بناء الاقتصاد الوطني العراقي/ قوانين السوق ام التخطيط الاجتماعي؟
بناء الاقتصاد الوطني العراقي/ قوانين السوق ام التخطيط الاجتماعي؟
ثامر الصفار
(Thamer Alsafar)
2010 / 9 / 6
الادارة و الاقتصاد
يحمل عنوان الفعالية ” الدولة – السوق وبناء اقتصاد وطني متطور” في طياته عنوانا رحبا يُمكّن الباحثين من تناول الموضوع من اتجاهات وزوايا عديدة.
اختصارا للوقت سأدخل في الموضوع مباشرة
1- ثمة صورة معتمة لعالم اليوم، سواء على صعيد العراق او المنطقة او العالم. فنحن نشهد حروبا وتفشيا لامراض واوبئة، واستفحالا للمجاعة في العديد من بلدان العالم، ونقصا او شحة في المياه، ومحاولات حثيثة لتحويلها الى سلعة يجري التقايض بها سياسيا او تجاريا، واحتباسا حراريا، وكوارث بيئية من صنع الانسان، وانكارا تاما للحاجات الانسانية في كل مكان في العالم اما على شكل حرمان الغالبية من سكان العالم منها، او، كما في البلدان الغنية، على شكل اغتراب ذاتي، لم يسبق له مثيل، للانسان وجعله غير قادر على التخلص من حالة العمل المأجور. اننا وكما ذكر الباحث استيفان ميزاروس ” نعيش اليوم مرحلة من التطور الامبريالي يمكن ان تكون الاخطر على مدى التاريخ”.
2- لو قربنا عدساتنا لنرى حالة العراق فقط سنجد تشابهات عديدة مع بقية دول العالم، اي مشاكل ذات طابع عالمي، اضافة الى مشاكل خاصة ابتلى بها الانسان العراقي لا داع لذكرها الان فهي معروفة للقاصي والداني.
3- غالبا ما يجري فهم عملية اعادة الاعمار وبناء اقتصاد وطني متطور على انها عملية ميكانيكية، اي يمكن تحقيقها عبر آليات وتقنيات وهي وان كانت تختلف عن بعضها الا ان قاسما مشتركا يجمع ما بينها وهو رفع مستوى الانتاجية بأي ثمن.
4- على صعيد العراق يؤكد عدد من الباحثين ان تحقيق ذلك ممكن عبر الاعتماد على اربعة ركائز اساسية :
أ- اتخاذ عدد من الاجراءات في السياسة المالية والنقدية تضمن استخداما شفافا لايرادات النفط الذي يساهم بحوالي 67% من الناتج المحلي الاجمالي و95% من الايرادات العامة (العملة الصعبه).
ب- اعادة حيوية وتقوية القطاع الخاص باعتباره القطاع الواعد والشريك الرئيسي والمحرك لفرص العمل وزيادة نمو الناتج المحلي الاجمالي ومدخول الاسر، ورفع مستواها المعيشي.
ت- رفع مستوى التنمية البشرية والعمل على تحسين نوعية حياة المواطنين العراقيين.
ث- الديمقراطية والحكم الصالح لكونها احدى الدعائم الاساسية الى جانب الموارد الطبيعية والبشرية التي تساهم في رسم صورة التنمية لعراق المستقبل منطلقة من ان الحكم الصالح شرط اساسي للتنمية المستدامة.
5- ان التجارب العالمية تؤكد حقيقة ان شعار رفع الانتاجية بأي ثمن، اي تحقيق توسع في وسائل الانتاج بدلا من تطوير العلاقات والحاجات الاجتماعية للانسان، لم تثمر سوى ظهور بنية طبقية جديدة في البلدان التي اتبعته، بحيث جرى تبني مفاهيم تقسيم العمل التي قدمها النظام الرأسمالي. وتجربة الاتحاد السوفياتي سابقا والصين حاليا هي خير دليل على حجم الاضرار التي يمكن ان تنتج عن اتباع هذا الشعار.
6- اعتقد ان الرأي الصحيح هو في صياغة تصور حيوي وفعال لتطور مستديم للانسان، واعني تصورا يعالج حالة الاغتراب الذاتي للفرد العراقي – الاغتراب عن العمل – واغترابه عن عالمه المحيط به – الاغتراب عن الطبيعة – في آن واحد.
7- يقول جيفارا في مؤلفه ” الانسان والاشتراكية في كوبا” بان المسألة الاساسية في بناء الاشتراكية لم تكن مسألة التطور الاقتصادي بل التطور الانساني. وبلغة اليوم فان المسألة الاساسية هي التطور الانساني المستديم الذي يعالج بوضوح تام علاقة التبادل بين الانسان والطبيعة بواسطة العمل. ونجد معنى القول نفسه في كتابات رفعت السعيد وايضا في قولة مفيد الجزائري ، وزير الثقافة السابق، من ان المهمة الاساسية هي بناء الانسان العراقي اما الاقتصاد فهو مسألة مقدور عليها.
8- لكي لا نبقي انفسنا ندور في عملية البحث النظري، من المفيد التطرق الى بعض النماذج الملموسة التي يتحقق فيها تطورا اقتصاديا مع نوع من التناسق والانسجام بين الجانب الايكولوجي والجانب الاجتماعي، بمعنى الاعتماد اساسا على التخطيط الاجتماعي بدلا من قوانين السوق في عملية التنمية الاقتصادية. من هذه النماذج كوبا، ومنطقتي كورتيبا وبورتو أليجري في البرازيل، وكيرالا في الهند التي يمكن اعتبارها فنارات هادية للتحول الايكولوجي، كما برزت مؤخرا فينزويلا التي استخدمت عائدها من مبيعات النفط لتحويل مجتمعها باتجاه التطور الانساني المستديم.
9- في كوبا مثلا اتخذ هدف التطور الانساني المستدام شكلا جديدا من خلال ما يعرف اليوم بعملية “تخضير كوبا” التي يصفها الباحثون بانها من افضل تجارب الزراعة الايكولوجية التي نتج عنها تغيرات جوهرية في مجالات الصحة والتعليم والعلوم. فهذه الزراعة لا تعتمد الا قليلا على النفط والكيميائيات ونقل الاغذية لمسافات بعيدة. واعتمدت على الالاف من البساتين التي تنتشر داخل المدن او في ضواحيها والتي تستخدم الاسمدة العضوية (فضلات سكان المدن ) لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وهي حاجة اساسية للسكان وحافظت في الوقت نفسه على عدم خسارة التربة لمركباتها العضوية الاساسية. فالمركبات العضوية التي تدخل في المنتوج الزراعي الذي يستهلكه الانسان ويفرزه على شكل فضلات تعود مرة اخرى الى الارض الزراعية. اي تحقيق ما يعرف بزراعة شبه مستدامة. يوجد 200 بستان في هافانا لوحدها. هذه المسألة موجودة في مدن العراق، بغداد وغيرها، الا انها اضمحلت او تحولت لزراعة الزهور- مشاتل. التقارير العالمية تؤكد ان كوبا هي وحدها التي حققت مستوا عاليا للتطور الانساني تجاوز المعدل العالمي البالغ 0.8 في حين ان ما يسببه الفرد الواحد من اضرار للبيئة فيها هو الاوطأ من بين دول العالم..
10- وفي فينزويلا يجري التشديد على المقايضة بين المدن في المنتوجات بدلا من اعتماد القيمة المالية وبالتالي تخلصت من أليات السوق التي تتحكم بالاقتصاد. وكان هدف الخطة هو تلبية الحاجات الفردية والجماعية الاكثر الحاحا والمرتبطة بالحاجات الفيزيولوجية مما ادى بالتالي الى معالجة قضية علاقة الانسان بالطبيعة، الشرط اللازم الدي يسبق قيام اي مجتمع مستدام.
11- اخيرا وقبل ان استعرض نموذجا آخر شديد القرب من الحالة العراقية او على الاقل بالامكان تحقيقه في العراق بدلا النموذج الامارتي الذي يمثل اليوم نموذجا شاخصا لما يعرف بالمرض الهولندي الذي يعرفه القاموس الاقتصادي بانه (حالة الكسل والتراخي التي أصابت هولندا في النصف الأول من القرن العشرين بعد اكتشاف النفط في بحر الشمال. وترافق مع انتشار نمط المجتمع الاستهلاكي ومظاهر البذخ وتراجع ثقافة الانتاج والعمل وتوجيه الاستثمارات والعائدات النفطية الى قطاعات خدمية وليست انتاجية)، بودي التأكيد على اهمية ادراك ان هناك اليوم اقتصادا ايكولوجيا الى جانب الاقتصاد السياسي يهدف ايضا الى احداث التغيير المنشود. وربما تكون حالة ظهور مثل هذه النماذج في رحم النظام الرأسمالي هي بداية لقيام مجتمع جديد يقوم بالتنظيم العقلاني لعلاقة التبادل المادي بين الانسان والطبيعة لا يلبي حاجات المجتمع الاساسية في الوقت الحاضر فقط بل يلبي حاجات الاجيال القادمة. ان بناء المجتمع الاشتراكي وبناء المجتمع الايكولوجي هو شيء واحد.
نموذج عملي للدراسة
كورتيبا او قرطيبة (تصغير قرطبة) في البرازيل
– عدد السكان 3.5 مليون نسمة حسب احصاء 2006
– تضم 26 بلدية
– تعمل منذ السبعينات على ايجاد بديل يقلل من حجم الاضرار التي تولدها عملية التصنيع على الانهار فبدأت بانشاء متنزهات على جانبي الانهر تضم بحيرات اصطناعية تحتفظ بمياه الانهر لفترة طويلة لاستخدامها فيما بعد عند الحاجة لها. اضافة الى تطبيق التعليم البيئي وبرامج التفتيش والرقابة على المصانع التي ترمي نفاياتها الى الانهر.
– منذ قيامها اعتمدت المدينة مبدأ تفادي النمو غير المنظم بحيث اصبحت نموذجا عالميا لكيفية التعامل مع مسائل حساسة كالنقل والمحافظة على البيئة.
– تحتل الصناعة فيها نسبة 34.13% والزراعة 0.03% والتجارة والخدمات 65.84%.
– تعتمد المدينة على شبكة نقل عام توصل المواطن الى اي مكان داخل المدينة بسعر تذكرة واحدة ولهذا يستخدم 85% من السكان شبكة النقل العام بدلا من السيارات الخاصة. واقامة لذلك مصنعا لصناعة باصات النقل ذات العربتين او الثلاثة. وقامت بتوسيع وتصميم شوارعها بحيث لا يحتاج المواطن السير اكثر من دقيقتين ليصل الى اقرب موقف للباصات. وحققت بذلك اقل نسبة من تلوث الهواء في البرازيل.
– منذ السبعينات بدأت المدينة باستقبال المستثمرين الصناعيين الا انها اشترطت عليهم القيام بصناعات غير ملوثة للبيئة. واقامة لهم منطقة صناعية ضمت مساحات خضراء واسعة جدا.
– نسبة النمو الاقتصادي فيها يصل الى 7.1% وهو اعلى من المعدل الوطني للبرازيل البالغ 4.2%. اما دخل الفرد فيها فهو اعلى من المعدل البرازيلي بنسبة 66%.
– اهتمت المدينة بالمساحات الخضراء بحيث تتضمن خطتها ضمان مساحة كافية لكل فرد يقطن فيها. ولهذا حصلت على لقب العاصمة الايكولوجية للبرازيل.
– اعتبرتها منظمة اليونسكو نموذجا لاتباعه في اعادة اعمار مدن افغانستان وكان ذلك قبل عام 2003.
– شجعت الحكومة المواطنين على زراعة الاشجار بعد ان قدمت لكل عائلة شجرتين مجانا وهكذا تم زراعة 1.5 مليون شجرة.
– اشارت احدى الاحصائيات التي جرت مؤخرا على ان 99% من السكان سعيدين في العيش فيها.
– اعتمدت المدينة برنامجا جديدا من نوعه للتخلص من النفايات خصوصا في المناطق التي لا تصل اليها عربات نقل النفايات. اذ تقوم بشراء النفايات منهم بعد ان يقوم المواطنون بايصالها الى اقرب نقطة تجميع. وعملت الشيء نفسه مع طلاب المدارس حيث تشتري منهم المعلبات والقناني القابلة لاعادة التصنيع.
– تمكنت المدينة من اعادة تصنيع 70% من نفاياتها. فمن الورق وحده كانت المدينة تحافظ على 1200 شجرة يوميا. اما الاموال التي تعود اليها بعد بيع هذه المصنوعات فتذهب الى تمويل البرامج الاجتماعية. هذا عدا عن تشغيل الالاف في معامل عزل النفايات…… &
&. عن الحوار المتمدن….