الاقتصادية

خفض الديون العراقية ماذا يعني للمستقبل؟

خفض الديون العراقية.. ماذا يعني للمستقبل؟

خفض الديون العراقية .. ماذا يعني للمستقبل  ؟
الاستاذ الدكتور عبد الكريم كامل ابو هات

(1)  لم يكن العراقيون ليندهشوا لو أن مشكلة الديون التي طوقتهم وكادت تطيح بآمالهم حصلت وما كانوا ليملكوا كل هذا ((النفط))! الا أن الدهشة تتبدد عندما يتذكر العراقيون أن((بحيرة النفط)) ليست حلما” بل واقعا” ملموسا”..ونتذكر أن إذاعة ناطقة بالعربية تبث من أوربا طرحت سؤالاً عن أغنى مدينة بالعالم؟ واتضح أنها مدينة العمارة..ودلالة السؤال أيا كان المغزى من طرحه ،تتمثل في أن الإجابة عليه مميّزة ،باللامتوقع ‍‍‍‍‍‍ ‍‍وثمة من يجهل فعلاً هذه الحقيقة ،فتحت زحمة النضال من اجل تأمين شروط الوجود الإنساني والانشغال به فقدت الاستجابة الطوعية لما كان يحدث في الوطن من وقائع وأزمات ، فطاحونة الأعلام الموجه نحو تآليه الفكر الواحد والثقافة الواحدة ،شغلت الناس بما هم فيه وبما هم عليه …الخبراء النفطيون توقعوا للعراق مستقبلاً واعداً ارتباطاً بما كانوا يأملونه من وجود احتياطي نفطي هائل ،وقبل أن تتصاعد التوقعات والآمال ،كان القطاع النفطي ومنذ مفتتح سبعينات القرن الماضي يمثل القمة القائدة للفعاليات الاقتصادية وتوفرت للعراق من إنتاج وتصدير النفط عوائداً مغرية داعبت خيال المتعطشين للسلطة فأبدعت مخيلتهم في تحويل الريع النفطي الى وسيلة مؤذية  وتبريراً لسياسات اقتصادية ملتبسة وغير بناءة‍‍ !وجدت مزيتها القاتمة في وقوع البلد تحت وطأة الاستدانة.

(2) التاريخ القريب يكشف لنا عما حدث! فحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي لم نجد عند الاقتصاديين شكاً في أن العراق دولة لايمكن تصنيفها ضمن الدول المدينة ،وقدر لهذه الدولة ان تبدأ حرباً لمدة ثماني سنوات وهي تملك ما يقرب من الـ(37) مليار دولار احتياطي من العملات الصعبة ،وقبل ذاك كانت عملية التمويل الإنمائي تتم وفقاً لاتفاقيات دولية ثنائية ومن المتراكم من عائدات تصدير النفط أو طبقاً لصيغ العقود والمشاركة مع الشركات والمؤسسات الاجنبية.هذا التوجه أتاح للعراق أن يتمتع بجدارة اقتصادية وأن يكون مفضلا” لدى المؤسسات الدولية في منح الائتمانات والتسهيلات المصرفية دون خشية من أن الا يتمكن من سداد ما سيترتب عليه من ديون أو ما في حكمها0وعلى مشارف نهاية ثمانينات القرن العشرين بدأت ملامح صورة أخرى مغايرة، فقد أخذت الحال بالتبدل وأضحت اتجاهات الوضع بعد حرب الثمان سنوات تشير نحو حدوث مشكلة خطيرة على الجبهة المالية فشيئا” مما يسميه الاقتصاديون ب((صدمة الديون)) بدأ ظاهرا” للعيان  ووقتها تداول الباحثون رقما” يقترب من(452,6) أو ما يوازي (112%) من أجمالي الناتج المحلي(1)وهو رقم يمثل قيمة ما ترتب على تلك الحرب من خسائر مادية مباشرة،وجب أن يدفعها العراق لمن ساهم في تمويل الحرب من جهات دولية وأقليمية.

(3) في الثامن من آب حدث غزو العراق لدولة الكويت،وكان انعطافة مهمة في التاريخ الاقتصادي للعراق الحديث لجهة أزدياد أحتمالات حدوث( الكارثة الاقتصادية ) التي وجدت تعبيرها في قرار مجلس الأمن الدولي بفرض الحصار الاقتصادي،وحينها أشيع أن كلفة الحرب الجديدة بلغت (230) مليار دولار في إحدى التقديرات،وفي تقديرات أخرى وصلت الى (300) مليار دولار (2).! وتوالت القرارات الدولية ومن ثم فصول المحنة العراقية بؤس،فقر،تهريب،تخريب وأنهيار أنساق القيم المجتمعية000 وصار الحديث متداولا” عن تعويضات يلزم العراق بموجب قرار دولي بتغطيتها من خلال أحتجاز نسبة من عوائد صادرات النفط العراقي التي تتم بأشراف المنظمة الدولية وتدفع الى الجهات المتضررة وهي دول ومؤسسات دولية وأقليمية فضلا” عن أفراد000 وقيل أن على العراق أن يدفع ما مجموعة(682) مليار دولار ديونا” وتعويضات، علما” أن هذا الرقم لايتضمن عائدات نفطية غير متحققة بسبب العقوبات الاقتصادية.

(4) على عتبة التغير التاريخي في 9/4/2003 بدأت مظاهر القلق من الوضع الاقتصادي السيئ بالانزياح وسط آمال تبشر بمستقبل يودع معه العراقيون أحزانهم الى الأبد،دون أن يعني ذلك تفاؤلا” مفرطا” بقدرات ما ورائيه في صنع ما عجز عن صنعه الزمن00 فقد سمحت قرارات مجلس الأمن الدولي بأضفاء الطابع الشرعي على الاحتلال الأمريكي للعراق وصار على الولايات المتحدة الأمريكية التزاما” بأتخاذ سلسلة من التدابير العاجلة لتطبيع الوضع الاقتصادي والشروع بأعادة أعمار ما خربتة الحروب الثلاثة،وأزالة عقبات التحول نحو أقتصاد السوق بتفكيك بنى الاقتصاد المركزي وتأمين شروط الاستقرار المالي والنقدي وتلبية متطلبات السكان بشكل يستجيب للاشارات الصادرة عن  فرص التحسن في حياة المواطنين، فأصدرت الـCPAمجموعة من المراسيم والقرارات التي ارتؤي انها تساعد على تنمية  الأوضاع المشجعة لانجاز التحول نحو النمط الجديد للأداء الاقتصادي .كما وأظهرت اهتماما” بالاستحقاقات المالية للجهات الدائنة التي أستمرأت قبول تأجيل الدفع Grace period وهي تعلم جيدا” أن العراق يفتقد الجدارة الائتمانية بعد أن بلغ عجز الميزانية لديه عام 2000 مبلغاً قدرة (790481) مليار دولار(3) فبقيت الديون نفسها تخلق ديونا” إضافية سيما وأنها وجهت بطريقة بائسة نحو تغطية المستوردات أو خدمة الدين، وباتت تمارس تأثيرها القوي على موازين المدفوعات والتجارة ومستويات المعيشة حيث أشارت البيانات (4)إلى إن حصة الفرد من الديون بلغت (16) آلف دولار  وتجاوزت في حجمها حجم الـ GNP الذي سجل في عام 2001 رقماً اقترب من (9911420) مليار دولار وبما يتراوح مابين ( 15 )الى (20 )ضعفاً.

(5)  لقد قبل المجتمع الدولي التعامل مع حجم للديون يتراوح مابين (120-127) مليار دولار ، وتجسد الالتزام الأمريكي تجاه الديون العراقية بتعيين وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر منسقاً لشؤون الديون وادارة الحوار الدولي بشأنها ،فيما توجهت الدبلوماسية العراقية  المدعومة بفهم راق لتأثيرات مشكلة الديون المحلية والإقليمية والدولية وبموقف وطني موحد إزاءها عبرت عنه طروحات وزارة التخطيط الإنمائي ووزارة المالية ومحافظية البنك المركزي العراقي ،نحو اثارة الجدل الدولي حولها وتحويله  ايجابياً باتجاه المصلحة الوطنية ،الشيء الذي اسهم في تكوين موقف دولي واضح تجاه المشكلة ،رغم تعنت بعض الجهات الدولية خارج نادي باريس ، في مواصلة محاولاتها إخضاع قضية الديون العراقية لاشكالات السياسة الدولية .في نادي باريس لم تحصل معجزة ،فما زال من غير المألوف جداً في محيط العلاقات الدولية ، الحديث  عن المعجزات، فما حصل  باعتقادنا لا يخرج عن نطاق العمل بمبدأ الإدارة الناجحة للحوار المقترنة بقوة ضغط موجهة ،كما أن حالة العراق لم تكن  استثناءً في تأريخ مسألة الديون ،ففي عام 2001 اتفق المجتمع الدولي وبعد أن تعرضت الأرجنتين لمصاعب اقتصادية حاولت جرائها إعادة هيكلةRestrac turingديونها  التي بلغت(100) مليار دولار ، على إرجاع (30) سنتاً مقابل كل دولار مستدان ضمن اتفاق  خفض الديون ،والمثال الصربي مازال طرياً في الذاكرة ،حيث تم في عام 2002 خفض ديون صربيا بما يوازي 66% من حجمها الكلي بعد انتهاء حرب البلقان.لقد ناهزت ديون العراق لدول نادي باريس الـ(40) مليار دولار ،وحصل العراق بموجب الاتفاق على خفض مقداره (80%) لتبلغ مقدار (8،7)مليار دولار على أن يسري الخفض على مراحل ثلاث:-30% حتى 1/1/2005 (وهي المرحلة الأولى  ) و30% تتم  بعد الاتفاق مع صندوق  النقد الدولي على اتخاذ إجراءات ساندة وأصلاحات أقتصادية(المرحلة الثانية) و20% يتم خفضها بعد التحقق من نجاح ما أتفق علية في المرحلة السابقة.وعلى نحو الأجمال،تبلغ ديون العراق التي خضعت للتوافق الدولي 120 مليار دولار ومنها حسبما تشير البيانات المتداولة (20) مليار دولار تمثل ديونا” مستحقة لدول وجهات أوربية مختلفة و(60) مليار دولار ((يقال)) أنها مستحقة لاهل الخليج0 وينتظر في القابل من الأيام أن تتم تسويتها طبقا” لمبدأ المعاملة المتساوية الذي أفترضه أتفاق نادي باريس، ومن هذا المبلغ أتضح أن(35)مليار دولار تمثل قروضا” خليجية،وثمة مقدار أخر لانعرف عن تفاصيلة شيئا” ولا يوجد ما يثبت على أنه يمثل فعلا” دينا” مستحقا” بذمة العراق .  ومعنى كل ذلك أن(80) مليار دولار تبقى معلقة على أطراف المفاوضات والحوارات الثنائية وما ستؤول اليه مواقف الدول الدائنة ورغبتها الجادة في ارساء دعائم النظام الجديد ودعم تجربة التحولات الديمقراطية،خاصة وأن دولا”أوربية(روسيا،فرنسا) أعلنت عن أطفاء 95% من ديونها وبادرت الولايات المتحدة من طرفها الى الغاء ديونها على العراق البالغة (4,1) مليار دولار.
فكل ذلك ماذا يعني؟نعتقد انه يعني:

1-أن جزءا” كبيرا” من ديون العراق هو بالاصل لجهات غير حكومية ويقع تحت وصف الديون ((الكريهة)) Idios debts التي يفترض إلغاءها بفعل أنها تمثل مبالغا” أقترضت وأنفقت لتمويل نشاطات  لاصلة لها بالدورة الاقتصادية، ومع أن هذا المبدأ ليس جديدا” بل يعود الى عام 1898 حين عولجت في ضوءة ديون كوبا وفي عام 1922 ديون كوستايكا ثم أبطل العمل به، منعا” لتكرار الاستدانة أو التماهل في التسديد ،غير ان المؤسسات والجهات الدائنه وخصوصا” IMFوIBRD تتذرع بعدم توفر معايير قانونية دولية لتحديد ما يقع تحت وصف الديون الكريهة من عدمه فقد تستخدم كل القروض في غير أتجاهاتها المقررة أو يستخدم جزء منها فقط بالشكل المتفق عليه فيما تتسرب الأجزاء الأخرى نحو نشاطات فاسدة ! لكن الوقائع تدحض هذا التبرير المبتذل، فقواعد العمل في مجال منح القروض والتسهيلات الائتمانية تقضي بوضع شروط وقيود على الدولة المدينة حتى تستطيع الحصول على القروض وفي الغالب أن الجهات المانحة تعرف جيدا” أوجه الأنفاق في أقتصادات يطوقها الفساد المالي والاقتصادي،وتغض النظر عن الطريقة التي يتم التعامل بها مع القروض في تقديمها عندما تجد أستجابة تامة لشروطها،ومعنى ذلك أن الجهات المانحة ملزمة بألغاء  الديون العراقية التي تقع تحت هذا الوصف.

2- ثم أن ديون العراق بعد الخفض تمثل الجزء الاكبر الذي ستدور حولة المفاوضات والى أن يجد العراق مخرجا” تاما”، سيلقي هذا الجزء بأعبائة على الموازنة ويبقى جزءا”من عائدات النفط موجها” نحو تلبية مطالب الدول الدائنة، وستكون المهمة شاقة الى((حد ما)) خاصة أذا بدأت دول معينة بالمماطلة في أعتماد تسوية نادي باريس، وحتى يصل العراق الى هدفه ينبغي على الجهات المانحة قبول مبدأ وقف التسديد أو تعليقة لفترة من الزمن

3- أن أتفاق نادي باريس يمثل فرصة مؤاتية لتفعيل مطالب الدول الاكثر دائنية للنظر في الديون المستحقة عليها وفقا” لما أتفقت علية دول نادي باريس سيما وأن مؤسستي IMFوIBRDتتجهان لتقبل الافكار الدولية حول التسوية كحل أفتراضي سيجنب الاقتصاد العالمي كوارثا” أقتصادية فيما لو عجزت الدول المدينة بالتمام عن الايفاء بالتزاماتها المالية.

4- على المدى القصير لاينتظر من أتفاق خفض الديون العراقية ان يترك تأثيرا” حاسما” على الوضع الاقتصادي في العراق وعلى نحو ينعكس أيجابيا” على وضع الموازنة الحكومية والميزان التجاري أو يؤدي الى تحسين مستويات المعيشة، فمثل هذه الافتراضات مستبعدة،غير أن السماح للعراق بالتحرر من قيودة عبر الاستمرار بالعمل على رفع نسبة خفض الديون أو ألغاءها بالكامل سيجعل الاقتصاد العراقي يتمتع بفرص أكبر للتطور وبناء سياسات أقتصادية تستوعب الاهداف الواقعية للتطور المقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى