حوار مع الروائي حنون مجيد
حوار مع الروائي حنون مجيد
سعدون هليل
2012 / 1 / 23
حوار مع القاص والروائي حنون مجيد
حاوره سعدون هليل
” اليوتوبيا أول حلم يقظة راود الانسان منذ بدء الخليقة ”
قاص وروائي من مواليد 1939 ميسان كتب القصة القصيرة والقصيرة جدا والرواية وقصة الطفل والمسرحية يعبر عن الاتجاه الأكثر طليعية وجرأة في تجربته القصصية والروائية ويعد من بين أهم القصاصين والروائيين العراقيين ، تزخر أعماله بنضج فني ونضارة في الرؤية والأسلوب ، كتب عن أدبه أبرز النقاد والمثقفين في العراق منهم الدكتور عبد الواحد محمد ، عبد الجبار عباس ،الدكتور حسين سرمك،فاضل ثامر، ياسين النصير،شكيب كاظم،الدكتور قيس الجنابي،صادق الصكر الدكتور عقيل مهدي وعشرات غيرهم ترجمت بعض قصصه الى معظم اللغات الاجنبية الحية كالانكليزية والفرنسية والالمانية والروسية والفارسية والتركية والكردية واليونانية وغيرها وهو رئيس تحرير الموسوعة الثقافية التي تصدرعن دار الشؤون الثقافية ببغداد عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق . نشر قصصه في الصحف والمجلات العراقية والعربية . حول هموم الكتابة الأدبية وتحديدا جنس القصة والرواية كان لنا معه هذا الحوار :
ــ ما الذي يشغل القاص والروائي حنون مجيد الآن؟
*ما يشغلني الآن هو ما يشبه لملمة الاوراق الاخيرة، وهي كثيرة وأقربها الى الحسم ، العمل المشترك بيني وبين الاستاذ الدكتور عبد الواحد محمد الذي يقوم مشكوراً بترجمة مجموعة جديدة لي من قصص قصيرة جداٌ الى الانكليزية ، كما يشغلني إعداد مجموعة قصصية جديدة جاهزة الى الطبع .
ــ وماذا ستحمل من عنوان؟
*سيكون عنوانها “فندق البخلاء” .كما يشغلني إعداد مجموعة قصصية للاطفال جاهزة هي الاخرى وتقديمها الى دار ثقافة الاطفال، بعد ان قدمت مجموعة قبلها الى الدار ذاتها ، وأعظم ما يشغلني هو التفرغ لمتابعة العمل في روايتي الجديدة التي لم أعين عنواناً لها حتى الآن.
ــ تشير روايتك المنعطف الى مرحلة معينة من حياة العراق السياسية والى تجربتك الخاصة فيها، الى متى هذا التناغم بين شخصيتك وابطال أعمالك؟
*نعم ومثلما تشخص ، فالمنعطف رواية اتسعت لمرحلة سياسية عريضة كانت الاخطروالأطول في تاريخ العراق الحديث ، وكان يمكن ان تكون الافضل نسبياً لو قدر لها ان تسير في الاتجاه الصحيح ، ولو قدر لقيادتها ان تتنبه الى مخاطر ومزالق الاتجاه الذي انقادت اليه، قبل ان تجر البلاد الى حروب وصراعات أفضت الى خسائر مادية وبشرية وويلات انسانية ما تزال مظاهرها النفسية والسياسية بادية للعيان وفاعلة في حياتنا حتى الآن، ولقد وجدت لزاماً ان يتصدى عمل إبداعي لمرحلة مثل هذه ناءت بأحداث جسام ولو على سبيل التلميح ، فكانت المنعطف بكل ما حملت من اشارات ودلالات . إن أخطر ما يؤلم الانسان ويؤذيه هو ما يفجعه في وطنه، وكنا كذلك للأسف الشديد. وليس من شك في ان شخصيتي ،كما تقول ، انعكست على بعض من أبطال أعمالي وروايتي هذه ، فكنت مرة سليم ناصر المعلم المرهف والعاشق الذي قطع رحلته الى سرمارا وعاد الى بيته حالما وصلته رسالة تدعوه للعودة ، ومرة طالب عبد الحق الذي بترت الحرب ذراعه اليمنى فدرب اليسرى على القتال فكان ان اقتص من السائق بها.
ان تماهي بعض الشخصيات مع كاتب العمل الروائي او القصصي او إسقاط الكاتب نزعاته وصفاته على ابطاله كثيرا ما يحصل في الاعمال السردية في لحظات هيمنة لا يجد المبدع إزاءها إلا الرضوخ وغالباً ما يكون هذا نابعاً من الصدق الفني الذي يسود بعضاً من هذه الاعمال .
ــ ما زلت تبحث عن اليوتوبيا ، المدينة الحلم ، المكان المستقبلي ، هل يتم البحث عن هذا بعد الحروب أم متى؟
*لا أدري إن كانت اليوتوبيا اول حلم يقظة راود الانسان منذ بدء الخليقة ام لا ، كما لا احد يستطيع ان يقبض على أول حالم في عالم متكامل ، وليس في مدينة واحدة ، كما فعلت الماركسية في طروحاتها النظرية مثلاً ، ويبدو ان طبيعة الانسان هي حلمية أولاً تواقة الى ما بعد حدود العالم المنظور فبل ان تكون شيئا آخر، وليس من شك في ان اعظم الحالمين بمدن فضلى هم الفلاسفة ، كذلك من يعلم اي فيلسوف فكر في ذلك قبل ان يصنع افلاطون جمهوريته شبه العادلة. وما ينبغي التوكيد عليه هنا ان الحلم بالمدينة الفاضلة إن لم ينشا طبيعياً ، فهو مرادف للواقع كلما كان ضيقاً ، أو يملي طبيعته القاهره على الانسان. وبما ان الاديب مرادف للفيلسوف في كثير من تشوّفاته ، كان له من المدن ما يوازي مدن الفيلسوف ، بل إن من مهمات الاديب المركزية صنع الاحلام وإقامة مدن الخيال وفتح الآفاق على العوالم الجديدة التي لم تكن مرئية من قبل .ولعل من البديهي القول ان مدن الحلم ومدن الخيال تتطور من جيل الى جيل ومن واقع الى واقع كلما تطورت سبل المعرفة وازدادت لهفة الانسان الى الكمال، وهي التعويض النفسي عن المدن الناقصة والمليئة بالاخطاء. إن من بعض منعكسات الحروب ، إنها حين تنتهي تهيئ أحلاماً، هي أحلام الشعوب ، والمدن الواقعية الحديثة التي اقيمت بعدها كانت جزءاً من ذلك.
ــ معظم أبطال قصصك أسماء بدون القاب..ماذا تعني بذلك؟
*بل ان معظمهم بدون أسماء ، فالاسم يعلق الشخصية القصصية في مدار ضيق ومحدود ، ويعزلها عن الافق الواسع الذي ينبغي ان تتحرك فيه ، ولا أريد القول انه يحددها بحدود قد تكون مرسومة في ذهن المتلقي من حيث المبدأ ، فلا يتحرر منها. لقد الغيت اسم الملكة في روايتي “مملكة البيت السعيد” لتكون ملكة بالقدر الذي تتماهى فيه مع رغبات القارىْ اولاً، ثم لأجنب الاسم الذي لو اخترته لها ، مزالقها وأعمالها السيئة ثانياً ، اما بعض الاسماء التي وردت في اكثر من عمل فهو “سليمة” و”صالح” الذي جاء بصورة الاعمى الذي يعرف دقائق حياة السائق في رواية “المنعطف” وبطلاً لرواية “مملكة البيت السعيد” وهو اسم لرجل معروف لدي ما يزال على قيد الحياة ويمتلك مواصفات الرجلين .
ــ تمر الثقافة العراقية بمراحل متقطعة بسبب انعدام التواصل بين مرحلة واخرى هل اثر ذلك على مسار الابداع الادبي ؟
*نعم مرت الثقافة العراقية وماتزال كذلك لانها افتقرت الى طابع المدينة المستقرة التي تنتج ادباً عظيماً وثقافة متصلة ومتنامية ، ولأنها حرمت من الحرية التي تتيح لها التواصل مع ثقافة الاخر والافادة من بعض مصادرها الغنية والحيوية، يضاف الى ذلك الحروب الكثيرة التي امتدت الى سنوات وروح المركزية السياسية التي سادت تلك السنوات ، فجرفت الثقافة الى تيارات واتجاهات آلت الى تفكيك حلقاتها الرابطة وأفرغتها مما كان مؤملاً منها ومما زاد الامر سوءاً هجرة العقول الناشطة التي كانت تمثل صورة واعدة لثقافة عراقية رصينة.
ان الثقافة المتصاعدة هي ثقافة مدينة مطمئنة يدعم تواصلها ويرسم خطوطها العريضة الأمن والاستقرار، وانا واثق من ان الثقافة العراقية لو سارت تحت فضاء من حرية الفكر والتعبير لكانت شيئا اخر غير ماهي عليه الان .
انّ ما عم ّالاجواء العراقية من توزع واضطراب على مستوى السياسة والاجتماع أرهق الثقافة العراقية بما لم يكن ثقافياً خالصاً، ورهنها الى افق غائم غابت في مدياته صورتها وهويتها .
ــ انت من كتاب القصة القصيرة جدا ولك فيها مساهمات جادة هل ما زال هذا النوع من الفن .. بعد خبرتك مهما بالنسبة لك؟
*القصة القصيرة جداً نمط سردي معروف وشائع وكتب فيه قصاصون كثر عراقيون وعرب عرفوا به واصدروا كتباً فيه، وبالرغم من ان مرجعية الكتابة فيه لاتعود تاريخياً الى ناتالي ساروت في كتابها ((انفعالات ))اواخر الثلاثينيات الذي لم تحله الى جنس سردي معين، فالاعتقاد الذي يسودني انّ اول من كتب في هذا الجنس فرانز كافكا المولود عام 1883 والمتوفى عام 1924 الذي نشرت له مجلة دجلة في عددها السادس عشر من العام 2005 ثلاث قصص في هذا المجال جاءت غفلاً من التجنيس ، وكانت احدى هذه القصص المسماة “حكاية قصيرة ” تتألف من 56 كلمة لا غير . كذلك يمكن الإحالة إلى القصص القصيرة جداً التي كتبها القاص العراقي نوئيل رسام في ثلاثينيات القرن الماضي وأشار إليها الناقد القديرالاستاذ باسم عبد الحميد حمودي في دراسة له نشرتها مجلة الاقلام في عدد قديم، وهناك من يحيل التسمية الى الزميل القاص والروائي احمد خلف قبل يعرّفها الزميل القاص والروائي ابراهيم احمد في كتاب خاص صدر اواخر السبعينيات تحت عنوان “عشرون قصة قصيرة جداً”، وهو أول كتاب يصدر في العراق مكرس لهذا الجنس من القص.
أما ما يخص تجربتي في هذا المجال فلقد بدأتْ منذ اكثر من ربع قرن ، آليت ان انتقي مما كتبت خلالها من هذا اللون مائة وعشرين قصة قصيرة جداً جمعتها في كتاب صدر منذ بضع سنوات بعنوان “وردة لهذا الفطور”، ولسوف يضم الكتاب الثاني احدى وسبعين قصة قصيرة جداً عمل على ترجمتها الدكتور عبد الواحد محمد كما سبق ان اشرت.
إن هذا اللون من القص يستهويني لأسباب عديدة منها انه يعبر عن أخص الحالات الداخليةً للانسان وأشدها حميميةً لديه، فالقصة فيه أشبه بنفثة غضب أو لهجة سعادة لا تحتاج الى تفاصيل ،وهي أقرب الاجناس الادبية إنتماءً الى مزية الرسالة القصيرة الحادة واللاذعة ، فضلاً عن ارتباطها المباشربحراك العصر وقد تكون الصورة البكر والاقرب الى النفس للتعبير الاجناسي ، لتلقائيتها وبراءتها من الصناعة المتكلفة ، إذ من شروط نجاحها قصرها وكثافة الصورة فيها وضغط عبارتها والايقاع الخاطف والسريع لجملة نهايتها ، غيرما لها من مواصفات اخرى ترتبط بالهدف من كتابتها. كما تتسع ، بالرغم من صغر حجمها، لما لا تتسع له القصة والرواية من موضوعات أو لما ليس من طييعتيهما ، فهي تفرد جناحيها لورقة تسقط دون غيرها من شجرتها لتتوسد التراب تحتها ، ولقشة يجنح بها التيارليقذف بها على طين الشاطئ فلا يعبأ بها أو يلتفت اليها، ولحمامة تنظرمحزونة من على سلك قريب الى رجل يقطع بمنشاره الشجرة التي عليها عشها ، ثم اذا هوى العش وسقطت البيضات على الارض فقدت املها وهامت في السماء، وما الى ذلك من مئات بل آلاف الموضوعات التي تختص بها وحدها دون غيرها . ولعل من المفيد قوله ، إن على كاتبها أن يعرف حدود فنه فلا يتجاوز ذلك فيجهض موضوعاً صالحاً لقصة قصيرة مثلاً.
ــ أخيراً التجأت الى كتابة النص المسرحي.. ماذا يعني المسرح لديك وهل عندك مساهمات سابقة في هذا الميدان؟
*لجوئي الى كتابة العمل المسرحي ، لجوئي ذاته الى كتابة القصة أو القصة القصيرة جداً أو غيرهما ،إنها حاجات نفسية وفنية قبل ان تكون رغبة طارئة في ممارسة الكتابة في الأجناس جميعاً. لقد استحوذت على نفسي فكرة كتابة المسرحية منذ أمد بعيد، وقد أجلت ذلك لصعوبة العمل المسرحي ، ثم لانهماكي في كتابة الانواع الاخرى الاقرب الى تخصصي الابداعي ، ولخطورة هذا العمل الذي يحتاج الى انشطة اخرى غير التدوين النظري الذي يتعلق بكتابة فكرة ما . ويملؤني الاعتقاد بان الكتابة المسرحية من اصعب الكتابات لاعتمادها على مرتكزات كثيرة أهمها الموضوع الذي ينبغي ان يكون ملائماً للذائقة الخاصة والعامة والحوار الذي يتطلب لادارته ثقافة عالية والتنامي به حتى نهاية موفقة ، فضلاً عما ينبغي معرفته عن توزيع الادوارالمسرحية بتناسب سليم ومدروس ، وتنظيم الضوء والظل وتعيين لغة البطل بما يتناسب ودوره أو طبيعته الاجتماعية والثقافية ، كون المسرحية لغة حوار تترسم على ضوئه وبدقة مطلوبة الفرادة التي تميز شخصية هذا البطل من ذاك ، وغير ذلك من مؤهلات لا بد لكاتب المسرحية من ان يلم بها ويضعها نصب عينيه .هنا اعتقد ان المسرح هو اول اجراء ادبي يعلن عن مسؤوليته الاجتماعية بصورة ابداعية خالصة.
في مسرحية ” الملك في عزلته ” قلصت عدد الابطال وحركة الشخوص كما لو أنني أعددتها للقراءة أولاً أو كما لو أنها عمل ذهني تنصبّ البصيرة عليه قبل البصر. لذا فانني ارى اخراجها عملاً لا يخلو من صعوبة الا اذا تصدى لها مخرج يؤمن باهميتها والعمل على اخراجها وقد وعدت بذلك.
ــ أنت تشغل موقع رئيس تحرير الموسوعة الثقافية.. هل تسير بناءً على خطط مسبقة ام بناءً على ما يأتيكم من مساهمات؟
*منذ ان توليت شرف مسؤولية العمل في الموسوعة الثقافية مستهل عام 2004، آليت على نفسي ان يكون لطابع ما يصدر عنها بصمة موفقة ، هي بصمة الادب الذي يتوجه الى المتلقي ليسهم في رسم ثقافته الجديدة والسليمة معا، وربما تحقق لهذا التوجه قسط من النجاح ليس بالقليل نتج عن عمل جماعي دائب شارك فيه نخبة طيبة من العاملين معي في القسم مع تعاون حقيقي كانت تبديه الادارة العامة معي دونما تردد حتى تصاعد الانتاج العددي لسنة 2008 الى اربعة عشر عنواناً والى عشرين عنواناً في عام 2009 بعد ان كان اثني عشر عنواناً وبعد ان توفرت الامكانية الطباعية اللازمة لانتاج مثل هذا العدد غير المسبوق .ما يمكن عدّه نجاحاً ليس بمقدار ما يصدر من اعداد قدر ما يضم كل عدد من ثقافة حديثة مرغوبة ومفيدة معاً. إن التنوع الحاصل في موضوعات الموسوعة الثقافية التي صدر منها حتى الآن أكثر من مائة عنوان أكسبها إجماعاً عاماً على أهميتها ، وما يزال الكتاب يرفدوننا بكتبهم ، وقد اعلنت في اكثر من مناسبة عن رغبتنا في إزاحة الطابع الادبي بالرغم من اهميته الى موضوعات عامة أخرى لا تقل اهمية تتناول مثلاً ، ماهية المجتمع المدني ،الديمقراطية وانواعها ، علم تربية الطفل ، علم النفس ، علم الاجتماع، علم شخصية الفرد، علم شخصية الجماعة، دور الفرد في التاريخ ، صور من التكافل في المجتمعات ، التسامح في التاريخ ،ثم النجف الاشرف بمناسبة اعتمادها عاصمة للثقافة الاسلامية عام 2012 فقد آثرنا ان يكون لنا شرف المساهمة في هذا الموضوع بعد ان نوهنا عن رغبتنا في ذلك ، وهكذا تتصاعد امانينا في ان نقدم للقارئ أفضل ما يعزز قناعته بثقافة عراقية خالصة.
ــ الموضوع السياسي والموضوع الثقافي في تصادم وتصاهر مستمرين ، كيف ترى مثل هذه العلاقة في مرحلة يبدو ان الرواية لا تنشر بدونها.
*يختلف الموضوع السياسي عن الموضوع الثقافي حسب المهمة الموكولة لأي منهما وطريقة التناول والاداء ، ومقدار الفن المرتبط بطيعة كل منهما. هنا يفترق الموضوع السياسي عن الموضوع الثقافي، ولا بد من الفصل بينهما وان تلبس الموضوع الثقافي إهاب الموضوع السياسي أحياناً وهو امر لا يحبذه الناقد اليوم لاختلاف الطبيعتين كما اشرت. بيد ان السياسي مسؤولاً في مدار عمل وطني جسيم لا يجوز ان يقيم مشروعه التنموي بمنأى عن الثقافي مبدعاً ومفكراً ، ذلك لان من لب مهامهما ان يلتقيا ويتعاونا ويكمل احدهما الاخروهذا امر حيوي وجوهري في حياة المجتمعات لا سيما في البلدان التي في طور البناء .
لقد عرفتنا تجارب الشعوب على: كيف تُبنى البلدان على تضافر الجهود بين الثقافي مفكراً وحالماً والسياسي منفذاً وفاعلاً ، ولعل من الخطأ التفكير بان السياسي عقل لا ثقافة فيه والثقافي عقل لا سياسة فيه الا في نماذج قليلة أودت بكل المدن التي كان الثقافي حلم بانشائها فقادت بلدانها الى الجفاف والخراب . ومن هنا تعد الرواية كونها منتجاً ثقافياً احد ابرز الضحايا حين لا تكون العلاقة عادلة او متكافئة بين الطرفين ، فغلبة السياسي على الثقافي صورة من صور القمع والاستبداد والمصادرة التي من مؤدياتها جميعا كبت الحرية وتغييب اي شكل من اشكال الديمقراطية بما لا يتيح فرصا كافية لانتاج ادب جديد حر ومعبر وواسع الطموح، ومنه الرواية الانجاز الأعظم لثقافة عصرنا الراهن.
ــ اهتامك واضح في بنية الاسرة ، البيت ، التشكيلة الاجتماعية المحدودة…هل لانك تستطيع السيطرة عليها ام انها الحال التي يمكن ان تقول شيئا من خلالها؟
*تعد الاسرة العالم الذي شاركت مشاركة فعالة في صنعه وتشكيله وهو المآل الذي أعود اليه مهما ابتعدت عنه او نأيت ، إنما هوعالمي الصغير الذي تتاح لي من خلاله صنع آمالي واحلامي والانطلاق منه نحو عالمي الاكبر الذي اجد نفسي الاخرى فيه .
إن هذه البنية الصغيرة او التشكيلة المصغرة لعالم اكبر، التي يحيطها بيت من ابواب وجدران ولصيقة بنا ضمن اعتبارات اجتماعية ونفسية كثيرة ، ليس من اليسير اغفالها او تجاوزها ، بل هي الاقرب الينا من سواها ، فهي المحيط الذي نتمركز فيه على ذواتنا وحتى على غيرنا ممن فيه في اطار العائلة التي تمنح رب الاسرة سلطة عليا، هذه البنية الاجتماعية المحددة بنظام خاص او شبه خاص ، والموكولة في كثير من مقدراتها بنا ، ليست منعزلة او معزولة عن الهامش الذي يتسلل الى كيانها وعن مؤثرات محيطها الخارجي ، التي تضفي عليها صيغتها وتلونها بالوانها ، بل وتكسبها عمقها الذي هو عمق الحياة العامة مهما كانت نسبة صلاحيتها. في هذا العالم المشحون بالسلب والايجاب ، تتشكل ملامحنا الاولى وتتمظهر قناعاتنا ورؤانا بل ونزود بما ليس من منظورنا ..في قصة لي تدعى الفار يدخل فارغرفة نوم اسرة آمنة فيختبئ تحت سرير الزوجين ، وحين يهبط الرجل بجسده ليحدد موقع الفار يكتشف هنلك كوما راسخاً من غبار! وهكذا تتولد الظنون وتنفتح العيون على اسراريطلعنا عليها كائن ليس بذي بال، او هكذا يحطم عصمة بيوتنا الشاهقة متسلل بهذا الحجم الصغير .وفي تاريخ العائلة التي حملت عنوان آخر مجموعة لي تتخرب العائلة بفعل التداخل المضطرب بين الهامش والمركز ، حين لا يكون المركز قادرا على حماية نفسه مما ياتيه من هناك فينجرف مع التيار. ولانّ هذا الكيان الصغير يشكل بؤرة عميقة لاهتمامي الادبي فلقد تكررت في محاولاتي كلمة البيت، فهناك بيت الفئران ، حتى يباع البيت ، تاريخ العائلة ، مملكة البيت السعيد وغير ذلك مما يرد في هذه القصة او تلك من احالات على الاسرة او البيت.
ما يتيسر لي ان اقوله هنا ان اعمال الكاتب لا تتضمن بالحتم شخصيته بالكامل، وانما قد تشير اليها او تعين بعض ملامحها، ثم ان الكاتب قد ينقلب على مفاهيمه في عمل لاحق ليدون لافكاره صورة اخرى مختلفة وقد تكون مختلفة تماما ، كما حصل في فصل الدكان بديلاً للبيت من روايتي انفة الذكر، التي ينقلب فيها احد ابطال الرواية على بيته ويفضل الدكان عليه في ما يعد على ملاك الفانتازيا التي يتخالف فيها المالوف واللامالوف، او بحسب ما يصلح للرواية او بطلها ان يكونا عليه. ولو لاحظت جيدا معظم الاعمال الروائية ستلفي ان البطل فيها يبدا حياته من البيت ليعود من ثمّ اليه، فالبيت ، كما يظهر هنا ، هو المحيط الذي تدور الاعمال بين الخروج منه والعودة اليه، ولا اريد ان احيلك الى عودة يوليسيس الى بيته ووطنه بعد ان غاب عنهما سنوات..
ــ أمكنة رواياتك وقصصك عامة ، واسعة ليس فيها ذلك التحديد. ماذا يشكل المكان عندك؟
*أعتقد ان ذلك مرتبط بطفولتي . فحينما استقر النظر على الاشياء في عيني بعد ولادتي، كان ثمة الافق الممتد بلا حدود ، ثم كانت قريتي الوحيدة في عالمي ، وهذا العالم كله لي. ليس الافق وحده وانما النهر الذي يجري الى نهاية مجهولة ، والارض الخلاء المزروعة وغير المزروعة، فاذا رفعت راسي للاعلى كانت السماء تراقبني بعين واسعة فيها رعاية وحنو مدهشين. كانت مدرستي الاولية في قرية اخرى غير قريتي ، فاذا وقف النهر امامنا عبرناه جذلين على قنطرة ترتج تحت اقدامنا ! هذا العالم الذي اكتنز اول طفولتي وغادرته مبكراً الى بغداد ، ظل يلاحقني حتى عدت اليه معلما بعد سنين ، لاشبع نظري منه واترسمه في نفسي وكأنه اول عشقي.
من هنا كما يبدو لي جاءت قصصي _ليس كلها_ عائمة في المدى المفتوح وهائمة فيه كذلك. في قصتي البحيرة وهي ذات موضوع واقعي حصل لزفة عرس غرق افرادها في الهور، كنت قبل ان اكتبها تحريت المكان عينه ، هناك وجدته مساحة مائية مهيبة محاطة بعرائش القصب والبردي ، تنتصب فوقها سماء ساكنة يصلح منظرها وحده موضوعاً فاتنا لقصة قصيرة قبل ان يحدث على سطحها حدث ما.
على ان ذلك ان ساد الكثير من اجواء كتاباتي التي جاءت بصيغة مسرنمة أو هكذا تبدو لنظرة سريعة ، فان الآخر منها جاء مشخِصاً للمكان بحدوده المادية والزمنية كونه الوعاء الاكبر لنشاط الانسان كما في، الغريب ، ما سوف افعله غداً ورواية مملكة البيت السعيد بل وحتى في رواية المنعطف كان ثمة ملامح لحدود مكانية تركتها لمخيال القارئ.
في الاخير اعتقد اننا لم ندخل عصر المدينة المكتملة التي تسمي الاشياء باسمائها ، وربما ينطبق هذا على اغلب الكتاب الذين ظهروا من اعطاف الريف.
ــ عانيت في فترة سابقة الملاحقة والمطاردة ،هل اثر ذلك على نتاجك الادبي؟
*من المنطقي ان تؤثر الاعمال التي تستهدف حياة الكاتب تاثيراً مباشراً على نتاجه الابداعي إن لم تعطله تماما ،إ ذ قد ينكفئ بعض الكتاب فينقطعون عن الكتابة مجبرين. ولا أشك في أن ما تعرضت اليه عطل كثيراً مما كنت أود تحقيقه ، فان تكون في بغداد مركز الثقافة العراقية ابان وهجها في الستينيات ، غيرك وانت منفي منها الى مدينة اخرى او الى ريف قصي . هنا تعدم فرص النشر، وتضعف فرص مواكبة الثقافة المتجددة وتجمد او تتعطل العلاقة بالكتّاب او المثقفين، وتعيش العزلة المطلقة أو شبهها،لا سيما اذا كان مكان وظيفتك بعيداً جداً عن بغداد ، اما اذا تعرضت لصنوف اخرى أكثر ضيقاً وإيغالاً في التضييق لتُبعد تماما عن الحياة العامة فخسارتك هي الاعظم ، عندئذ وانت تسترد شيئاً من حريتك ستجد ان سيف الزمن قد ارتد عليك إذ لم تكتب ما كنت تود، ولم تقل الشيء الذي كنت ترغب ، و بصريح العبارة ستكتشف انك خسرت بلا اي تعويض إلا ما يخامرك من شعور تعويضي آخر بان تضحيتك لم تكن عبثاً بل كانت وعياً وعملاً في اتجاه صحيح وان من بعض امجاد الناس هو هذا ، وهذا هو ما يتملكني من شعور.
إن ما ينبغي ان أقوله هنا وبموضوعية مجردة إن أغلب الكتاب والمثقفين العراقيين وعلى مختلف مشاربهم ومذاهبهم قاسوا الامر نفسه وفي فترات متناوبة وممتدة على مدى عقود من السنين فكانت الخسارة عامة و”جماعية ” وكان الوطن هو الخاسر الاعظم فيها.
ــ ماذا تكتب الان ؟
*اكتب الان في روايتي الجديدة . وفي فترات الراحة اكتب قصصاً للاطفال من تلك التي افكر فيها مليّاً ، أو تلك التي تأتيني طواعاً وانا اختلقها لحفيدي وهو على ذراعي. كما انني بصدد كتابة بعض القصص التي لم اكتبها ، ولي مع أجوائها تجربة حادة وصادقة، كقصة ” الاخرس” التي كنت موضوعها عندما فقدت صوتي وامسى تعاملي مع الاخرين بالاشارة “غير النافعة ” في كثير من الاحيان.ولا اكتمك ان في مثل هذا العمرتتألب الموضوعات على الكاتب وتؤنبه حين لا يتسع وقته لكتابتها.
ــ هل تشاهد افلاماً سينمائية وهل تقرأ كتباً في التشكيل والعمارة؟
*منذ زمن بعيد غادرت مقاعد السينما وأعرضت الاّ قليلا عن افلام التلفاز، ولا ادري ان كانت هناك دور عرض سينمائي للافلام . ما يفزعني ان افلاماً للرعب واسالة الدماء تعرض باسهاب ويعشقها شباب من كلا الجنسين، ويهدرون وقتاً ثميناً في مشاهدتها. ويبدو لي ان الامرليس سوياً تماماً وانه يحتاج الى تحليل تخصصي لمعرفة اي الاعمار التي تفضل هذا النوع من الافلام ولماذا ، وهل هو مرتبط ببيئة دون غيرها من بيئات؟
واغلب ظني ان افلاماً مثل ما كتبته الريح ، ذهب مع الريح، الحرب والسلام ، الماخوذ، الآن والى الابد، لمن تقرع الاجراس، وداعا للسلاح ، ثلوج كلمنجارو، الشيخ والبحر، القطار، زاباتا، زد ، زوربا ، سقوط الامبراطورية الرومانية ، يوليوس قيصر، هاملت وغيرها لن تمثل ولن تعود أو هكذا . وإن كنت ملزما بذكر افلام حديثة شاهدتها وظلت غائرة في وجداني فهي قليلة وربما شاهدتها عرضاً واخص بالذكر منها تايتنك لعظمة اخراجه وحجم الماساة الواقعية المصورة فيه ، واعتقد ان مخرج هذا الفلم لم يشتغل على حجم الماساة فيه بقدر ما اشتغل على حساسيات معينة كحجم المسافة بين الحياة والموت والتضاد الصارخ بين عالم جميل ابيض براق يسوده الوئام ويتمركز في فضائه حب اخاذ، وعالم الفناء الاسود في اعماق بحر مظلم عات ، ليخلف لنا هدوءاً جارحا بعد ذلك الصخب الجميل !
وعطفاً على سؤالك عن قراءتي في العمارة ، أقرأ الان كتاباً في المكان بعنوان “سكنى المكان” للدكتور أسعد الاسدي الذي قرأت له قبل سنوات كتابه الممتاز، “شعرية العمارة”الصادر عن الموسوعة الصغيرة عام 2002 وقد تناول كما في كتابه الاول ، موضوعات غاية في الاهمية يحتاجها القاص والروائي حاجة كبيرة لما فيها من انفتاح وسعة معرفة على فضاءات وعنوانات التشكيل المعماري ، الذي يخاطبنا ونخاطبه ويدخل في صلب اعمالنا القصصية والروائية .
ــ هل كتبت عملاً وندمت عليه؟ وهل كتبت قصتك وروايتك؟
*من حسن حظي انني لم انشر كل ما كتبت فما تزال قصصي الاولى التي كتبتها منتصف الستينيات مركونة لم تنشر وكذلك محاولتان روائيتان . وما نشرته في اعقاب ذلك وجاء في ست مجموعات وروايتين جاء متمهلاً نوعاً فلم ياخذني عليها ندم كبير. ولعل من الطبيعي ان نكبر على ادبنا كلما قطعنا شوطا ًفي الممارسة والتدريب ولكن اذا اخذنا اعمالنا بمنظار زمنها الذي كتبت فيه فلن يكون ندمنا عموماً ندماً مؤلماً. ومما هو ثابت ان الكاتب الكبير نجيب محفوظ يثبّت في قوائم اعماله ان مجموعته القصصية “همس الجنون” صدرت عام 1938 في حين يثبت الناقد عبد المحسن بدر انها صدرت عام 1947 “تحديداً منه لمستواها الفني” كما صرح هو للناقد المذكور. ويمكن الخلوص من هذا الى اننا مرهونون بثقافة عصرنا سواء كان ذلك في الفنون ام في مناحي الحياة الاخري العلمية منها او المادية أو سواها.
أما ما يتعلق بِ هل كتبت قصتي أو روايتي فاعتقد انني إن لم اكتب ذلك في قصة او رواية واحدة فلقد كتبتها في مجمل اعمالي على خير وجه.
إن قول القاص او الروائي انه لم يكتب نصه، قول فضفاض لا يخلو من التهويم إذ ما الذي كان يفعله في ما كتبه طوال عمره.ثم ما المقياس لمعرفة ان آخر ما انتجه المبدع هو افضل ما كتب قياساً على تاريخ تجربته ، ثم اذا لم يكن كذلك فمتى يحقق ذلك؟
ليس هنالك من شك في أن اطلاعنا على أعمال غيرنا توسع من نظرتنا وقد تهيئنا لاعمال اخرى ولكن لماذا لا ينطبق الامرنفسه على الاخرالبعيد حين يقرأ أعمالنا؟
ــ كيف تقضي وقتك بين العمل والفكر أم اننا نحن الشرقيين لا نعير اهتماماً للزمن ؟
*الزمن مصطلح عائم يتوزع بين مناهج نظرية مختلفة سواء أكان منها في الفلسفة ام علم النفس ام الفيزياء ام الواقع العام الذي يدركه عامة الناس من خلال حركة الليل والنهار وما يمارس في ذلك من تاثير على المكان وما ينطوي عليه من موجودات. وهو بهذا خارج نطاق الانسان مهما بذل من جهد دائب وعظيم لاكتناه اسراره ومن ثم السيطرة عليه. وهو لا ينتمي لوطن او لجماعة من الناس ليقال الزمن الشرقي او الزمن الغربي الا بدلالة ما يفيده كل منهما منه ، ولا اظن هذا قانونا ينطبق على جميع الناس هنا او هناك . فالزمن عند المثقف العربي الذي يكرسه لانتاج ما يعمل عليه من ثقافة او فكرغيره عند الرجل البسيط بل هو غيره عند الآخر حين يقضي وقته باللهوعلى سبيل المثال ، ومع ذلك فانني اوافقك على ان بعضا من اجزاء الشرق ما تزال متخمة بالخمول .
ما ينطبق على فهمي للزمن هو قدرتي على استغلال ما يمكن استغلاله من وقت لاغناء تجربتي واعتقد ان هذا هو ما يمارسه اي قاص او روائي يريد ان يؤدي عمله على الوجه الاصح والمثل الذي يقول ” الزمن سيف ان لم تقطعه قطعك ” صحيح ليس على مستوى الابداع وحده وانما على مستويات كثيرة لعل من اهمها كيف تعمر طويلا لتنتج اخر ما فكرت فيه.
ــ ماذا تقرأ الآن ؟
*أقرأ الان في موضوعات تفيد تجربتي او تغذيها بنسغ عام ، كالرواية والنقد وعلم النفس والمسرح وقصة الطفل وكل ما هو مثمر ومفيد .ان ما يحثك على القراءة ليس الاطلاع على تجارب الاخرين للافادة منها فحسب انما لترى الزاوية التي انت مطل منها على العالم والمسافة التي تفصلك عنه او تربطك به . فهذا العالم الموار بالجديد والمختلف يدهشك كل لحظة بمنتج جديد عليك لكي لا تتأخرعنه ان تواكبه وتتقرى مواطن حداثته لتنفذ من خلالها الى مواطن حداثة جديدة واقعك قد لا يفتقر اليها .لقد اصبحت المعرفة الثقافية الثرة والمتنوعة تحت اليد بفعل التقدم التقني في المعلومة واصبحت معرفة التقنية ذاتها احدى مشروعات المثقف المعاصر لذلك فان حصرثقافة المثقف في ملف واحد امر صعب ولا سبيل اليه، مع الاعتراف بان وحدة المعرفة امست امرا لا ينال قياسا على الكم الهائل من المعارف والمعلومات في كل باب . نحن بقدر ما نقرأ لنتعلم ، فاننا في الوقت ذاته نقرأ لنقارن …. #
#. عن الحوار المتمدن.