رؤية فى قضايا المرأة
رؤية فى قضايا المرأة
د. سمير أمين
2019 / 3 / 10
(1) قرأت العدد الأول من مجلة «التحالف»؛ وأقر هنا أننى وجدت اختياره وعرضه للمادة المتوافرة يستحق التهنئة، بما فيه الملف المخصص للنساء المصريات، المثير للعطف الحميم. بيد أن هذا الملف يفتقر بيان تحديد مطالب النساء، وماهى تلك المطالب التى يدعو الحزب إلى مساندتها، بل تطويرها وتدعيمها باقتراحات إضافية نابعة عن رؤية الحزب نفسه لقضايا المرأة.
ثمة تنوع ملحوظ وطبيعى فيما يتعلق بمطالب النساء. فهناك مطالب تخص توصلهن إلى خدمات ذات أهمية واضحة لتوفير الراحة المحترمة فى الحياة اليومية مثل التعليم والرعاية الصحية وتحديد شروط العمل (اجازات عطلة الحمل والولادة الخ). كما ثمة مطالب حقوق المواطنة.. الخ. علما بأن مختلف المنظمات التى تنشغل بهذه المجالات – لاسيما منظمات النساء- تعطى أولويات متباينة لمختلف مقومات مثل هذا البرنامج العام للمطالب، وفقا لتمثيلها فئات مختلفة من المجتمع النسائى. فهناك مطالب تهم أكثر الفئات الشعبية (النساء العاملات فى الصناعة، الفلاحات) وأخرى تهم بدرجة أقوى الفئات الوسطى المتعلمة (الموظفات، صاحبات المهن الخ). وأتخيل أن الحزب يرحب بفتح مجالات للنقاش فى هذه الأمور مع المنظمات النسائية وأنه – فى الغالب- يساند نضالها.
ولكن هناك أيضًا مجالاً خاصًا يتعلق بالأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، حضانة الأطفال، الإرث الخ) لايقل أهمية، علمًا بأن حرية النقاش فى تناول هذه الأمور تتصدى لعوائق قاسية ترجع إلى طابعها يمس الشريعة، أكانت الشريعة الاسلامية أم الشرائع الخاصة بأحوال المسيحيات، وهى شرائع لعل الجمهور المتدين يعتبرها ذات طابع مقدس.
وبالرغم من ذلك لستُ مقتنعا بأن النساء المصريات فى أغلبيتهن أو أقليتهن، بل وكذلك الرجال، على الأقل البعض منهم، يرضون بتأويلات الشرائع الجارية والتصرف وفقا لها.
وأعتقد أن ثمة واجبا يقع على عاتق جميع القوى السياسية والأيديولوجية والثقافية التى تسعى إلى دفع المجتمع فى سبيل التقدم والتحرر، ألا وهو أنها تجرؤ على فتح الجدال فى هذه الأمور الشاقة.
(2)
ليس بودى الاسترسال فى نظرة تاريخية لقضية تغطى قرونًا. فسوف اقتصر على بيان مشروع تحديث مصر الذى اجتهد من أجل انجازه حكام البلاد خلال القرن والنصف قرن الممتد من 1805 (محمد على) إلى 1952 (ثورة يوليو)، قبل تناولى مشروع الناصرية الذى تلى.
كان الفكر التقليدى السابق على الرأسمالية فى طريقه للأفول خلال القرن ونصف القرن المذكور. فأصبحت مؤسسة الأزهر التى احتلت مكانة المركز فى هذا الفكر باهتة فى مواجهة أنوار المدارس ثم الجامعات الحديثة النشأة، والتى قامت وحدها بتعليم وتدريب الطبقة الحاكمة الجديدة بحيث أن «المطربشين» صاروا يحلون محل «المعممين» .
خلقت هذه التطورات ظروفًا ملائمة لفتح جدال حول العلاقة بين الدين والدولة، وبالتالى حول دور الشريعة الإسلامية فى إدارة المجتمع. وصار هذا الحوار – حوار الطرشاء الى حد كبير – بين معسكرى «التحديثيين» و «السلفيين» جدالاً عنيفًا.
اكتفى هنا بلفت النظر إلى الطابع القاصر لانجازات التحديث فى ظروف اتسمت بتحكم التوسع المعولم للامبريالية الغربية. الأمر الذى يفسر بدوره وهن وخجل البورجوازية المصرية الليبرالية الناشئة، وبالتالى إلى احتفاظ معسكر السلفيين التسلط على الأذهان.
وانعكس هذا القصور فيما وصفته باجهاض حركة النهضة للقرن التاسع عشر وإنهاءها باهتداء رشيد رضا مذهب الوهابية فتأسيس الإخوان المسلمين.
تقع قضية علمنة الحياة السياسية والاجتماعية فى قلب هذه الإشكالية والتحدى. والمقصود منى هنا هو ضرورة لا مفر منه للقطع مع النظرة التقليدية التى تعتمد على تحكم العقائد والممارسات الدينية الأصل، فى الظاهر على الأقل، واخضاع وسائل ادارة المجتمع لما تقتضيه اخضاعًا شاملاً؛ واحلال محلها مفهوم حديث بفصل احترام العقائد الدينية عن تجليات التصرف فى المجالات السياسية والمجتمعية. علمًا بأن طابع الرأسمالية المصرية المنقوص قد جعل السير فى سبيل العلمنة المطلوب أمرا مستعصيا يتصدى لعوائق حرمة. لم يمنع ذلك بزوغ مبادرات تسعى إلى تجاوز هذه الحدود تجلت فى المواقف الجريئة التى اتخذتها شخصيات مثل طه حسين وعلى عبدالرازق وغيرهما. ولكن هؤلاء الشخصيات الطليعية اضطرت فى نهاية المطاف أن تتراجع فتتخلى عن مشروعهم الأصلى.
(3)
لقد تبلور المشروع الوطنى الشعبوى الذى تلى – والمقصود مشروع الناصرية- فى هذا الإطار الموروث. فكان أمامه الاختيار بين أسلوبين للتحرك. فإما أنه يدفع إلى الأمام مشروع التحديث العلمانى ويدعمه بإعطائه سندا اجتماعيا أقوى يعتمد على الجماهير الشعبية لتعويض قصور البورجوازية، أم أنه يبحث عن حل وسط فيسعى إلى مهادنة النظرة التقليدية.
وقد اختار البديل الثانى. ولهذا الاختيار أسبابه الواضحة،
أولاً، الطابع البورجوازى للمشروع. وثانيًا، قرب أغلبية الضباط الأحرار من الإخوان المسلمين وتأثرهم بفكرهم.
وبدلاً من أن يترك الأزهر يسير فى طريقه للتهميش، قرر عبدالناصر «تحديثه». ظنًا منه ــ أنه يستطيع التحكم فيه على الدوام، بل واستفاد منه. وشجعه على ذلك تقديم البعض تفسيرات انتهازية تمنح الإسلام طابعًا اشتراكيًا. وهى تفسيرات يمكن عكسها بكل بساطة كما حدث بالفعل حينما تولى السادات زمام الحكم.
كان التوجه التقدمى الصحيح، يقضى بترك الدين وتفسيراته للمجال الدينى البحت، وإبعاد الجدل السياسى عن هذا المجال بالمرة. وكان مثل هذا الموقف سينتج، فى رأيى، ثماره فى داخل المجال الدينى ذاته، بترك التفسيرات الدينية المختلفة (تقدمية ورجعية) تتفاعل بحرية داخل مجالها الخاص. فتلخصت عملية «تحديث» الأزهر بتقديمه مبانى ضخمة، وقاعات للمحاضرات، ومساكن للطلبة ومطاعم، فى تقليد لهيئات التعليم الحديث، ولكن دون أى تغير فى طبيعة التعليم أو روحه. فظل تعليمه قائمًا على حفظ وتكرار النصوص المقررة التى يقدمها الشيخ الأستاذ للطلبة، الأمر الذى يحول دون تكوين انفتاح الفكر الناقد المطلوب لمواجهة تحديات العصر.
هكذا حصل التقليديون على منبر، وعلى شرعية لم تكن لهم من قبل. والنتيجة مع الأسف، نراها بجلاء، فتحول التحديث المزيف إلى عكسه. وشجع ترويج الفكر الظلامى – ولاسيما فى تجليه المتخلف، الأمر الذى أنتج بدوره تدعيم نفوذ الخليج فى الحياة السياسية المصرية – وكذلك صعود الإخوان المسلمين. علمًا بأن هذه المنظمة تمثل الرحم الذى خرج منه جميع الحركات السلفية ومنها العصابات الإرهابية.
وبالعودة إلى قضية الأحوال الشخصية أقول أن الإصلاح الذى أنجزته الناصرية فى مجالها قد أدى هو الآخر إلى نتائج كارثية مماثلة.
لقد ألغى «إصلاح القضاء» المحاكم الشرعية، ونقل قضاء الأحوال الشخصية إلى المحاكم المدنية، مع الاستمرار فى تطبيق أحكام الشريعة فى هذه القضايا. وبدلاً من الوضع الذى كان فى السابق يحفظ التشريع فى مجموعه، باستثناء الأحوال الشخصية، فى إطار القانون المدنى، فتح الأبواب أمام الظلاميين، الذين يعملون على توسيع نطاق تطبيق أحكام الشريعة على بقية مجالات القضاء. فساهم ضم المحاكم الشرعية للمحاكم المدنية، فى تدمير الطبيعة المدنية لهذه الأخيرة، وبالتالى فى الدولة المصرية. لقد ساهمت الناصرية فى تقوية التداخل بين الدولة والدين، بدلاً من إضعافه، وهكذا عاد القضاء المصرى بفضل هذا «الإصلاح» إلى ظلامية العصر العثمانى.
وقد أدت هذه الإصلاحات المزيفة إلى إساءة الأمور حيث أصبحت سندًا للمطالبة بأن تصبح الشريعة المصدر الوحيد للقانون بدلاً من كونها أحد المصادر له فقط. وبالتالى أدى أيضًا إلى إساءة أوضاع النساء فى المجتمع. فتم فرض الحجاب – على سبيل المثال الرمزى- فى هذا السياق.
يقع اقتراحى بالتحديد فى مواجهة هذا التطور المأساوى نحو الرجعية السلفية. ويقوم نقيضًا للإصلاحات المزيفة المذكورة. أطرح إذن المقولة الآتية: كان يقتضى الحل التقدمى وضع قانون حديث للأحوال الشخصية وإعطاء الحق للمواطن للاختيار بين تطبيق الشريعة فى المحاكم التقليدية أو القانون الحديث أمام المحاكم المدنية.
ألفت النظر إلى أن مثل هذا الإجراء يضمن تمامًا احترام رغبة متابعة الشرعية لمن يشاء. بيد أننى مقتنع أيضًا أن اختيار المواطنين سوف يتجه بالتدريج نحو القانون المدنى الذى يمنح للنساء حقوقًا إضافية تكرس موقعها فى المجتمع، فيفتح السبيل نحو مزيد من التقدم فى هذا المجال.
طرح حلمى شعراوى فى مقاله المنشور فى «التحالف» فكرة اعتبرها أنا ذات أهمية حاسمة، حول ضرورة إرساء «ثقافة الحرية» فى صفوف المواطنين. علما بأن تكريس الإنجازات السياسية والاجتماعية وجعلها دون رجعة منوط بمدى إرساء ثقافة الحرية فى المجتمع.
وكانت مصر الحديثة قد نشأت فى السير على طريق اهتداء ثقافة الحرية بين عام 1920 وعام 1950. فصار القطبان البورجوازى الليبرالى المائل الى الديمقراطية (الوفد) من جانب، والشيوعى من الجانب الآخر يحتلان مقدمة المسرح بينما أخذ التيار السلفى فى التوارىء. إلى أن قام ناصر بقلب اتجاه التطور؛ فألغى حضور القطبين المذكورين بالعنف، وبذلك فتح السبيل لعودة السلفية.
فعلى المستوى الثقافى، كانت الناصرية رجعية بدرجة عميقة، ومن الصحيح أن هذه الرجعية كانت مسيطراً عليها فى حياة عبدالناصر، ولكن الدودة كانت تأكل الثمرة من الداخل. وبمجرد أن اختار خليفته السادات سلاح الإسلام لتمرير الانفتاح، والكومبرادورية، والاستسلام أمام الإمبريالية، والصهيونية، حتى استطاعت القوى الظلامية، التى كانت قد تغلغلت فى اثنتين من مؤسسات الدولة، وهما التعليم والقضاء، أن تحقق السيطرة شبه الكاملة، ولا أعلم كم من الوقت يلزم مصر، فى أحسن الفروض، للخروج من هذا المستنقع. أما محاولة تبرير هذه الخطوات الكبيرة إلى الوراء بحجة «الخصوصية» التى يدعون أنها «قوة مقاومة ثقافية ضد الإمبريالية الغربية»، فتكاد تكون نكتة وإن كانت مأساوية. فالظلامية لا يمكن إلا أن تخدم استراتيجيات الإمبريالية، وهى لم تكن أبداً، ولا يمكن أن تكون قوة لمواجهة تحدى هذه الأخيرة…. @
@ عن الحوار المتمدن..