سيكولوجيا الأمل.. والتغيير السياسي القادم في العراق
سيكولوجيا الأمل.. والتغيير السياسي القادم في العراق
د. فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
2016 / 3 / 1
التاريخ البشري إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل بمعطيات التطور المادي للتاريخ!
ارنست بلوخ
…..
…..
ألم يكن التطور الاجتماعي للحضارة برمته، توثيقاً مستمراً للمواجهة المتواصلة والمعقدة بين “رهان” السلطة المستميت على البقاء، وخيار البشر الثابت بديمومة الارتقاء الوعر نحو وعي سياسي أعلى؟! ولذلك ليس جديداً أن تراهن سلطة الدين السياسي الحالية في العراق على الزمن الفيزيائي لبقائها، فيما يتطور الحدث السياسي بعيداً عنها ليبتني جذوره المستقبلية في التاريخ الاجتماعي.
وليس جديداً أيضاً أن تراهن السلطة على ايديولوجيتها القائمة على بث الخوف والعجز واليأس والعدمية والاغتراب، فيما يولد من رحم الحركة الاحتجاجية الحالية، جيلٌ شبابي حرٌّ ما برح يخرج واثقاً متريثاً من عنق زجاجة المأساة العراقية نحو أفق النور والتغيير؛ ايديولوجيته الوحيدة: أملٌ فاضل بوطن مدني وعدالة اجتماعية.
وليس جديداً أن تراهنَ السلطة على تعميق الجهل السياسي وتجذير الوعي الزائف، فيما يتراكم الوعي المعارض البنّاء قطرةً قطرةً في الوجدان العام للمجتمع الباحث عن شرعية جديدة.
وليس جديداً أن تقبض السلطةُ على الدين وتصطنع منه كائناً استعلائياً أساطيرياً لتحمي مصالحها بـ”قدسيته”، فيما يبدأ الناس بتفكيك هذه الكائن الشمولي تدريجياً وإعادته إلى مكانه الموضوعي والحميم داخل البنية الثقافية العامة للمجتمع.
وبالتأكيد، ليس جديداً أن تتهرأ السلطة حد العفن والرثاثة وفقدان البصيرة، فيما يشرع الناس باستعادة حقهم التاريخي، أي دولة المواطنة والعقد الاجتماعي.
الأمر الجديد الوحيد هذه المرة، أن السلطة تبدو مدمنة على الرهانات المسبقة فقط، ولا تبدي أي محاولة واقعية آنية لإنقاذ نفسها جزئياً على الأقل، فيما الحركة الاحتجاجية تبدو مصرة على إبداء أقصى درجات الكياسة الديمقراطية والروح السلمية المدنية والأداء التنويري الناصح.
فبالرغم مما يبدو عليه المشهد السياسي العراقي من بطء وتردد وإحباط، وبالرغم من كل الآلام المتراكمة والخيبات المتوارثة، أمسينا اليوم نعيش لحظة مستقبلية فريدة ومليئة بالأمل الموضوعي والرجاءات السامية، إذ ما برحت عوامل التغيير تتجذر كل ساعة، لتورق في خارطة الغد القريب.
فالسلطة المستبدة عبر التاريخ لا تفقه أن ثمة قوانين تضبط السلوك الاجتماعي وتؤطره في مآلات لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. ولذلك فأن أقصى ما تستطيع فعله هو تأخير التغيير عبر إصرارها على الانغلاق البنيوي حيال الإصلاح السياسي، دون أن تدرك أن تأخيره سيعني دماءً غير ضرورية سوف تسيل لحظة التحول الكبرى!
رهانات السلطة وخيارات المجتمع!
يحدث التغيير السياسي الجوهري في أي بلد، حينما يتحول الوعي المجتمعي بالمظالم إلى سلوك جمعي مضاد للمظالم، سلمياً أو عنفياً. وهذا التحول قد يستغرق زمناً طويلاً أو قصيراً بحسب درجة تطور النظام الاجتماعي- الاقتصادي، وديناميات الهوية الجمعية، ونمط الثقافة السياسية السائدة.
وفي بلد كالعراق عانى طويلاً وما يزال يعاني من استبداد الريع النفطي وما أفرزه من حكومات فاشية وفاسدة أنتجت ثقافات سياسية خضوعية ورعوية على مدى أكثر من نصف قرن، تطول المسافة بين الوعي والسلوك حد توليد اليأس والقنوط في نفوس الملايين ممن ينتظرون تغييراً حقيقياً يعيد لفكرة العدل شيئاً من هيبتها المهدورة. إلا أن هذه المسافة تبقى قابلة للتقصير والاختزال النسبي بفعل أحداث سياسية نوعية محددة تسرّعُ بعملية نقل التفكير السياسي لعموم المجتمع إلى نقطة جديدة أبعد من سلبية الخضوع وأقرب إلى فعل التغيير.
وتشكّل الحركة الاحتجاجية المدنية المستمرة منذ نحو سبعة شهور، والمتصلة موضوعياً ونشوئياً بانتفاضتي “الكهرباء” في حزيران 2010، و”جمعة الغضب” في 25 شباط 2011، أنموذجاً قياسياً لتحليل حدثٍ سياسي اتخذ صيغة حراكٍ شعبوي أفلحَ في اختزال الزمن السياسي نسبياً عبر إحداث طفرة نوعية في الوعي السياسي السائد، بصرف النظر عما إذا كان هناك قطاف سريع أو بطيء لنتائج هذا الحراك.
وأمام هذا “التهديد” المتنامي لمصالحها المتشعبة في جسد الدولة المتهرئ، أخذت السلطة اليوم تمارسُ – بحكم ثقافتها القدرية الساذجة- سياسة الهروب إلى الأمام نحو الهاوية، بمراهنتها على أمرين أساسيين من بين رهانات عدة سبق التطرق إليها:
– الرهان الأول: إن الحراك الاحتجاجي المدني الحالي الساعي إلى إنقاذ البلاد سلمياً، لا تشارك فيه إلا أقلية محدودة و”غير مؤثرة” من المجتمع، فيما الأكثرية “عازفة” عنه.
– والرهان الثاني: إن مآل هذا الحراك هو اليأس والقنوط والتبدد في نهاية المطاف.
وهي بذلك – أي السلطة- تدفن رأسها في الرمال، وتتخيل “رغبياً” ما تشتهي ذاتياً أن تكون عليه مسارات الأحداث، لا ما ستؤول إليه موضوعياً بوصلةُ التراكم السيكوسياسي.
الأقلية النوعية أكثرية!
لتحليل رهان السلطة الأول على هامشية دور الأقلية، لا بد من التذكير أن حتمية التغيير عبر التاريخ البشري، أبداً لم تحدث بنتيجة الفقر أو الحرمان أو الظلم أو الاستبداد بحد ذاتهم، بل بنتيجة الوعي بالفقر والحرمان والظلم والاستبداد. وهذا الوعي دوماً صنعته الأقلية النوعية العبقرية محركة فكرة الحق والعدل عبر المكان والزمان. أما الأكثرية فغالباً ما تقطف ثمار التغيير لاحقاً، لتلحق به وتصبح جزءً فاعلاً منه. فالأقلية كانت دوماً هي المعنى والنوع وزبدة الوجود البشري ومخترعة الوعي المعارض، فيما كانت الأكثرية غالباً تمثل الكم المتردد أو الكسول أو الخائف أو الانتقامي، أو حاضنة الوعي الزائف الصلب!
والحق إن استمرار الحركة الاحتجاجية السلمية بزخم جيد يتزامن مع إصلاحات سلطوية ودولتية حقيقية متدرجة، كان سيقدم ضمانات ملموسة لإنقاذ النظام السياسي ووضعه على سكة الترميم والديمومة والنجاة. أما انحسار هذا الحراك السلمي في ظل استئساد الفساد السياسي وتغوله النرجسي على مصير البلاد، فيعني أن طاقة الفعل الاحتجاجي ستتخذ مسارات سلوكية أخرى خلال المرحلة المقبلة، لا يمكن ضمان سلميتها أو التزامها بالنهج الصبور غير العنفي. وهكذا فإن أي تناقص في أعداد المحتجين السلميين أو تراجع في عنفوان التظاهرات السلمية، إنما يقدم إشارة تنبؤية مهمة عن قصر عمر ونظر النظام السياسي الحالي.
إن وصمة الفقر التي اقترفتها البشرية حيال ملايين المعذبين من أبنائها هي واحدة من أسوأ تجليات دافع التملك عبر التاريخ، إلى جانب الحروب والاستبداد السياسي والاستئساد على الفئات المستضعفة. ولذا، فإن إعادة توزيع الثروة هو قانون سلوكي حتمي في كل المنعطفات التاريخية ذات الاحتقان السوسيوسياسي الشديد. وحين يتحقق الإصلاح السياسي المطلوب، يستجيب رأس المال لإعادة توزيعه على نحو يضمن السلمية والتطور الهادئ نسبياً لعلاقات الإنتاج المتأزمة. اما اذا اتسع الفقر وتجاوز عتبة الحد الأدنى من الكبرياء البشري دونما إرادة سياسية لتحقيق الإصلاح وتلبية حاجات الفقراء، تصبح عملية إعادة توزيع الثروة أكثر دموية وقسوة وانتقاماً.
والفقر في عراق اليوم أصبح مفهوماً مركباً يستدعي أبعاداً اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية ونفسية متداخلة لإنتاج ظاهرة بشعة جعلت أكثر من 13 مليون عراقي يعيشون في مستوى ما دون الآدمية، يقبعون خارج الزمن الاجتماعي بانتظار معجزة سماوية مستحيلة أو لحظة سياسية مجنونة – ما عادت مستبعدة- للانقضاض على ما تبقى من إرث الدولة الهشة والمفلسة والمفككة.
حين تأبى السلطة أن تمارس حداً أدنى من الإصلاح الاقتصادي والسياسي لصالح المحرومين وتصر على استمرار تكديس الأموال في كفة قادتها وزبائنها، فعليها أن تواجه حداً أعلى من طاقة الإحباط المنفلتة لدى من يمثلون الأكثرية المحرومة المضطرة لخيار العنف، ضمن جدلية إعادة توزيع الثروة ولكن بوسائل الانتقام واعتبار الدولة غنيمة مستباحة.
إن مطالب الاحتجاج السلمي الذي تقوده الأقلية النوعية اليوم في العراق، تمثل الوصفة الشافية الأخيرة لكيفية تفادي تمزيق جثة الدولة على أيدي أبنائها، قبل أن تخرج الأكثرية المحرومة وتملأ المجال العام بخيارها الثأري الذي يستمد شرعيته من مظلوميتها المتراكمة.
اليأسُ أملٌ مؤجل!
أما لتحليل رهان السلطة الثاني على طفح اليأس لدى المحتجين، فيجدر التنويه أن الحاكم الذي يتذاكى لقتل الأمل والإرادة، وإحياء اليأس والقنوط في الحياة السياسية، إنما يحفر قبره بيده. ويبدو أن عقدة “حفاري القبور الذاتية” لم تغادر عقلية من يمسكون بالسلطة في العراق بعد، إذ إنهم لا يعلمون أن اليأس مثل الأمل يصنع التغيير أيضاً، فكلاهما صنعا التقدم البشري. هذه الجدلية النادرة باتت تتفاعل اليوم في العراق على نحو جديد وغير متوقع.
فاليأس يفتح – سيكولوجياً- بوابة إلى الأمل، بل التحدي، حينما تصر السلطة على ازدراء مطالب الناس والاستخفاف بها، وهذا ما بدأ ينمو اليوم. الأمل ليس هاجساً صوفياً، بل عنصراً أخلاقياً موضوعياً فاعلاً في كل معادلات التغيير والإصلاح عبر التاريخ. حتى اليأس هو أمل مؤجل.
يقول فيلسوف الأمل “ارنست بلوخ” (1855- 1977)م: «الغد يحيا في اليوم، والناس تتطلع إليه على الدوام..»، متبنياً فلسفة “ليس– بعد”، إذ يرى أن البشر كانوا دوماً يتحركون بتأثير فكرة أن أفضل ما يرتجونه من أوضاع لم يتحقق بعد، وأن تاريخهم إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل -ببعديه الأنثربولوجي والانطولوجي- بمعطيات التطور المادي للتاريخ.
وقبله كان “كارل ماركس” قد أطلق نبوءته الملهمة: «الحركة الداخلية للنظام القائم وتفاعلاته الخارجية تولد نقيضه في أحشائه. وينمو هذا الجنين وينضج إذ يأخذ النظام القديم مداه. ويزداد التوتر بينهما في داخل النظام القائم حتى يصل حداً لا يعود عنده النظام القائم قادراً على احتواء القوى التي تحمل بذور النظام الجديد. عند ذاك، تفجّرُ هذه القوى النظامَ القديم من الداخل وتقوض أركانه مشيدة النظام الجديد على أنقاضه ومن الدمج الجدلي بين عناصره».
قد تبدو آفاق التغيير اليوم مغلقة أو مضببة، لكن “الأمل” ينخر ببطء ليفتت صخرة العقم، هناك عميقاً في لب قوانين التطور الاجتماعي. ولذلك لا يجدر الكف عن التفاؤل الهادئ أمام مشهد القيم المدنية العقلانية وهي تداعب رويداً رويداً القشرة الدماغية لملايين العراقيين، وبضمنهم فئات مهمة لمتدينين يختزنون النزعة اليسارية في رؤيتهم الأخلاقية لشكل الدولة العادلة والوطن الموحد.
هذا المشهد المتنامي إنما يوجه رسالة واثقة إلى المتأسلمين “الآمنين” في استرخائهم: «ثمة مفاجآت موضوعية بانتظاركم، ذلك إن زمن التغيير بات ينهش ببطء – ولكن بثبات- ساعاتكم المتوقفة على توقيتات الماضي الرث!».
بانتظار يسار جديد!
الفرد العراقي – مدنياً كان أم إسلامياً- حين يريد أن يزدري السلطة السياسية الحالية، بات يفعل ذلك – وهو يفعله كثيراً- دون أن يعتريه أي شعور بالذنب أو تأنيب من ضمير؛ بل أنه بات يشعر بتقصير ضميري إنْ لم يفعل ذلك بحماسة شديدة؛ بمعنى أنه فقد الرغبة بإيجاد أي مبررات تسبغ المقبولية على النظام السياسي، وهذه ميزة أو فضيلة ينفرد بها المجتمع العراقي اليوم بالمقارنة مع مجتمعات أخرى في الشرق الأوسط ما تزال تراوح بين كره السلطة المستبدة و”التعلق” المَرَضي بها لأسباب تتصل بتطورها السيكوسياسي.
إن تنامي وانتشار هذه النزعة النفسية العابرة للهويات الفرعية، بازدراء السلطة، يعني أن ثمة شرعية سياسية أخرى غير معلنة وغير محددة المعالم بعد، باتت في طور التكوين الذهني لدى الفرد العراقي، مثلما هي في طور التكوين السوسيوسياسي العميق، تتهيأ لتحل تدريجياً محل الشرعية المتهرئة للسلطة الحالية. الأمر هنا يشبه الأظفر الجديد حين يبدأ بالنمو السري والبطيء من أعماق اللحم ليحل تدريجياً محل الأظفر القديم المتضرر، حتى تحين لحظة الاستبدال النهائية.
هذا الاستبدال المنتظر لا بد أن يعاني من التلكؤ والتردد ريثما تنضج شروطه السيكولوجية الموضوعية، إذ أن المسافة بين النزعة الرافضة والسلوك الرافض ما تزال طويلة نسبياً بسبب حالة العجز والارتهان والعدمية والإفقار التي يعاني منها المجتمع السياسي في العراق منذ ما يقارب من نصف قرن. واكتمال هذا النضج إنما أصبح مسألة وقت فحسب، بحكم إصرار السلطة المنغلقة على مأسسة فسادها من جهة، وتنامي الوعي الشعبي بزيفها وهشاشتها ووقتيتها من جهة أخرى.
فالعراق اليوم يفتقر إلى وجود مجتمع سياسي مستقر المعالم، بل هو خليط من ولاءات سياسية ما قبل مدنية متناحرة ذات طابع ديني ومذهبي وعشائري وعِرقي؛ وبالتالي فإن انتقاله من مرحلة الدولة الهشة الفاسدة فاقدة الشرعية، إلى مرحلة الدولة المؤسساتية الرشيدة مالكة الشرعية، لا بد أن يستند إلى تحقيق توافقات سوسيوسياسية بين تلك الولاءات ما قبل المدنية. وهذه التوافقات لن تنجزها العملية السياسية المغلقة للسلطة الكومبرادورية المتأسلمة الحالية، بل سينجزها -واقعياً وموضوعياً- يسارٌ جديد يكون قادراً على إنجاز تماهي وطني وجداني جمعي بفكرة “العراقوية”، مرتكزاً في دينامياته إلى النزعة المطلبية العامة باستعادة العدل وصيانة الكرامة الآدمية في مجتمع جرى تعريضه إلى أقصى درجات الظلم والإذلال.
ولا يقصد باليسار الجديد هنا أحزابٌ سياسية أو تنظيمات اجتماعية أو تيارات ايديولوجية متحالفة بعينها كما هو حاصل في بلدان أخرى استكملت البناء المدني لمؤسساتها الدستورية والسياسية، بل هو تعبير توصيفي عن قرب بزوغ ثقافة سياسية عقلانية عامة تؤمن بجدوى ومشروعية وضرورة مشاركة الفرد – أيا كانت نزعته الايديولوجية- في صنع الحدث السياسي على نحو يضمن شكلاً من أشكال العدل الاجتماعي والسلم المجتمعي والهيبة الوطنية. الحديث هنا يجري عن يسار ديموغرافي جديد ينشأ عن نزعات سوسيوثقافية مؤيدة لفكرة الدولة المدنية، بدأت بالبزوغ والانتشار لدى فئات سكانية عراقية مهمة ومؤثرة ممن يصنفون عادة ضمن إطار “المدنيين” أو “المتدينين” على حد سواء.
تشير جدليات الوضع العراقي اليوم إلى أن قسوة الإسلام السياسي وفساده العلني خلال أكثر من عقد من الزمن، دفعا التدين الاسلامي السلوكي العام للمجتمع – تمييزاً عن التدين السياسي التعصبي- إلى النأي عن فكرة أسلمة السياسة، والسعي عكس ذلك أي باتجاه تمدينها وتكنقرطتها ضمن مناخ نقدي متصاعد أساسه جدلية الظلم والعدل. فالجموع المتدينة كانت وستبقى تبحث عن ملاذ روحي تعويضي في طقوسياتها، ومع ذلك بدأت تفكر أن اللاإسلاموية واللاطائفية واللاعرقية واللامناطقية هي معايير جيدة لدولة منتظرة عادلة. وهذه نزعة يساروية تستحق التوقف والتمحيص.
اليساروية تعني نزعة قيمية جذرية لتغيير العالم باتجاه أكثر اتفاقاً مع العقلانية والعدل والإقرار بوحدة القيمة البشرية. والسوسيولوجيا العراقية اليوم باتت تشهد تطوراً بطيئاً ومتريثاً وواعداً من هذا النوع. النزعة اليساروية قبل أن تكون فكرة سياسية تفرز أحزاباً ونظماً سياسية، هي نزعة سوسيوسيكولوجية جماهيرية بإطار ثقافسياسي شامل، وهي ليست حكراً على العلمانيين واللادينيين، بل هي متاحة سيكولوجياً لكل التصنيفات السياسية للبشر القادرين على التأثر بها ضمن مراحل تاريخية محددة.
وهذه الثقافة السياسية الجديدة لها أن تنبثق على المستوى السوسيوثقافي من التقارب التدريجي الحاصل بين القيم المدنية العدالوية الناهضة والتوجهات الدينية الإصلاحية المستنيرة، ضمن إطار أخلاقي وطنياتي، قد يؤسس في المدى البعيد لمشروع سياسي كارزماتي يستهوي ملايين العراقيين المتلهفين لاستعادة هويتهم الموحدة من جديد.
إن الرافعة الأساسية لهذا المشروع مستقبلاً ستكون نشوء أحزاب وتنظيمات شبابية جديدة تستطيع أن تدمج ايديولوجياتها المتخالفة بفكرة الوطن الهوياتي المشترك، ضمن إطار تنظيمي إجرائي هو الدولة المدنية العاقلة المنتظرة. فتأريخ التطور الاجتماعي للبشرية كان دوماً انعكاساً لروح اليسار – بكل أنماطه الايديولوجية- وهي تدبّ في الجسد المترهل للمجتمعات الخانعة والمحرومة في ذروة لحظات شقائها ومأساويتها.
اليسار بالمعنى النفسي هو قدرة العقل البشري على إعادة تنظيم أولوياته الذهنية وخياراته السلوكية بما يحقق له بقاءً أسمى وأجمل على مستوى الجماعات والأمم. ولن يكون العراق استثناءً من كل ذلك، وهو يختزن في ثقافته القيمية نزعةً يساروية اجتماعية كامنة ومتجذرة!… *
*. عن الحوار المتمدن….