الفكر السياسي

بعض معالم التحولات في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001

بعض معالم التحولات في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001

د. صالح ياسر

2007 / 9 / 12

في 11 سبتمبر 2007 تحل الذكرى السادسة لأحداث سبتمبر 2001. وبداية لا بد من القول أن هذه الأحداث وتداعياتها شكلت منذ لحظة وقوعها، وما زالت، تشكل الأحداث الأهم في المشهد السياسي العالمي. ويكمن السبب في أنها أحدثت أثراً بعيداً وعميقاً في العلاقات الدولية الى درجة دفعت بعض المتخصصين بالقضايا الاستراتيجية الى القول بأن معالم ” علاقات دولية جديدة ” بدأت تتبلور وأن عمقاً جديداً لـما يسمى بـ ” النظام الدولي الجديد ” بدأت غماره وتداعياته على نحو مفصلي وتاريخي ونوعي. ومن هنا ضرورة فهم هذا الحدث/الزلزال ليس في راهنه وإنما في تداعياته البعيدة المدى واستحقاقاته الاستراتيجية.

هكذا إذن بدأت ” بشائر ” حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول 2001 تهطل محملة بالتصور الأمريكي لتنميط العالم. وكل الإجراءات وخطب الساسة الأمريكيين الكبار، بما فيهم الرئيس جورج دبليو بوش، بيّنت أن الولايات المتحدة ماضية في استكمال تصورها الاستراتيجي لهذه المرحلة. وقد كان خطاب ” حال الاتحاد ” الذي ألقاه الرئيس الأمريكي بوش في بداية العام (2002) قد وضع الإطار العام للوجهة الجديدة بإبقائه الباب مفتوحا على مصراعيه لمواصلة الولايات المتحدة لـ ” الحرب على الإرهاب ” ، وأضاف الى ذلك نحته لمفهوم ” محور الشر ” مدشنا جبهة جديدة، بإضافة هذه الدول وقائمة إضافية من ” الدول المارقة ” والتي تنتج أسلحة الدمار الشامل، الى من ستطولهم اليد الطويلة للولايات المتحدة !

وإذا وضعنا خطاب ” حال الاتحاد ” هذا في مكانه الطبيعي فانه يمكن القول أن هذا الخطاب ليس ظرفيا، بل يشكل امتدادا طبيعيا لـ ” حركة فكرية ” كانت تعتمل داخل مراكز صناعة القرار في الولايات المتحدة بهدف صياغة معالم وعناصر الاستراتيجية الجديدة وعنصرها الرئيسي العقيدة العسكرية التي بدأت بالتبلور بعد 11 سبتمبر 2001. وتمثل العقيدة الجديدة تطورا نوعيا بالمقارنة مع تلك التي تبلورت في بداية التسعينات من القرن العشرين اثر انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي وحل حلف وارشو.

المبحث الأول: معالم العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة

استنادا الى (مايكل ت. كلار)، الاستاذ في جامعة هامشر ومؤلف كتاب Resource Wars: The New Landscape of Global Conflict, Metropolitan Books, 2001 الصادر عام 2001 تقوم الهيكلية الاستراتيجية للدفاع الاميركي على ركائز ثلاث هي:

اولاً، المركزية الاميركية، أي العقيدة القائلة باستخدام القوات لما فيه اقصى المراعاة للمصالح الوطنية، بما في ذلك ابان العمليات المشتركة مع الحلفاء.

ثانياً، السيطرة العالمية او القدرة على ايصال قواتها الى أي مكان وفي أي زمان وضمن مطلق الظروف.

ثالثا واخيراً، التفوق الدائم، بمعنى آخر اللجوء الى العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية تأمينا للغلبة الدائمة للقوات المسلحة الاميركية.

ويمكن ملاحظة أبرز معالم التغيرات في الاستراتيجية الجديدة، التي نعرضها هنا بتكثيف، في المحاور التالية:

1. الانفراد بالتفوق العسكري المطلق بما يحقق السيطرة الاستراتيجية الكاملة. لاشك أن قراءة متفحصة لجوهر العقيدة العسكرية الجديدة تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ “الثورة في المسائل العسكرية” بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق ” تفوق نوعي على الخصم ” يتيح ضمان مبدأ ” السيطرة الاستراتيجية ” بالمطلق. وبالملموس فقد حدّد (رامسفيلد)، وزير الدفاع الأمريكي السابق، في حديث له أمام طلاب جامعة الدفاع الوطني في 31/1/2001، جوهر العقيدة العسكرية الجديدة بأنه يتمثل في:
* امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا؛
* الانتصار على قوّتين تهاجمان الولايات المتحدة، ( أي مسرحين للحرب)؛
* خوض هجوم مضاد قوي؛
* احتلال عاصمة بلد معاد وإقامة نظام جديد فيها.

ويعني هذا إضفاء تعديل هام على العقيدة العسكرية التي ظلت سارية المفعول قبل هذا التحول.
وطبيعي أن ما قاله (رامسفيلد) بشأن ” امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا ” له دلالته في كونه سيحرر الأمريكيين على ما يبدو من الاعتماد على الحلفاء الأوربيين. ولاشك أن كلام (بول وولفويتز)، نائب وزير الدفاع الأمريكي انذاك، كان شديد الصراحة حين قال في مؤتمر ميونيخ الأمني في آذار 2003 بما معناه أن المعارك هي التي ستحدد التحالفات.

وقبل ذلك كانت أهداف السياسة الدفاعية الرئيسية قد مرت بثلاث مراحل أساسية، حسب بول ماري دولا غورس ( اللوموند ديبلوماتيك العدد 9/2002 ):

• قبل السبعينات كانت سياسة الدفاع الأمريكية تضع نصب أعينها الاستعداد لخوض “حربين ونصف “، بحسب المذهب الذي تبناه آنذاك الرئيس الأمريكي الأسبق (ريشارد نيكسون). ففي إطار الحرب الباردة حيث كانت البلدان الاشتراكية تشكل كتلة واحدة، كان من المفترض – بحسب هذه العقيدة – الاستعداد لحرب محتملة ضد الاتحاد السوفيتي وأخرى من الصنف نفسه ضد الصين وثالثة في الوقت نفسه لكن بحجم إقليمي ضد بلدان عدوة لا تقاس قدرتها العسكرية بالقوتين العظميين. ومن هذه النزاعات مثلا الحرب الكورية والفيتنامية أو الحملات العسكرية في لبنان وغواتيمالا …. الخ. وقد دفع النزاع الإيديولوجي بين الاتحاد السوفيتي والصين، والذي توج بقطيعة سياسية – اقتصادية، الرئيس ريتشارد نيكسون الى تبني مبدأ “الحرب ونصف الحرب” الذي يتحسب لمواجهة رئيسية مع الاتحاد السوفيتي أو مع الصين إضافة الى نزاع إقليمي من النوع المذكور آنفا.
• مباشرة بعد انتهاء ” الحرب الباردة “، أصدرت إدارة الرئيس بوش الأب عام 1991 وثيقة بعنوان ” نظرة الى القدرة العسكرية الأساسية” تضمنت مبدأ جديدا بات يتوقع حدوث “نزاعين إقليميين كبيرين” والتهيؤ لهما.
• وحين انتخب بيل كلينتون رئيسا للولايات المتحدة أكدت إدارته التوجه السابق وذلك في تقويمها الشمولي عام 1993، وعام 1997 في وثيقة حول “سياسة الدفاع الرباعية” (أربع سنوات) حيث أطلق على هذه النزاعات اسم “حروب رئيسية في مسرح عمليات”.

لم يكتف رامسفيلد، في الخطاب المشار إليه أعلاه، بتوسيع احتمالات النزاع من اثنين الى أربعة “رئيسية تدور في مسرح عمليات” بل حاول صياغة تعريف جديد للأخطار التي يتعين على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في ” معسكر الأعداء ” نفسه ” المنظمات الإرهابية ” ذات “التطلعات الدولية” والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن أن تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر لا يتحدد فقط بمصدره بل أيضا بطبيعته. ولاشك أن قراءة متفحصة لجوهر هذه العقيدة تكشف لنا أنها لا تطول فقط إحداث ما يسمى بـ “الثورة في المسائل العسكرية” بل توظيف هذه التقنيات الجديدة لتحقيق ” تفوق نوعي على الخصم ” يتيح ضمان مبدأ ” السيطرة الاستراتيجية “. وطالما شدد واضعو الخطط العسكرية الأمريكية على ان نظريتهم في “السيطرة الاستراتيجية” وجدت استجابة لكل أشكال النزاع. ويجري تطبيقها بحسب طبيعة الخصم وعدده وقوته الصناعية وبنيته التحتية وحجم مدنه ولا سيما نظامه السياسي وما المطلوب القيام به لقلبه أو تحييده. فالنظرية تترك المجال واسعا أمام التجريبية في تطبيقها. وهو ما حدث مثلا عند تنفيذها خلال حروب الخليج والبوسنة ومن بعدها في كوسوفو.

ولم يتوقف (رامسلفيد) عند تحديد مسارح الحرب التي ستنشط فوقها قوة الردع، والتي يتعين امتلاكها في إطار العقيدة العسكرية الجديدة، بل إنه حدّد أهداف تلك القوة بما يلي :
” – حماية الأرض الوطنية والقواعد العسكرية في العالم،
– الانتقال الى مسارح عمليات بعيدة،
– تدمير معاقل العدو،
– ضمان أمن أنظمة المعلومات والاتصال،
– تطوير استخدام التكنولوجيا الخاصة بالتنسيق بين القوات،
– حماية الفضاء والترسانة الفضائية الأمريكية “.

2. التخلي عن ” استراتيجية الردع والاحتواء ” التي حكمت السياسة الأمريكية إبان “الحرب الباردة ” وتبني استراتيجية ” الهجوم الوقائي “. ويعد هذا تحولا مهما في التفكير الاستراتيجي الأمريكي. واستنادا إلى تصريحات مسؤولين أمريكيين كبار فإن المبدأ الاستراتيجي الجديد يبتعد كثيرا عن سياسة الحرب الباردة التي كانت تقوم على الردع والاحتواء ليصبح جزءا من أول استراتيجية للأمن القومي تقوم على فكرة الهجوم الوقائي. واعتبر العديد من المحلّلين هذا التوّجه أكبر تغيير في الاستراتيجية الأمنية – العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس هاري ترومان وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي آي) والبنتاغون. فهذه الاستراتيجية ستبتعد عن مبدأ عمره أكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الأمريكية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي).

وطبيعي أن مثل هذه النقلة النوعية ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الأمريكية على تنفيذ تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما، وذلك على مستويين:

الأول، مستوى المفاهيم, حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية الأمريكية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية (غير مشّرفة) ؛

الثاني، مستوى العتاد، لأن الهجمات الوقائية تحتاج الى أنواع جديدة من الأسلحة لجعل القوات الأمريكية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على ” الفتك السريع “. ويمكن لهذا الملاحظة أن تفسر الخطوة التي اتخذها الرئيس الأمريكي بوش بشأن خطة لإعادة نشر القوات الأمريكية الموجودة في الخارج.

3. صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها. فجمع في ” معسكر الأعداء ” نفسه ” المنظمات الإرهابية ” ذات “التطلعات الدولية” والدول التي تساندها وخصوصا تلك التي يمكن أن تمدها بأسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيميائية) والتي تقوم هذه الدول بتطويرها. فالخطر لا يتحدد فقط بمصدره بل أيضا بطبيعته.

وارتباطا بذلك باتت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، أو ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث ” تطورات عسكرية مفاجئة ” ذات طبيعة غير محددة. والخلاصة أن المبدأ النووي الأمريكي الجديد لا يستبعد إمكانية لجوء الولايات المتحدة قبل غيرها إلى استخدام السلاح النووي إذا ما نشأ خطر صنع سلاح إبادة جماعية من قبل خصومها.

4. استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة في العالم بدأً من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى وغازها. وبهذا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية، في تفاعلها الوثيق طبعا مع الدوائر الاستراتيجية الأخرى.

من المفيد التذكير هنا بأن هذه الأفكار ليست في مجملها جديدة. فهناك إدارات أخرى سعت إلى تفضيل هذه الركيزة الاستراتيجية أو تلك. لكن الشيء المهم هنا هو انه لم يصل التفكير الاستراتيجي قبل ذلك إلى بلورة هذه الركائز بهذا القدر من التماسك والوضوح والحماسة، إلى درجة يمكن معها القول أننا نشهد انقلابا في التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أكد مسار الأحداث خلال السنوات الأخيرة بما لا يدع الشك إن القضية برمتها تدور حول بلورة رؤية استراتيجية ” اكثر فعالية “، وخلق الآليات الكفيلة بضمان تحقيق الهيمنة على العالم وإعادة إنتاجها في أحسن الظروف وأفضل الشروط. وقبل ما يقارب القرن والنصف قال الاستراتيجي الألماني الكبير (كلاوزفيتز) في مسعاه لصياغة تعريف دقيق للاستراتيجية بأن ” الأهداف السياسية هي النهاية، والحرب هي الوسيلة “.

تنويعات تطبيقية: نظرية الفوضى البناءة
في التنويعات التطبيقية لتلك الاستراتيجية توالدت مفاهيم عديدة، حيث واصل الجناح الأمريكي المحافظ المسيطر على مجريات السياسة الأمريكية جهوده لتطبيق نظريتي “التفكيك النظيف”
و”الفوضى البناءة” بهدف إعادة رسم الخارطة الجغرافية والسياسية على الصعيد الإقليمي مبتدأ بمنطقة الشرق الأوسط لتكون بمثابة نموذج يطبق فيما بعد على المناطق الأخرى. وهي نظريات وضعتها وروجت لها مراكز أبحاث ودراسات أمريكية في مقدمتها معهد واشنطن.
ومن اجل فهم افضل لهذه القضية ينبغي العودة الى ما حدث في عام 1996 حيث وضعت في الولايات المتحدة ورقة سياسية بعنوان ” الاختراق النظيف “، صاغتها لجنة برئاسة ديك تشيني الذي عاد فيما بعد ليشغل منصب نائب الرئيس الأمريكي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش.

إن إشاعة هذا المصطلح (الفوضى البناءة) على نطاق واسع يؤكد أن المرحلة الثانية من الاستراتيجية الكونية للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة تحولت إلى خطة تم الشروع في تنفيذها بالفعل على أرض الواقع. وإذا كانت المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية جرت تحت شعار “الحرب على الإرهاب” واستهدفت إسقاط نظامي طالبان في أفغانستان والبعث في العراق، فإن المرحلة التالية من هذه الاستراتيجية تجري تحت شعار “الحرب على الاستبداد ونشر الديمقراطية” وتستهدف إسقاط ” أنظمة الاستبداد “، وإدخال إصلاحات سياسية بعيدة المدى في العالم العربي. الفرق الوحيد بين المرحلتين أن الأولى تطلبت استخداماً مكثفاً للقوة العسكرية واحتلالاً فعلياً للدول المستهدفة، أما الثانية فستعتمد على الوسائل غير العسكرية في المقام الأول، ولكن من دون استبعاد كلي للقوة العسكرية التي قد يتم اللجوء إليها لتوجيه ضربات ضد أهداف محددة ومحدودة إذا لزم الأمر. ويلاحظ هنا أن هذه المرحلة شهدت بروز مفاهيم جديدة مثل مفهوم ” الشرق الأوسط الجديد ” أو ” الشرق الأوسط الكبير “.

ما الذي تعنيه ” الفوضى البناءة “؟
دون الدخول في تفاصيل لا يتسع المكان لها هنا، يمكن القول أن مفردات هذه النظرية يمكن إجمالها في ما يلي:
– ينطلق منظرو الاستراتيجية الأمريكية، في بناء مفهوم “الفوضى البناءة، ” من فكرة قوامها أن الوضع الحالي ” ليس مستقراً” وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي من نوع ” الفوضى الخلاقة ” التي ربما تنتج في النهاية – حسب الزعم الأمريكي والذي تحدثت عنه اكثر من مرة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليسا رايس- وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً.
– تفكيك الوضع القائم في بلد ما ولو أدى ذلك إلى حدوث فوضى مؤقتة تمهيدا لإعادة تركيب هذا البلد على أسس جديدة ملائمة أكثر لمصالح أمريكا ومخططاتها في المنطقة.
– حلحلة الأمور ونقلها من مرحلة الجمود إلى مرحلة المرونة والهلامية والحركة لكي يمكن التدخل وتشكيل الأمور وتطبيق السيناريوهات الجاهزة.
– وبالملموس، تهدف “الفوضى البناءة” الى إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط لتكون بمثابة نموذج يطبق فيما بعد على المناطق الأخرى. هكذا، إذن، يمكن القول أن تفكيك المنطقة هو خطوة أساسية في مخطط المحافظين الجدد في أمريكا لإعادة بناء المنطقة ورسم خريطة جديدة لها تتطابق مع مصالح الولايات المتحدة ودورها الجديد على الصعيد العالمي.

ومن وجهة نظر تاريخية لا بد من التذكير بأن أول من قام بصياغة مفهوم ” الفوضى البناءة ” هو مايكل ليدن‏,‏ العضو البارز في معهد ” أمريكان إنتربرايز “‏, المعروف بكونه ” قلعة ” المحافظين الجدد في واشنطن‏,‏ والمؤسسة الهامة في بناء وصياغة مشروعات الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش السياسية في الشرق الأوسط‏,‏ وهو أيضا المنبر الذي اعتاد الرئيس أن يختاره كثيرا ليعلن فيه مشروعاته السياسية الكبري في المنطقة‏.‏
ومايكل ليدن هذا هو أحد اصحاب النفوذ في دائرة المحافظين الجدد‏,‏ وأحد أبرز الذين يعهد إليهم المركز بوضع التصورات وكذلك الخطط التفصيلية‏,‏ التي تبني عليها أحيانا السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عامة‏,‏ والدول العربية خاصة. واذا كان اسم ليدن قد ارتبط بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 بنظرية ” التدمير البناء “‏,‏ فإنه قد عرف أيضا بأنه تولي في عام‏2003,‏ قيادة مجموعة عمل من خبراء معهد ” امريكان انتربرايز “‏,‏ والتي قامت بإعداد ” مشروع التغيير الكامل في الشرق الأوسط “‏,‏ والذي كان من المقرر ان ينفذ خلال عشر سنوات‏,‏ ويشمل اجراء ” اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية ” شاملة في كل دول المنطقة‏.‏ واضافة لذلك فإن مايكل ليدن هو القائل بان ” التدمير البناء هو صفتنا المركزية ‏..‏ وأن الوقت قد حان لكي نصدر الثورة الاجتماعية “‏.‏

وتعود الخلفية النظرية لاستراتيجية ” اللااستقرار البناء ” إلى محاولة ترتيب أفكار ومعتقدات المحافظين الجدد وآبائهم الفكريين، وعلى رأسهم “ليو شتراوس”، المدافع عن الفلسفة الكلاسيكية ومنطلقاتها الأخلاقية، والداعي إلى الدفاع عن مصالحها بالقوة، مع أفكار أخرى لعل أهمها مقولة ” فجوة الاستقرار ” عند صمويل هنتنجتون صاحب نظرية ” صدام الحضارات ” في معالجته للتنمية السياسية. فهذه الفجوة، حسب هنتنجتون، تولد إحباطا ونقمة في أوساط المجتمع مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي. فالإحباط الاجتماعي يولد المزيد من اللااستقرار إذ ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القدرة والقابلية على التكييف الإيجابي، لأن الإحباط ومشاعر الاحتقان التي تزيد هذه الفجوة يتمخض عنها مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، تفرض على مؤسسات النظام التكيف من خلال توسيع المشاركة السياسية واستيعاب هذه المطالب، أما إذا كانت هذه المؤسسات محكومة بالنظرة الاحادية، فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لهذه المطالب إلا بالمزيد من الفوضى، التي ستعمل في نهاية الأمر على استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.

بكلمات أخرى، كان هنتنجتون يريد أن يصل الى أن التحديث السياسي، او باللغة السائدة اليوم الإصلاح السياسي، يرتبط بالاستقرار, ولكن هذه الحالة قابلة للانقياد إما نحو التكيف الإيجابي او تململ البنية السياسية بأكملها واستبدال أخرى بها. هذا مع العلم أن مصادر ” اللااستقرار البناء ” في الشرق الأوسط حسب (روبرت ساتلوف) تقاس على مسطرة المصالح الأمريكية.

وقد اجرى البروفسور (توماس بارنيت) احد اهم المحاضرين الرئيسيين في وزارة الدفاع الأمريكية منذ سبتمبر‏2001,‏ بعض التطويرات على نظرية ” الفوضى البناءة “. حيث يلاحظ أنه لخص رؤيته لما كان يعرضه في البنتاجون‏,‏ في دراسته التي اعطاها عنوان ” خريطة البنتاجون ” المنشورة عام ‏2004 ‏.‏ و بحسب عاطف الغمري (الاهرام عدد 20/7/2005) فان النظرية التي يتناولها بارنيت تقسم العالم إلي من هم في القلب او المركز ـ ويعني بهم الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب ـ أما الآخرون فهم من سماهم دول الفجوة أو الثقب‏.‏ ويقول بارنيت انهم مثل ثقب الأوزون‏,‏ الذي لم يكن ظاهرا قبل الحادي عشر من سبتمبر‏2001,‏ لكن الآن لم يعد ممكنا ان يغيبوا عن النظر‏.‏ وتضم دول الفجوة أو الثقب، بحسب بارنيت، ” الدول المصابة بالحكم الاستبدادي‏,‏ والأمراض والفقر المنتشر‏,‏ والقتل الجماعي الروتيني‏,‏ والنزاعات المزمنة التي تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابين “‏.‏
ويوضح بارنيت ان استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة تتضمن:
• زيادة قدرة (دول القلب) على الرد علي اضطرابات النظام الدولي.
• العمل مع (دول القلب) علي ردع اسوأ صادرات دول الثقب مثل الإرهاب والمخدرات والأوبئة.
• العمل علي انكماش هذا الثقب‏.‏

ويحدد (بارنيت) الشرق الأوسط كمنطقة للبدء بتطبيق الاستراتيجية الجديدة‏،‏ ويقول إن الدبلوماسية لا تعمل في منطقة‏,‏ لا توجد اكبر مصادر تهديد الأمن فيها فيما بين الدول وبعضها‏,‏ لكن هذه التهديدات تكمن داخل دول المنطقة ذاتها‏.‏ ويصل (بارنيت) إلي مرحلة ” الفوضي البناءة “‏,‏‏ حيث يتصور شكلا معينا لامكان حدوثها‏,‏ من نوع الانهيار الكبير أو التفكك الاقليمي‏.‏
وحسب الاستراتيجية الجديدة يأتي التدخل المباشر من قوة خارجية في حالة حدوث الفوضي‏,‏ حيث يقول بارنيت ” ان الشيء الوحيد الذي سيغير المناخ الشرير ويفتح الباب لفيضان التغيير‏,‏ هو ان تدخل قوة خارجية‏,‏ ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك “.‏ ويحسم (بارنيت) حدود النظرية بقوله إن هدف هذه الاستراتيجية هو انكماش الثقب وليس مجرد احتوائه‏.‏

ان الاستجابة لتوسيع دائرة فهم ” الفوضي البناءة‏ “,‏ راجع إلي أنها لم تعد مجرد طرح نظري فقط‏,‏ ولكنها استراتيجية يجري تنفيذها‏ بالملموس ووفق خطوات محددة.‏

ويبدو من قراءة صاحية للافكار اعلاه أن ” صناعة الفوضي ” نابعة على ما يبدو من إيمان عقائدي عميق لدي من يصنعون السياسة الخارجية الأمريكية والقائم على فكرة قوامها ان التغيير في حد ذاته لا يكفي‏,‏ وأن الأوضاع الداخلية في المنطقة وثقافتها تحتاج تحولا شاملا ‏Transforming‏ ‏.‏ ومن هنا كان ولع المنظرين الاستراتيجيين هؤلاء بمفاهيم من قبيل ” التدمير الخلاق ” و ” الفوضي المنظمة “‏,‏ التي تعقبها ” ازالة الأنقاض والاشلاء‏,‏ ثم تصميم جديد لبناء مختلف “‏.‏

ان هذه الاستراتيجية تكشف عن تدبير صريح للتدخل المباشر في شئون المنطقة‏,‏ وهي بمثابة اعلان اواعادة تأكيد لاحد معالم الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق “الاصلاح الداخلي والديمقراطي” في منطقة الشرق الاوسط التي جرت الاشارة اليها في مقدمة هذه المداخلة والذي نص على ان الشأن الداخلي لم يعد شأنا محليا‏,‏ وفق تعريف جديد يجعل من التغيير في الداخل أمر يخدم الأمن القومي للولايات المتحدة, ‏ويزيل التهديدات له. وبصرف النظر عن الأهداف الأخري والنهائية غير المعلنة لمشروع الاصلاح والتغيير في المنطقة, فإن المشروع يتحرك بالفعل، معتبرا الساحة الداخلية ميدان عمله، وان ما هو مطلوب تغييره لا يقدر عليه إلا من يؤمن عقائديا بما يؤمن به المحافظون الجدد‏‏.‏ والعلاج الوحيد من وجهة نظر هؤلاء هو في تدخل قوة خارجية‏، وهذه القوة هي الولايات المتحدة.

من العام الى الخاص/المثال العراقي نموذجا
منذ انهيار النظام الدكتاتوري المقبور في 9/4/2003 والعراق يعيش حالة مخاض عسيرة ويمر في أوضاع غاية في الصعوبة والتعقيد والخطورة، والناجمة عن خيار الحرب واستحقاقاته وما تركه من تداعيات، ونشاطات القوى الارهابية والتكفيرية والصدامية، والاستراتيجيات ” الملتبسة ” التي اعتمدتها القوى المهيمنة على السلطة بعد ذلك التاريخ. والمتابع لهذه التطورات واضطراب الاوضاع الامنية تبدو الامور وكأنها تمثل أول تطبيق عملي لنظرية “الفوضى البناءة” حيث لم يتم تغيير النظام حسبما اعلنت الحكومة الأمريكية باعتباره هدفها الرئيسي من حرب العراق‏,‏ بل ان الذي تم هو تحطيم النظام وهدم الدولة المقترن والذي اقترن بعدم وضع بديل جاهز موضع التطبيق العملي‏.‏

ولهذا يمكن الاتفاق مع الذين ينفون الفكرة القائلة بان حكومة بوش ووزارة الدفاع‏,‏ لم يكن لديهما خطط جاهزة للعراق في فترة مابعد الحرب‏, فالمتابع‏ للكثير من الوثائق الرسمية الأمريكية يستطيع ان ينفي هذا القول‏.‏ فمن المعلوم ان وزارة الخارجية الأمريكية كانت قد أعدت قبل بدء الحرب دراسة شاملة ومستفيضة تضمنت خرائط تفصيلية لـ “خطط اعادة اعمار وادارة العراق ” ودربت العديد من العراقيين على تنفيذ مفاصلها المختلفة‏,‏ لكن البيت الأبيض تجاهل هذه الدراسة كما لم يعرها البنتاجون اهتماما‏.‏ هكذا اذن فانه في ظل عدم تطبيق بديل معين فان ازاحة النظام الدكتاتوري قد خلقت فراغا‏,‏ لم تملؤه سوي ” الفوضي البناءة ” !!‏.‏
وبالملموس فإنه وفقا لحسابات صناع استراتيجية تغيير النظام الدكتاتوري، كان مفترضا أن يؤدي تطبيق نظرية “الفوضى البناءة” هذه بنجاح في العراق إلى تكرارها على صعيد المنطقة لإعادة تركيب العالم العربي على قواعد وتحالفات جديدة ملائمة لواشنطن.

غير ان الذي حدث بالموس ترافق مع عدة تطورات، من بينها اثنين مهمين هما:

التطور الأول: الانهيار السريع للنظام الدكتاتوري الذي كان يفرض ” الأمن والاستقرار ” بقبضة من حديد. وانطلاقا من الرؤية المعتمدة على نظرية الفوضى البناءة لم تستطع قوات الاحتلال أن تضبط الأمن بشكل قوي خصوصا أن سلطة الاحتلال اصدرت قرارا حلت به الجيش النظامي، وسائر الاجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، ولم يرافق ذلك تشكيل اجهزة بديلة لها وبالسرعة المطلوبة وعلى اسسس جديدة. الذي جرى ان هذه المؤسسات وخصوصا الامنية منها لم يتم بنائهاعلى اسس الكفاءة والمهنية والوطنية بل على اساس طائفي.

التطور الثاني،هو أن سقوط نظام صدام حسين ترافق مع رغبة القطاع الأعظم من العراقيين في إعادة توزيع السلطات بين مختلف مكونات المجتمع على أسس وقواعد جديدة مختلفة كليا عن تلك التي سادت خلال الفترات السابقة. الذي جرى بالملموس هو ان إعادة توزيع السلطات (والثروة طبعا باعتبارها انعكاسا للاولى) تمت انطلاقا من نظام المحاصصات الطائفية – القومية الذي وضع اسسه المحتل، فقطعت الطريق امام تبلور نظام جديد يقوم على اساس المواطنة العراقية العابرة للطوائف مما يخلق الشروط لانبثاق دولة ديمقراطية عصرية تحتاجها بلادنا بعد هيمنة نظام دكتاتوري قمعي. ويمكن القول أن هذه اللحظة النادرة للانتقال الديمقراطي ذبحت في المهد من طرف المنتصر في الحرب (قوى الاحتلال)، وقوى الارهاب من مختلف التلاوين، و ” ابطال ” نظام المحاصصات.

كل ما جري في العراق لحد الان، وما يمكن أن يجري في الفترة المقبلة، مرتبط بهذين التطورين الكبيرين وبذيولهما ونتائجهما، هذا اضافة الى عوامل اخرى طبعا. وقد بينت تجربة الفترة التي تلت انهيار النظام الدكتاتوري أنه ليس هناك حل أمني – عسكري – سياسي محض أمريكي لمشكلة العراق المتعددة الجوانب بل
إن الحل الحقيقي بيد العراقيين الراغبين في الرهان على بناء عراق جديد، عراق ديمقراطي حر ومستقل.

وهكذا فإن منظّري واشنطن الذين اسكرتهم القوة (تشيني، رامسفيلد، وولفويتز، بيرل الخ…) كانوا مستعجلين لاستخدام آلة الحرب الاميركية من اجل تحقيق حلمهم في “اعادة رسم الشرق الاوسط”، لكن بيّن مسار تطور الاحداث الفعلي أن ” حسابات البيدر لا تطابق حسابات الحقل ” كما يقال.

ورغم ذلك كله هناك هدفان يقعان في صلب الاستراتيجيا الاميركية، وهما الهيمنة على موارد الطاقة وممارسة سيطرة اكبر على الكرة الارضية. وبغض النظر عن النتائج فإن هذين الهدفين يظلان ماثلان على الدوام، وليس هناك ما يدعو – من وجهة نظر صقور المحافظين الجدد وغيرهم كذلك – الى التخلي عنهما أو التقليل من اهميتهما.

المبحث الثاني: من استراتيجية الردع والاحتواء الى استراتيجية ” الهجوم الوقائي ”

تحول خطير في التفكير الاستراتيجي الأمريكي
لم تكتف الولايات المتحدة بالحديث عن ” اطر عامة ” لإستراتيجيتها الكونية الجديدة بل بدا انها عازمة على مواصلة جهودها لبلورة قواعد محددة لعقيدتها العسكرية الجديدة تنص على الحق في توجيه الضربة الاولى الى الدول التي تملك اسلحة دمار شامل. وتحدث الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش في 1 حزيران (يونيو)/2002 عن ضرورة القيام بعمليات عسكرية “احترازية” في اطار “الحرب الشاملة ضد الارهاب”، بحسب ما اوردت صحيفة (واشنطن بوست) يوم (10/6/2002). وفي حديثه هذا، أعلن الرئيس بوش صراحة ان الولايات المتحدة على وشك الانتقال من استراتيجية (الردع والاحتواء), إلى استراتيجية (الهجوم الوقائي). وقال: (إذا ما انتظرنا كي تنضج التهديدات, سنكون انتظرنا طويلاً. إن أمننا يتطلب من كل الاميركيين أن يتّحلوا ببعد النظر والتصميم, وان يكونوا مستعدين للقيام بهجمات وقائية استباقية حين يكون الأمر ضرورياً للدفاع عن حريتنا وعن أرواحنا).

ويمكن القول ان المبدأ الاستراتيجي الجديد يبتعد كثيرا عن سياسة الحرب الباردة التي كانت تقوم على الردع والاحتواء. وكما معلوم فقد كانت الولايات المتحدة تعتمد، حتى الاعلان عن العقيدة الجديدة، على عقيدة “الردع”، القائمة على اقناع العدو، ولا سيما الاتحاد السوفياتي ابان ” الحرب الباردة “، بانه قد يتم القضاء عليه اذا ما بادر الى ضربها. واثار التغيير الجديد مناقشات وجدل بين الخبراء العسكريين والستراتيجيين، فهو لا يستبعد اللجوء ” في نهاية المطاف” الى الاسلحة النووية، ولا سيما لاختراق مواقع محصنة شديدة المقاومة ومخبأة تحتوي على مخزون من الاسلحة البيولوجية او الكيميائية. وضمن هذه الاستراتيجية اضيف للمرة الاولى تعابير من قبيل : ” الوقائي ” و ” التدخل الدفاعي ” بإعتبارها خيارات رسمية لضرب ” دول معادية ” او جماعات ” تبدو ” عازمة على استخدام اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.

ويعني التطبيق الفعلي لهذه الاستراتيجية بإختصار شديد أن الولايات المتحدة ستمنح لنفسها حرية اتخاذ القرار وتطبيقه ضد اي دولة او جماعة دون الرجوع للشرعية الدولية، الامر الذي يعرض الامن والسلام العالميين للخطر.

واعتبر العديد من المحللين والخبراء هذا التوّجه أكبر تغيير في الاستراتيجية الأمنية – العسكرية منذ حقبة أربعينات القرن العشرين حين أسس الرئيس الامريكي الاسبق هاري ترومان وكالة الاستخبارات الامريكية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارة الدفاع (البنتاغون). فهذه الاستراتيجية ستبتعد عن مبدأ عمره اكثر من نصف قرن في السياستين الدفاعية والخارجية الاميركية هو الاحتواء والردع، وتقترب من نظرية (التدخل الدفاعي) و(الهجوم الوقائي).

وطبيعي أن مثل هذه النقلة النوعية ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الاميركية على تنفيذ تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما، وذلك على مستويين:

الأول, مستوى المفاهيم, حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية الاميركية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية (غير مشّرفة).

الثاني, مستوى العتاد, لأن الهجمات الوقائية تحتاج الى أنواع جديدة من الاسلحة لجعل القوات الاميركية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على الفتك السريع.

والأهم من هذا وذاك، ان الاستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين إقليميتين في وقت واحد (على نمط حرب الخليج الثانية)، لمصلحة مفهوم أوسع بكثير: القدرة على الحركة العسكرية في 60 دولة في آن (وإن بمستويات منخفضة الوتيرة).

بيد ان هذا التوّجه الجديد، أثار جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة وقسم المخططين والمحللين وواضعي السياسات الى معسكرين:

الأول، المعسكر المؤيد لرؤية بوش – رامسفيلد. وهذا المعسكر يجادل بأن سياسة الردع – الاحتواء التي طبقت طيلة حقبة الحرب الباردة لم تعد مفيدة الآن في حقبة ما بعد هذه الحرب. إذ كيف يمكن ردع شبكة إرهابية لا أرض لها، ولا مواطنين لديها قد يتعرّضون الى الخطر, وأعضاؤها يعتبرون الموت استشهاداً مجيداً? كيف يمكن احتواء أنظمة (متشرّدة) في عصر حيث التكنولوجيات والمواد الخطرة يمكن ان تتسلل عبر الحدود إلى أيدي الإرهابيين?

المعسكر الثاني ، ويمثله معارضو الاستراتيجية الجديدة فهم، ومع قبولهم فكرة الهجوم الوقائي كخيار، يحذرّون من تحويلها الى استراتيجية متكاملة لأنها قد تضع الولايات المتحدة أمام مخاطر عدة أهمها وأبرزها خطر التمدد الاستراتيجي الزائد الذي طالما حّذر منه الباحث بول كيندي.

يبدو حتى الآن ان الكفة تميل لمصلحة المعسكر الاول. وهذا ليس سببه فقط التحديات التي أفرزتها احداث 11 أيلول (سبتمبر)، بل أيضا الجهود التي تبذلها المؤسسة الحاكمة الاميركية منذ حوالي عدة سنوات لبلورة استراتيجية أمن قومي جديدة تمّكن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها وعلى زعامتها العالمية في القرن الحادي والعشرين (نظرية القرن الأميركي).

وهذا التوجه بدا واضحاً في التقرير الذي رفعته (اللجنة الاميركية للأمن القومي في القرن الحادي والعشرين) إلى البيت الابيض. فقد اشارت اللجنة الى ان الاستراتيجية الاميركية الجديدة ينبغي ان تراعي التوازن بين هدفين اساسيين:

• الاول هو قطف ثمار العولمة بهدف توسيع نطاق الحرية والامن والازدهار للاميركيين ولغيرهم.
• والثاني يجب ان تسعى الاستراتيجية للقضاء على القوى المسببة لفقدان الاستقرار العالمي, بحيث يمكن المحافظة على الفوائد التي يتم جنيها.

واقترحت اللجنة المذكورة المبادئ التالية بوصفها دليلاً لصياغة استراتيجية قومية:

1. يجب أن تجد الاستراتيجية والسياسة جذورها في المصلحة القومية. وهذه الأخيرة تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية وإنسانية.
2. الحفاظ على قوة أمريكا التزام طويل المدى ولا يمكن تأمينه من دون القيام بجهود واعية وصادقة. تأمين ازدهار أميركا مسألة حاسمة ستتعرض الولايات المتحدة من دونها إلى الفشل في جهودها لقيادة العالم.
3. تواجه الولايات المتحدة فرصاً غير مسبوقة ومخاطر غير مسبوقة كذلك في العصر الجديد. إن العمل من أجل علاقات بناءة بين القوى الأساسية والحفاظ على دينامية الاقتصاد العالمي الجديد مع توزيع فوائده ومشاركة المسؤوليات مع الآخرين في التعاطي مع المشكلات العابرة للقوميات، هو بحد ذاته الأجندة الديبلوماسية التي ستختبر مقدار القدرة الإبداعية الأمريكية وقدرتها على القيادة.
4. وأخيراً يجب على أمريكا أن لا تنسى أنها تدافع عن مبادئ أهمها الحرية تحت سقف القانون.

أولويات هذه الاستراتيجية
لقد طور الباحثون الاستراتيجيون الأمريكيون ستيفن كزياك وأندرو كربيمفتش ومايكل فيكرز مبدأ (الحروب الاستباقية) أو (الوقائية) بصفته الوجه الآخر لهذه الاستراتيجية السياسية. وفي الولايات المتحدة، يحدد هذا المفهوم بأنه (ذلك النوع من النشاطات العسكرية الهادفة إلى تحديد, وتحييد أو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها الآخرون, قبل أن يتمكنوا من استخدامها).
ويصف الأميركيون أنصار هذا المفهوم الحرب التي يبشّر بها هذا التعبير بأنها (دفاع وقائي) أو (ردع متمدد). لكن خصومه يقولون إنه مجرد نسخة جديدة من ديبلوماسية البوارج الحربية !

ويقول الباحثون الاستراتيجيون المشار إليهم أعلاه أنه (يمكن تحديد المصلحة القومية في هذا العصر الجديد على مستويات ثلاثة:
• مصلحة البقاء, التي من دونها تتوقف أمريكا كما نعرفها عن الوجود،
• المصالح الحرجة والتي أبعد بخطوة عن مصلحة البقاء،
• والمصالح المهمة التي تؤثر على العالم حيث مجال عمل الولايات المتحدة ).

وبحسب هؤلاء فإن تحقيق هذه الأهداف في هذا العصر الجديد، يستلزم أن تكون الأولويات كالآتي:

أولاً: الدفاع عن الولايات المتحدة والتأكد من أنها غير معرضة لمخاطر العصر الجديد. ويشكل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل الأولوية القصوى في سياسة الأمن القومي الأمريكي في ربع القرن المقبل . وفي ضوء المخاطر الجديدة الناجمة عن انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب, يجب أن يكون تركيز الولايات المتحدة على كيفية الاحتفاظ بقوة ردع قوية تجاه كل أشكال الهجوم على أراضيها ومصالحها الأساسية. ويجب أن تعمل مع الآخرين لتقوية التعاون بين وكالات الأمن والاستخبارات والقوات العسكرية لإفشال المخططات الإرهابية وحرمان الإرهابيين من الملجأ بمهاجمة مراكزهم المالية واللوجستية.

ثانيا : على الولايات المتحدة أن تمتلك قوات خاصة قادرة على محاربة الابتزاز والتهديدات من قبل أولئك الذي يمتلكون أسلحة الدمار الشامل ومن الإرهابيين. إن اتساع الخطر الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل يدفع هذه الأمة أيضاً إلى دراسة دقيقة لوسائل الردع وظروفه, والتوجه نحو تطوير مبدأ الحروب الاستباقية.

ثالثا : الحفاظ على التماسك الاجتماعي الأمريكي والتنافسية الاقتصادية والإبداع التكنولوجي والقوة العسكرية. وفي هذا الصدد يجب أن تسـعى الولايات المتـحدة إلى خفـض اعتمادها على الطــاقة النـفطية الأجنبية التي تجعل هذا البلد وحلفاءه عرضة للضغوط الاقتصادية والابتزاز السياسي. إن التطوير المستمر لوسائل الطاقة البديلة وفعالية اكبر في نقل الطاقة والحفـاظ عليـها هي من ضـرورات الأمن القومي ومن ضرورات الاقتصاد والبيئة كذلك.

رابعا : المساعدة على اندماج القوى الأساسية الكـبرى, خصـوصاً الصـين وروسـيـا والـهـند, فـي التيار الأساسي للنظام العالمي الصـاعد. يـجب أن تتعامل الولايات المتحدة مع الصين بشكل بناء وبموقف إيجابي سياسـياً واقتصادياً. ولكن يجب أن تعترف أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين قد يزداد مع ازديـاد قـوة الـصـين. كما يتعين على الولايات المتحدة، بحسب هؤلاء، أن تدعم الإصلاح الاقتصادي الروسي والتطوير الديموقراطي والسياسي على أسس واقعية، معترفة أن تلك الأهداف هي أولاً وأخيراً على عاتق الروس لتحقيقها. ومن مصلحة الولايات المتحدة أيضاً أن تساعد على اندماج روسيا في المؤسسات الاقتصادية العالمية، شأنها شأن الصين. أما الهند، فهي الديموقراطية الأكبر في العالم, وسرعان ما ستصبح البلد الأكثر سكاناً، لذا يجب التعامل معها كقوة أساسية. وينبغي أن تظل باكستان بلداً محورياً، حيث أن العلاقات الطيبة بينها وبين الولايات المتحدة هي في مصلحة الأمن القومي الأمريكي.

خامسا : يجب أقلمة التحالفات الأمريكية والآليات الإقليمية الأخرى مع العصر الجديد. يجب أن يكون حجر الأساس في سياسة أميركا الإقليمية هو الحفاظ على التحالفات والصداقات القائمة وتقويتها. وعلى الولايات المتحدة في أوروبا أن تكون جاهزة لدعم تطور سياسة دفاع أوروبية مستقلة بشكل متناسب مع وحدة الحلف الأطلسي. وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، يجب أن يظل التحالف بين اليابان والولايات المتحدة الحجر الأساس في السياسات الأمريكية.
وبحسب الباحثين المشار إليهم أعلاه فان الولايات المتحدة تملك مصلحة دائمة وحاسمة في إبقاء الخليج آمناً. وهي تقبل بالعبء المترتب عليها في هذا الجانب. من هذا المنظور، تكون الأولوية القصوى هي منع أي قوة هناك من نشر قوات دمار شامل. وعلى الولايات المتحدة أن ” تدعم أيضاً التعاون الذي بدأ بين دول صديقة، خصوصاً إسرائيل وتركيا والأردن, وإلى توسيع تعاون كهذا ليشمل مصر وغيرها “.

سادسا : يجب مساعدة المجتمع الدولي على ترويض قوى التفتت التي يساعد على نشرها عصر العولمة. كما ينبغي على الولايات المتحدة أن تلجأ في كل الحالات الى الديبلوماسية الوقائية، أي العمل بالوسائل السياسية والاقتصادية وبالتعاون مع الآخرين لاستباق النزاعات قبل أن تصل الى عتبة العنف الجماعي.

بيد أن العديد من الخبراء الأمريكان، يؤكدون على أن الديبلوماسية الوقائية لن تنجح باستمرار، ولهذا يتعين على الولايات المتحدة أن تكون جاهزة للعمل عسكرياً بالتعاون مع دول أخرى في أوضاع تتميز بالآتي:
– حين يتهدد الخطر الولايات المتحدة أو أصدقاءها.
– حين تشكل أسلحة الدمار الشامل خطراً حقيقياً على المدنيين.
– حين يكون الوصول إلى مصادر الطاقة الضرورية للنظام العالمي مهدداً.
– حين يثبت نظام ما نيته في إيذاء الولايات المتحدة بشكل جدي.
– عند وقوع إبادة جماعية.

ما هي القدرات العسكرية المطلوبة لتنفيذ هذه الاستراتيجية ؟
يشير الخبراء والباحثون الأميركيون الى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى خمسة أنواع من القدرات العسكرية لتنفيذ هذه الاستراتيجية:

1- القدرات النووية للردع ولحماية الولايات المتحدة وحلفاءها من أي هجوم.
2- القدرات الأمنية الداخلية.
3- القدرات التقليدية الضرورية للانتصار في الحروب الأساسية.
4- قدرات الانتشار والتدخل السريع.
5- قدرات على تقديم المساعدة الإنسانية.

برنامج الدفاع الصاروخي ……. السلاح الرئيسي لتحقيق ” النصر ” !
لا شك ان قراءة متأنّية للتصريحات الرسمية للعديد من اعضاء إدارة بوش، بما فيهم الرئيس ذاته، تشير الى ان برنامج الدفاع الصاروخي يمثل السلاح الرئيسي ضمن خطة تكفل تحقيق هدفين اساسيين هما : ضمان المبادرة والنزعة الهجومية. وفي واقع الحال فان اقامة هذا النظام الذي يهدف الى تحيّيد الصواريخ العدوّة سوف يسمح لرئيس اميركي مقبل متحرر من معوقات الردع، ان يهاجم “الدول المارقة”، أي تلك الدول التي يتزعمها ” قادة لاعقلانيون ” يملكون صواريخ بعيدة المدى، مثل كوريا الشمالية وايران. كأن المقصود ردة فعل حذرة ودفاعية تقوم بها الولايات المتحدة لمواجهة سلوك غير متوقع قد يقدم عليه الآخرون، دون ان يخشى ردا بواسطة الصواريخ البالستية المزودة برؤس نووية او غيرها.

ويعني ذلك ان المظلة المضادة للصواريخ تهدف للسماح للولايات المتحدة بمهاجمة ” الدول العدوة ” في المكان والزمان والوسائل التي تختارها. ويفترض ذلك، على المستوى الاقليمي، وفي المناطق الاستراتجية الحساسة، نشر انظمة مضادة للصواريخ في ارض المعركة.

إن دعاة العقيدة العسكرية الاميركية الجديدة وصنّاعها يؤكدون على الارتباط بين مفهوم “السيطرة الاستراتيجية” ومشاريع الدفاع المضاد للصواريخ، فيشيرون الى التهديد الذي تمثله بعض الدول ذات القوة العسكرية المحدودة لكن القادرة على مهاجمة الاراضي الاميركية بواسطة صواريخ متوسطة او بعيدة المدى. وكان هذا المشروع المعروف باسم ” نظام الدفاع الصاروخي” قد اثار العديد من الاعتراضات التي لم تصمد امام التصميم الاميركي حتى عندما اعلنت حكومة بوش للملأ انها ستوقف من جانب واحد العمل بمعاهدة 1972 حول الحد من انتشار الاسلحة الصاروخية.

ويأتي ” نظام الدفاع الصاروخي” نتيجة تحليل استراتيجي ينطلق من فرضية التفوق المطلق للولايات المتحدة في جميع مجالات الدفاع. وقد استنتج من ذلك المخططون ـ اعضاء اللجنة المعينة لدراسة المشروع برئاسة دونالد رامسفيلد وكذلك كولن باول ـ أن الافضل عدم الانزواء داخل مفاهيم الردع المتبادل والتوازي النووي القديمة والفعالة في زمن الحرب الباردة. وبحسب رأيهم يجب التقدم، على العكس، في عملية خفض الترسانة النووية على ان تحتفظ كل من روسيا الاتحادية والولايات المتحدة بامكاناتهما الرادعة من دون الحاجة ولا الرغبة في استخدامها. اما النتيجة الطبيعية لذلك فهي كما يعتقد هؤلاء انه يجب الدفاع عن الاراضي الاميركية والمناطق ذات الاهمية الحيوية في اراضي الحلفاء اضافة الى القواعد الجوية والبحرية الاميركية في الخارج بواسطة نظام الدرع الصاروخية.

والعدو المفترض الذي يقوم حاجز الصواريخ المضادة للصواريخ بتدمير قدراته الهجومية لا ينحصر فقط في احدى ” الدول المارقة ” بحسب تصنيف الديبلوماسية الاميركية، بل يتسع ليشمل تلك الدول المعنية بمشاريع تطوير اسلحة الدمار الشامل، أو أن العدو يمكن ان يكون ايضا في عداد الدول التي صنّفها الرئيس جورج دبليو بوش ضمن ” محور الشر” في خطابه يوم 29 كانون الثاني/يناير 2002.

المبحث الثالث: ” إعادة تقييم الوضع النووي ”

بالون اختبار أم عقيدة نووية جديدة لمعاقبة ” المارقين ” ؟
من جهة أخرى عاد شبح الخطر النووي من جديد، بعدما توصل ” العمالقة النووييون “، في فترة سابقة، الى حقيقة أن استخدام هذا السلاح يؤدي الى نتيجة واحدة : لا يوجد منتصرون. وقاد ذلك الى تغيير مجرى الصراع. فقد أدى نظام الثنائية القطبية وما ارتبط به ما أطلق عليه بـ ” توازن الرعب ” الى عدم اندلاع أي حرب شاملة على المستوى العالمي، والذي استبدل الى حروب إقليمية محدودة لحل التناقضات بين العمالقة بالواسطة. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي والتداعيات التي تلته فقد انهار نظام الثنائية القطبية ليحل محله “نظام القطب الواحد” حيث بدأت الولايات المتحدة تلعب في هذا ” النظام ” دور القطب الأوحد الذي يعيد إنتاج العالم وفق ” المقاسات ” الأمريكية لضمان الهيمنة على العالم بآليات اشد قوة، باستخدام توليفة من وسائلها وبتجلياتها المختلفة، بما في ذلك العودة مجددا الى التهديد باستخدام السلاح النووي.

تقرير ” إعادة تقييم الوضع النووي ” لماذا ؟
شهدت بداية عام 2002 تسريبات مقصودة كانت بمثابة بالون اختبار لقياس ردود فعل العالم فيما لو تم استخدام هذا السلاح الفتاك. فقد ذكرتا صحيفتا (لوس أنجلوس تايمز) و (نيويورك تايمز) أن وزارة الدفاع الأميركية كلفت في حينه بوضع خطط طارئة لاستخدام الأسلحة النووية ضد سبع دول على الأقل هي ” روسيا والصين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا “.

وقد وردت هذه المعلومات في تقرير سري أعده البنتاغون وقدمه للكونغرس في 8 يناير (كانون الثاني) 2002.والتقرير، الذي اعد بعنوان ” إعادة تقييم الوضع النووي ” يكشف أيضاً أن الولايات المتحدة تعتزم استخدام أسلحة نووية لمواجهة 3 أنواع من التهديدات:
– ضد أهداف قادرة على الصمود أمام هجمات غير نووية.
– رد على هجمات بالسلاح النووي أو البيولوجي أو الكيميائي.
– حصول تطورات عسكرية مفاجئة.

وقد برّر بوش قراره هذا في 13 آذار قائلا : ” إنها طريقة لنقول للذين يريدون إيذاء أميركا: لا تفعلوا ذلك “.

ويبدو أن تقرير ” إعادة تقييم الوضع النووي ” الذي تم الكشف عنه في حينه يبيّن مدى التحولات النوعية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي التي تركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ويوضح في الوقت ذاته بعدا مخيفا جديدا لتأثيرات تلك الأحداث على حروب المستقبل.

لقد أشار التقرير أن البنتاغون يستعد لاستخدام الأسلحة النووية في حرب محتملة بين الصين وتايوان، أو في حال تعرضت كوريا الجنوبية الى هجوم من جارتها الشمالية. وصنف التقرير في حينه كلاً من كوريا الشمالية والعراق (في حقبة صدام حسين) وايران وسورية وليبيا بأنها ” دول يمكن أن تشارك ” في الأنواع الثلاثة من التهديدات المذكورة آنفا. وببرر صائغو التقرير هذا الموقف من هذه الدول بأنها ” كلها ذات عداء طويل المدى ضد الولايات المتحدة وشركائها. وكلها ترعى أو تؤوي الارهابيين، ولديها برامج ناشطة لأسلحة الدمار الشامل وللصواريخ “. أما الصين، فرأى التقرير أنها ” دولة يمكن مشاركتها في حالات طوارئ مباشرة او محتملة ” بسبب ترسانتها النووية وتطويرها لأهداف استراتيجية. أما بصدد روسيا فيرى التقرير بأنها لم تعد رسميا “عدوا “، الا ان ترسانتها الضخمة، التي تشمل ما بين 6 آلاف الى 10 آلاف رأس نووي ” لا تزال تثير القلق “.

وإذا تفحصنا مجموعة الدول التي تعتبر أهدافا نووية محتملة لتبين لنا ” المفارقة الطريفة ” التالية : أن من بين هذه الدول هناك اثنتان فقط تملكان السلاح النووي (روسيا الاتحادية والصين) وبالتالي ليس مستغربا ان تدرس الولايات المتحدة سيناريوهات مختلفة لاحتمال استخدام السلاح النووي اذا نشبت مواجهة معهما. غير أنه، وإستنادا الى تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي “، نلاحظ تطورا جديدا يسترعي الإنتباه وهو ان الولايات المتحدة باتت تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، بل انها تضع الخطط لمثل هذا الاحتمال. وكما هو معلوم فقد دأبت الماكنة الاعلامية الامريكية وعلى مدى فترة طويلة للترويج لموقف يقول إن الأسلحة النووية أسلحة هي بمثابة قوة رادعة ضد هجمات محتملة من جانب الاتحاد السوفيتي السابق خصمها في الحرب الباردة. ورفضت استخدام الأسلحة النووية ضد أي دولة غير نووية ما لم تتحالف هذه الدولة مع دولة أخرى ذات قدرات نووية. وطرح وليام أركين الكاتب بصحيفة (لوس أنجلوس تايمز) وزميل كلية الدراسات الدولية المتطورة بجامعة جونز هوبكينز ملاحظة لماحة حين اشار إلى أن خطة بوش المصاغة في تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي “، هي بمثابة تغيير اتجاه قائم منذ نحو عقدين لإرجاع الأسلحة النووية إلى مرتبة أسلحة الملاذ الأخير.
وبهذا الصدد أشار أركين الى إنه يبدو أن الإدارة الأميركية ” تتطلع لأسلحة نووية يمكنها أن تلعب دورا في مواجهة تحديات مثل التي تواجهها الولايات المتحدة من تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن والذي تلقى عليه مسؤولية تدبير هجمات 11 سبتمبر/ أيلول “.

والخلاصة، أن المبدأ النووي الأميركي الجديد لا يستبعد إمكانية لجوء الولايات المتحدة قبل غيرها إلى استخدام السلاح النووي إذا ما نشأ خطر صنع سلاح إبادة جماعية من قبل خصومها، أي أن أميركا أعطت نفسها ” فرمان ” استخدام السلاح، بما فيه ترسانتها النووية الضاربة ضد البلدان الأخرى. ويمكن الاستنتاج بأن المبدأ النووي الأميركي الذي تم الإعلان في التقرير المشار إليه سابقا، ورغم تضمنه قليلا من العناصر الجديدة، إلا أنه يعقّد الوضع الدولي تعقيدا شديدا، خصوصا وأن اعتماده تم في أعقاب إعلان الولايات المتحدة انسحابها من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ. وهذا الأمر نجم عنه خطر إضعاف، وربما ضرب كل نظام السيطرة على التسلح والأمن الدولي الذي تكون في سني “الحرب الباردة” الذي لم يقابله نشوء نظام جديد يأخذ في الحسبان واقع العلاقات الدولية الحالية حيث لم يعد هناك لاعبان اثنان فقط، بل بات اللاعبون كثراً، وهنا تكمن الخطورة الجدية. ويبدو أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ كان مخططا له للتحلل من أية التزامات تفرضها هذه المعاهدة، الأمر الذي فتح الأفق لإقدام الولايات المتحدة للإعلان عن تقرير ” إعادة تقييم الوضع النووي ” بكل ما يحمله من مغزى خلق حالات من الرعب الجماعي في العلاقات الدولية.
ارتباطا بالملاحظة السابقة فإن ثمة سؤال مهم يطرح نفسه وهو أن تسريب التقرير المذكور هو عبارة عن رسالة؟ ولكن لم يراد توجيهها ؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من التقاط ملاحظة كونداليسا رايس مستشارة الأمن القومي في حينه قبل أن تصبح فيما بعد وزيرة الخارجية الأمريكية. فقد دافعت رايس عن خطة وزارة الدفاع قائلة إن إدارة بوش ” تريد توجيه إشارة قوية للغاية لكل من تسول له نفسه استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة “.
إذا تجاوزنا العموميات وانتقلنا الى الملموس، في اللحظة التاريخية، وإرتباطا بالتحضيرات التي كانت جارية على قدم وساق للإنتقال للمرحلة الثانية من ” الحملة العالمية ضد الارهاب ” فإنه يمكن الاستنتاج بأن الذين وجهت لهم هذه الرسالة، في المنطقة العربية، هم انذاك نظام صدام حسين والفلسطينيين والايرانيين، إضافة لسوريا المعروف موقف الامريكان منها بإعتبارها مصنفة ضمن مجموعة ” الدول المارقة “. ويمكن التساؤل: لماذا ؟ ويكمن ذلك في :
1. حصر المواجهة العسكرية المتوقعة، حينذاك، بين نظام صدام حسين والولايات المتحدة، في حال اقدام الاخيرة على إعتماد خيار الحرب، ضمن إطار استخدام الاسلحة التقليدية، وتحذير النظام العراقي من مغبة اللجوء الى استخدام اسلحة كيمياوية او غيرها تحت طائلة تهديد الولايات المتحدة باستخدام السلاح النووي، سواء كان تكتيكيا او ابعد منه. وقد برهن مجرى الاحداث اللاحق، وتحديدا عند اندلاع العمليات الحربية على الاراضي العراقية في اذار 2003 على هذه المطلب.
2. إبقاء الصراع العربي – الاسرائيلي في إطار الحدود المرسومة له بإعتباره مواجهة مسلحة بين الفلسطسنيين والاسرائليين فقط. وبسبب التوتر الخطير في المنطقة الناجم عن تصاعد المواجهات بين الفلسطينيين والاسرائيليين وسياسات حكومة شارون المتطرفة والدموية، الذي يمكن ان يتطور الى مواجهة شاملة مما يدفع الولايات المتحدة الى إستباق التطورات هذه ليس باللجوء الى لغة الديبلوماسية لإطفاء هذه البؤرة المشتعلة بل فرض ” سياسة الرعب النووي ” لإجبار الاطراف العربية على البقاء في الحدود التي تريدها الولايات المتحدة لهذه اللعبة التي تستفيد منها لضمان ديمومة تواجدها وتعاظم تأثيرها على اللاعبين الإقليمين والمحليين في هذه المنطقة القابعة على بحيرة بترول. هنا يتم توظيف عامل ” الرعب النووي ” للحفاظ على المصالح الاستراتيجية. وإذا ما معنى وضع المنطقة الملتهبة هذه في دائرة ” الخطر النووي ” خصوصا عندما دعا صائغو التقرير البنتاغون لان يكون مستعدا – وبخطط تفصيلية – لاحتمال استخدام السلاح النووي في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهو استخدام يتم بالطبع لمصلحة اسرائيل. وطبيعي أن مثل هذا الاحتمال يرفع من عدد الدول العربية المتضررة، وفي مقدمتها سوريا بسبب وضعها الجيوسياسي الاقليمي المتميز، من تقرير «اعادة تقييم الوضع النووي»، كما انه يضع المنطقة كلها في دائرة الخطر النووي.
3. تحجيم الدور الايراني وجعله ضمن الحدود المرسومة له في إطار محلي، وإرسال رسالة قوية الى القيادية الايرانية تنص وبالفم المليان الى أن طموحاتها للتحول الى قوة نووية اقليمية لن يسمح بها، وان البرنامج النووي الايراني يجب ان يظل مدنيا فقط. ويبدو ان الاشارة الى اسم ايران ضمن تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي ” والاعلان عنه في هذه الفترة بالذات، كان بمثابة رسالة قوية للقيادة الايرانية لجهة عدم التدخل في التغيرات اللاحقة في العراق، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، ويتعين عليها أن تعي حجمها وحدود دورها في اللعبة التي تدور حول العراق.

تداعيات نشر التقرير
بين التناقضات داخل الادرارة والمواقف الدولية المتباينة
عندما نشر التقرير أمكن ملاحظة ثلاثة عناصر جديرة بالانتباه وهي :
– الجميع يهرعون للتخفيف من الصدمة، ولكن دون أن يقترن ذلك بنفي لما أشيع.
– وأن هناك تناقضات داخل الإدارة الأمريكية ومع الكونغرس، ولكنها تناقضات بعضها مصمم على الطريقة الهوليودية لإبراز حقيقة وجود” حمائم ” ” وصقور “.
– وأن هناك مواقف دولية تتراوح بين الغضب أو الارتباك أو الصمت من ذهول ناجم عن هذا التحول.

بداية، ينبغي القول بأن الحديث عن مراجعة جديدة لسياسات وزارة الدفاع الأميركية – البنتاغون – بشأن استخدام السلاح النووي قد بيّن وجود تناقضات داخل إدارة الرئيس جورج بوش وأثارت حيرة إزاء نوايا واشنطن بهذا الصدد. فكيف لمثل هذه المراجعة أن تتفق مع إعلان بوش عزمه خفض مخزون الأسلحة النووية.

والمتابع لتطور الاحداث يلاحظ أن الاسئلة انطلقت من السلطة التشريعية الامريكية ذاتها، الامر الذي دفع وزير الخارجية الامريكي السابق كولن باول للقيام بدور ” اطفائي حريق “، بعد الزوبعة التي أثارها التقرير المشار اليه سابقا. ففي حديث له امام مجلس الشيوخ الامريكي يوم الثلاثاء 12 مارس 2002 سعى باول الى طمأنة المجلس بشأن ما كشفته الصحف الاميركية حول تعديل العقيدة النووية الاميركية، مؤكدا عدم حصول اي ” تبديل اساسي” بالنسبة الى الادارات السابقة. ولكنه من جهة اخرى اقرّ بان تقرير ” اعادة تقييم الوضع النووي ” ينطوي على تحذير ضمني الى الدول المتهمة بالسعي لامتلاك اسلحة دمار شامل نووية او جرثومية او كيميائية. غير أنه اضاف ” لا يبدو لنا امرا سيئا ان يدرك اولئك الذين يسعون من بلادهم الصغيرة وعواصمهم الصغيرة لامتلاك هذه الاسلحة ان لدى الولايات المتحدة مجموعة واسعة من الخيارات لردعهم في بادئ الامر ثم لحماية نفسها وحماية اصدقائها وحلفائها “. وخلال جلسة مع لجنة من مجلس الشيوخ وعند سؤال باول عن خفض عتبة اللجوء الى السلاح النووي وعن احتمال توجيه ضربات نووية احترازية، فاجاب ” اننا لا نقوم بشيء من هذا القبيل”. واكد الوزير انه “ليس هناك تبديل اساسي بالنسبة الى الادارات السابقة” في هذا المجال، مشيرا بصورة خاصة الى ان الحكومة الحالية لا تعتزم الخروج عن قرار وقف التجارب النووية الذي اتخذه الرئيس السابق بيل كلينتون. وأضاف ” ليس هناك تصعيد جديد “، معتبرا ان ” فلسفة الادارة والرئيس جورج بوش تقضي بالاستمرار في خفض عدد الاسلحة النووية بشكل كبير”.

هذا وكان ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي قد قلل من أهمية التقرير وذلك في مؤتمر صحفي عقد في لندن عقب اجتماعه مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وقال: “الولايات المتحدة لا توجه أسلحتها النووية اليوم لأي دولة “.

هذا على صعيد التصريحات الرسمية، ولكنها لا تكفي لفهم مغزى إصدار هذا التقرير في هذه اللحظة.

وبمقابل تصريحات الادارة الامريكية الهادفة الى تطمين الجميع بعدم حصول تحول جذري في المذهب النووي الامريكي، الا أن هناك العديد من التحاليل الرصينة تشير الى العكس من ذلك. فقد أشار محللون – ومنهم داريل كيمبال مدير (رابطة الحد من التسلح) إلى أن التقارير التي كشفت مؤخرا بشأن التغيير في السياسة النووية الأميركية تؤكد أن إدارة بوش تسعى لزيادة وليس لتقليل دور الأسلحة النووية في السياسة الخارجية والعسكرية الأميركية.

في حين قال (جون إيزاكس) من مؤسسة (التحالف من أجل عالم يمكن العيش فيه) إن مراجعة وزارة الدفاع تأخذ السياسة الأميركية إلى اتجاه مغاير للاتجاه الذي سعت الولايات المتحدة فيه لإقناع دول العالم بعدم تطوير واستخدام الأسلحة النووية منذ أن ألقت الولايات المتحدة قنبلتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية. وأشار إيزاكس إلى أن ذلك يثبت أن الإدارة الأميركية الحالية تحاول “التوصل إلى سبل للاستفادة من الأسلحة النووية وسبل لاستخدامها بالفعل”.

الروس غير مصدقين للرواية !!
ومن جهة ثانية اثار كشف هذا التقرير مخاوف الاسرة الدولية وأدى الى ظهور انتقادات حادة جاءت من الصين وروسيا الاتحادية اللتين طالبتا الولايات المتحدة بتوضيحات حول هذا الموضوع. وأشارت العديد من التحليلات الى أن الكشف عن سياسات واشنطن النووية الجديدة قد جاء في وقت مثير للدهشة، حيث كانت الادارة تتفاوض مع روسيا على بناء علاقات إستراتيجية جديدة تشمل اتفاقا لخفض الترسانة النووية في البلدين قبل قمة كانت مقررة بين الرئيس جورج دبليو بوش ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. ونقلت وكالة انترفاكس الروسية عن وزير الخارجية الروسي انذاك إيجور إيفانوف قوله: “نأمل بأن نحصل على بيان من مصدر كبير يقدم توضيحا وضمانا للمجتمع الدولي.” وأضاف أن هذه التقارير “ستتسبب في مخاوف وستؤدي إلى الندم” إذا ثبت صحتها. في حين أعلن وزير الدفاع الروسي من جانبه انه أجرى محادثات معمقة في واشنطن حول مراجعة العقيدة النووية الاميركية ولكنه رفض ايضاح ما اذا كان مرتاحا للايضاحات التي قدمها نظيره الاميركي دونالد رامسفلد.
وقال الوزير الذي التقى أيضا الرئيس الأمريكي جورج بوش في البيت الأبيض ” لقد أجرينا محادثات طويلة ومفصلة مع الوزير رامسفلد. من الأفضل مناقشة هذه الملفات مع واضعيها شرط أن تكون هذه الوثائق مصدقة رسميا”. ولكنه في الوقت نفسه رفض إعطاء أي تفاصيل إضافية حول هذه المسألة موضحا انه سيتطرق إليها خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رامسفلد لاحقا.

هذا وكان بوش قد تعهد بتقليص ترسانة الأسلحة النووية الأمريكية إلى ما يتراوح بين 1700 و2200 رأس حربي من ستة آلاف رأس حربي تملكها كل من الدولتين. في حين قال بوتين إن روسيا قد تقلص عدد أسلحتها إلى 1500 رأس حربي. لكن الولايات المتحدة أوضحت أنها ستقوم بتخزين بعض الأسلحة بدلا من تدميرها.
وقال البنتاجون إنه يحتاج للاحتفاظ بالأسلحة في حالة “وقوع أحداث دولية مفاجئة”، لكن إيفانوف قال إن هذا يعني أن تقليص عدد الأسلحة المقترح سيظل على الورق فقط.

المشكلة التي تثير الانتباه لا تكمن بالإعلان عن تقرير ” إعادة تقييم الوضع النووي “بل في من هي الدول التي ستكون ” فئران التجارب ” التي سيطبق بحقها هذا ” العلاج ” لكي يفهم البقية مقدار القوة التي يتمتع بها والكافية لشفاء جميع ” المرضى ” !

المبحث الرابع: من العقيدة العسكرية الى الموازنة السنوية

التلاحم بين العسكر ورأس المال لضمان الهيمنة على العالم
لا يكفي تحديد معالم العقيدة العسكرية الجديدة للولايات المتحدة، على أهمية ذلك، من دون تجسيدها على أرض الواقع بـ ” قوة نارية محددة “، وهذه الأخيرة لن تتحقق بدون إنفاق مالي ملموس يمكن ملاحظته من خلال النظر الى الموازنات السنوية للولايات المتحدة بدأ من عام 2002. فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما أحال الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مشروع الموازنة الفيدرالية لعام 2003 (تشرين الأول 2002-أيلول 2003) الى الكونغرس الأمريكي كانت قد بلغت 3.13 تريليون دولار ( التريليون = 1000 مليار) من بينها 379.3 مليار ذهب الى وزارة الدفاع (البنتاغون). وتعكس القراءة الأولى لهذه الموازنة مجموعة من السمات المميزة، من بينها
• العسكرة المتعاظمة للاقتصاد الأمريكي وتعاظم دور المجمع الصناعي العسكري بعد تضاؤله عشية انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية حقبة الحرب الباردة. ويتجلى ذلك من خلال ملاحظة المبالغ المخصصة لموازنة الدفاع للعام 2003 والتي ارتفعت أرقامها الى 48 مليار دولار لتبلغ 379.3 مليار دولار فقط وهذا المبلغ يمثل نسبة 40 % من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم. وتعد هذه الزيادة بأنها الأكبر في الموازنة العسكرية منذ بداية ولاية الرئيس الأسبق رونالد ريغان. وتواصل هذا الجهد خلال الموازنات الأربع اللاحقة، ويقدر أن تبلغ النفقات العسكرية في العام 2007 اكثر من 450 مليار دولار. وإذا ما ربطنا هذا المبلغ مع المبلغ المقترح للبرامج العسكرية لوزارة الطاقة والتي خصص لها في هذه الموازنة 15.7 مليار وسترتفع الى 17 مليار في عام 2007، لتبين لنا أن مجمع الصناعة الحربية يقف وراء برنامج تسليحي طويل المدى مرتبط شديد الارتباط ببلورة استراتيجية وعقيدة عسكرية جديدة، التي حددنا جوهرها وأهدافها في مكان آخر من هذه المداخلة، مرتبطة بعسكرة العولمة وتأمين الدور العالمي الأوحد للولايات المتحدة ورسالتها ” التحررية ” الجديدة والمهمة الجديدة المناطة بهذه الاستراتيجية في ” الحملة العالمية ضد الإرهاب ” والأولوية المعطاة لتحديث الأسلحة، بهدف الاستعداد الأفضل “للحروب غير التقليدية”.
• إيلاء أهمية استثنائية لما يسمى بالحملة ضد الإرهاب، حيث تضمّن مشروع موازنة وزارة الدفاع للعام المالي 2003 بندا من 27.2 مليار دولار لمحاربة الإرهاب. ومن المعلوم أن البنتاغون اعتبر أن كلفة الحرب ضد الإرهاب في العام 2003 تصل الى 13 مليار دولار في الشهر.
• على خلاف معظم الميزانيات السابقة خلال السنوات الأخيرة والتي كانت تحقق فائضا، اتسمت الميزانية المقترحة بوجود عجز كبير فيها، أي أن حجم النفقات اكبر من حجم الواردات. وإذا أخذنا النفقات العسكرية الكبيرة التي لن تتنازل عنها إدارة بوش تحت ذرائع مختلفة، من بينها مكافحة الإرهاب والدور العالمي للولايات المتحدة، أمكننا أن نستنتج بأن هناك ” ضرورة ” لتقليص الإنفاق في مجالات أخرى كي يمكن تقليص العجز الى أدنى حد ممكن. ولهذا فقد تحقق التوازن في الميزانية على حساب النفقات المخصصة للبرامج الاجتماعية التي طالتها أيادي صائغي الموازنة. لقد وفرت أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية الفرصة السانحة لتصفية العديد من البرامج الاجتماعية، وتقليص الدعم الاجتماعي تحت ذريعة تعزيز القدرة الدفاعية للولايات المتحدة من اجل مواجهة التحديات الجديدة التي طرحها الإرهاب الدولي !
• ولكن معاينة طبيعة أنواع الأسلحة، بما فيها تلك المضادة للصواريخ المراد إنتاجها وحجم النفقات الضخمة المخصصة لذلك ، والتي بلغت في هذه الموازنة 8.7 مليار دولار، تبين لنا أن الأمر لا يتعلق بمهمات ” مواجهة تهديدات الإرهابيين “، وإنما ببلورة عقيدة عسكرية جديدة مشتقة من إستراتيجية كونية تعتمدها الولايات المتحدة. لنتأمل بما قاله السيد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق الذي يشكل المدخل الصحيح لفهم طبيعة الإنفاق وعناصره الأساسية. لقد أكد رامسفيلد على ما يلي ” نحن نحتاج اليوم ليس فقط لتحقيق الانتصار على الإرهاب وإنما لأن نكون مستعدين لتحقيق الانتصار في حروب الغد “. ويعكس هذا التصريح تعاظم الروح العسكرية ونزعات الهيمنة العالمية. فبدلا من الانشغال في صياغة سياسة اقتصادية – اجتماعية تهتم بشؤون المواطنين، يهتم ساسة البيت الأبيض بقيادة ” المحافظين الجدد ” في صياغة خطاب ينمي الروح العسكرية الرامية ليس الى تحقيق انتصارات في حروب اليوم فقط، ولكن الاستعداد ” لتحقيق الانتصار في حروب الغد “.

إن النتيجة الأساسية التي يمكن استخلاصها من الملاحظات السابقة هي أن الإدارة الأمريكية لا تكتفي بالإعلان الصريح والمكشوف عن أنها باتت ترى أن القوة ضرورية وشرعية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ولكنها على قناعة تامة بأن هذا الأمر لوحده غير كاف إذا لم تتوفر مستلزمات ذلك، والتي يمكن ملاحظتها في حجم الإنفاق العسكري وطبيعة الأسلحة الجديدة التي يتم إنتاجها لدحر الخصم على الأرض وفي البحر والجو والفضاء الخارجي !

ومن المفيد، في ختام هذه الفقرة، الإشارة الى ما قاله الأكاديمي الروسي المعروف (أرباتوف)، أحد أهم العارفين بالشؤون الأمريكية والمدير الفخري لمعهد الولايات المتحدة وكندا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، حين طرح ملاحظة لماحة قوامها ” أن المخاطر والتحديات في القرن الجديد قد تغيرت، ولكن للأسف لم يتغير تفكير العديد من السياسيين الذين تربو في أجواء ( الحرب الباردة). فهؤلاء مستمرون بالتفكير حسب معاييرها محاولين حل مهمات الحاضر انطلاقا من تصورات الأمس عن العالم “. ومن المؤسف أن وزير دفاع الدولة الأعظم السابق، رامسفيلد، هو أحد هؤلاء السياسيين وصقور الحروب الساخنة، وليست الباردة طبعا. ففي عهد قيادته لوزارة الدفاع دشنت الولايات المتحدة الأمريكية أول حروبها العالمية في قرن جديد كان يفترض أن يكون قرنا للسلام والتعاون والأمل، ولكنه انقلب رأسا على عقب مبتدأ بحملة حربية عالمية البعد نعرف جميعا بدايتها ولكن ليس هناك من أحد بقادر على تحديد نهايتها، فقد ” انطلق المارد من القمقم ” ولن يتوقف حتى تحقيق ” النصر “. ولكن السؤال : على من سيتم ” النصر ” ؟

الجواب على هذا السؤال يمكن استخلاصه من تعميق التحليل وإعمال النظر في جوهر العقيدة العسكرية الجديدة للولايات المتحدة والأهداف التي طرحتها، والتي لا يقبل صناع القرار الأمريكان أي نقاش بصددها، حتى من طرف حلفائهم الأوربيين !! فـ ” امتلاك قوة ردع فوق أربعة مسارح معا ” ستحرر الأمريكيين على ما يبدو من الاعتماد على الحلفاء الأوربيين. ولاشك أن كلام بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق، كان شديد الصراحة حين قال في مؤتمر ميونيخ الأمني في آذار 2003 بما معناه أن المعارك هي التي ستحدد التحالفات. وإذا دفعنا هذا الكلام الى نهايته المنطقية أمكننا أن نستنتج بأن واشنطن تختار عدوها، ولا تكتف بذلك فقط بل تقرر الائتلاف المطلوب لإلحاق الهزيمة بهذا العدو، وقد تفعل ذلك لوحدها.

المبحث الخامس: تحولات استراتيجية على الجبهة الاقتصادية كذلك

خطاب بوش أمام مؤتمر مونتيري كنموذج
إعلان ” ميثاق عالمي جديد للتنمية ” تحت الحراب الامريكية !
في 21/مارس/2002 افتتح في مدينة مونتيري المكسيكية المؤتمر الدولي للأمم المتحدة لتمويل التنمية والذي تحول الى قمة عالمية لمحاربة الفقر طالبت الدول الغنية بزيادة مساعداتها لتلك الاشد فقراً لان الدول النامية ستصير ارضاً خصبة للارهاب من دون مساعدات اضافية، كما يعتقد منظموا هذه الفعالية.

لقد أبدى زعماء الدول، واحدا بعد الاخر، استعداداً لزيادة مساعدات التنمية من أجل الحؤول دون انتشار الارهاب حول العالم. ووصف المدير العام للبنك الدولي انذاك (مايك مور) الفقر بانه ” قنبلة موقوتة في قلب الحرية “، بينما قال رئيس الجمعية العمومية للأمم المتحدة (هان سونغ – سو) إن الدول الاشد فقراً ” ارض خصبة للعنف واليأس “. وأشار الى انه بعد 11 أيلول، باتت المطالبة ملحة بعدم الفصل بين التنمية والسلام والأمن.

أما الزعيم الكوبي (فيديل كاسترو) فقد قال في خطابه امام القمة هذه ان ” النظام الحالي للاقتصاد العالمي يشكل نظاماً للنهب والاستغلال لم يسبق له مثيل في التاريخ”. وأضاف كاسترو قائلا ” لقد أصبح الاقتصاد العالمي اليوم ناديا ضخما للقمار، وأن التحليلات الاخيرة تشير الى أن مقابل كل دولار ينفق على التجارة العالمية، ينفق مبلغ يزيد على مئة دولار على عمليات مضاربة لا علاقة لها بالإقتصاد الحقيقي “.

ومن جانبه ألقى الرئيس الأمريكي (جورج دبليو بوش) كلمة طرح فيها وبوضوح شديد الرؤية الأمريكية لـ ” المشكلة الاقتصادية ” التي تعاني منها الدول الفقيرة وكيفيات حلها، والتي يجب على الجميع التقيد بها.

ماذا قال الرئيس الامريكي في كلمته وما هي الرسالة المراد توجيهها الى الجميع، والتي يتعين التقيد بها من دون لف أو دوران ؟ في خطابه في مونتيري نقل الرئيس المواجهة الى الحقل الاقتصادي بتوظيف نتائج العمليات العسكرية في افغانستان لصالح الموديل التنموي الرأسمالي بطبعته الامريكية. ولا ننسى أن لـ ” الحملة العالمية لمكافحة الارهاب ” جذورا إقتصادية، فالمعارك التي دارت في افغانستان لا تتعلق بطالبان والقاعدة وبن لادن فقط، بل كانت عيون الامريكان موجهة نحو بحر قزوين الواعد الذي يسيل اللعاب، حيث يعد هذا الحقل واحدا من اهم الاحتياطيات العالمية الواعدة جدا في النفط والغاز. هكذا تتشابك مصالح السياسة بمصالح الاقتصاد في كل موحد ومتناغم.

بداية ينبغي القول ان الرئيس الامريكي لم يحضر لقمة مونتيري ليلقي كلمة احتفالية ويذهب، فهذا المؤتمر ليس كرنفالا امريكيا لاتينا. لقد جاء الرئيس بوش الى هذه القمة وهو يحمل مشروعا محددا يعدُ بمثابة “ميثاق جديد للتنمية “. ففي الخطاب الذي القاه الرئيس امام القمة اكد أنه يتعين على الدول الفقيرة التي ترغب في الحصول على مزيد من المعونات من الولايات المتحدة القيام بإجراء إصلاحات ديمقراطية واقتصادية ومكافحة الفساد !!

هذا الكلام جميل، ولكن الرئيس بوش غير معني بالجانب الجمالي لهذه الاشكالية، بل انه يريد توجيه رسالة محددة. والرسالة التي يريد ايصالها للجميع واضحة وضوح الشمس : لا معونات بالمعنى المطلق بل بالمعنى المحدد. وبعبار أكثر تبسيطا لا معونات دون ” اصلاحات ” على الطريقة الامريكية. إذن التنمية المطلوب إعتمادها هي التنمية الرأسمالية. والرئيس بوش يريد تنمية رأسمالية في البلدان الفقيرة لمكافحة الفقر الذي تعاني منه هذه البلدان. وطرحه لهذه القضية وبهذه الصيغة طرح مثير للإلتباس بالنسبة لمن يعرفون تاريخ اشكالية الفقر. إن بحث الجذور الحقيقية للفقر خلال القرون التي تلت إنبثاق الرأسمالية كتشكيلة جديدة يدلنا على أنه نتاج سيرورات الاستقطاب طيلة هذه القرون، على صعيد العالم الرأسمالي، تلك السيرورات التي انتجت الفقر من جهة والثروة من جهة اخرى. أن القبول بطرح الرئيس الامريكي لحل مشكلة الفقر وفقا لوصفته ” الساحرة” لن يؤدي الى التغلب على الفقر بل إعادة انتاجه، ولكن هذه المرة بمديات اوسع وأعمق.

وبالمقابل فقد اشار بوش الى أن المساعدة التي تقدمها الدول الصناعية ليست بالضرورة هي المصدر الوحيد والافضل لتمويل التنمية، مشيرا إلى التجارة الحرة والاسواق المفتوحة هما أفضل وسيلة لتحسين اقتصاديات الدول الفقيرة.

لهذا الكلام نتيجتان مهمتان :
1. يجب على البلدان الفقيرة أن تبحث عن مصادر اخرى لتمويل التنمية، ذلك لأن ” المساعدة التي تقدمها الدول الصناعية ليست بالضرورة هي المصدر الوحيد والافضل “. ويعني ذلك ان على البلدان الفقيرة الاعتماد على ذاتها للتغلب على مشكلات الفقر. ويعني ذلك أن الرئيس كأنما يريد القول هنا ان الفقر في هذه البلدان نتاج ظروفها الداخلية وليس منتوج منطق التطور الرأسمالي العالمي وقوانينه الناظمة. هكذا بقليل من لوي أعناق الكلمات يتم قلب حقائق التاريخ، وبالتالي شطب العلاقة التي تربط هذه البلدان بالبلدان الرأسمالية المتطورة والتي انتجت الفقر والثروة كقطبين متقاطعين لكنهما ينتميان لعالم واحد هو عالم الرأسمالية ببعديه العالمي والمحلي.
2. تشجيع التجارة الحرة والاسواق المفتوحة بإعتبارهما أفضل وسيلة لتحسين اقتصاديات الدول الفقيرة، أي إعتماد التنمية الرأسمالية لتحسين اوضاع هذه البلدان. وها هو الرئيس يعود من جديد الى ذات المقاربة الخاطئة وكأنه بذلك يريد تأبـــيد هذا النمط التنموي وفرضه على كل بقاع العالم بما يؤبد السيطرة من جهة والفقر والتبعية الاقتصادية من جهة اخرى. ومع كل هذا يتحدث الرئيس في خطابه عن ” تشجيع المصادر التي تنتج الثروة والحرية الاقتصادية والحرية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان “.

ولكن الرئيس الامريكي لا يكتفي بذلك بل إنه ينافح بنبرة واثقة جدا حين يقول ” كي نكون جادين في مكافحة الفقر، يجب أن نتحلى بالجدية في توسيع التجارة “. ويبدو أن السيد الرئيس لا يعرف حتى الاليات الناظمة للتجارة العالمية التي تقوم على التبادل اللامتكافيء ونتيجته المعروفة وهي أن البلدان ذات الانتاجية الاعلى ( وهي هنا وبدون رتوش البلدان الرأسمالية المتطورة) تربح من التبادل التجاري على حساب البلدان ذات الانتاجية الاوطأ ( وهي هنا وبدون رتوش ايضا البلدان الفقيرة). وبعبارة اكثر تبسيطا فإن توسيع التجارة – حسب وصفة الرئيس بوش – في ظل النمط الناظم لهذه التجارة على الصعيد العالمي – يفضي الى نتيجة واحدة لا غيرها وهي : تعميق الفقر وليس مكافحته، كما يعتقد السيد الرئيس !

ولا يكتفي الرئيس بوش في عرض افكاره العامة بل ينتقل في عرضه لمكونات ميثاق التنمية الذي يريده، وذلك حينما يشير الى القطاعات التي يجب أن تحضى بالأولوية في الاستثمار. وهنا يقول الرئيس الامريكي في خطابه ما يلي : “عندما تحترم الدول شعوبها وتفتح أسواقها وتستثمر في قطاعي الصحة والتعليم، فإن كل دولار من المعونات وكل دولار من عائدات التجارة ورأس المال الوطني سيتم استغلاله بفعالية أكبر”.
كلام الرئيس بوش على ” بلاغته ” يثير سؤالا ملتبسا وفحواه هل أن الخروج من الفقر المدقع الذي تعانيه هذه البلدان يمر عبر تطوير قطاعي الصحة والتعليم، على اهميتهما القصوى لأي تنمية، أم ان الامر متعلق بتغير الموقع المتخلف وغير العادل الذي تحتله البلدان الفقيرة في قسمة العمل الدولية الراسمالية المعاصرة ؟ أي ما هي الفروع الصناعية التي يجب اقامتها لكي يكون ممكنا خلق ممكنات النمو التي تتيح التغلب على المشكلات التي تواجهها هذه البلدان، ومن بينها مشكلة الفقر؟

ولأن الرئيس بوش أكد في خطابه على ” تشجيع المصادر التي تنتج الثروة والحرية الاقتصادية والحرية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان “، فإنه كان منسجما تماما مع ما يقول ! فقد أكّد أنه يريد من الكونغرس الامريكي الموافقة على زيادة المساعدات إلى الدول التي تطبق الاصلاحات، مشيرا إلى أن “الميثاق الجديد للتنمية” سيكافئ الدول التي تطبق مثل هذه الاصلاحات. الكلام واضح ولا يحتاج الى أي تعليق : المكافئة لم يطبق ” الإصلاحات “، وبعكسه فإن ” العصى لمن عصى ” ! علما بأن ما يقصده الرئيس بوش بـ ” الاصلاحات “المطلوبة هو تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي السيئة الصيت وعواقبها الإجتماعية المعروفة للجميع.

المبحث السادس: الجديد الاستراتيجي على جبهة الامن القومي الداخلي

هل هي عودة الى المكارثية؟
أدت أحداث‏11‏ سبتمبر، وما أثارته من نتائج وتداعيات، الي قيام الولايات المتحدة بمراجعة منظومة الأمن القومي الأمريكي بهدف الكشف عن جذور الثغرات التي حدثت والسبل الكفيلة بمنع حدوثها في المستقبل. وقد أخذ ذلك شكل مراجعة للعديد من الأجهزة والسياسات المرتبطة بالأمن القومي الامريكي‏، ببعدية الخارجي والداخلي.‏ ودون الدخول في التفاصيل نشير هنا الى الاجراءات المتخذة على الصعيد الداخلي والتي كانت تهدف – بحسب تصريحات كبار صناع القرار – الى ” إعادة الامن للجبهة الداخلية “. وأهم تلك الاجراءات بحسب ما اشارت اليه دراسات عديدة يمكن تلخيصها هنا في المجالات التالية:

‏1-‏ انشاء مكتب للأمن الداخلي‏:‏
مباشرة وبعد مرور عدة ايام من وقوع الاحداث وتحديدا في‏20‏ سبتمبر‏2001، أعلن الرئيس بوش انشاء مكتب جديد تابع للبيت الأبيض أطلق عليه مكتب الأمن الداخلي.
وقد أحتوي الأمر التنفيذي الرئاسي المنشئ لهذا المكتب علي طائفة من التكليفات من بينها :
– التنسيق بين المؤسسات المختلفة لمواجهة الارهاب.
– المساعدة في أعمال التخابر ضد الارهابيين‏.
– تطوير أجهزة وبرامج تدريبية للكشف عن الهجمات البيولوجية والكيماوية والنووية‏.
– إعداد الأجهزة الصحية لمواجهة هجمات الارهاب وخاصة ما يتعلق بسعة المستشفيات وتوفير مخزون كاف من الأدوية والأمصال‏.
– زيادة الحماية للمنشات الاساسية والبنية التحتية وخطوط الاتصالات وشبكات الكمبيوتر وكل وسائل المواصلات‏.
– توفير الحماية للغذاء والمياه والتي قد تصبح هدفا للارهاب‏.
– تنسيق التدريبات اللازمة للاستعداد لأي هجوم ارهابي والتعاون في ذلك مع كل مستويات الحكومة حتي المستوي المحلي‏.‏

وطبقا للمهمات المحددة له، فانه توجب ان يقوم هذا المكتب بشكل أساسي بتنسيق جهود أكثر من أربعين وكالة ومؤسسة فيدرالية لمواجهة الارهاب‏,‏ بما فيها وكالة المخابرات المركزية‏ ومكتب المباحث الفيدرالي‏.‏ وسوف يكون دوره هنا شبيها بدور مستشار الأمن القومي ولكن مع التركيز علي قضية الارهاب‏.‏

وتضمن الأمر الرئاسي المنشئ لهذا المكتب انشاء مجلس للأمن الداخلي على شاكلة مجلس الأمن القومي‏,‏ وعضوية المجلس الجديد ستتكون من الرئيس الأمريكي ونائبه‏,‏ وعدد من الوزراء‏,‏ ورؤساء الوكالات الفيدرالية المعنية بأمور الارهاب‏.‏ وتقرر ان يقوم هذا المجلس بتقديم المشورة والمساعدة للرئيس في كل ما يتعلق بجوانب الأمن الداخلي‏.‏

‏2-‏ إصدار قوانين مكافحة الاهاب وأمن الطيران والحاكم العسكري‏:‏
وافق الكونجرس على عدد من القوانين الهادفة لـ ” تأمين الجبهة الداخلية ضد الارهاب ” أهمها ما عرف باسم القانون الوطني الامريكي لعام‏2001‏ وقد تقدمت الادارة بهذا المشروع بعد أحداث‏11‏ سبتمبر بوقت قليل‏,‏ ووافق عليه الكونجرس أيضا بشكل سريع وبأغلبية كبيرة بلغت‏98‏ ضد واحد في مجلس الشيوخ‏,‏ و‏356‏ ضد‏66‏ في مجلس النواب‏.‏ ووقع عليه الرئيس يوم‏26‏ أكتوبر‏2001‏ ليصبح قانونا نافذا منذ ذلك الوقت‏.‏

وقد تضمن هذا القانون العديد من المواد التي دعّمت من سلطات أجهزة الامن الامريكية في ” مواجهة الارهاب ” ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر :
– منح المدعي العام الأمريكي سلطة احتجاز الأجانب المشكوك في قيامهم بأنشطة أرهابية لمدة سبعة أيام دون توجيه اتهام لهم‏.‏ علما بأن النص الأصلي للقانون الذي قدمته الإدارة كان قد تضمن احتجاز هؤلاء الأجانب لفترة غير محدودة‏,‏ ولكن هذا النص واجه اعتراضات من بعض اعضاء الكونغرس مما ادى الى تحديد تلك المدة بسبعة أيام‏.‏
– إعطاء السلطات الفيدرالية الحق في التنصت علي أجهزة الهاتف المختلفة التي يستخدمها الإرهابيون المشتبه فيهم‏ (وليس علي جهاز تليفون واحد فقط كما كان في السابق‏).‏ وتتيح هذه المادة للسلطات الفيدرالية التنصت علي الهواتف المحمولة وليس الخطوط الثابتة فقط‏.‏ كذلك يتيح القانون لسلطات الأمن الحصول علي تسجيلات الاتصالات عن طريق البريد الالكتروني من الشركات التي تقدم خدمات الانترنت‏.‏
– اتاح القانون أيضا لأجهزة البحث الجنائي وأجهزة المخابرات المشاركة في المعلومات المتعلقة بالارهابين‏.‏
– وأعطى القانون لوزارة الخزانة سلطات اكبر لتتبع الأرصدة المالية التي يشتبه أنها تستهدف تمويل عمليات أرهابية.

ومن جهة ثانية وافق الكونجرس أيضا علي مشروع القانون الذي قدمته الادارة فيما يتعلق بأمن الطيران والمطارات‏,‏ ووقع الرئيس عليه يوم‏19‏ نوفمبر2001‏. ومن بين ما تضمنه هذا القانون :
– أن أمن المطارات أصبح للمرة الأولي مهمة فيدرالية بشكل مباشر‏.‏ حيث أتاح القانون انشاء وكالة فيدرالية جديدة سيطلق عليها وكالة أمن المواصلات‏,‏ اصبحت مهمتها ضمان الأمن في كل موانئ السفر سواء الجوي أو البحري‏.‏ واصبح موظفو التفتيش والأمن العاملون في هذه الموانئ موظفين فيدراليين تابعين لها‏,‏ وخاصة العاملين في التفتيش في المطارات والبالغ عددهم حوالي‏28‏ الف شخص‏.‏
– ألزم القانون شركات الطيران بفحص كل حقائب المسافرين باستخدام أشعة اكس‏,‏ وباليد أو بالكلاب المدربة علي شم المتفجرات‏,‏ أو التوفيق بين المسافرين وحقائبهم وأعطي القانون الشركات فترة ستة أشهر للاستعداد للقيام بهذا‏.‏
– بموجب هذا القانون سيتم زيادة عدد أفراد الأمن الموجودين داخل الطائرة ويرتدون الملابس المدنية وزيادة درجة أمان أبواب كابينة الطائرة‏,‏ ويفرض القانون رسما قدره‏ 2.5‏ دولار يدفعها المسافرون في كل رحلة وستقوم شركات الطيران بالمساهمة بمبلغ‏700‏ مليون دولار في العام للمساعدة في تمويل هذه الوكالة الجديدة‏.‏

بالإضافة لهذه القوانين‏,‏ أصدر الرئيس أمرا تنفيذيا بانشاء محاكم عسكرية لمحاكمة غير المواطنين المتهيمن بالارهاب‏,‏ وخاصة اعضاء تنظيم القاعدة‏,‏ أو هؤلاء الذين قاموا بمساعدتهم في القيام بالأعمال الارهابية أو توفير الحماية لهم‏.‏ ويمكن عقد هذه المحاكمات بشكل سري ولا تتوافر فيها الاجراءات القانونية المتعلقة بحماية حقوق المتهم والموجودة في القضاء العادي‏.‏ واستنادا للأمر التنفيذي‏,‏ فإن الرئيس وحده ستكون له سلطة تقرير من يمثل أمام هذه المحاكم من المتهمين‏.‏ وتصدر المحكمة أحكامها بأغلبية الثلثين ويمكن أن تشمل أحكامها الحكم بالإعدام‏,‏ كما أن قراراتها نهائية وغير قابلة للأستئناف‏.‏ وقد برر الرئيس بوش إصدار أمر بانشاء تلك المحاكم بالحاجة الي حماية المحلفين‏,‏ بالاضافة الي أن الولايات المتحدة تمر بظروف استثنائية تتطلب هذا النوع من المحاكم‏.‏

‏3-‏ اعادة هيكلة وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية‏.‏
بيّن تطور الاحداث أن وزارة العدل لعبت دورا هاما في حملة مكافحة الارهاب برئاسة وزير العدل الاسبق أو المدعي العام الامريكي جون أشكروفت‏,‏ حتي أن البعض ذكر أن الرئيس الامريكي يخوض الحرب الاهلية ضد الارهاب باستخدام وزارة العدل والحرب الخارجية باستخدام وزارة الدفاع‏.‏ والواقع أنه قبل أحداث‏11‏ سبتمبر‏,‏ فإن مواجهة الارهاب لم تكن ضمن الأولويات الخمس الأولي لوزارة العدل‏,‏ وبعد تلك الاحدأث أصبحت هي الأولوية رقم واحد‏.‏ وبالاضافة للدور التقليدي لوزارة العدل في التحقيق ومحاكمة الارهابيين‏,‏ فإنها الآن تهتم بمنع عمليات ارهابية في المستقبل‏.‏

وقد انشأت الوزارة وحدة خاصة لتعقب الارهابيين الأجانب ومنعهم من دخول الولايات المتحدة‏,‏ والقبض علي الموجود منهم في الولايات المتحدة‏.‏ وتقرر ان تكون هناك وحدة لمكافحة الإرهاب في كل مكاتب المدعي العام بانحاء الولايات المتحدة‏.‏
وقد بدأت وزارة العدل عملها في مكافحة الارهاب بالتحقيق في حوادث‏11‏ سبتمبر عن طريق معرفة الدول التي جاء منها مختطفو الطائرات‏,‏ والتعرف علي تاريخهم بالولايات المتحدة عن طريق معاملاتهم المالية والاتصالات التي قاموا بها‏.‏

المبحث السابع: من المجرد الى الملموس

تمارين بالذخيرة الحية
لا يكفي استعراض هذه الاستراتيجية، في أطرها العريضة، لفهم جوهر التحولات الحادثة فيها واتجاهاتها العامة، بل لا بد من الاطلاع على الآليات الكفيلة بتحويلها من قواعد نظرية صارمة الى ممارسات ملموسة على الأرض، ووضعها موضع التطبيق العملي باستخدام الذخيرة الحية إذا دعت الضرورة . لقد انطلقت الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، بمختلف مجالاتها، من التداعيات التي ترتبت على أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ووظفتها لتحقيق أهداف ومشاريع لابتلاع العالم وترسيخ هيمنة الولايات المتحدة على صعيد كوني، وجرى تنفيذ العديد من أهداف هذه الاستراتيجية بالذخيرة الحية، الأمر الذي يتطلب التعرف على ذلك ببعض التفصيل.

لنتابع ما جري على الارض وبالملموس.

أ. اجتياح افغانستان: أول تمرين استراتيجي ينفذ بالذخيرة الحية

ردة فعل أم خيار استراتيجي؟ الحاجة الى مقاربة جديدة
لا يمكن تقديم جواب مدقق حول هذا السؤال دون أن نتذكر ما تحدث به الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عند تسلمه الرئاسة وهو يحدد أولويات السياسة الخارجية للإدارة الجديدة. فقد أشار في حينه الى أن الأولوية رقم واحد للسياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية وخياراتها الاستراتيجية هي المحيط الهادئ ووسط وجنوب آسيا. وعند قراءة خيار الهجوم على أفغانستان بحجة وجود بن لادن وتنظيم القاعدة فلا بد هنا من تأشير أمرين مهمين يفيدان في تدقيق الإجابة وإكسابها المزيد من الملموسية. يتعلق الأول بالظروف المناسبة لتوفير الغطاء واستثمار الأحداث. إذ أن وجود نظام طالبان وتركيبته ومنهجه وعلاقاته الدولية ووجود أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وامتداداته وفعالياته الارهابية المعروفة على صعيد عالمي، جميعها تشكل الظرف والحافز المثالي في آن واحد. أما الثاني فيتعلق بالأبعاد الاستراتيجية لهذا الخيار وفقاً لبرنامج وتوجهات الولايات المتحدة.

إن استنطاق الإجراءات ودفعها الى نهايتها المنطقية سيتيح القول بأن هذا الخيار يتعلق بإرساء ترتيبات جديدة في كل من وسط وجنوب آسيا والمحيط الهادئ والمحيط الهندي، وهو أشبه ما يكون بذلك المسعى الذي كان يهدف الى إرساء ترتيبات جديدة من خلال حرب الخليج الثانية. ومن هنا ضرورة التأمل بالإشكاليات المرتبطة بهذه المنطقة وقيمتها الإستراتيجية المتنامية باستمرار.

عندما يتفحص الباحثون الاستراتيجيون الحملة الاميركية على الارهاب من زاوية الصلة بآسيا الوسطى، وفي قلبها افغانستان التي كانت محور رحى الحرب في المرحلة الاولى، يتبيّن ان هناك الكثير ليقال هل الاهمية السياسية والاقتصادية لهذه المنطقة التي أصبحت منذ أحداث 11 ايلول في قلب الاحداث العالمية وشاغلها. فكل عمالقة هذه الفترة موجودون مباشرة، او غير مباشرة، على المسرح هناك. فبالاضافة الى العملاق الاكبر، اي الولايات المتحدة الاميركية، هناك الصين والهند وروسيا الاتحادية ومعها دول ذات أهمية في مسألة الصراع او التفاهم الدولي كإيران وباكستان وتركيا.

بداية، لابد من التأكيد على ملاحظة مهمة وتتمثل بإدانة التفجيرات التي حصلت في 11 سبتمبر في كل من نيويورك وواشنطن، بصرف النظر عن أي دوافع او خلفيات سياسية، ذلك لأن ما حصل مرفوض انسانيا واخلاقيا، ومدان عالميا. ومع أن هذا التشخيص يمثل جانبا مهما من القضية، ولكنه غير كاف لرؤية تلك القضية بكاملها والتساؤل عن دوافع الحملة الأمريكية على افغانستان بعد ما حصل في 11 سبتمبر 2001، وتفسير الدوافع الحقيقية لتلك الحملة وأبعادها العالمية والإقليمية وتحديدا على آسيا الوسطى. ثمة ضرورة هنا للإشارة الى بعض الملاحظات التي تتيح الاجابة على هذا التساؤل:

أولا : هناك ما يسمى بالهلال المتوتر من الناحية الجيواستراتيجية، الذي يمتد من آسيا الوسطى الى شمال افريقيا. وإذا كان ” النظام الدولي الجديد ” الذي أراد المنتصرون في حرب الخليج الثانية فرضه قد فشل في تحقيق أهدافه، فإن المطلوب من هذه الحملة الجديدة إعادة الروح لهذا النظام، حيث تريد الادارة الاميركية اعادة ترتيبه وفقا لمصالحها، لأن حرب الخليج الثانية في 1991 لم تحسم كثيرا من الامور في هذا الهلال من جهة باكستان، ايران، بعض الجمهوريات الآسيوية المستقلة حديثا، حتى مصر والسعودية. لهذا فإن المطلوب هنا اعادة ترتيب هذه المنطقة بما يتلاءم مع النفوذ والمصالح الاميركية، وبما ينسجم مع اعادة ترتيب النظام العالمي بتأكيد قيادة الولايات المتحدة له.

ثانيا : إن نظرية القطب الواحد لم تكن راسخة ومؤكدة في العقد الماضي، ولهذا فإنه يراد لها اعادة تجديد وتأكيد، ولو من باب ” التحالف لمكافحة الارهاب “. طبعا لابد من الإستدراك لتأكيد القول بأن هناك تفاوتا بين التمنيات والامال الأمريكية وحقائق الواقع الصارمة.

طبعا ثمة سؤال حاسم يطرح نفسه هنا بقوة وهو: لماذا آسيا الوسطى تحديدا؟
الجواب على هذا السؤال واضح : إنها منطقة مهمة من الناحية الإستراتيجية. وتكمن أهميتها في :
– وجود الاسلحة النووية في الهند وباكستان منذ عام 1998 ومساعي إيرانية جادة لامتلاكه.
– وهي مهمة في تجارة النفط والثروات الطبيعية، حيث بترول بحر قزوين، وغاز تركمانستان، وقطن أوزباكستان و ذهب قيرغيزستان.
– ولأنها متاخمة للصين وروسيا الاتحادية.
– ولأنها من جهة اخرى متاخمة للخليج والشرق الاوسط: القوى الايرانية والخليجية العربية، تركيا، والعراق.

طبعا، في منطقة آسيا الوسطى والتي تعتبر القلب الاستراتيجي لآسيا هناك نقطتان اساسيتان: كشمير وأفغانستان.

فيما يخص كشمير لاحظناها منذ عدة سنتين ببروز نوع من التنافس الهندي الباكستاني على هذا الموقع الاستراتيجي في قلب آسيا.
أما افغانستان، والعودة هنا الى التاريخ، فهي الممر الاساسي لما يسمى طريق الحرير من الشرق الاوسط الى الصين. وهنا ينطرح السؤال حول الأهداف الآنية والبعيدة المدى التي سعت الاستراتيجية الأمريكية لبلوغها من محاولة السيطرة على أفغانستان بعيد احداث 11 سبتمبر؟ انها، بالمنظور الاستراتيي، عديدة ومن بينها:
– مراقبة تحركات الصين باعتبارها منافسا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا حقيقي، وقطع الطريق عليها لإقامة أية تحالفات تتيح لها الوصول الى دول أسيا الوسطى وإيران والخليج العربي. إذ أن ذلك بحسب الرؤية الاستراتيجية الأمريكية يشكل تهديدا لهيمنتها على مكامن البترول في هذه المنطقة من جهة، ووأد طموحاتها في السيطرة على دول أسيا الوسطى والوصول إلى الاحتياطي الهائل القابع في بحر قزوين، من جهة أخرى.
– قطع الطريق على روسيا وتحجيم دورها الذي ما زال قائما في دول أسيا الوسطى، وبخاصة تلك التي تطل على بحر قزوين. إن سيطرة الولايات المتحدة إن تحققت سوف تمكنها كذلك من تحجيم مشروع التحالف القائم حاليا بين روسيا الاتحادية والهند، الذي يمكن أن يتنامى بوتائر قد تهدد الخطط الأمريكية الرامية إلى التواجد السياسي والاقتصادي والعسكري القوي للولايات المتحدة في أسيا الوسطى وجنوب أسيا والمحيط الهادي. ويظل منع تبلور محور دولي في هذه المنطقة، تشكل أعمدته الأساسية الصين وروسيا، أحد أهم أهداف الاستراتيجية الأمريكية وتواجدها الملموس في أفغانستان.
– مراقبة النشاطات النووية التي تجري في منطقة المصالح الحيوية للولايات المتحدة والتي تجري في بلدان عدة ومن بينها الهند وباكستان وإيران عن كثب. ولا شك أن التواجد في هذه المنطقة سيعين الولايات المتحدة على احتواء تلك النشاطات بحيث لا تشكل خطرا على ما تسميه بالأمن القومي. الأمريكي.

ثمة جملة من الأسئلة الملحاحة من بينها: هل أن الولايات المتحدة تحاول، تحت شعار مكافحة الإرهاب، أن تكون في قلب الصراع في منطقة بالغة الأهمية من الناحية الاقتصادية، خصوصاً على صعيد البترول والغاز؟ وهل أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول عبر مرحلة ثانية ضرب ما يسمى بـ” القوى النووية الإسلامية ” بتفتيت باكستان، ثم ضرب إيران التي أحرزت تقدما ملحوظا في هذا المجال؟

هذه التساؤلات مرتبطة بمحاولة الولايات المتحدة الأمريكية إجهاض قيام أقطاب جدد. وهي في هذا الإطار تبدو أنها تحاول وضع القطب الأوروبي وراءها، لأنه، هو أيضا، في صعود اقتصادي.

طبعا المسألة الاقتصادية لا تقل أهمية. وهنا ايضاً تعارض بين المصالح الاميركية والمصلحة الروسية. الاحتياط النفطي لبحر قزوين، بالاضافة الى انتاجه الحالي، وكذلك احتياط الغاز لهذا البحر، بالاضافة الى انتاجه الحالي، هما مثار اهتمام اميركي لا يقل عن اهتمام الدولة الامريكية بنفط الخليج. فالمطلوب بالنسبة الى الشركات المتعددة الجنسية العاملة في صناعة النفط او تسويقه مد الذراع الاميركية العسكرية الى هذه المنطقة من اجل توفير احكام السيطرة خلال العقد الحالي على نفط قزوين وغازه، وبذلك تصبح الولايات المتحدة سيدة نفطين اساسيين في المنطقة: الخليج وقزوين، وهما يشكلان الرقمين الثاني والثالث في العالم. وايضا تحويل خط انابيب نفط قزوين من اجل استبعاد كل نفوذ روسي اقتصادي. الخط الحالي يمر من باكو الى نوفوروسيسك على البحر الاسود الروسي. ومنذ عام 1999 يجري العمل على تنفيذ اتفاق باكو – تبليسي عاصمة جورجيا – وجيحان المرفأ التركي على المتوسط لاستبعاد مرور الخط عبر البحر الاسود. هذا الامر قد تكون الشركات المتعددة، والاميركية في معظمها، وراء الجانب الاقتصادي من هذا القرار.

وملخص القول أن النجاح في إرساء هذه الترتيبات المشار اليها اعلاه من شأنه أن يؤدي الى نتيجتين بالغتي الأهمية والخطورة هما :
– اكتمال ترتيبات إقليمية في دائرتين متصلتين تمتدان من المحيط الأطلسي (المغرب) الى حدود الصين (الهند).
– وسيحقق هذا التواصل اكتمالاً نسبياً للنفوذ الأمريكي على الحزام الأوسط للكرة الأرضية برمتها.

ويعني هذا ان الجهد الإستراتيجي للولايات المتحدي سيتركز على محورين هما :

الأول : ويتعلق الأمر بمقومات وأسس الترتيبات في وسط وجنوب آسيا والمحيط الهادئ.

الثاني: ويتعلق باستكمال الترتيبات في الشرق الأوسط لقيام تواصل يمتد من المغرب الى حدود الصين وجنوباً الى جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ. ويعكس هذا التواصل جوهر الفكرة/الأطروحة الملتبسة التي أطلق عليها في حينه ” النظام الدولي الجديد ” الذي كان يراد به أن يكون ” الإنجيل الجديد ” الذي يضبط ” نظام الأحادية القطبية ” ويفتح الأفق لانتقال الرأسمالية المتعولمة الى مرحلة جديدة يتم فيها تنميط الجميع وفقا لمقاسات المنتصرين في الحروب المكشوفة، أو في ” حروب الأشباح “.

ب. التواجد الأمريكي في جنوب شرقي آسيا

الأهداف غير المعلنة لا تطابق بالضرورة الأهداف المعلنة !
إذا تجاوزنا الخطاب الأمريكي المعلن الذي ينطلق من مفهوم ” الحملة العالمية على الإرهاب ” وتساءلنا عن الأهداف الفعلية لهذا التواجد في هذه المنطقة، أمكننا القول أنها تتمثل في :
أ‌. ضرورة العودة بوجود عسكري كثيف الى جنوب شرق آسيا بعدما أغلقت أمريكا قاعدتيها العسكريتين في الفيليبين، سوبيك باي وكلارك عام ،1992 ثم بعدما أُجبر الرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو على الاستقالة عام 1988. والجدل كان قائماً قبل 11 أيلول بكثير ولا علاقة له بمكافحة الإرهاب. ففي آبار 2001 وجهت مجموعة من الأكاديميين ورؤساء الشركات الكبرى، في رعاية مجلس العلاقات الخارجية، مذكرة آلي بوش أشارت فيها الى “أنها اللحظة المناسبة لإدارتكم للتركيز على منطقة غابت كثيراً عن شاشات راداراتنا وشكل ذلك خطراً علينا”. وخلفية هذه الدعوة تستند الى الهزيمة الأمريكية في فيتنام، ثم الى الانسحاب من الفيليبين واستقالة سوهارتو الذي كانت واشنطن تعتمد عليه كثيراً.
ب‌. الأهداف الاقتصادية حاضرة هنا كذلك، والتي تستند أساسا الى وجوب عدم تجاهل منطقة ضخمة تضم 525 مليون نسمة يبلغ ناتجها القومي 700 مليار دولار سنويا وهي خامس اكبر شريك تجاري لأمريكا وتحتل الاستثمارات الأمريكية فيها المركز الثاني بعد اليابان. يضاف الى ذلك عاملان حاسمان، حسب المذكرة نفسها: الأول، مستويات إنتاج النفط والغاز واحتياطهما في إندونيسيا وبروناي، خصوصاً أن إندونيسيا هي العضو الآسيوي الوحيد في منظمة البلدان المصدرة للنفط “أوبك”، وان حقول نفط وغاز تكتشف حديثاً في الفيليبين وماليزيا وفيتنام، والثاني، تقاطع الخطوط البحرية العالمية حيث تمر نصف التجارة العالمية بما فيها إمدادات النفط من الخليج الى اليابان وكوريا الجنوبية والصين وحيث أي إعاقة لوصول النفط تؤثر على اقتصادات شرق آسيا وتالياً على اقتصاد أمريكا.
ج. الأهداف الجيوسياسية حاضرة كذلك، وتكمن في ما يسمى بالخطر القادم من قوى إقليمية يمكن أن تشكل مصدر خطر على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في هذه المنطقة. وهذا التوجه كانت قد عكسته بوضوح دراسة أعدتها عام 2000 مؤسسة راند المرتبطة بـ”البنتاغون” وبالصناعات العسكرية الأمريكية وبإدارة بوش نفسها. حذرت هذه الدراسة بوضوح من ” الخطر المتنامي للصين ” على مصالح أمريكا في جنوب شرق آسيا ومن احتمال أن تنافسها في غضون عشر سنين على السيطرة على المنطقة وترى أن لا مجال لحماية النمو الاقتصادي لدول المنطقة وحماية المصالح الأمريكية إلا بوجود أمريكي فيها وبوصول لا محدود الى الخطوط البحرية، واقترحت برنامجاً من المساعدات الأمنية الضخمة لحلفاء أمريكا هناك وخصوصاً الفيليبين وإندونيسيا هدفه ردع الصين.

ج. أمريكا اللاتينية: اتحاد المخدرات والنفط

كولومبيا وفنزويلا نموذجا
ذات يوم من شباط 2002، وفجأة وبدون أية مقدمات ظهرت عناصر من قوات أمريكية خاصة الى جانب جنود كولومبيين في ما يسمى “المنطقة الآمنة” في كولومبيا وكان ذلك مؤشرا لتدخل أمريكي مباشر ومختلف في هذه الدولة التي تشهد حربا أهلية منذ أربعة عقود. وعندما طلب المرشح للانتخابات الرئاسية الكولومبية عن الحزب الليبيرالي هوراسيو سيربا توضيحا من الحكومة لهذا الوجود الأمريكي “المؤسف”، رد قائد الجيش سريعا بان القوات الخاصة الأمريكية “جاءت بصفة مراقبين”!

لا بد من الإشارة الى أن قصة التدخل الأمريكي في كولومبيا معقدة بعض الشيء لا يتسع المجال للدخول في تفاصيلها هنا، ولكن الذي يهمنا الإشارة إليه هو أن أحداث 11 أيلول 2001 كانت على ما يبدو كفيلة بحلحلة الكثير من العُقد. فقد بدأ التدخل العسكري عمليا عام 2000 عندما أقرت إدارة الرئيس بيل كلينتون سلة مساعدات عسكرية طارئة قيمتها 1.3 مليار دولار باسم ” خطة كولومبيا ” وكان هدفها المعلن “الحرب على المخدرات”، ولكن جوهرها كان يتعلق بقضية أخرى : دعمت الحكومة الكولومبية في حربها ضد ” القوات المسلحة الثورية – فاركا “. وبعد 11 أيلول وتحت عنوان الحرب على الإرهاب، ومع انهيار محادثات السلام بين الحكومة الكولومبية وممثلي “القوات المسلحة الثورية في كولومبيا” (فاركا)، سارعت الولايات المتحدة آلي وقف حملة مكافحة المخدرات و تقديم مساعدة للجيش الكولومبي في مجال آخر هو ” مكافحة الإرهاب “. وقد ازداد تدفق “المراقبين” من القوات الأمريكية الخاصة الى كولومبيا بعد أن وافق الكونغرس على مشروع قانون اقترحته إدارة بوش يسمح بمزيد من المساعدات للجيش الكولومبي. والاهم انه سمح للمرة الأولى باستخدام أموال وأسلحة كان الكونغرس يحظر استخدامها سابقا لغير مكافحة المخدرات، في مواجهة ” المتمردين ” ولا سيما منهم “فاركا” و” جيش التحرير الوطني”.

إن قراءة متأنية للقانون المذكور تسمح بتحديد الأهداف الفعلية للتواجد العسكري الأمريكي في كولومبيا والتي يكمن جوهرها في حماية المصالح الأمريكية في هذه المنطقة وهي :
أ‌. حماية أنابيب نفط أساسية تخدم شركتي النفط الأميركيتين “اوكسيدنتال” و”ريبسول”، وذلك من خلال توفير مبالغ لتمويل انتشار قوات كولومبية خاصة يدربها ويديرها “البنتاغون”. فقد كشف البيت الأبيض في حينه عن خططه لإنشاء “فرقة البنية التحتية المهمة” لتضم ما يتراوح بين ألفين وأربعة آلاف جندي من الجيش الكولومبي تنشر لحماية المنشآت النفطية الامريكية وخصوصا أنابيب نفط طولها نحو 900 كيلومتر تنقل النفط من شمال شرق كولومبيا الى مرفأ كوفيناس الكاريبي.
ب‌. الأهداف الجيو – سياسية حاضرة بقوة. يمكن القول أن إعادة توجيه الموارد العسكرية في اتجاه حماية أنابيب النفط مؤشر لأهداف استراتيجية امريكية تتجاوز بالتأكيد الحرب على المخدرات وكذلك ” الحرب على الإرهاب ” لتضرب في عمق النفط وفنزويلا، أي أن الأمر يتعلق بأهداف جيو- سياسية، إضافة الى الاقتصادية. فكما هو معروف، تزامنت خطط بوش لنشر “جنود الأنابيب” مع ظهور القوات الامريكية الخاصة في “المنطقة الآمنة” كذلك مع تهديدات واضحة للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز الذي لم تسعد واشنطن يوما به بسبب ” راديكاليته المفرطة ” حسب رأيها.

ويصير هذا مفهوما في إطار اعتبار أمريكا لفنزويلا رهانا نفطيا أساسيا للمستقبل، علما أن كولومبيا وفنزويلا قادرتان على تزويد أمريكا نفطا يفوق ما يضخ حاليا من الدول الخليجية مجتمعة، وان الشركات النفطية الأمريكية الكبرى كانت تضغط على واشنطن لتصعيد تدخلها في المنطقة من اجل إشاعة مناخ افضل لاستخراج الاحتياطات في الدولتين.

**********************

إن نظرة فاحصة ومتأنية الى التحولات الأساسية التي شهدتها الاستراتيجية الأمريكية في مختلف دوائرها العسكرية والاقتصادية والسياسية والأمنية … الخ، والمشهد العام لخريطة الانتشار الأمريكي في العالم بعد 11 أيلول والأهداف المعلنة وغير المعلنة التي تحققت أو في طريقها للتحقيق من خلاله، فان عبارة “الحرب على الإرهاب” تبدو الأكثر قبولا وربما المدخل الألطف لبسط الهيمنة الأمريكية على العالم وتمددها سواء بنشر أساطيلها أو حاملات طائراتها، أو إقامة قواعد عسكرية جديدة، أو نشر جنودها “خدمة” للدول المضيفة، أو تلويحها الدائم بحمل رسالتها لنشر الديمقراطية على الصعيد العالمي. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن القضية في جوهرها لا تدور حول ” الحرب العالمية على الإرهاب ” على أهمية ذلك، ولا حول رسالتها لنشر الديمقراطية عالميا فقط. الجوهر – بلغة الاستراتيجية – يكمن في خلق الآليات الكفيلة بتحقيق الهيمنة الأمريكية على العالم وإعادة إنتاجها في أحسن الظروف وافضل الشروط ومن دون أية ” منغصات ” تبطل ” الفرحة ” بحلول العصر الأمريكي PAXA AMERICANA.. *

*. عن الحوار المتمدن…

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى