث هنا لا يدور عن فيلم هوليودي بل عن واقع ملموس وتحضيرات فعلية وخطط تفصيلية موضوعة على طاولة رئيس الولايات المتحدة يلوح بها لبث الرعب في خصومة وإجبارهم على الاستسلام ” دون قيد أو شرط “.
تقرير «اعادة تقييم الوضع النووي» لماذا ؟
شهدت بداية هذا العام (2002) تسريبات مقصودة كانت بمثابة بالون اختبار لقياس ردود فعل العالم فيما لو تم استخدام هذا السلاح الفتاك. فقد ذكرتا صحيفتا لوس أنجلوس تايمز ونيويورك تايمز في تقريريهما أن وزارة الدفاع الأميركية كلفت بوضع خطط طارئة لاستخدام الأسلحة النووية ضد سبع دول على الأقل هي روسيا والصين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا.
وأضافت التقارير أن الوزارة كلفت أيضا بالتحضير لاحتمال أن يصبح استخدام أسلحة نووية مطلوبا في بعض الأزمات العربية الإسرائيلية المستقبلية ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث “تطورات عسكرية مفاجئة” ذات طبيعة غير محددة.
وقد وردت هذه المعلومات في تقرير سري أعده البنتاغون وقدمه للكونغرس في 8 يناير (كانون الثاني) الماضي.والتقرير، الذي اعد بعنوان «إعادة تقييم الوضع النووي» يكشف أيضاً أن الولايات المتحدة تعتزم استخدام أسلحة نووية لمواجهة 3 انواع من التهديدات:
– ضد أهداف قادرة على الصمود أمام هجمات غير نووية.
– رد على هجمات بالسلاح النووي أو البيولوجي أو الكيميائي.
– حصول تطورات عسكرية مفاجئة.
وقد برر بوش قراره هذا في 13 آذار قائلا : ” إنها طريقة لنقول للذين يريدون إيذاء أميركا: لا تفعلوا ذلك “.
ويبدو أن تقرير «إعادة تقييم الوضع النووي» الذي تم الكشف عنه يبين مدى التحولات النوعية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي التي تركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ويوضح في الوقت ذاته بعدا مخيفا جديدا لتأثيرات تلك الأحداث على حروب المستقبل.
وعند تطرقه للحالات الميدانية المحتملة، يقول التقرير أن البنتاغون يستعد لاستخدام الأسلحة النووية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث كلفت الوزارة بالتحضير لاحتمال أن يصبح استخدام هذه الأسلحة مطلوبا في بعض الأزمات العربية الإسرائيلية المستقبلية ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث ” تطورات عسكرية مفاجئة ” ذات طبيعة غير محددة.
كما أشار التقرير أن البنتاغون يستعد كذلك لاستخدام الأسلحة النووية في حرب محتملة بين الصين وتايوان، أو في حال تعرضت كوريا الجنوبية الى هجوم من جارتها الشمالية. وصنف التقرير كلاً من كوريا الشمالية والعراق وايران وسورية وليبيا بأنها «دول يمكن أن تشارك» في الأنواع الثلاثة من التهديدات المذكورة آنفا. ويبرر صائغو التقرير هذا الموقف من هذه الدول بأنها ” كلها ذات عداء طويل المدى ضد الولايات المتحدة وشركائها. وكلها ترعى أو تؤوي الارهابيين، ولديها برامج ناشطة لأسلحة الدمار الشامل وللصواريخ “. أما الصين، فرأى التقرير أنها ” دولة يمكن مشاركتها في حالات طوارئ مباشرة او محتملة ” بسبب ترسانتها النووية وتطويرها لأهداف استراتيجية. أما بصدد روسيا فيرى التقرير بأنها لم تعد رسميا ” عدوا “، الا ان ترسانتها الضخمة، التي تشمل ما بين 6 آلاف الى 10 آلاف رأس نووي ” لا تزال تثير القلق “.
وإذا تفحصنا مجموعة الدول التي تعتبر أهدافا نووية محتملة لتبين لنا ” المفارقة الطريفة ” التالية : أن من بين هذه الدول هناك اثنتان فقط تملكان السلاح النووي (روسيا والصين) وبالتالي ليس مستغربا ان تدرس الولايات المتحدة سيناريوهات مختلفة لاحتمال استخدام السلاح النووي اذا نشبت مواجهة معهما. غير أنه، وإستنادا الى تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي”، نلاحظ تطورا جديدا يسترعي الإنتباه وهو ان الولايات المتحدة باتت تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، بل انها تضع الخطط لمثل هذا الاحتمال. وكما هو معلوم فقد دأبت الماكنة الاعلامية الامريكية، وعلى مدى فترة طويلة، للترويج لموقف يقول إن الأسلحة النووية هي بمثابة قوة رادعة ضد هجمات محتملة من جانب الاتحاد السوفياتي السابق خصمها في الحرب الباردة. ورفضت استخدام الأسلحة النووية ضد أي دولة غير نووية ما لم تتحالف هذه الدولة مع دولة أخرى ذات قدرات نووية. وطرح وليام أركين الكاتب بصحيفة لوس أنجلوس تايمز وزميل كلية الدراسات الدولية المتطورة بجامعة جونز هوبكينز ملاحظة مهمة حين اشار إلى أن خطة بوش المصاغة في تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي “، هي بمثابة تغيير اتجاه قائم منذ نحو عقدين لإرجاع الأسلحة النووية إلى مرتبة أسلحة الملاذ الأخير.
وبهذا الصدد أشار أركين الى إنه يبدو أن الإدارة الأميركية ” تتطلع لأسلحة نووية يمكنها أن تلعب دورا في مواجهة تحديات مثل التي تواجهها الولايات المتحدة من تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن والذي تلقى عليه مسؤولية تدبير هجمات 11 سبتمبر/ أيلول “.
والخلاصة أن المبدأ النووي الأميركي الجديد لا يستبعد إمكانية لجوء الولايات المتحدة قبل غيرها إلى استخدام السلاح النووي إذا ما نشأ خطر صنع سلاح إبادة جماعية من قبل خصومها، أي أن أميركا أعطت نفسها ” فرمان ” استخدام السلاح، بما فيه ترسانتها النووية الضاربة ضد البلدان الأخرى. ويمكن الاستنتاج بأن المبدأ النووي الأميركي الذي تم الاعلان في التقرير المشار اليه سابقا، ورغم تضمنه قليلا من العناصر الجديدة، الا أنه يعقد الوضع الدولي تعقيدا شديدا، خصوصا وأن اعتماده تم في أعقاب إعلان الولايات المتحدة انسحابها من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ. وهذا الأمر نجم عنه خطر إضعاف، وربما ضرب كل نظام السيطرة على التسلح والأمن الدولي الذي تكون في سني “الحرب الباردة” الذي لم يقابله نشوء نظام جديد يأخذ في الحسبان واقع العلاقات الدولية الحالية حيث لم يعد هناك لاعبان اثنان فقط، بل بات اللاعبون كثراً، وهنا تكمن الخطورة الجدية. ويبدو أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ كان مخططا له للتحلل من اية التزامات تفرضها هذه المعاهدة، الامر الذي فتح الافق لإقدام الولايات المتحدة للإعلان عن تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي ” بكل ما يحمله من مغزى خلق حالات من الرعب الجماعي في العلاقات الدولية.
تداعيات نشر التقرير : بين التناقضات داخل الادرارة والمواقف الدولية المتباينة
يمكننا ان نلاحظ ثلاثة عناصر جديرة بالإنتباه وهي :
– الجميع يهرعون للتخفيف من الصدمة، ولكن دون ان يقترن ذلك بنفي لما أشيع.
– وأن هناك تناقضات داخل الادارة الامريكية ومع الكونغرس، ولكنها تناقضات بعضها مصمم على الطريقة الهوليودية لإبراز حقيقة وجود” حمائم ” ” وصقور “.
– وأن هناك مواقف دولية تتراوح بين الغضب أو الإرتباك أو الصمت من ذهول ناجم عن هذا التحول.
بداية ينبغي القول بأن الحديث عن مراجعة جديدة لسياسات وزارة الدفاع الأميركية – البنتاغون – بشأن استخدام السلاح النووي قد بين وجود تناقضات داخل إدارة الرئيس جورج بوش وأثارت حيرة إزاء نوايا واشنطن بهذا الصدد. فكيف لمثل هذه المراجعة أن تتفق مع إعلان بوش عزمه خفض مخزون الأسلحة النووية.
والمتابع لتطور الاحداث يلاحظ أن الاسئلة انطلقت من السلطة التشريعية الامريكية ذاتها، الامر الذي دفع وزير الخارجية الامريكي كولن باول للقيام بدور ” اطفائي حريق “، بعد الزوبعة التي أثارها التقرير المشار اليه سابقا. ففي حديث له امام مجلس الشيوخ الامريكي يوم الثلاثاء 12 مارس 2002 سعى باول الى طمأنة المجلس بشأن ما كشفته الصحف الاميركية حول تعديل العقيدة النووية الاميركية، مؤكدا عدم حصول اي ” تبديل اساسي” بالنسبة الى الادارات السابقة. ولكنه من جهة اخرى اقر بان تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي ” ينطوي على تحذير ضمني الى الدول المتهمة بالسعي لامتلاك اسلحة دمار شامل نووية او جرثومية او كيميائية. غير أنه اضاف ” لا يبدو لنا امرا سيئا ان يدرك اولئك الذين يسعون من بلادهم الصغيرة وعواصمهم الصغيرة لامتلاك هذه الاسلحة ان لدى الولايات المتحدة مجموعة واسعة من الخيارات لردعهم في بادئ الامر ثم لحماية نفسها وحماية اصدقائها وحلفائها “. وخلال جلسة مع لجنة من مجلس الشيوخ سوئل باول عن خفض عتبة اللجوء الى السلاح النووي وعن احتمال توجيه ضربات نووية احترازية، فاجاب ” اننا لا نقوم بشيء من هذا القبيل”. واكد الوزير انه “ليس هناك تبديل اساسي بالنسبة الى الادارات السابقة” في هذا المجال، مشيرا بصورة خاصة الى ان الحكومة الحالية لا تعتزم الخروج عن قرار وقف التجارب النووية الذي اتخذه الرئيس السابق بيل كلينتون. وأضاف ” ليس هناك تصعيد جديد “، معتبرا ان “فلسفة الادارة والرئيس جورج بوش تقضي بالاستمرار في خفض عدد الاسلحة النووية بشكل كبير”.
هذا وكان ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي قد قلل من أهمية التقرير وذلك في مؤتمر صحفي عقد في لندن عقب اجتماعه لاحقا مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وقال: “الولايات المتحدة لا توجه أسلحتها النووية اليوم لأي دولة.”
هذا على صعيد التصريحات الرسمية، ولكنها لا تكفي لفهم مغزى إصدار هذا التقرير في هذه اللحظة.
وبمقابل تصريحات الادارة الامريكية الهادفة الى تطمين الجميع بعدم حصول تحول جذري في المذهب النووي الامريكي، الا أن هناك العديد من التحاليل الرصينة تشير الى العكس من ذلك. فقد أشار محللون – ومنهم داريل كيمبال مدير رابطة الحد من التسلح وهي منظمة لا تستهدف الربح – إلى أن التقارير التي كشفت مؤخرا بشأن التغيير في السياسة النووية الأميركية تؤكد أن إدارة بوش تسعى لزيادة وليس لتقليل دور الأسلحة النووية في السياسة الخارجية والعسكرية الأميركية.
في حين قال جون إيزاكس من مؤسسة (التحالف من أجل عالم يمكن العيش فيه) إن مراجعة وزارة الدفاع تأخذ السياسة الأميركية إلى اتجاه مغاير للاتجاه الذي سعت الولايات المتحدة فيه لإقناع دول العالم بعدم تطوير واستخدام الأسلحة النووية منذ أن ألقت الولايات المتحدة قنبلتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية.
وأشار إيزاكس إلى أن ذلك يثبت أن الإدارة الأميركية تحاول “التوصل إلى سبل للاستفادة من الأسلحة النووية وسبل لاستخدامها بالفعل”.
ويخشى منتقدو السياسة الجديدة لاستخدام الأسلحة النووية الأميركية أن يؤدي إلى تبديد الضغوط الدبلوماسية بدرجة أكبر على دول تسعى لتطوير قدراتها النووية مثل إيران والعراق لمنعها من ذلك.
ومن جهة ثانية اثار كشف هذا التقرير مخاوف الاسرة الدولية وظهور انتقادات حادة من الصين وروسيا اللتين طالبتا الولايات المتحدة بتوضيحات حول هذا الموضوع. وأشارت العديد من التحليلات الى أن الكشف عن سياسات واشنطن النووية الجديدة قد جاء في وقت مثير للدهشة، فالإدارة كانت تتفاوض مع روسيا على علاقات إستراتيجية جديدة تشمل اتفاقا لخفض الترسانة النووية في البلدين قبل القمة التي عقدت في مايو/ أيار بين الرئيس جورج بوش ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.
. تحول مهم في الفكر الاستراتيجي الامريكي. من استراتيجية الردع والاحتواء الى استراتيجية ” الهجوم الوقائي “
لم تكتف الولايات المتحدة بالحديث عن ” اطر عامة ” لإستراتيجيتها الكونية الجديدة بل انها عازمة على مواصلة جهودها لبلورة قواعد محددة لعقيدتها العسكرية الجديدة تنص على الحق في توجيه الضربة الاولى الى الدول التي تملك اسلحة دمار شامل. وتحدث الرئيس الاميركي جورج بوش في 1 حزيران(يونيو) عن ضرورة القيام بعمليات عسكرية “احترازية” في اطار “الحرب الشاملة ضد الارهاب”، بحسب ما اوردت صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر يوم (10/6/2002). وفي حديثه هذا، أعلن الرئيس بوش صراحة ان الولايات المتحدة على وشك الانتقال من استراتيجية الردع والاحتواء, إلى استراتيجية (الهجوم الوقائي). وقال: (إذا ما انتظرنا كي تنضج التهديدات, سنكون انتظرنا طويلاً. إن أمننا يتطلب من كل الاميركيين أن يتّحلوا ببعد النظر والتصميم, وان يكونوا مستعدين للقيام بهجمات وقائية استباقية حين يكون الأمر ضرورياً للدفاع عن حريتنا وعن أرواحنا).
وقال بوش متوجها الى الاكاديمية العسكرية الاميركية في وست بوينت انه لن يقبل ان يقوم “طغاة مختلون” بتطوير اسلحة بيولوجية او كيميائية او نووية وتزويد مجموعات ارهابية بها.
ونقلت الصحيفة المذكورة عن مصادر رفيعة المستوى في الادارة الاميركية ان مجلس الامن القومي سيضع قريبا هذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة التي تنص على عمليات “احترازية” او “عمليات تدخل دفاعية”. واستنادا الى تصريحات مسئولين اميركيين كبار فإن المبدأ الاستراتيجي الجديد يبعد كثيرا عن سياسة الحرب الباردة التي تقوم على الردع والاحتواء وسيكون جزءا من اول استراتيجية للامن القومي من المتوقع ان تنشر تفاصيلها في الخريف المقبل.
وكما معلوم فقد كانت الولايات المتحدة تعتمد حتى الان عقيدة “الردع”، القائمة على اقناع العدو، ولا سيما الاتحاد السوفياتي ابان ” الحرب الباردة “، بانه قد يتم القضاء عليه اذا ما بادر الى ضرب الولايات المتحدة.
وتابعت الصحيفة ان مثل هذا التغيير الذي يثير مناقشات وجدل بين الخبراء العسكريين، لا يستبعد اللجوء “في نهاية المطاف” الى الاسلحة النووية، ولا سيما لاختراق مواقع محصنة شديدة المقاومة ومخبأة تحتوي على مخزون من الاسلحة البيولوجية او الكيميائية. وضمن هذه الاستراتيجية سيضاف للمرة الاولى تعابير من قبيل : ” الوقائي ” و ” التدخل الدفاعي ” بإعتبارها خيارات رسمية لضرب ” دول معادية ” او جماعات ” تبدو ” عازمة على استخدام اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.
وفي حال تبيني هذه الاستراتيجية فعليا فإن ذلك يعني بإختصار شديد أن الولايات المتحدة ستمنح لنفسها حرية اتخاذ القرار وتطبيقه ضد اي دولة او جماعة دون الرجوع للشرعية الدولية، الامر الذي يعرض الامن والسلام العالميين للخطر.
واعتبر العديد من المحللين هذا التوّجه أكبر تغيير في الاستراتيجية الأمنية – العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس هاري ترومان الـ(سي آي إي) والـ(اف بي آي) والبنتاغون. فهذه الاستراتيجية ستبتعد عن مبدأ عمره اكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الاميركية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي).
وطبيعي أن مثل هذه النقلة النوعية ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الاميركية على تنفيذ تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما. وذلك على مستويين:
الأول, مستوى المفاهيم, حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية الاميركية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية (غير مشّرفة).
والثاني, مستوى العتاد, لأن الهجمات الوقائية تحتاج الى أنواع جديدة من الاسلحة لجعل القوات الاميركية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على الفتك السريع.
وبدأ البنتاغون بالفعل وضع الدراسات حول كيفية شن حروب (من دون إنذار مسبق)، تتجاوز بكثير مفهوم الغارات الجوية السريعة، وتعطي دوراً كبيراً للقوات الخاصة الاميركية وحتى للمارينز والوحدات البرية.
وعلى رغم أن المبدأ يضع استخدام الأسلحة النووية في آخر سلم أولوياته، إلا أنه لا يستبعدها تماماً بصفتها فكرة لا يمكن التفكير بها. إذ يمكن للقوات الاميركية (كخيار أخير) ان تستعمل أسلحة نووية تكتيكية محدودة القوة الحرارية لضرب مخابئ ومستودعات الاسلحة البيولوجية والصاروخية.
والأهم من هذا وذاك، ان الاستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين إقليميتين في وقت واحد (على نمط حرب الخليج الثانية)، لمصلحة مفهوم أوسع بكثير: القدرة على الحركة العسكرية في 60 دولة في آن (وإن بمستويات منخفضة الوتيرة).
بيد ان هذا التوّجه الجديد، أثار جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة وقسم المخططين والمحللين وواضعي السياسات الى معسكرين:
الأول، المعسكر المؤيد لانقلابية بوش – رامسفيلد. وهو يجادل بأن سياسة الردع – الاحتواء التي طبقت طيلة حقبة الحرب الباردة لم تعد مفيدة الآن في حقبة ما بعد هذه الحرب. إذ كيف يمكن ردع شبكة إرهابية لا أرض لها، ولا مواطنين لديها قد يتعرّضون الى الخطر, وأعضاؤها يعتبرون الموت استشهاداً مجيداً? كيف يمكن احتواء أنظمة (متشرّدة) في عصر حيث التكنولوجيات والمواد الخطرة يمكن ان تتسلل عبر الحدود إلى أيدي الإرهابيين?
المعسكر الثاني ، ويمثله معارضو الاستراتيجية الجديدة فهم، ومع قبولهم فكرة الهجوم الوقائي كخيار، يحذرّون من تحويلها الى استراتيجية متكاملة لأنها قد تضع الولايات المتحدة أمام مخاطر عدة أهمها وأبرزها خطر التمدد الاستراتيجي الزائد الذي طالما حّذر منه الباحث بول كيندي.
يبدو حتى الآن ان الكفة تميل لمصلحة المعسكر الاول. وهذا ليس سببه فقط التحديات التي أفرزتها احداث 11 أيلول (سبتمبر)، بل أيضا الجهود التي تبذلها المؤسسة الحاكمة الاميركية منذ حوالي سبع سنوات لبلورة استراتيجية أمن قومي جديدة تمّكن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها وعلى زعامتها العالمية في القرن الحادي والعشرين (نظرية القرن الأميركي).
وهذا التوجه بدا واضحاً في التقرير الذي رفعته أخيراً (اللجنة الاميركية للأمن القومي في القرن الحادي والعشرين) إلى البيت الابيض. فقد قالت اللجنة ان الاستراتيجية الاميركية الجديدة ينبغي ان تراعي التوازن بين هدفين اساسيين:
· الاول هو قطف ثمار العولمة بهدف توسيع نطاق الحرية والامن والازدهار للاميركيين ولغيرهم.
· والثاني يجب ان تسعى الاستراتيجية للقضاء على القوى المسببة لفقدان الاستقرار العالمي, بحيث يمكن المحافظة على الفوائد التي يتم جنيها.
واقترحت اللجنة المذكورة المبادئ التالية بوصفها دليلاً لصياغة استراتيجية قومية:
1. يجب ان تجد الاستراتيجية والسياسة جذورها في المصلحة القومية. وهذه الاخيرة تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية وانسانية.
2. الحفاظ على قوة اميركا التزام طويل المدى ولا يمكن تأمينه من دون القيام بجهود واعية وصادقة. تأمين ازدهار أميركا مسألة حاسمة ستتعرض الولايات المتحدة من دونها إلى الفشل في جهودها لقيادة العالم.
3. تواجه الولايات المتحدة فرصاً غير مسبوقة ومخاطر غير مسبوقة كذلك في العصر الجديد. ان العمل من أجل علاقات بناءة بين القوى الاساسية والحفاظ على دينامية الاقتصاد العالمي الجديد مع توزيع فوائده ومشاركة المسؤوليات مع الآخرين في التعاطي مع المشكلات العابرة للقوميات، هو بحد ذاته الأجندة الديبلوماسية التي ستختبر مقدار القدرة الابداعية الاميركية وقدرتها على القيادة.
4. وأخيراً يجب على اميركا ان لا تنسى انها تدافع عن مبادئ أهمها الحرية تحت سقف القانون.
أولويات هذه الاستراتيجية
لقد طور الباحثون الاستراتيجيون الاميركيون ستيفن كزياك واندرو كربيمفتش ومايكل فيكرز مبدأ (الحروب الاستباقية) أو (الوقائية) بصفته الوجه الآخر لهذه الاستراتيجية السياسية.
ويقول الباحثون الاستراتيجيون المشار اليهم اعلاه أنه (يمكن تحديد المصلحة القومية في هذا العصر الجديد على مستويات ثلاثة: مصلحة البقاء, التي من دونها تتوقف اميركا كما نعرفها عن الوجود، المصالح الحرجة والتي أبعد بخطوة عن مصلحة البقاء، والمصالح المهمة التي تؤثر على العالم حيث مجال عمل الولايات المتحدة ).
وبحسب هؤلاء فإن تحقيق هذه الاهداف في هذا العصر الجديد، يستلزم ان تكون الاولويات كالآتي:
أولاً: الدفاع عن الولايات المتحدة والتأكد من انها غير معرضة لمخاطر العصر الجديد. ويشكل عدم انتشار اسلحة الدمار الشامل الاولوية القصوى في سياسة الامن القومي الاميركي في ربع القرن المقبل . وفي ضوء المخاطر الجديدة الناجمة عن انتشار أسلحة الدمار الشامل والارهاب, يجب ان يكون تركيز الولايات المتحدة على كيفية الاحتفاظ بقوة ردع قوية تجاه كل اشكال الهجوم على اراضيها ومصالحها الاساسية. ويجب أن تعمل مع الآخرين لتقوية التعاون بين وكالات الأمن والاستخبارات والقوات العسكرية لإفشال المخططات الارهابية وحرمان الارهابيين من الملجأ بمهاجمة مراكزهم المالية واللوجستية.
ثانيا : كما على الولايات المتحدة أن تمتلك قوات خاصة قادرة على محاربة الابتزاز والتهديدات من قبل أولئك الذي يمتلكون أسلحة الدمار الشامل ومن الارهابيين. ان اتساع الخطر الذي تشكله اسلحة الدمار الشامل يدفع هذه الأمة أيضاً إلى دراسة دقيقة لوسائل الردع وظروفه, والتوجه نحو تطوير مبدأ الحروب الاستباقية.
ثالثا : الحفاظ على التماسك الاجتماعي الاميركي والتنافسية الاقتصادية والابداع التكنولوجي والقوة العسكرية. وفي هذا الصدد يجب أن تسـعى الولايات المتـحدة إلى خفـض اعتمادها على الطــاقة النـفطية الأجنبية التي تجعل هذا البلد وحلفاءه عرضة للضغوط الاقتصادية والابتزاز السياسي. ان التطوير المستمر لوسائل الطاقة البديلة وفعالية اكبر في نقل الطاقة والحفـاظ عليـها هي من ضـرورات الأمن القومي ومن ضرورات الاقتصاد والبيئة كذلك.
رابعا : المساعدة على اندماج القوى الأساسية الكـبرى, خصـوصاً الصـين وروسـيـا والـهـند, فـي التيار الاساسي للنظام العالمي الصـاعد
خامسا : يجب أقلمة التحالفات الاميركية والآليات الاقليمية الأخرى مع العصر الجديد. يجب ان يكون حجر الاساس في سياسة أميركا الاقليمية هو الحفاظ على التحالفات والصداقات القائمة وتقويتها.
سادسا : أخيراً, يجب مساعدة المجتمع الدولي على ترويض قوى التفتت التي يساعد على نشرها عصر العولمة.
بيد ان العديد من الخبراء الامريكان، يؤكدون على أن الديبلوماسية الوقائية لن تنجح باستمرار، ولهذا يتعين على الولايات المتحدة ان تكون جاهزة للعمل عسكرياً بالتعاون مع دول أخرى في اوضاع تتميز بالآتي:
– حين يتهدد الخطر الولايات المتحدة أو أصدقاءها.
– حين تشكل أسلحة الدمار الشامل خطراً حقيقياً على المدنيين.
– حين يكون الوصول إلى مصادر الطاقة الضرورية للنظام العالمي مهدداً.
– حين يثبت نظام ما نيته في ايذاء الولايات المتحدة بشكل جدي.
– عند وقوع ابادة جماعية.
ما هي القدرات العسكرية المطلوبة لتنفيذ هذه الاستراتيجية ؟
يشير الخبراء والباحثون الأميركيون الى ان الولايات المتحدة تحتاج إلى خمسة أنواع من القدرات العسكرية لتنفيذ هذه الاستراتيجية:
1- القدرات النووية للردع ولحماية الولايات المتحدة وحلفاءها من أي هجوم.
2- القدرات الأمنية الداخلية.
3- القدرات التقليدية الضرورية للانتصار في الحروب الاساسية.
4- قدرات الانتشار والتدخل السريع.
5- قدرات على تقديم المساعدة الانسانية.
مغزى توضيحات وزير الخارجية الامريكي كولن باول.
ومن جهته فقد حذر وزير الخارجية الاميركي كولن باول من ان الولايات المتحدة ستلجأ الى القوة العسكرية ” الحاسمة ” في اطار حملتها ضد الارهاب اذا لم تسفر الضغوط السياسية والاقتصادية عن النتيجة المطلوبة.
واوضح باول في لقاء ان الاستراتيجية الجديدة لادارة الرئيس جورج بوش القائمة على توجيه ضربات وقائية الى ارهابيين ومنظمات ارهابية ودول معادية للولايات المتحدة، ربما تشتمل على ضغوط لا تصل الى حد العمل العسكري، لكنه شدد على ان القوة اذا استخدمت فإنها ستكون حاسمة. كما انه اكد على اهمية اقناع العالم بضرورة اللجوء الى القوة بتقديم المعلومات اللازمة. واضاف باول ان هناك عدة وسائل يمكن استخدامها في الخطوات الوقائية الى جانب الضربات العسكرية، بما في ذلك الاعتقال والمصادرة الى جانب الاجراءات الدبلوماسية والمالية. وقال ان الضربات العسكرية يجب ان تكون حاسمة اذا صدرت تعليمات بتوجيهها.
واعتبر باول ان استراتيجية الضربات الوقائية ” اجراء معقول ومناسب “، واكد على وجود مسؤولية تقع على عاتق من ينفذ الضربات الوقائية تتمثل في ضرورة ان يثبت بالدليل ان هناك اساسا لتنفيذ هذا العمل، وكذلك اثبات انه اجراء مناسب وانه يحمي الابرياء على ان يأتي الرد متماشيا مع نوع الخطر الذي دفع للقيام بهذا العمل الاحترازي.
وطور وزير الخارجية الاميركي كولن باول توضيحاته مشيرا الى ان السياسة الجديدة للادارة الاميركية القائمة على توجيه ضربات وقائية ضد ” ارهابيين ودول معادية للولايات المتحدة ” ربما تشتمل على ضغوط لا تصل إلى حد العمل العسكري، لكنه اشار الى ان القوة اذا استخدمت فإنها يجب ان تكون حاسمة. وحذر باول الذي كان يتحدث حول تغيير في سياسة الولايات المتحدة بهذا الشأن طبقا لاعلان الرئيس جورج بوش لذلك قبل اسبوعين، من مغبة الاخطار المترتبة على الضربات الوقائية، كما اشار الى ان المعلومات ذات الصلة بالاخطار والتهديدات المحتملة لا يمكن الاعتماد عليها في كل الحالات. واضاف ايضا ان العالم سيطالب بدليل يبرر هذه الضربات. واضاف باول ان هناك عدة وسائل يمكن استخدامها في الخطوات الوقائية الى جانب الضربات العسكرية، بما في ذلك الاعتقال والمصادرة الى جانب الاجراءات الدبلوماسية والمالية. وأضاف قائلا ان الضربات العسكرية يجب ان تكون حاسمة اذا صدرت تعليمات بتوجيهها، اذ يعتقد انه من الضروري ان يجري توجيه الضربة الوقائية على نحو يزيل الخطر تماما، أي توجيه ضربة حاسمة للهدف المحدد. ويعتبر حديث باول الى حد كبير معبرا عما كان يطلق عليه «نهج باول» عندما كان رئيسا لهيئة الاركان المشتركة خلال حرب الخليج الثانية، اذ اكد مرارا على ان الولايات المتحدة يجب ان تكون حذرة في جانب استخدام القوة على ان تسحق مناوئيها لضمان تحقيق انتصار كامل عند توجيه الضربة.
4. برنامج الدفاع الصاروخي ……. السلاح الرئيسي لتحقيق ” النصر ” !
لا شك ان قراءة متأنّية للتصريحات الرسمية للعديد من اعضاء إذارة بوش، بما فيهم الرئيس ذاته، تشير الى ان برنامج الدفاع الصاروخي يمثل السلاح الرئيسي ضمن خطة تكفل تحقيق هدفين اساسيين هما : ضمان المبادرة والنزعة الهجومية. وفي واقع الحال فان اقامة هذا النظام الذي يهدف الى تحيّيد الصواريخ العدوّة سوف يسمح لرئيس اميركي مقبل متحرر من معوقات الردع، ان يهاجم “الدول المارقة”، أي تلك الدول التي يتزعمها ” قادة لاعقلانيون ” يملكون صواريخ بعيدة المدى، مثل كوريا الشمالية وايران. كأن المقصود ردة فعل حذرة ودفاعية تقوم بها الولايات المتحدة لمواجهة سلوك غير متوقع قد يقدم عليه الآخرون.دون ان يخشى ردا بواسطة الصواريخ البالستية المزودة رؤوسا نووية او غيرها.
ويعني ذلك ان المظلة المضادة للصواريخ تهدف للسماح للولايات المتحدة بمهاجمة الدول العدوة في المكان والزمان والوسائل التي تختارها. ويفترض ذلك، على المستوى الاقليمي، وفي المناطق الاستراتجية الحساسة، نشر انظمة مضادة للصواريخ في ارض المعركة. بالطبع، يشكل نظام الدرع المضادة للصواريخ العنصر الاساسي في استراتيجيا التفوق الدائمة.
إن دعاة العقيدة العسكرية الاميركية الجديدة وصنّاعها يؤكدون على الارتباط بين مفهوم “السيطرة الاستراتيجية” ومشاريع الدفاع المضاد للصواريخ الراهنة، فيشيرون الى التهديد الذي تمثله بعض الدول ذات القوة العسكرية المحدودة لكن القادرة على مهاجمة الاراضي الاميركية بواسطة صواريخ متوسطة او بعيدة المدى. وكان هذا المشروع المعروف باسم “نظام الدفاع الصاروخي” قد اثار العديد من الاعتراضات التي لم تصمد امام التصميم الاميركي حتى عندما اعلنت حكومة بوش للملأ انها ستوقف من جانب واحد العمل بمعاهدة 1972 حول الحد من انتشار الاسلحة الصاروخية.
ويأتي “نظام الدفاع الصاروخي” نتيجة تحليل استراتيجي ينطلق من فرضية التفوق المطلق للولايات المتحدة في جميع مجالات الدفاع. وقد استنتج من ذلك المخططون ـ اعضاء اللجنة المعينة لدراسة المشروع برئاسة السيد دونالد رامسفيلد وكذلك وزير الخارجية كولن باول ـ أن الافضل عدم الانزواء داخل مفاهيم الردع المتبادل والتوازن النووي القديمة والفعالة في زمن الحرب الباردة. وبحسب رأيهم يجب التقدم، على العكس، في عملية خفض الترسانة النووية على ان تحتفظ كل من روسيا والولايات المتحدة بامكاناتهما الرادعة من دون الحاجة ولا الرغبة في استخدامها. اما النتيجة الطبيعية لذلك فهي انه يجب الدفاع عن الاراضي الاميركية والمناطق ذات الاهمية الحيوية في اراضي الحلفاء اضافة الى القواعد الجوية والبحرية الاميركية في الخارج بواسطة نظام الدرع الصاروخية.
والعدو المفترض الذي يقوم حاجز الصواريخ المضادة للصواريخ بتدمير قدراته الهجومية لا ينحصر فقط في احدى ” الدول المارقة ” بحسب تصنيف الديبلوماسية الاميركية، بل يتسع ليشمل تلك الدول المعنية بمشاريع تطوير اسلحة الدمار الشامل، أو أن العدو يمكن ان يكون ايضا في عداد الدول التي صنّفها الرئيس جورج دبليو بوش ضمن “محور الشر” في خطابه يوم 29 كانون الثاني/يناير 2002 اي كوريا الشمالية وايران والعراق.
5. الحرب قائمة على الجبهة الاقتصادية كذلك. خطاب بوش أمام مؤتمر مونتيري : إعلان ” ميثاق عالمي جديد للتنمية ” تحت الحراب الامريكية !
في 21/مارس/2002 افتتح في مدينة مونتيري المكسيكية المؤتمر الدولي للأمم المتحدة لتمويل التنمية والذي تحول الى ” قمة عالمية لمحاربة الفقر ” طالبت الدول الغنية بزيادة مساعداتها لتلك الاشد فقراً لان الدول النامية ستصير ارضاً خصبة للارهاب من دون مساعدات اضافية، كما يعتقد منظموا هذه الفعالية.
وواحداً بعد الآخر، أبدى زعماء الدول استعداداً لزيادة مساعدات التنمية للحيلولة دون انتشار الارهاب حول العالم. ووصف المدير العام للبنك الدولي مايك مور الفقر بانه ” قنبلة موقوتة في قلب الحرية “، بينما قال رئيس الجمعية العمومية للأمم المتحدة هان سونغ – سو إن الدول الاشد فقراً تمثل ” ارض خصبة للعنف واليأس “. وأشار الى انه بعد 11 سبتمبر، باتت المطالبة ملحة بعدم الفصل بين التنمية والسلام والأمن.
أما الزعيم الكوبي فيديل كاسترو قال في خطابه امام القمة هذه ان ” النظام الحالي للاقتصاد العالمي يشكل نظاماً للنهب والاستغلال لم يسبق له مثيل في التاريخ”. وأضاف كاسترو قائلا ” لقد أصبح الاقتصاد العالمي اليوم ناديا ضخما للقمار، وأن التحليلات الاخيرة تشير الى أن مقابل كل دولار ينفق على التجارة العالمية، ينفق مبلغ يزيد على مئة دولار على عمليات مضاربة لا علاقة لها بالإقتصاد الحقيقي “.
ومن جانبه القى الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش كلمة طرح فيها وبوضوح شديد الرؤية الامريكية لـ ” المشكلة الاقتصادية ” التي تعاني منها الدول الفقيرة وكيفيات حلها، والتي يجب على الجميع التقيد بها.
ماذا قال الرئيس الامريكي في كلمته وما هي الرسالة المراد توجيهها الى الجميع، والتي يتعين التقيد بها من دون لف أو دوران!. في خطابه في مونتيري ينقل الرئيس المواجهة الى الحقل الاقتصادي بتوظيف نتائج العمليات العسكرية في افغانستان ضمن إطار ” الحملة العالمية لمكافحة الارهاب ” لصالح الموديل التنموي الرأسمالي بطبعته الامريكية. ولا ننسى أن لـهذه الحملة جذورا إقتصادية، فالمعارك التي دارت في افغانستان لا تتعلق بطالبان والقاعدة وبن لادن فقط، بل كانت عيون الامريكان موجهة نحو بحر قزوين الواعد الذي يسيل اللعاب، حيث يعد هذا الحقل واحدا من اهم الاحتياطيات العالمية في النفط والغاز. هكذا تتشابك مصالح السياسة بمصالح الاقتصاد في كل موحد ومتناغم.
بداية ينبغي القول ان الرئيس الامريكي لم يحضر لقمة مونتيري ليلقي كلمة احتفالية ويذهب، فهذا المؤتمر ليس كرنفالا امريكيا لاتينا. لقد جاء الرئيس بوش الى هذه القمة وهو يحمل مشروعا محددا هو بمثابة “ميثاق عالمي جديد للتنمية “. ففي الخطاب الذي القاه امام القمة اكد بوش أنه يتعين على الدول الفقيرة التي ترغب في الحصول على مزيد من المعونات من الولايات المتحدة القيام بإجراء إصلاحات ديمقراطية واقتصادية ومكافحة الفساد !!
هذا الكلام جميل، ولكن الرئيس بوش غير معني بالجانب الجمالي لهذه الاشكالية، بل انه كان يريد توجيه رسالة محددة. والرسالة التي يريد الرئيس الامريكي ايصالها للجميع واضحة وضوح الشمس : لا معونات بالمعنى المطلق بل بالمعنى المجدد. وبعبار أكثر تبسيطا لا معونات دون ” اصلاحات ” على الطريقة الرأسمالية. إذن مضمون التنمية المطلوب إعتمادها هي التنمية الرأسمالية. والرئيس بوش يريد تنمية رأسمالية في البلدان الفقيرة لمكافحة الفقر الذي تعاني منه هذه البلدان. وطرحه لهذه القضية وبهذه الصيغة طرح مثير للإلتباس بالنسبة لمن يعرفون تاريخ اشكالية الفقر. إن بحث الجذور الحقيقية للفقر خلال القرون التي تلت إنبثاق الرأسمالية كتشكيلة جديدة يدلنا على أنه نتاج سيرورات الاستقطاب طيلة هذه القرون، على صعيد العالم الرأسمالي، تلك السيرورات التي انتجت الفقر من جهة والثروة من جهة اخرى. أن القبول بطرح الرئيس الامريكي لحل مشكلة الفقر وفقا لوصفته ” الساحرة” لن يؤدي الى التغلب على الفقر بل إعادة انتاجه، ولكن هذه المرة بمديات اوسع وأعمق.
ومن جهة أخرى فقد أضاف الرئيس الامريكي موضحا أن المساعدة التي تقدمها الدول الصناعية ليست بالضرورة هي المصدر الوحيد والافضل لتمويل التنمية، مشيرا إلى التجارة الحرة والاسواق المفتوحة كأفضل وسيلة لتحسين اقتصاديات الدول الفقيرة.
ولهذا الكلام نتيجتان مهمتان :
1. يجب على البلدان الفقيرة أن تبحث عن مصادر اخرى لتمويل التنمية، ذلك لأن ” المساعدة التي تقدمها الدول الصناعية ليست بالضرورة هي المصدر الوحيد والافضل “. ويعني ذلك ان على البلدان الفقيرة الاعتماد على ذاتها للتغلب على مشكلات الفقر. ويعني ذلك أن الرئيس كأنما يريد القول هنا ان الفقر في هذه البلدان نتاج ظروفها الداخلية وليس منتوج التطور الرأسمالي العالمي. هكذا بقليل من لوي أعناق الكلمات يتم قلب حقائق التاريخ، وبالتالي شطب العلاقة التي تربط هذه البلدان بالبلدان الرأسمالية المتطورة والتي انتجت الفقر والثروة كقطبين متقاطعين لكنهما ينتميان لعالم واحد هو عالم الرأسمالية ببعديه العالمي والمحلي.
2. تشجيع التجارة الحرة والاسواق المفتوحة بإعتبارهما أفضل وسيلة لتحسين اقتصاديات الدول الفقيرة، أي إعتماد التنمية الرأسمالية لتحسين اوضاع هذه البلدان. وها هو الرئيس يعود من جديد الى ذات المقاربة الخاطئة وكأنه بذلك يريد تأبـــيد هذا النمط التنموي وفرضه على كل بقاع العالم بما يؤبد السيطرة من جهة والفقر والتبعية الاقتصادية من جهة اخرى. ومع كل هذا يتحدث الرئيس في خطابه عن ” تشجيع المصادر التي تنتج الثروة والحرية الاقتصادية والحرية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان “.
ولكن الرئيس لا يكتفي بذلك بل إنه ينافح بنبرة واثقة جدا حين يقول ” كي نكون جادين في مكافحة الفقر، يجب أن نتحلى بالجدية في توسيع التجارة “. ويبدو أنه لا يعرف حتى الاليات الناظمة للتجارة العالمية التي تقوم على التبادل اللامتكافيء ونتيجته معروفة وتتمثل في أن البلدان ذات الانتاجية الاعلى ( وهي هنا وبدون رتوش البلدان الرأسمالية المتطورة) تربح من التبادل التجاري على حساب البلدان ذات الانتاجية الاوطأ ( وهي هنا وبدون رتوش ايضا البلدان الفقيرة). وبعبارة اكثر تبسيطا فإن توسيع التجارة – حسب وصفة الرئيس بوش – في ظل النمط الناظم لهذه التجارة على الصعيد العالمي يفضي الى نتيجة واحدة لا غيرها وهي : تعميق الفقر وليس مكافحته، كما يعتقد السيد الرئيس !
ولا يكتفي الرئيس بوش في عرض افكاره العامة بل ينتقل في عرضه لمكونات ميثاق التنمية الذي يريده، وذلك حينما يشير الى القطاعات التي يجب أن تحضى بالأولوية في الاستثمار. وهنا يقول الرئيس الامريكي في خطابه ما يلي : “عندما تحترم الدول شعوبها وتفتح أسواقها وتستثمر في قطاعي الصحة والتعليم، فإن كل دولار من المعونات وكل دولار من عائدات التجارة ورأس المال الوطني سيتم استغلاله بفعالية أكبر”.
كلام السيد الرئيس على ” بلاغته ” يثير سؤالا ملتبسا وفحواه هل أن الخروج من الفقر المدقع الذي تعانيه هذه البلدان يمر عبر تطوير قطاعي الصحة والتعليم، على اهميتهما القصوى لأي تنمية، أم ان الامر متعلق بتغير الموقع المتخلف وغير العادل الذي تحتله البلدان الفقيرة في قسمة العمل الدولية الراسمالية المعاصرة، أي ما هي الفروع الصناعية التي يجب اقامتها لكي يكون ممكنا خلق ممكنات النمو التي تتيح التغلب على المشكلات التي تواجهها هذه البلدان، ومن بينها مشكلة الفقر.
ولأن الرئيس بوش أكد في خطابه على ” تشجيع المصادر التي تنتج الثروة والحرية الاقتصادية والحرية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان “، فإنه كان منسجما تماما مع ما يقول !! فقد أكد بوش أنه يريد من الكونجرس الاميركي الموافقة على زيادة المساعدات خلال الشهور المقبلة إلى الدول التي تطبق الاصلاحات، مشيرا إلى أن “الميثاق الجديد للتنمية” سيكافئ الدول التي تطبق مثل هذه الاصلاحات. الكلام واضح ولا يحتاج الى أي تعليق : المكافئة لم يطبق ” الإصلاحات “، وبعكسه فإن “ العصى لمن عصى “ !! علما بأن ما يقصده الرئيس بوش بـ ” الاصلاحات “المطلوبة هو تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي السيئة الصيت وعواقبها الإجتماعية المعروفة للجميع.
6. الحرب قائمة على الجبهة الداخلية كذلك. الامن القومي الداخلي – مقاربة جديدة
بداية، لابد من الاشارة الى ان هجمات سبتمبر انطوت على العديد من الدلالات بالنسبة للأمن الداخلي في الولايات المتحدة، يتمثل أبرزها في:
أولا: أن الولايات المتحدة لم تعد في مأمن من الهجمات الخارجية وعمليات الارهاب الضخمة واسعة النطاق، وذلك بعد ان ظلت لسنوات طويلة محصنة ضد أي اعتداءات خارجية على الأراضي الأميركي بسبب وضعها الجغرافي حيث يحيطها محيطين شاسعين وجارتين مسالمتين من الشمال والجنوب، ولذلك كانت الهجمات بمثابة الصدمة القوية للرأي العام الأميركي وازدياد الاحساس بعدم الأمن لدى المواطنين وباتت قضية الأمن الداخلي مطروحة بصورة أكبر من أي وقت مضى.
وثانيا: العجز عن الكشف المسبق عن العملية أثناء مرحلة التخطيط والاعداد، على الرغم من الامكانات الضخمة لأجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية.
وثالثا : ضعف قدرة الأجهزة الأمنية الأميركية على التصدي السريع للعمليات الارهابية فور وقوعها، حيث كشفت الهجمات وجود ثغرة ضخمة في الدفاع الجوي حول المراكز الحيوية في الولايات المتحدة، وبدا ذلك واضحا في الهجوم على مقر البنتاغون، كما كشفت في الوقت نفسه عن ضعف فاعلية اجراءات الأمن على الرحلات الداخلية في المطارات الأميركية.
وفي مسعى التغلب على هذه الاختلالات القاتلة اتخذت السلطات المسؤولة في الولايات المتحدة طائفة من الاجراءات التي كانت شديدة العمق والكثافة ربما بصورة تفوق تلك التي قامت بها الولايات المتحدة في الخارج. ويبدو انها سعت لتحقيق عدة أهداف أبرزها :
1. الحيلولة دون وقوع المزيد من العمليات الارهابية ومعالجة الثغرات التي كشفت عنها الهجمات،
2. العمل على تحقيق هدف نفسي رئيسي يتمثل في توفير احساس أكبر بالأمن للمواطن الأميركي.
ان تحليل طبيعة تلك الاجراءات المتخذة لتعزيز الأمن الداخلي، تتيح القول انها اشتملت على نوعين رئيسيين :
الأول يتمثل في الاجراءات الأمنية العاجلة المتعلقة بتسيير دوريات جوية وبحرية مكثفة وتعزيز اجراءات الأمن في المطارات وحماية البنية الأساسية الخاصة بالغذاء والمياه وزيادة دوريات الشرطة حول خطوط البترول والغاز الطبيعي وحماية البنية الأساسية في مجال المواصلات والطرق وتخزين الأدوية والأمصال وتأمين المنشآت الحيوية ولاسيما المفاعلات النووية ومحطات الكهرباء الضخمة.
أما النوع الثاني فيتمثل بالاجراءات طويلة المدى الخاصة بتعزيز الأمن الداخلي وزيادة قدرة أجهزة الأمن الأميركية في مجال مكافحة الارهاب ( لمزيد من التفاصيل يمكن العودة الى دراسات عديدة بهذا الشأن من بينها على سبيل المثال لا الحصر : د.محمد مصطفى كمال : احداث سبتمبر والامن القومي الاميكي : مراجعة للاجهزة والسياسات . ” السياسة الدولية ” عدد يناير 2002، كذلك الحريات العامة في امريكا وتداعيات سبتمبر. ” البيان ” عدد 22/8/2002). ومن بين تلك الاجراءات :
1- انشاء مكتب للأمن الداخلي:
مباشرة وبعد مرور عدة ايام من وقوع الاحداث وتحديدا في20 سبتمبر2001، أعلن الرئيس بوش انشاء مكتب جديد تابع للبيت الأبيض أطلق عليه مكتب الأمن الداخلي. وفي أكبر عملية لإعادة تنظيم الحكومة الفيدرالية الأميركية منذ عام 1947 في عهد هارى ترومان، وافق الكونغرس على مشروع قانون إنشاء هذا المكتب الذي هو بمثابة وزارة للأمن الداخلى بحيث تضم كلاً أو أجزاء من 22 وكالة أمنية تابعة في معظمها لثمانى وزارات أساسية منها الخارجية والطاقة والزراعة والتجارة، والمواصلات البرية والجوية، وتشمل وحدات خفر السواحل وحرس الحدود والجمارك، والخدمة السرية، وتضم إجمالاً أكثر من 170 ألف موظف، وتدور ميزانيتها السنوية حول رقم 38 مليار دولار.
وتشمل الوزارة أربع إدارات رئيسية هي أمن الحدود والنقل، واستعدادات الطوارئ وردود الفعل، والإجراءات المضادة للهجمات النووية والإشعاعية والبيولوجية والكيميائية، والاستخبارات.
ويعتبر إنشاء الوزارة الجديدة المسئولة عن تأمين الولايات المتحدة ضد التهديدات الداخلية، تطورا إصلاحياً غير مسبوق منذ صدور قانون الأمن الوطنى عام 1947 الذى تضمن إنشاء مجلس الأمن القومى، ووزارة الدفاع ووكالة المخابرات المركزية CIA، وسوف تصدر قوانين تكميلية للأمن الداخلى تشمل نقل مسئوليات منح تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة والإقامة بها من الخارجية إلى وزارة الأمن الداخلى، وكذلك نقل إدارة الهجرة من وزارة العدل إلى الوزارة الجديدة.
وقد أحتوي الأمر التنفيذي الرئاسي المنشئ لهذا المكتب علي طائفة من التكليفات من بينها :
– التنسيق بين المؤسسات المختلفة لمواجهة الارهاب
– المساعدة في أعمال التخابر ضد الارهابيين.
– تطوير أجهزة وبرامج تدريبية للكشف عن الهجمات البيولوجية والكيماوية والنووية.
– إعداد الأجهزة الصحية لمواجهة هجمات الارهاب وخاصة ما يتعلق بسعة المستشفيات وتوفير مخزون كاف من الأدوية والأمصال.
– زيادة الحماية للمنشات الاساسية والبنية التحتية وخطوط الاتصالات وشبكات الكمبيوتر وكل وسائل المواصلات.
– توفير الحماية للغذاء والمياه والتي قد تصبح هدفا للارهاب.
– تنسيق التدريبات اللازمة للاستعداد لأي هجوم ارهابي والتعاون في ذلك مع كل مستويات الحكومة حتي المستوي المحلي.
وطبقا للمهمات المحددة له، سوف يقوم هذا المكتب بشكل أساسي بتنسيق جهود أكثر من أربعين وكالة ومؤسسة فيدرالية لمواجهة الارهاب, بما فيها وكالة المخابرات المركزية ومكتب المباحث الفيدرالي. وسوف يكون دوره هنا شبيها بدور مستشار الأمن القومي ولكن مع التركيز علي قضية الارهاب.
وتضمن الأمر الرئاسي المنشئ لهذا المكتب انشاء مجلس للأمن الداخلي علي شاكلة مجلس الأمن القومي, وعضوية المجلس الجديد ستتكون من الرئيس الأمريكي ونائبه, وعدد من الوزراء, ورؤساء الوكالات الفيدرالية المعنية بأمور الارهاب. وسوف يقوم هذا المجلس بتقديم المشورة والمساعدة للرئيس في كل ما يتعلق بجوانب الأمن الداخلي.
2- إصدار قوانين مكافحة الاهاب وأمن الطيران والحاكم العسكري:
وافق الكونجرس علي عدد من القوانين الهادفة لـ ” تأمين الجبهة الداخلية ضد الارهاب ” أهمها ما عرف باسم القانون الوطني الامريكي لعام2001 وقد تقدمت الادارة بهذا المشروع بعد أحداث11 سبتمبر بوقت قليل, ووافق عليه الكونجرس أيضا بشكل سريع وبأغلبية كبيرة بلغت98 ضد واحد في مجلس الشيوخ, و356 ضد66 في مجلس النواب. ووقع عليه الرئيس يوم26 أكتوبر2001 ليصبح قانونا نافذا منذ ذلك الوقت.
وقد تضمن هذا القانون العديد من المواد التي دعمت من سلطات أجهزة الامن الامريكية في ” مواجهة الارهاب ” ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر :
– منح المدعي العام الأمريكي سلطة احتجاز الأجانب ” المشكوك في قيامهم بأنشطة أرهابية ” لمدة سبعة أيام دون توجيه اتهام لهم. علما بأن النص الأصلي للقانون الذي قدمته الإدارة كان قد تضمن احتجاز هؤلاء الأجانب لفترة غير محدودة, ولكن هذا النص واجه اعتراضات من بعض اعضاء الكونغرس مما ادى الى تحديد تلك المدة بسبعة أيام.
– إعطاء السلطات الفيدرالية الحق في التنصت علي أجهزة التليفون المختلفة التي يستخدمها الإرهابيون المشتبه فيهم (وليس علي جهاز تليفون واحد فقط كما كان في السابق). وتتيح هذه المادة للسلطات الفيدرالية التنصت علي التليفونات المحمولة وليس الخطوط الثابتة فقط. كذلك يتيح القانون لسلطات الأمن الحصول علي تسجيلات الاتصالات عن طريق البريد الاليكتروني من الشركات التي تقدم خدمات الانترنت.
– اتاح القانون أيضا لأجهزة البحث الجنائي وأجهزة المخابرات المشاركة في المعلومات المتعلقة بالارهابين.
– وأعطى القانون لوزارة الخزانة سلطات اكبر لتتبع الأرصدة المالية التي يشتبه أنها تستهدف تمويل عمليات أرهابية.
ومن جهة ثانية وافق الكونجرس أيضا علي مشروع القانون الذي قدمته الادارة فيما يتعلق بأمن الطيران والمطارات, ووقع الرئيس عليه يوم19 نوفمبر 2001. ومن بين ما تضمنه هذا القانون :
– أن أمن المطارات أصبح للمرة الأولي مهمة فيدرالية بشكل مباشر. حيث أتاح القانون انشاء وكالة فيدرالية جديدة سيطلق عليها وكالة أمن المواصلات, ستكون مهمتها ضمان الأمن في كل موانئ السفر سواء الجوي أو البحري. وسيصبح موظفو التفتيش والأمن العاملون في هذه الموانئ موظفين فيدراليين تابعين لها, وخاصة العاملين في التفتيش في المطارات والبالغ عددهم حوالي28 الف شخص.
– ألزم القانون شركات الطيران بفحص كل حقائب المسافرين باستخدام أشعة اكس, وباليد أو بالكلاب المدربة علي شم المتفجرات, أو التوفيق بين المسافرين وحقائبهم وأعطي القانون الشركات فترة ستة أشهر للاستعداد للقيام بهذا.
– بموجب هذا القانون سيتم زيادة عدد أفراد الأمن الموجودين داخل الطائرة ويرتدون الملابس المدنية وزيادة درجة أمان أبواب كابينة الطائرة, ويفرض القانون رسما قدره 2.5 دولار يدفعها المسافرون في كل رحلة وستقوم شركات الطيران بالمساهمة بمبلغ700 مليون دولار في العام للمساعدة في تمويل هذه الوكالة الجديدة.
بالإضافة لهذه القوانين, أصدر الرئيس الامريكي أمرا تنفيذيا بانشاء محاكم عسكرية لمحاكمة غير الامريكيين المتهيمن بالارهاب, وخاصة اعضاء تنظيم القاعدة, أو هؤلاء الذين قاموا بمساعدتهم في القيام بالأعمال الارهابية أو توفير الحماية لهم. ويمكن عقد هذه المحاكمات بشكل سري ولا تتوافر فيها الاجراءات القانونية المتعلقة بحماية حقوق المتهم والموجودة في القضاء العادي. واستنادا للأمر التنفيذي, فإن الرئيس وحده ستكون له سلطة تقرير من يمثل أمام هذه المحاكم من المتهمين. وتصدر المحكمة أحكامها بأغلبية الثلثين ويمكن أن تشمل أحكامها الحكم بالإعدام, كما أن قراراتها نهائية وغير قابلة للأستئناف. وقد برر الرئيس بوش إصدار أمر بانشاء تلك المحاكم بالحاجة الي حماية المحلفين, بالاضافة الي أن الولايات المتحدة تمر بظروف استثنائية تتطلب هذا النوع من المحاكم.
3- اعادة هيكلة وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية:
بين تطور الاحداث أن وزارة العدل لعبت دورا هاما في حملة مكافحة الارهاب برئاسة وزير العدل أو المدعي العام الامريكي جون أشكروفت, حتي أن البعض ذكر أن الرئيس الامريكي يخوض الحرب الاهلية ضد الارهاب باستخدام وزارة العدل والحرب الخارجية باستخدام وزارة الدفاع. والواقع أنه قبل أحداث11 سبتمبر, فإن مواجهة الارهاب لم تكن ضمن الأولويات الخمس الأولي لوزارة العدل, وبعد تلك الاحدأث أصبحت هي الأولوية رقم واحد. وبالاضافة للدور التقليدي لوزارة العدل في التحقيق ومحاكمة الارهابيين, فإنها الآن تهتم بمنع عمليات ارهابية في المستقبل.
وقد انشأت الوزارة وحدة خاصة لتعقب الارهابيين الأجانب ومنعهم من دخول الولايات المتحدة, والقبض علي الموجود منهم في الولايات المتحدة. وسوف تكون هناك وحدة لمكافحة الإرهاب في كل مكاتب المدعي العام بانحاء الولايات المتحدة.
وقد بدأت وزارة العدل عملها في مكافحة الارهاب بالتحقيق في حوادث11 سبتمبر عن طريق معرفة الدول التي جاء منها مختطفو الطائرات, والتعرف علي تاريخهم بالولايات المتحدة عن طريق معاملاتهم المالية والاتصالات التي قاموا بها.
بعد ذلك أصبح الهدف هو محاولة الوصول للأشخاص الذين يحتمل أنهم قاموا بمساعدتهم أو كانوا علي علم بتلك العمليات أو عمليات أخري في المستقبل. وفي هذا الصدد تم القبض علي مئات الأشخاص من أصول شرق أوسطية للتحقيق معهم بشأن هذه القضية. كما قامت الوزارة باجراء اسئلة ومقابلات شفهية مع طلاب شرق أوسطيتين في أكثر من مائتي جامعة امريكية. ومع عدة آلاف أيضا من الشرق الاوسط والذين دخلوا الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين. وكان الهدف من هذه المقابلات هو جمع معلومات تتعلق بالأنشطة الارهابية سواء في الماضي أو المستقبل. وبدأت الوزارة في تقديم حوافز لغير المواطنين الامريكيين الذين يقدمون معلومات مفيدة عن أشخاص قاموا أو يعتزمون القيام بعمليات ارهابية, ويتمثل هذا الحافز في المساعدة في الحصول علي الكارت الأخضر الذي يتيح حق الاقامة والعمل بالولايات المتحدة.
وبالإضافة لذلك فإن وزارة العدل أصدرت منشورا في31 أكتوبر2001 اتاح للمحققين التنصت علي المكالمات التي تتم بين المهتمين بأنشطة ارهابية ومحاميهم. والذي اعتبره البعض خرقا للقوانين الامريكية التي تؤمن المعلومات التي يحصل عليها المحامي من موكله.
6. من المجرد الى الملموس : ” مكافحة الارهاب ” أم ترسيخ السيطرة الاميركية على العالم ؟
لا يكفي استعراض هذه الاستراتيجية، في اطرها العريضة، لفهم جوهر التحولات الحادثة فيها واتجاهاتها العامة، بل لا بد من الاطلاع على الاليات الكفيلة بتحويلها من قواعد نظرية صارمة الى ممارسات ملموسة على الارض. لقد انطلقت الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة من التداعيات التي ترتبت على احداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر 2001 ووظفتها لتحقيق اهداف ومشاريع تستهدف ترسيخ هيمنة الولايات المتحدة على صعيد كوني.
والسؤال المطروح اليوم هو : ماذا يجري على الارض الأن ؟ لن ندخل في تفاصيل كثيرة ولكن نشير بإختصار الى بعض الامثلة.
– تحقيق اختراق مهم في منطقة اسيا الوسطى والقوقاز من طرف الولايات المتحدة، هذه المنطقة التي طالما عملت للسيطرة عليها ان لموقعها الاستراتيجي بين روسيا والصين وايران او لكنوزها النفطية والغازية. البحث عن موطئ قدم وتطويق، ومنع تبلور أي استقطابات اقليمية في المستقبل
ان هذا الوجود في آسيا الوسطى لا يهدف الى تنفيذ عمليات جوية فوق افغانستان في المستقبل المنظور فحسب، بل الى الحفاظ على وجود عسكري قوي في المنطقة بعد الحرب، يؤمن نقطة انطلاق لعمليات عسكرية في مناطق اخرى، وبما يمكن من منع تبلور أي استقطابا اقليمية في المستقبل تهدد ” التوازنات الجديدة ” التي تفرضها قوة المدافع وأزيز الطائرات.
واذا كان الوصول الى آسيا الوسطى نتيجة مباشرة للمرحلة الاولى من الحرب الاميركية على الارهاب، فان التمدد الاميركي الى القوقاز كان في رأس اولويات ما سمي المرحلة الثانية. وتحت شعار “مهمة التدريب” وقعت الولايات المتحدة اتفاقيات مع عدد من بلدان هذه المنطقة تنص على ارسال خبراء لتدريب الوحدات الخاصة في هذه البلدان على كيفية مكافحة الارهاب.
– إعادة هيكلة التواجد الامريكي في جنوب شرقي اسيا بما يضمن تفعيل السيطرة القديمة لتتوافق والتحولات الجديدة. إذا تجاوزنا الخطاب الامريكي المعلن الذي ينطلق من مفهوم “ الحملة العالمية على الارهاب “ وتساءلنا عن الاهداف الفعلية لهذا التواجد امكننا أن نقول أنها تتمثل في :
أ. ضرورة العودة بوجود عسكري كثيف الى جنوب شرق آسيا بعدما اغلقت اميركا قاعدتيها العسكريتين في الفيليبين، سوبيك باي وكلارك عام ،1992 ثم بعدما اجبر الرئيس الاندونيسي سوهارتو على الاستقالة عام 1998، وإنفتاح الوضع هناك على إحتمالات عدة بما في ذلك امكانية صعود قوى راديكالية قد يلعب ” الاسلاميون ” دورا مهما أو محوريا فيها.
ب. الاهداف الاقتصادية حاضرة هنا كذلك، والتي تستند اساسا الى وجوب عدم تجاهل منطقة ضخمة تضم 525 مليون نسمة يبلغ ناتجها القومي 700 مليار دولار وهي خامس اكبر شريك تجاري لاميركا وتحتل الاستثمارات الاميركية فيها المركز الثاني بعد اليابان. يضاف الى ذلك عاملان حاسمان: الاول، مستويات انتاج النفط والغاز واحتياطهما في اندونيسيا، وإكتشافات جديدة لحقول نفط وغاز في الفيليبين وماليزيا وفيتنام، والثاني، تقاطع الخطوط البحرية العالمية حيث تمر نصف التجارة العالمية بما فيها امدادات النفط من الخليج الى اليابان وكوريا الجنوبية والصين وحيث اي اعاقة لوصول النفط تؤثر على اقتصادات شرق آسيا وتالياً على اقتصاد اميركا.
ج. الأهداف الجيوسياسية حاضرة كذلك، وتكمن في ما يسمى بالخطر القادم من قوى اقليمية يمكن ان تشكل مصدر خطر على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في هذه المنطقة. وحسب دراسات امريكية عديدة فإن الصين تعد بمثابة الخطر المتنامي على مصالح اميركا في جنوب شرق آسيا ومن احتمال ان تنافسها في غضون عشر سنين على السيطرة على المنطقة. ولهذا يجري التأكيد على أن حماية النمو الاقتصادي لدول المنطقة وحماية المصالح الاميركية لن يتحقق الا بوجود امريكي فيها وبوصول لا محدود الى الخطوط البحرية.
الخلاصة
إن نظرة فاحصة ومتأنية الى المشهد العام لخريطة الانتشار الاميركي في العالم بعد 11 ايلول والاهداف المعلنة وغير المعلنة التي تحقق من خلاله، فان عبارة “الحرب على الارهاب” تبدو الاكثر قبولا وربما الألطف لمد الهيمنة الأمريكية على العالم وتمددها ان بنشر أساطيلها او حاملات طائراتها او اقامة قواعد عسكرية جديدة او نشر جنودها “خدمة” للدول المضيفة. والحقيقة التي لا يمكن انكارها هي أن القضية في جوهرها لا تدور حول ” الحرب العالمية على الارهاب ” فقط بل حول حول توظيف تلك الحملة بهدف خلق الاليات الكفيلة لتحقيق الهيمنة الامريكية على العالم وإعادة إنتاجها في أحسن الظروف وافضل الشروط !! هذا هو الدرس الاهم الذي يتعين إستخلاصه من هذه الحملة العالمية البعد.. #
# عن الحوار المتمدن….