تصويت القوات المسلحة
نماذج من التجارب) )
محمد صباح علي /د
ر. مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية
يثير إشراك قوات الجيش والشرطة أثناء الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية والمحلية جدلا كبيرا بين المراقبين ومنظمات المجتمع المدني وفقهاء القانون الدستوري والنظم السياسية، وترجع أهمية ذلك إلى اضطراب الحياة المدنية والعسكرية في حال عدم نجاح ذلك. فالتصويت من حيث الأصل والمبدأ هو: عملية ديمقراطية تقوم على مبدأ اشتراك عدد كبير من المواطنين في اختيار الشخص المناسب والملائم لهم ليكون ممثلا عنهم داخل المجلس التشريعي في الأنظمة البرلمانية أو رئيسا لهم في النظم الرئاسية. وهو حق وواجب بنفس الوقت يفترض على كل شخص أن يؤديه بأمانة ونزاهة وإخلاص تجاه الشخص أو الحزب الأصلح، وعدم أدائها وفق الدستور والقانون يتحمل من يخالف تبعاتها القانونية الاجتماعية التي تعرضه لعقوبات في حال كانت ممارستها إجبارية لمن تنطبق عليه الشروط القانونية المحددة في جداول الانتخاب. وقديما اقتصر حق التصويت على عدد معين من الأفراد لضرورات تفرضها طبيعة المجتمع في روما الذي حصره بشرط المواطنة والتعليم وأن يكون حر وحرمت منه المرأة بسبب طبيعة النظرة الدونية لها في تلك المجتمعات، وبعد تطور المجتمع وشيوع المبادئ المدنية القائمة على مبدأ المواطنة والمساواة بين الأفراد والسيادة الشعبية، ونواة تشكيل البرلمانات التي تطلبت الحاجة إلى أصوات من المواطنين كي تمكن ناخبيهم من التمثيل النيابي، ترجمت تلك المبادئ في الوثائق الدولية ومنها إلى دساتير الشعوب لتقرير حقوق لأفرادها وفقا للدستور المستفتى عليه القائم على مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة، بأن يكون للمواطن دور في صنع القرار وتشريع القوانين، ومع توسع الدول وازدياد عدد السكان وحجم مؤسساتها تطلبت العملية الانتخابية إلى جهة حياد لتأمين ممارستها وحمايتها وضمان مراقبتها لتأديتها بانسيابية ومرونة؛ ولن توجد جهة حياد أفضل من القوات المسلحة من الجيش والشرطة للدولة التي يعهد إليها دوما بالمهام الصعبة لإنجازها وحماية أراضيها وشعبها وتنفيذ قرارات السلطة التنفيذية في حال صدورها؛ ولأجل ذلك جاءت قوانين الدول الانتخابية باستثناء من تصويت أعضاء القوات المسلحة لغرض بقائها جهة حياد عند ممارسة الحياة السياسية من قبل المدنيين، علاوة على أن الضوابط المهنية العسكرية تفرض بقاء تلك الجهات بعيدة عن ممارسة الوظائف السياسية لكونها تقوم على الأوامر والطاعة والتنفيذ التي تتنافى مع المبدأ المعمول به في الحياة السياسية. ثم خفف لاحقا من وطأة هذا الشرط القائم على استثنائهم من المشاركة والإدلاء بأصواتهم من خلال الدستور الأمريكي الذي يعد صاحب التجربة الأولى بإقرار قانون خاص يتمثل بحقوق الجيش في التصويت الذي من بعده طبقته دول عديدة مثل كندا وفرنسا واستراليا وإسرائيل والسويد والمملكة المتحدة التي قلدت التجربة الأمريكية بطريقة التصويت بان يكون عن طريق البريد الملكي بعد أن جعلته أمريكا عن طريق الانترنت فيما فضلت الدول الأخرى بقاءه متروكا حسب ما تراه مناسبا لينسجم مع الظروف التي تسهل الإدلاء بانسيابية ومرونة، ثم زاد عدد الدول من النص على أشراك أعضاء القوات المسلحة في التصويت في الانتخابات لتقره بعد ذلك روسيا وجمهورية التشيك ونيوزلندة. بينما منعت ذلك دول أمريكا اللاتينية والإكوادور والبرازيل والكونغو وجنوب أفريقيا وتركيا. وسعت تلك الدول في عدم إشراك الجيش في التجربة السياسية بسبب عدم وجود استقرار في العملية الديمقراطية القائمة على الانتقال السلمي للسلطة والتداول في مؤسسات الدولة، وبقاء الجيش بعيدا عن المهاترات السياسية والاكتفاء بدوره القائم على الحياد، ولهشاشة العلاقة المدنية والعسكرية التي لديها سوابق في الاصطفاف مع الحكام القابضين على السلطة مما يعكس آثار تلك العلاقة على المؤسسة العسكرية ويخدش جوهرها وأساسها التنظيمي الذي سيشق صفها بلا شك عند آتيان النتائج على غير رضاها. في حين ذهبت دول أخرى على حظر مشاركة القوات المسلحة في أي نشاط سياسي؛ فنجد في الدستور البرتغالي لعام( 1976 المعدل في 2005 في الجزء الثالث، الباب العاشر، م/275) على أن تخدم القوات المسلحة الشعب البرتغالي وليس فيها أي مجال للانتماءات الحزبية ولا يجوز لأفرادها استخدام أسلحتهم أو مناصبهم أو وظائفهم للتدخل في الأمور السياسية على أي نحو. كما بين ذلك دستور جنوب أفريقيا لعام (1996 والمعدل سنة 2012 في الفصل 11 م/ 199) على انه لا يجوز للأجهزة الأمنية ولا لأي من أفرادها في سياق ممارستهم لمهامهم الإخلال بمصلحة لحزب سياسي تكون مشروعة بموجب الدستور أو دعم أي مصلحة لحزب سياسي بطريق الانحياز عليه. وعلى نفس السياق منعت فنزويلا أفراد القوات المسلحة الوطنية من حق التصويت بموجب القانون. وتشابه المنع في شكله وجوهره دول شرق الأوسط التي كان لها رأي من إشراك الجيش في العملية السياسية، فمنعت مصر ذلك بدستور 1971 وقبله عام 1956 من إشراك أعضاء القوات المسلحة من الجيش والشرطة في التصويت ومثلهم اللجان القضائية المشرفين على العملية الانتخابية، ثم أعادتهم بعد ذلك بموجب حكم المحكمة الدستورية العليا في عام 2013 إلى حقهم في التصويت بالانتخابات استنادا إلى مبدأ المساواة والمواطنة، وشكل حكم المحكمة الدستورية خلافا شديدا داخل الأوساط السياسية من الأحزاب المشاركة في العملية السياسية واعتبروه بداية لتسييس القوات المسلحة وقتل الدولة المدنية وتأثير أشراكهم سيكون لصالح أحزاب مؤثرة ومتنفذه في العملية السياسية، كما آثار حفيظة المختصين وتخوفهم من أن أشراكهم آمر خطير وينذر بكارثة سياسية ويؤدي إلى الاستقطابات السياسية داخل المؤسسات العسكرية. وآخرين عبروا عن تخوفهم بأن مصر اعتادت على أبعاد أفراد القوات المسلحة عن التصويت في الانتخابات ومسألة عودتهم إلى الاشتراك سيثير الشك حول وضعهم. وحسم الآمر في حينها وزير الدفاع آنذاك والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي خلال تفقده القوات المسلحة في محافظة السويس بقوله : ان القوات المسلحة لن تسييس ولن تتحزب ولن تجر آبدا إلا أن تكون مؤسسة وطنية مسؤولة عن مصر والشعب المصري بأكمله وهذا لن يتغير أبدا. وهي تقرأ على أنها رسالة اطمئنان موجهة إلى القوة السياسية المتنفذه المتمثلة في الأخوان المسلمين الذين كان لهم تحفظ ورأي من حكم المحكمة الدستورية، ثم توصلوا إلى اتفاق يتضمن تعليق مشاركة القوات المسلحة في الإدلاء بأصواتهم إلى سنة2020وتبقى محافظة على دور الحياد وحماية الانتخابات. كما وأبدت الأردن رفضها من مشاركة القوات المسلحة في الانتخابات وبينت أن دور الجيش يقتصر على حماية الأرض والوطن ويكون جهة حياد للجميع لاسيما وان جميع التجارب السياسية في المنطقة العربية وغيرها من المناطق التي لم تستقر بها التجربة الديمقراطية والسياسية في حالة فشل الحزب أو الشخص المؤيد من المؤسسة العسكرية تؤسس لانقلابات عسكرية واضطراب داخل تلك المؤسسة بسبب انعكاس الدور السياسي عليها. وكان قبل إقرار البرلمان التونسي الموافقة على أشراك الجيش في التصويت نفس الرأي من الرفض من قبل الجيش ومنهم من بين أن الآمر بالغ الخطورة كونه سُيرحل الخلافات العميقة من المجال العام للسياسة إلى الثكنات العسكرية كما انه سيضرب عمق التجربة والعملية الديمقراطية و يمس حياد المؤسسة العسكرية. وعلى نفس الأسباب من الحفاظ على حياد دور الجيش رفضت الكويت وقطر أشراك الجيش في التصويت في الانتخابات على الرغم من تعالي الأصوات الداعية له والمطالبة بتشريع قانون يجيز ذلك. ومما تجدر الإشارة إليه أن دولا مثل كندا قد منعت رئيس موظفي الانتخابات ومساعده من التصويت، وكذلك جامايكا حيث منعت مدير الانتخابات من التصويت؛ وسببوا ذلك على أنها حالات يحرم فيها موظفي الانتخابات من التصويت لأسباب رمزية لغرض التأكيد للناخبين على حيادية المسؤولين. مما يتبين لنا أن منع المشاركة لن يقتصر على أعضاء القوات المسلحة ولن يتعلق بقانون أو نص دستوري ولن يعتمد على تطور الدولة في مجال التشريعات الدستورية والدولية؛ بل يتعلق الأمر بالعادة والممارسة ونضج التجربة السياسية، والهدف من المنع كما سبق كان لأشخاص مدنيين غايته توليد قدر من الاطمئنان للناخبين بعدم التلاعب بأصواتهم فتتطلب هذا الإجراء منع القائمين على إدارة العملية الانتخابية من التصويت. أما التجربة في العراق؛ فعلى الرغم من أن العراق بلد حديث التجربة والممارسة العملية الديمقراطية القائمة على الوعي في التصويت والانتخاب ولديه عدد كبير جدا من الأحزاب السياسية التي تمارس وسائل منافسة غير مشروعة في سبيل الحصول على الصوت الانتخابي الذي دائما ما يقوم على هدم قدرات الدولة فمارست الأحزاب السياسية جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة في سبيل وصولها إلى البرلمان فابتدأت من داخل الوزارات المدنية وعملت على تشكيل تنظيمات دولة داخل الوزارات ومؤسساتها هدفها سياسي هو استقطاب الموظفين وتنظيمهم لغرض جمع اكبر عدد من الأصوات مقابل تحقيق وعود تمنحها للموظف؛ فوظائف المسؤولية ابتداءً من مسؤول شعبة فما فوق تستلزم أن يكون مُنظم أو مؤيد لجهة سياسية معينيه تابعة للحزب الذي تكون تلك الوزارة من حصته ولا سبيل لغير ذلك وهذا ما سبب هدم وانهيار وتراجع في مؤسسات الدولة لأنها اختارت المصلحة السياسية على حساب الجودة في العمل وعملت على اختيار الشخص غير المناسب في المكان المناسب واستمروا في ذلك عملا إلى يومنا هذا والنتائج هي حجة وبرهان على ما يحدث في العراق. وكان الخوف أن يمتد ذلك ليشمل قواتنا المسلحة وبالفعل أجاز قانون الانتخاب النافذ في العراق على أباحة التصويت للقوات المسلحة من الجيش والشرطة، بالرغم من أن عمل تلك المؤسسات قائم على الطاعة والتنفيذ والأمر العسكري علاوة على ارتباط تلك الأجهزة برئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة الذي يختار من قبل الحزب الحائز على أكثر الأصوات أو يرشح من خلال الكتلة الأكبر داخل البرلمان على وفق تعبير المحكمة الاتحادية العليا، وحيث لرئيس الوزراء من الصلاحيات الواسعة على تلك الأجهزة ما تمكنه من تنفيذ أوامره من قبل الضباط والآمرين وبات أغلبهم يعين بعد ضمان ولائه للحزب المنتمي له رئيس الوزراء الذي له أن يؤثر على تصويت أفراد وأعضاء تلك المؤسسة، الذي يشكل وزن أصواتهم فوق المليون صوت ويحملون بطاقة انتخابية خاصة بهم وبلون مختلف عن البطاقة المدنية، والأكثر من ذلك عندما تم منح الضباط بطاقتين انتخابيتين واحدة مدنية والأخرى عسكرية، ما يشير بوضوح لدور الأحزاب السياسية وتأثيرها على هذه المؤسسة العريقة وفضلها على الشعب لما قدمته من تضحيات مستمرة ودماء زكية في سبيل الوطن والشعب، الذي كان أن يقتصر دورها على الحياد وحماية الانتخابات وإبعادها عن المعتركات السياسية الحاصلة في العراق، وحيث أن العراق من البلدان التي شهدت تحول انتقالي من الحكم الدكتاتوري الشمولي إلى حكم ديمقراطي ونظام برلماني يفترض واستنادا إلى المادة (9) من دستور جمهورية العراق الدائم الذي نص الشطر الثاني من المادة أنفة الذكر: تخضع القوات المسلحة لقيادة السلطة المدنية وتدافع عن العراق ولا تكون أداة لقمع الشعب العراقي ولا تتدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول السلطة. أن تكون جهة حياد مشرفة وحامية للانتخابات في الوقت الراهن نظرا لاضطراب العملية السياسية لغرض أبعاد الشك عنها وعدم تسييسها فيعمل على تعليق تصويتهم لحين استتباب التجربة وعودت الأحزاب السياسية إلى الممارسة الصحيحة للعمل السياسي والنيابي، وكان من نتائج الشك والتوجس في عمليات الانتخاب الأخيرة في العراق هي المقاطعة من قبل المواطنين لعدم وجود ثقة من قبل الشارع بالمتقدمين للترشيح وإيمانهم بالتلاعب بأصواتهم من قبل جهات متنفذه لها مصلحة بذلك. وبعيد عن المساس بمبدأ المواطنة والعدالة والمساواة، ولا يقدح به من قريب أو بعيد، وكما بينا سابقا أن المنع تحكمه العادة والتجربة وظروف البلد السياسية والمنع قد يطال المدنيين إذا كان عملهم يتطلب ذلك وقد يطال العسكريين. ختاما ومن أجل تنظيم الممارسة السياسية في العراق وتنضيج التجربة وبيان الحجم الحقيقي للأحزاب المتقدمة من قبل ناخبيها، وأيضا لا بعاد مؤسساتنا العسكرية مؤقتا عن الإشراك السياسي وتفرغهم لمواجهة الإرهاب نرى: انه من الأفضل تعليق تصويت أعضاء القوات المسلحة من جيش وشرطة في الانتخابات القادمة لدورة أو دورتين من أجل نجاح التجربة والخلاص من الأحزاب الفاسدة ويبقى الجيش والشرطة في ممارسة عملهم في حفظ العراق وشعبه.