سمات الرأسمالية فى روسيا بعد السوفيتية
سمات الرأسمالية فى روسيا بعد السوفيتية
د. سمير أمين
2019 / 8 / 19
توقف تطور النظام السوفيتى بعد انتصار ثورة 1917 عند مرحلته الأولى، مرحلة «اشتراكية الدولة» التى أسس قواعدها لينين ثم ستالين. ثم تحجر النظام عند هذه النقطة حتى أخذ يميل إلى أن يتحول إلى رأسمالية الدولة فى عصر برجينيف. روى برجنيف صعود طموحات الطبقة القائدة المستفيدة من النظام («النومنكلا تورا») إلى أن تحول أعضاؤها إلى رأسماليين أصحاب الملكية على نمط بورجوازية الغرب، ثم اعتمد يلتسين وجورباتشوف على هذه الطبقة من أجل إنجاز «الإصلاحات» المزعومة تحت عنوان جذاب: «إعادة هيكلة النظام وإضفاءه الشفافية». أثبتت التطورات التى تلت فراغ الشعار الذى اختفى وراءه مشروع إسقاط النظام بحاله، لتحل محله رأسمالية منفلتة لصالح بورجوازية خرجت من صفوف النومنكلاتورا.
ارتكب يلتسين وجورباتشوف جريمة «الخيانة»، إذ إن سقوط رأسمالية الدولة صاحبته ردة فاحشة فى مجال الحفاظ على «المصالح الوطنية» لشعوب الاتحاد السوفيتى. فانفجر الاتحاد وأصبحت الجمهوريات المكونة له دولا تابعة. ودخلت روسيا نفسها فى نفق. اعتمدت خطة الإمبريالية على تبنى وصفة «العلاج بالصدمة من أجل تدمير فورى وشامل لمؤسسات الدولة بحيث يصبح المجتمع عاجزاً فى مواجهة الهجوم المنهجى المخطط. وقد ساهمت قطاعات واسعة من البورجوازية الروسية، ومثيلاتها فى الجمهوريات المستقلة الجديدة، فى تنفيذ البرنامج لمعرفتها أن هذا هو ثمن إثرائها السريع.
أولاً: تحول روسيا إلى وضعية تخومية فى النظام الرأسمالى العالمى المعاصر:
تميل المنظومة الإنتاجية الروسية إلى أن تنحصر فى قطاعات إنتاج المواد الخام للتصدير فلم تقم الحكومة بإصلاح القطاعات الصناعية والزراعية وهى قطاعات لا يهتم بها رأس المال الدولى ولا البورجوازية الكومبرادورية الجديدة. بالإضافة إلى إن الحكومة سمحت بتدمير التعليم والقدرات الإبداعية التى كان النظام السوفيتى يحافظ عليها حفاظ العين. ثم تم تفكيك الصناعات التحويلية وبيع أقسام منها بأثمان رمزية وذلك لإقامة «منشآت» تعمل من الباطن لصالح الاحتكارات الأجنبية التى تمتص الفائض المنتج فى نشاطها. ويعتمد نظام السلطة على طبقة «وسطى» جديدة نشأت مع التحول الكومبرادورى. تختلف أوضاع روسيا الموصوفة هنا عن الصين التى رفضت «العلاج بالصدمة» وحافظت على استقلال رأسمالية دولتها .
ثانياً سلطة أوتوقراطية غير مسئولة
يحول نمط الرأسمالية الروسية دون تقدم ديمقراطى، تعبيرا عما تقتضيه ممارسة سلطة الأوليجاركية الكومبرادورية الجديدة. وفى هذا الإطار أقام دستور 1993 نظاما رئاسيا يخفض سلطات الدوما (البرلمان المنتخب) إلى ما يقرب الصفر.
اندرجت سياسة بوتين فى مرحلتها الأولى فى هذا الإطار .ولم يكن «اليمين» الجديد قادرا على تخطى حدود تكوين جماعات صغيرة ترعد بالضوضاء عاجزا عن ايجاد حزب سياسى بالمعنى الصحيح. كما أنه لم يصبح قادرا على بلورة مشروع بديل للسوفيتية يكون متماسكًا ومقنعًا، يصاحبه خطاب أيديولوجى جاذب. فظل هذا اليمين أسيرا لنمط المنحط لرأسمالية المحاسيب.
ظل الحزب الشيوعى يتمتع بدرجة من الشعبية. إلا أنه ظل متجمدا، دون تجاوز حدود الشعارات الموروثة، وبالتالى ظل عاجزا عن مواجهة التحدى الجديد. ثم ظهر على يسار هذا الحزب مجموعات «ماركسية» مجددة ولكن هذه المجموعات هى الأخرى لم تخرجذ إلى الآن- من عزلتها فى حلقات «نقاش» دون كسب جماهيرية.
ثالثا: صعود طموحات إقليمية منفلتة
أنتج سقوط النظام السوفيتى ظروفا ملائمة لانفجار طموحات إقليمية منفلتة. ولئن كانت هذه الطموحات موجودة فى ظل النظام السوفيتى، إلا أن السلطات بذلت المجهود المطلوب بروح من المسئولية، كى لا تنفلت الأمور باللجوء إلى التفاوض (لعله «المساومة») مع القوى المعنية، والعنف إن لزم الأمر. تبخرت روح المسئولية. وصارت كل فئة تدفع مصالحها الخاصة دون اعتبار للمصالح الأعلى. بل أخذت تكتلات الأوليجاركية تستغل الطموحات الاقليمية عندما وجدتها تفيد مصلحتها.
ليست الحركات الإقليمية فى روسيا «قومية» (أو «دينية») الطابع بالضرورة. فهناك على سبيل المثال طموحات إقليمية فى أماكن نائية فى سيبريا بالرغم من كون سكانها من الروس. ولكن هناك أيضا حركات إقليمية ازدهرت على أرضية مطالب قومية، لاسيما فى المناطق الإسلامية (مثل إقليم الشيشان). واستغل العدو الإمبريالى المناسبة للتدخل السافر فى شئون روسيا الداخلية. ثم لجأت السلطة المركزية الروسية إلى استخدام العنف فى مواجهة هذه الحركات واستغلت عمليات الإرهاب التى باشرتها بالفعل بعض هذه الحركات لتبرير رد الفعل العسكرى.
هناك إشارات توحى أن بوتين بدأ يدرك خطورة الموقف. ولاسيما أن العديد من محافظى الأقاليم المنتخبين طبقا ًللدستور قد أصبحوا أطرافا فى الحركات الإقليمية. فأصدرت الرئاسة قانونا يتيح لها حق تعيين موظفين (أسمتهم «مديرو الأقاليم») لهم حق الفيتو ضد قرارات المحافظين. مرة أخرى لا يتجاوز هذا الحل حدود ممارسة الأتوقراطية تفاديا البحث عن حلول صحيحة من خلال التفاوض.