فضائل العلمانية المستحبة
فضائل العلمانية المستحبة
د. فالح عبد الجبار
2013 / 5 / 5
المساجد والجوامع في إيران تكاد تخلو من جموع المصلين، التي اعتادت ارتيادها مدفوعةً بمزيج من الحماسة السياسة والورع الديني والمشاركة الجمعية، ويشمل هذا على وجه الخصوص طقس صلاة الجمعة، المحظور في الفقه الشيعي الكلاسيكي والمباح في إيران بعد سقوط الشاه على سبيل الاستثناء (هناك استثناءات في مواضع وفترات وجيزة أخرى).
الدراسات التي تتناول ظاهرة «النكوص الديني» في إيران، تشير عموماً إلى أن هذان الاستنكاف والبحث عن بدائل روحية أخرى، يرجعان أولاً وأخيراً، وفق رأيها، إلى الطابع التسلطي والمستبد للدين الرسمي، وإلى اندماجه بالدولة، الذي يقصد به تحول الإيمان والشعائر والطقوس من مسألة روحية ضميرية إلى شأن من شؤون البوليس، على قاعدة مسؤولية الدولة ليس عن المعتقد وحده فحسب، بل عن سبل فهمه وممارسته.
دائرة المحرمات (التابو) تمس كل مظاهر الحياة والسلوك، من المأكل والمشرب إلى الموسيقى والسينما والمسرح واختلاط الجنسين واستخدام الصحون اللاقطة والإنترنت…
ثمة فيلم كارتون إيراني لمخرجة شابة، يصور قصة هروبها من إيران بعد أن ضبطها البوليس مع آخرين في حفلة رقص منزلية. وهذا يذكرنا بقصص العسف النازية، ومطاردة محبي موسيقى الجاز من الشباب الألماني، لأن أيديولوجيا الحزب النازي ترى أن موسيقى الجاز السوداء الاصل، رمزٌ لعرق واطئ، ومثال للانحطاط الأخلاقي. لكنّ النازية انهزمت وانتصر الجاز.
إدارة الظهر للجوامع ينطوي على حمولة سياسية منذرة، متوعدة، فهي -وفق أحد زعماء إيران- تشكل منبعاً لتـيار خطيـر يهـدد أسـس النـظام السياسي ذاته.
الهاربون من مساجد الدولة جُلُّهم من أبناء الطبقات الوسطى الحديثة، التي نمت في عهد الجمهورية الإسلامية نمواً هائلاً أدى إلى انقلاب البنية الاجتماعية القديمة. فعشية الثورة مثلاً (78-1979) كان ثلثا مدينة طهران من فقراء المدن، نصفهم أو أكثر من القرويين المهاجرين، المتكدسين في أحياء الصفيح أو زرائب المدينة، المتكتلين في جماعات قرابية، تحت حماية ملالي محليين يقدمون لهم بعض السلوان وشيئاً من احترام الذات. اليوم انقلبت التوازنات، فأكثر من ثلثي سكان المدن هم من الطبقات الوسطى الحديثة، عالية التعليم، الشابة، الفوارة، ذات التطلعات الجديدة في القيم وطراز العيش، منفتحة عبر الفضاء الإلكتروني على العالم من أوسع أبوابه.
الفجوة القيمية والروحية بين هذا الجيل من الطبقات الوسطى وبين سلطة الملالي الكهول الشائخين، أكبر من أن تمر من دون أثر. وإذا تركنا الشرائح الميالة للثقافة الكونية المنفتحة والشرائح الأخرى الميالة لكل أنواع الخرافات، لوجدنا الشرائح الباقية تنشد تطلعها في موائل روحية بعيدة من هيمنة الدولة، هي ملاذات التصوف. فقبل خمس سنوات تبلورت حركة صوفية جديدة باسم «الحلقة الروحانية»، التي أسسها محمد علي طاهري، ولاقت تجاوباً في الأوساط الجامعية، وتوسعت توسعاً هائلاً دق أجراس الخطر في أروقة الحكم.
وتعتمد الحركة في نسغها الفكري على تقاليد التصوف، التي حافظت على ركـائـزها فـي التـشيع الإيراني، خلافاً لبقية المـجتمعات الشيعية في بلدان أخرى، فالسلالة الـصوفية التي أسـسـت دولتها في بداية القرن السـادس عـشر (1500 م) واجهت طـبقة من السـادة المتصوفين، المهيمنين على أراضي الوقف الديني، واضطرت إلى استيراد فقهاء من جبل عامل لنشر العقيدة، وعلى رأسهم الـشيخ الكركـي، لكن الانفصال بين السادة المتصوفة وبين شـيوخ الفـقه، لم يقتصر على مسـائل الاعـتقاد، بل تعداه إلى انـفصال لغوي (الفارسية بـإزاء العربية)، وانفصال اجتماعي (مالكو أوقاف بإزاء متلقي أعطـيات من الشـاه). عـقائديـاً، انتهت المعارك بين الاثنين إلى نوع من تسـوية حافظت على التراث الصوفي، الذي يـعد علامـة ممـيزة للتشيع في إيران. وبـلغت قـوة هـذا الأثـر حداً كبيراً نراه جلياً في ميل مؤسس الجمهورية الإسـلامية الـسـيد الخمـيني إلى التصوف، وقد نشـرت نـصوصه الصـوفية بـعد وفـاتـه، كما لو كان نشرها في حياته، نوعاً من مفارقة فكريـة غـير مسـتطابة لباني نظرية ولاية الفقيه، فكراً وممارسـة.
حركة التصوف هذه، إلى جانب الحركة المهدوية (انتظار قرب ظهور الإمام الغائب)، والحركة الحداثية الكونية، تـشكل بمـجموعها تيـار احـتجاج عريض لا يمكن إخفاء حقيقته، رغم حديث المتصوفة عن «البـحث عن معنى الحياة» و«توحد الذات مع خالـقها»، والبـحث عن «الطاقة اللدنية» في الكون، هذا التجلي الأكبر للـباري، فهذا الخطاب الروحي الخالص في حروفه، يبدو في نظر الأجهزة الفقهية والأمنـية للـدولة -حارسة النظام بالفكر والسـلاح- بمـثابة «تهديد للأمن القومي»، و«منهج هدام» و«إفراغ للإسـلام من محتواه»، وهو علاوة على ذلك «تقويض لأسـس الجمهـوريـة الإسلامـية»، بـل هو رديف «للكفر والإلحاد» ونـشر «للإباحية». وان لم يكـن هذا نـعتاً كافياً للتصوف الجديد، فإن الاتهامات توسعت لتضعه في خانة خدمة «الصهيونة وأعداء الإسلام».
على جسامة هذه التهم، فإن مؤسس «الحلقة الروحانية» محمد على طاهري، تلقى على ذمة موقع «قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي» (وهو موقع ألماني)، حكماً بالسجن «سبع سنوات وسبعين جلدة».
تنطوي الفكرة الـصوفية عموماً على بديل من أشكال التدين الرسمـي، أياً كانت، وقد انتهى التصوف في القرون الخوالي إلى إنشاء تنظيم مراتبي يقف القطب الصوفي على قمـته، أما المريدون فيـشكلون قاعه وقاعدته الصلبة. وكان الطقس الصوفي الجماعي والهرمية التنظيمية يولدان نوعاً من فضاء جمعي لا مكان للفرد المستقل فيه. أما التــصـوف الـيوم، فـهو فـي صيغته الفـكـرية وتنظـيمه المـفتوح، احـتجاج كاسر على القسر الجمعي لمـسـائل الإيمان، اعـتقاداً وممارسة، وهو بالتالي يفـتح الـباب للتـدين الفردي، التدين الضميري العمـيق، الذي لا يمكن لمخالب البوليس أن تطاوله.
وهو بهذا يشبه -في أثره وحوافزه- الثورة اللوثرية على الكنيسة الكاثوليكية، فلقد حولت البروتستانتية الدين من احتكار كنسي، مؤسساتي، هرمي، إلى إيمان فردي، ضميري، بين الإنسان وباريه، ولا عصمة لأحد، سيان كان أسقفاً أو بابا أو إسكافياً، أو أميراً.
نزعات التصوف وتيار علم الكلام الجديد، الساعي لعقلنة الفـقه وانـفتاحه على العـلوم الإنـسانية والطـبيـعية الحديثة، يشكلان معاً التيار الحـضاري الجـديد المرشـح لقلب دور إيران الفكري، من ناشر للأسلمة المنغلقة إلى ناشر للعلمانية المتزنة القائمة على احترام الدين، وإنقاذه من براثن السياسة والسياسيين، بعمائم أو بدونها. إن حصـلت هذه النـقلة، فالـعالم الـعربي سـيكـون التالي…… &
&. عن الحوار المتمدن…..