تعليق على قرار محكمة قضاء الموظفين
الدكتور محمد صباح علي
رئيس مركز بغداد للتنمية القانونية والأقتصادية
أقرت المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة في الدعوى المرقمة 1673/قضاء موظفين /تمييز/ المؤرخة في 8/8/ 2019 مبدأً قانونيا صادر عن محكمة قضاء الموظفين يقضي بأن ( قيام الموظف باتخاذ الإجراءات في حدود صلاحياته ينفي عنه مسؤولية ما يقع من أحداث) وقدر تعلق الأمر بتفاصيل الدعوى المنظورة أمام المجلس التي استخلص من خلالها هذا المبدأ نتمنى أن تكون الدوائر والمؤسسات القانونية الرسمية اطلعت على مضمونه وأن لا يكون محل أجراء خاص بقضية خاصة لا يتم قياس ظروفها على غيرها. ونظرا لاختلاف المجلس الموقر في اجتهاداته فيما يتعلق بقضايا تقصير الموظفين وإثارة مسؤولياتهم الإدارية والانضباطية ومصادقة قرارات اللجان التحقيقية بفرض العقوبات الانضباطية بحق الموظفين إلا أن هذا المبدأ الذي توصلت إليه المحكمة حسن وفيه ضمانات للموظفين وأن لم تبين المحكمة في التفاصيل البراهين والأسس التي استندت إليها والمعايير التي استخلصتها تمهيدا لقرارها. وحيث أن المبدأ على صواب من الناحية المنطقية ويتفق مع المبدأ القانوني الذي يقر بأن السلطة أساس المسؤولية وحيث توجد السلطة توجد المسؤولية، إلا انه من الناحية العملية لا توجد أدلة كافية من النصوص القانونية تؤسس توصيات اللجان التحقيقية للمضي بعدم إيقاع العقوبات على الموظفين. وكما هو معلوم بأن قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 هو المعني بمساءلة الموظف انضباطيا عن المخالفة المسندة إلية قانونا استنادا إلى المادة (10/2) من القانون المذكور، وحيث أن الفقرة (ثالثا) من المادة (4) من الفصل الثاني من القانون أنف الذكر قد نصت على أن من واجبات الموظف ( احترام رؤسائه والتزام الأدب واللياقة في مخاطباتهم وإطاعة أوامرهم المتعلقة بأداء واجباته في حدود ما تقضي به القوانين والأنظمة والتعليمات، فإذا كان في هذه الأوامر مخالفة فعلى الموظف أن يبين لرئيسه كتابه وجه تلك المخالفة ولا يلتزم بتنفيذ تلك الأوامر إلا إذا أكدها رئيسه كتابه وعندئذ يكون الرئيس هو المسؤول عنها). وبصراحة هذا النص المتناقض فأن الموظف لا يستطيع أن يحمي نفسه من تعسف الرئيس الإداري لكون أن الطاعة واجبه علية ولا يستطيع أن يعدل عنها وأن كانت هناك مخالفة صريحة بل وأن بينها الموظف سيجبر على تحمل عاقبتها لأن الرئيس الإداري تنحصر مهمته في الطلب من الموظف بإجراء اللازم دون أن يتعدى إلى أكثر من ذلك وتحديدا ضمن مدلول الهامش المرن والمطاط والفضفاض تضيع حقوق الموظف، وإذا امتنع الموظف عن أداء ما هو مخالف للقانون سيكون محل مخالفة انضباطية تستوجب إعلان تحقيق إداري بحقه وذلك استنادا إلى مبدأ قانوني صادقته المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة في الدعوى المرقمة 646/قضاء موظفين/تمييز في 11/7/2017 صادر عن محكمة قضاء الموظفين الذي نص على ( عدم أداء الموظف واجباته الوظيفية يوجب مساءلته انضباطيا). والذي يفسر إجراء الموظف بعدم أدائه للواجب ومن ثم يكون مقصر أمام اللجنة التحقيقية . والجدير بالذكر أنه لا توجد واجبات موضوعية للموظف تتعلق بإجراءات يتطلبها العمل الإداري وتقع في صميم نشاط الإدارة اليومي وكل ما جاء ضمن واجبات الموظف تقع ضمن الإرشادات العامة وقواعد سلوك التي يوجب على الموظف التحلي بها مع مجموعة من المحظورات يمتنع على الموظف القيام بها، وهي نصوص صماء تناقش قضايا عامة بعيدة عن عمل الموظف وما استندت علية المحكمة في مساءلة الموظف انضباطيا عن واجباته في مبدئها أعلاه كان ضمن نطاق العمومية بدلالة نص المادة (7) من القانون التي نصت ( إذا خالف الموظف واجبات وظيفته أو قام بعمل من الأعمال المحظورة علية يعاقب بإحدى العقوبات المنصوص علية في هذا القانون ولا يمس ذلك بما قد يتخذ ضده من إجراءات وفقا للقوانين). وفي رأينا أن الواجبات والمحظورات التي تطرق إليها القانون لا تمس من قريب أو بعيد الواقع المعمول به في دوائر الدولة وهي بحاجة إلى تغيير جذري يتناسب مع ما يحدث في أروقة الإدارة ويأخذ بعين الاعتبار الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس الإداري وهي باتت سلطة تعسفية لا يستطيع أن يواجهها الموظف بمثل ما تتطلبه الفقرة (ثالثا) من المادة (4) المنوه عنها ابتدأً لكون أثباتها على غير تناسب من القانون وبين موظف منزوع الصلاحيات ولا يمتلك أي إجراء ولا يستطيع مشاهدة رئيسه الإداري وبين رئيس له صلاحيات وإجراءات قد تكون ضاغطة وقسرية على الموظف وتحمل عنصر إكراه وإجبار على القيام بالفعل مرغما، ولعل من الدلائل التي تؤيد ذلك هو عدد اللجان التحقيقية داخل دوائر ومؤسسات الدولة وعدد الدعاوى المقامة من الموظفين على وزاراتهم أمام مجلس الدولة ما يعطينا دليل على تعسف الإدارة وتوغلها بحقوق الموظفين، كما أن إعلان اللجان التحقيقية ما هو إلا ضمانة لتبرئة الرئيس الإداري الأعلى والحاشية المحيطة به، لكي تتعدى آثارها وتقع على الموظف العادي؛ لان الرئيس الإداري ونتيجة الفساد الذي استشرى في المؤسسات العامة بات يمتنع عن تثبيت الإجراء الذي يجب اتخاذه تحريريا لينفذه الموظف ويطلب إجراء ما يلزم بشكل عام ومن هنا تبرز إشكالية إثبات المسؤولية التي يجب أن يتحمل المسؤولية القانونية عنها الرئيس الإداري الأعلى ثم الموظف المسؤول في وظيفته وليس ضمن ما يملك الموظف من إجراءات لكون هناك الكثير من الموظفين يتصدون لمخالفات كثيرة إلا أنها وبسبب الرئيس المباشر لن ترى النور خوفا من الرئيس الإداري الأعلى لأنها تمس الموقع الوظيفي. ومن ناحية قانونية نرى أن قانون العقوبات كان أكثر ضمانة على الموظف من قانون الانضباط عندما نص في المادة 39 ضمن الفصل المخصص بأداء الواجب بأنه( لا جريمة إذا وقع الفعل قياما بواجب يفرضه القانون). والمادة (40) التي نصت على لا جريمة إذا وقع الفعل من موظف أو شخص مكلف بخدمة عامة في الحالات التالية: أولا: إذا قام بسلامة نية بفعل تنفيذا لما أمرت به القوانين أو اعتقد أن أجراءه من اختصاصه. ثانيا: إذا وقع الفعل منه تنفيذا لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه طاعته أو اعتقد أن طاعته واجبة عليه… ويجب في الحالتين أن يثبت أن اعتقاد الفاعل بمشروعية الفعل كان مبنيا على أسباب معقولة وأنه لم يرتكبه إلا بعد اتخاذ الحيطة المناسبة ومع ذلك فلا عقاب في الحالة الثانية إذا كان القانون لا يسمح للموظف بمناقشة الأمر الصادر إليه. واستنادا لنصوص قانون العقوبات يكون قانون الانضباط قد تعسف كثيرا وذلك عندما منع قانون العقوبات إيقاع العقوبة على الموظف في حال عدم قدرته على مناقشة الرئيس الإداري، بينما طلب قانون الانضباط أطاعة أوامرهم بأداء الواجب في حدود ما تقضي به القوانين والتعليمات مع بيان المخالفة للرئيس الإداري أي يتم التنويه لذلك من الموظف غير المسئول إلى الموظف الأعلى وهي تطبيق لقاعدة إدارية مقلوبة وتتعارض مع السلطة والمسؤولية وأن المحكمة قد استندت في مبدأها إلى النصوص أعلاه لتخرج بضمانة للموظف. وبالعودة إلى المبدأ القانوني نرى أن المحكمة استعملت كلمة أحداث وهذه الكلمة غير متوافقة مع المسؤولية وليس من أدواتها القانونية وكان على المحكمة أحكام المبدأ برباط قانوني جازم تنفي عن الموظف ما يقع من مسؤولية قانونية كونه سيكون مرجع للجان التحقيقية عند كتابة توصياتها وأيضا كرقابة أولية للجهة المختصة بتدقيقها.
ختاما نؤيد مجلس الدولة المضي بمثل هذه المبادئ كونه الملاذ الأخير للموظف في أثبات مظلوميته من الإدارة وتعسفها ومن القانون الذي لم يأتي بضمانه للموظف ويجب على المشرع إعادة النظر بواجبات ومحظورات الموظف التي باتت غير صالحة وتقرير مبادئ وحقوق عامة تبين مسؤولية الموظف ومقصريته أمام الواجبات الوظيفية والتقليل قيد الإمكان من السلطة التقديرية للرئيس الإداري لخلق موازنة مقبولة .