الاقتصادية

دعم الزراعة فى العالم المعاصر

دعم الزراعة فى العالم المعاصر

دعم الزراعة فى العالم المعاصر

سمير أمين

2015 / 4 / 2

تبدو إجراءات دعم الإنتاج الزراعي، ودخول المزارعين، كمتاهة معقدة من النصوص المتداخلة التى يمكن لغير المتخصصين أن يضيعوا بداخلها. ومع ذلك فهذه المجموعة من الإجراءات تمثل سياسات متماسكة نسبياً. ومن المعروف أن 90% على الأقل من هذه الاعتمادات قد أنفقته بلدان الثالوث (الولايات المتحدة وكندا، والاتحاد الأوروبى، واليابان).
و”ترتب” منظمة التجارة العالمية الإنفاق العام فى مجال الزراعة إلى أربعة أنواع، تطلق عليها الصناديق: الأحمر والبرتقالى والأزرق والأخضر.والمعيار لهذا الترتيب هو أثر ذلك الإنفاق على الإنتاج، وبالأخص على “أسعار” المنتجات الزراعية (سعر الإنتاج، وسعر البيع فى المزرعة، وسعر البيع للمستهلك). وتضع المنظمة فى الصندوقين الأحمر والبرتقالى الإنفاق الذى تعتبر أنه يؤثر على الأسعار المعنية، وتضع فى الصندوقين الأزرق والأخضر، الإنفاق الذى تعتبره غير مؤثر على الأسعار.
وهكذا نجد:1) فى الصندوقين الأحمر والبرتقالي124 مليار دولار ;2) فى الصندوقين الأزرق والأخضر162 مليار دولار.
وهذا الترتيب يكتسب أهمية خاصة، لأن إجراءات “التحرير” (الليبرالية) للزراعة، التى تهدف إلى معاملة الإنتاج الزراعى كأى إنتاج سلعى آخر، لا تمس سوى الإنفاق من الصندوقين الأولين، والتى ينبغى تخفيضها بالتدريج، طبقاً لبرنامج معين يُتفق عليه فى إطار المفاوضات داخل منظمة التجارة العالمية. وهكذا تحتفظ الدول بحرية الإبقاء على إنفاقها الأزرق أو الأخضر، أو حتى زيادته، وهو الواقع منذ ما يقرب من عشر سنوات.
وتقسيم الإنفاق بين نوعى الصناديق المشار إليها، يضع الولايات المتحدة فى مواجهة صريحة مع الاتحاد الأوروبي، وكندا، واليابان من الجانب الآخر. إذ لا نجد فى الصندوقين الأحمر والبرتقالى إلا 12% من الإنفاق العام للولايات المتحدة، فى حين يندرج فى هذين الصندوقين، 55% من إنفاق الاتحاد الأوروبي، و48% من إنفاق كندا، و54% من إنفاق اليابان. وبعبارة أخرى، سيكون على أوروبا وكندا واليابان أن تقوم بالجهد الأكبر للتواؤم مع عملية التحرير التى تتطلبها منظمة التجارة العالمية، وليس الولايات المتحدة.
والتعريفات التى تم على أساسها تحديد الترتيب المشار إليه أعلاه، قد جرى الاتفاق عليها بعد “مفاوضات” فى الإطار شيه السرى لغرفة التجارة الدولية (نادى الشركات متعدية الجنسية)، وتبادل الآراء بين الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، والتى لن تخرج عن إطار الدائرة الضيقة للموظفين المشاركين فيها. فإلى جانب السرية الكبيرة التى تطوق المشكلة، يبقى السؤال: لماذا وافق الأوروبيون على “طريقة” تضعهم فى موقف أضعف تجاه منافسهم/شريكهم الرئيسى وهو الولايات المتحدة؟ ليس عندى شخصياً إجابة عن هذا السؤال سوى المتطلبات السياسية “للإمبريالية الجماعية للثالوث”.
وعلى أى حال، فهذا الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، والذى يحتل حيزاً رئيسياً من المناقشات داخل منظمة التجارة العالمية، يجب ألا يثير اهتمام الجنوب فى الواقع، فإن انفتاح أسواقه لمصلحة هذا الجانب أو ذاك من الفريقين المتنافسين، لن يقلل من الأثر المدمر لهذا الانفتاح على اقتصاد الفلاحين فى بلدانه.
المعايير التى يقوم عليها ترتيب منظمة التجارة العالمية، لا تقف على قدميها.وفى الواقع، وكما يقول جاك برتيلو (الزراعة، عقِب أخيل للعولمة)، فالصناديق الأربعة لا تعدو كونها صندوقا واحدا يمكن تسميته بالصندوق “الأسود”. ففحص مجموع الإنفاق المدرج بشكل مصطنع فى أى من الصناديق الأربعة، هو وحده الذى يمَكِّن من فهم منطق السياسة الزراعية المتبعة، وأهدافها، والمصالح التى تخدمها، ووسائلها. أما تقسيمها إلى “أنواع” يُزعم أنها مختلفة، هو نتاج شبه التحليل ـ البيزنطى ـ للاقتصاد المجرد للعالم الخيالى.
ومثل هذا التحليل لا يختلف كثيراً عن الجدل حول “جنس الملائكة” أو “لون اللوغاريتم”.وفى الواقع، فإن جميع هذه النفقات لها أثرها الواضح على الإنتاج، وحجمه، وكفاءته، وبالتالى على سعره. إن هدف هذه النفقات هو بالضبط هذا الأثر، وهو ما تحققه فعلاً.
وبعض أمثلة على أنواع الإنفاق المسماة بالخضراء توضح هذه الحقيقة بكل جلاء.
المعونة الغذائية للفقراء، وهى كبيرة فى الولايات المتحدة ـ أكثر من 20 مليار دولار ـ وبدونها يتعرض 10% من السكان للجوع، تخلق سوقاً إضافية للمنتجات الزراعية (فبدونها يبقى طلب هؤلاء الفقراء غير مدعوم بقوة شرائية). فهذا الإنتاج الإضافى، والثمن الذى تدفعه الحكومة للمزارعين، لهما أثر مباشر واضح على الزراعة. ويمكن الدفاع عن هذه المعونة ـ أو توزيع الحليب مجاناً على تلاميذ المدارس ـ بحجج تتعلق بالتضامن الاجتماعي، بل بتحسن كفاءة العمال بفضل التغذية الجيدة. ولكن لا يمكن إنكار أن هذا الإنفاق العام له تأثير على الإنتاج والأسعار.
وبعض أشكال الدعم الأخرى ـ المعتبرة خضراء (أو زرقاء) ـ هدفها الصريح هو الحد من الإنتاج (لخفض الإنتاج الزائد)، مثل التعويض عن ترك مساحات من الأراضى بدون زراعة. وهناك أشكال مشابهة لامتصاص الإنتاج الزائد بتكوين مخزونات عامة أو خاصة، تُشترى بأسعار محددة. وكلا هذين النوعين له أثره على الإنتاج والأسعار.
والمساعدات الأقل ارتباطاً فى الظاهر، بالإنتاج والأسعار، هل هى حقيقة كذلك؟ ونذكر من هذا النوع الدعم للمزارعين بهدف رفع دخلهم لمساواته مثلاً بدخل العاملين بالمدن (الأجراء أو الطبقات المتوسطة)، أو غير المباشرة (مثل خفض الضريبة على الدخل)، أو حتى مباشرة. ومعادلات التوازن العام ـ التى يشير إليها الاقتصاديون التقليديون باستمرار ـ توضح المشاركة فى تحديد توزيع الدخل، والأسعار النسبية، لأن إعادة توزيع الدخل تغير تركيب هيكل الطلب. وعلى هذا فمنطق الاقتصاد التقليدى يؤدى بنا إلى الاستنتاج بأن التدخلات لها فعلاً تأثير على الأسعار.
مما سبق يتبين أن فكرة “الارتباط” أو “عدم الارتباط” التى تميز بين الأشكال المختلفة من الإنفاق العام من جهة، والأسعار من الجهة الأخرى، لا تقف على أى أساس سليم. بل هى من نتاج الخيمياء (كيمياء تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب) “للاقتصاد المجرد”، وتستخدم فى الواقع كحجة تخضع للظروف، ويمكن استخدامها فى اتجاه أو فى عكسه وفقاً للرغبة فى تأييد هدف معين أو عكسه من السياسات الاقتصادية.
طبيعة ومدى السياسات الزراعية لبلدان الشمال وتضع منظمة التجارة العالمية طبيعة ومدى السياسات الزراعية لبلدان الشمال، وخاصة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى فى الإطار المحدد بتأثير الدعم المتمثل فى النفقات العامة المخصصة للزراعة، على التجارة العالمية للمنتجات الزراعية.وفى الواقع، فإن هذه السياسات لها بعد آخر، فهى الوسيلة التى بنى بها الشمال الميزات التى يمتلكها فى مجال الزراعة (وفى غيرها من الأنشطة الاقتصادية) على منافسيه المحتملين من الجنوب.
والميزات التى يتمتع بها الشمال فى هذا المجال (وفى غيره كذلك) إذن، هيكلية. وفضلاً عن ذلك، فنجاح السياسات الزراعية لأوروبا (السياسة الزراعية الأوروبية) وللولايات المتحدة، أدت لزيادة القدرة الإنتاجية لهذه البلدان بما يتجاوز كثيراً قدرة أسواقها الداخلية على الاستيعاب، وهى لذلك تلعب دوراً عدوانياً من أجل تصدير فائض إنتاجها الزراعي. وعليه فالضغط “لفتح” أسواق الجنوب أمام الصادرات الزراعية والغذائية للاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، الذى تعمل منظمة التجارة العالمية كأداة لتحقيقه هو الاستجابة لهذا الهدف.
< وعلى ذلك، يجب النظر فى هذا الإطار، إلى عملية “الإغراق” التى تضاف إلى المزايا البنيوية لزراعة الشمال. وهذه الأساليب متنوعة، وبعضها واضحة، وبعضها أقل وضوحاً، ومنها:

< الواضحة: الدعم المباشر للصادرات؛
< أقل وضوحاً: تصفية المخزونات الخاصة والعامة المكوَّنة، فى الأسواق العالمية لامتصاص فائض الإنتاج، بأسعار هامشية، يمكن الطعن فى مصداقيتها، ولكن يُدَّعى بأنها “الأسعار الحقيقية” وفقاً “لأسعار السوق العالمي”.
< غير معترف بها، ولكن حقيقية: “المساعدات الغذائية” ـ وكثيراً ما يقال إنها عمليات “إنسانية” ـ التى تضعف قدرة الزراعة المحلية على مواجهة العجز.
وعلى أى حال فبلدان الجنوب، من حقها أن تقوم بإجراءات للحماية حتى إن كانت قاسية (وقف حق الاستيراد، أو حتى فرض الحصص)، ولا يمكن إنكار حقها هذا فى مواجهة عدوان لا يقل قسوة. والقطن ذو مغزى كبير فى هذا الصدد.
فهل يمكن لهم الاستفادة من سياسة الإغراق لدول الشمال فى بعض الحالات (عندما يكون هناك عجز بنيوى فى الغذاء) لسد العجز بتكلفة منخفضة؟ الخطر هنا يكمن فى أن “الفرصة” المتاحة ستؤخر الجهود اللازم اتخاذها لتحقيق الإصلاحات الضرورية فى مجال السياسات الزراعية القومية.
ـ وتشمل السياسات الزراعية المتصارعة ـ سياسات الشمال كما هى عليه، والسياسات التى يمكن للجنوب اتباعها (وهو ما لا تقوم به أغلب تلك البلدان) ـ جوانب كثيرة غير تلك الواردة تحت العناوين: “أسعار (ما يقال إنه السوق العالمي)”، و”الرسوم الجمركية”، و”الدعم المباشر للتصدير”.
عنوان “الأسعار العالمية”: لقد كررنا كثيراً بما لا يترك مجالاً للاستزادة، أنها لا تمثل “الأسعار الحقيقية”، بل هى بالأساس أسعار هامشية، حيث إن تجارة المنتجات الزراعية والغذائية العالمية لا تتعلق إلا بجزء صغير من الإنتاج (حوالى 10%)، ومن هنا فإن مجموع السياسات الزراعية تجعل هذه الأسعار على الهامش ولا تمثل التكلفة الحقيقية، فهى تعبر عن ظروف خاصة. ومرة أخرى نؤكد أن وصف هذه الأسعار بأنها “حقيقية” كما يدعى لبراليو منظمة التجارة العالمية لا يقوم على أى تحليل علمي، بل هو يفتح المجال لجميع التلاعبات السياسية المرغوبة.
وهناك أوجه أخرى للسياسات العدوانية للشمال يجب أن تؤخذ فى الاعتبار، فأوضاع الاحتكار التى تعمل الرأسمالية الزراعية على تقويتها بحجة “حقوق الملكية الفكرية والصناعية”، بفرض البذور المختارة التى تصنعها شركات هذا القطاع، يجب أن ترفضها دول الجنوب، مع غيرها بشكل حاسم. وهذه القضية تمثل أحد أوجه مشكلة البيئة، حيث تمتد الممارسات التى يدافع عنها اللبراليون فى هذا المجال من النهب الصريح للمعارف التى اكتسبها الفلاحون فى بلدان الجنوب عبر مئات السنين، إلى تدمير التنوع البيولوجي، وحتى تدعيم اختيارات قد تكون لها أخطار جسيمة فى المستقبل (مثل النباتات المعدلة جينياً).
ـ ولنكن واضحين، فالأمريكان والأوروبيون (والآخرون) لهم الحق المطلق فى بناء السياسات الوطنية، والاتحادية التى اختاروها. ولهم الحق فى حماية صناعاتهم وزراعاتهم؛ كما أن لهم الحق فى وضع أنظمة إعادة توزيع الدخل التى يرون أنها تتوافق مع متطلبات التضامن الاجتماعي. وبالتأكيد، هناك عدة أبنية سياسية ممكنة يمكن أن تكون محل جدل، وصراعات سياسية فى داخل مجتمعاتهم بهذا الشأن، وهذا أبسط ما تقضى به الديمقراطية.
أما المطالبة بتفكيك هذه السياسات باسم اللبرالية الخيالية التى لم توجد أبداً فى الواقع، ولن توجد، فأمر لا معنى له، فهل سنطالب بأن تخفض البلدان المتقدمة من مستواها فى التعليم والتدريب، وقدرات البحث والتجديد لديها لتتمشى مع البلدان الأقل تقدماً؟ وذلك بحجة أن المزايا التى يتمتعون بها فى تلك المجالات تعطيهم ميزة فى التجارة العالمية؟
ومع الأسف، فالاستراتيجية التى اختارتها دول الجنوب بصفة عامة، وهى أن يحافظ الشمال على “قواعد اللعبة الليبرالية”، ليس لها أى معنى، وهى مع ذلك التى “يوصينا” البنك الدولى والآخرون بها. وربما كان السبب فى ذلك هو بالضبط لكونها غير فعالة، ولن تكون، فالليبرالية الحقيقية لم توجد أبداً إلا فى الخيال.  *

* عن. الحوار المتمدن

زر الذهاب إلى الأعلى