القانونية

في تشكيل الهيئات القضائية للرقابة على دستورية القوانين

في تشكيل الهيئات القضائية للرقابة على دستورية القوانين

د. علي مهدي
باحث

(Ali Mahdi)

2020 / 7 / 27

في تشكيل الهيئات
القضائية للرقابة على دستورية القوانين
أثار مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي تمت قراءته الأولى من قبل مجلس النواب، الكثير من ردود الأفعال من قبل المختصين في القانون الدستوري والقانونيين والمهتمين بالشأن العام. ويعكس ذلك المكانة الكبيرة التي بدأت تحظى به هذه المؤسسة التي لم يتجاوز عمرها الأربع عشرة سنة، وذلك للأحكام التي صدرت عنها، والتي ساهمت في تنظيم عمل السلطات الثلاث وبما لا يخل بمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الدستور.
وقد جاءت هذه النقاشات بعد انقطاع طويل عن طرح موضوعات كهذه من قبل النخب السياسية والثقافية، وذلك لانعدام الثقافة الدستورية والقانونية بسبب سيطرة نظم الدساتير المؤقتة واستئثار السلطة التنفيذية بمناحي الحياة كافة منذ تشكيل الدولة العراقية.
مدخل تأريخي:
تعنى الهيئات القضائية للرقابة على دستورية القوانين بمراقبة القوانين التي تصدر من مجلس النواب ومدى موافقتها مع مواد الدستور، ولها دور كبير في تعزيز دولة القانون والمؤسسات والحيلولة دون الخروج عن الدستور باعتباره الضامن لحقوق الإفراد وحرياتهم ولتجنب أي تعدٍّ من قبل أية سلطة على حساب صلاحيات السلطات الأخرى.
لقد نشأ القضاء وعلى مستوى العالم والى حد قريب نسبيا من رحم السلطة التنفيذية والعمل تحت إمرتها، ومع قيام الثورتين الأمريكية والفرنسية وبزوغ عهد السيادة الشعبية والإقرار بمبدأ الفصل بين السلطات واتساع التعليم والثقافة السياسية وانتشار القيم الديمقراطية، بدأ القضاء يستقل تدريجيا عن تلك الهيمنة التي كانت مفروضة عليه، حتى ظهرت ما بعد الحرب العالمية الثانية مجالس للقضاء تتمتع باستقلالية كاملة، كما هي في بعض الدول، من حيث التشكيل والهيكلة وسير العمل الذاتي والمالية.
ويعتمد تشكيل هيئات الرقابة على دستورية القوانين على ثلاثة محددات: وجود دستور دائم وسيادة للقانون على الحكام والمحكومين وقضاء مستقل.
لقد تميزت الهيئات التي مهمتها مراقبة القوانين وعدم مخالفتها أحكام الدستور على مستوى دول العالم، بنموذجين: الأول، الرقابة القضائية التي مهمتها مراقبة مدى دستورية القوانين بعد صدور القانون وهي متأثرة بالنموذج الأمريكي، والأخرى تسمى بالرقابة السياسية التي تحكم بمدى دستورية القوانين قبل صدور القانون وهي متأثرة بالنموذج الفرنسي.
ومن الجدير بالذكر أن المشرع العراقي أخذ بنموذج الرقابة القضائية من خلال نصه في القانون الأساسي لسنة 1925 والذي أخذت به الكثير من دول العالم.
ولأجل الاطلاع الأفضل على تشكيل هذه الهيئات من المناسب الإحاطة بتجارب بعض الدول التي سبقتنا في هذا المضمار للاستفادة منها عند صياغة قانون المحكمة الاتحادية العليا وان يكون مواكبا للتقدم الحاصل في مجال استقلالية السلطة القضائية والتنوع في تشكيلتها مع التقيُّد بمبدأ الفصل بين السلطات.
الولايات المتحدة:
الولايات المتحدة هي أولى الدول التي أقامت صرح الرقابة القضائية على دستورية القوانين، وقد حقق هذا النموذج الانتشار الكبير بعد الحرب العالمية الثانية.
لم ينظم الدستور الأمريكي الذي صدر عام 1787، الرقابة على دستورية القوانين، ولم ينص عليها صراحة في أي نص من نصوصه، وقد استطاع القاضي مارشال رئيس المحكمة الاتحادية سنة 1803أن يضيف إلى اختصاص المحكمة، سلطة مراقبة دستورية القوانين، ومنذ ذلك الحين تتمتع هذه المحكمة بمكانة خاصة بين المؤسسات الدستورية، مما دعا إلى القول أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يحكمها السياسيون وإنما يحكمها قضاة المحكمة العليا وهو تعبير مجازي للسطوة التي تمتعت بها وخاصة عند تولي فرانكلين روزفلت الرئاسة 1933- 1945 عندما تحالف القضاة المحافظون في المحكمة الاتحادية من كلا الحزبين ضد القوانين والقرارات ذات الطابع الليبرالي.

تشكيل المحكمة الاتحادية:
تتشكل المحكمة الاتحادية من تسعة قضاة، من بينهم الرئيس، وقد نظمت طريقة اختيارهم (المادة 2، الفقرة 2) من الدستور: (لرئيس الولايات المتحدة السلطة بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته، أن يعين قضاة المحكمة العليا). إي أن سلطة تعيين قضاة المحكمة الاتحادية في الولايات المتحدة بتعاون مشترك بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وان صاحب الاقتراح هو الرئيس وبمشورة وموافقة مجلس الشيوخ وهو الغرفة الثانية من مجلس النواب الأمريكي.
وعادة يتم اختيار القضاة وفق الأتي:
1. من كبار المحامين وهم يشكلون الأكثرية في عضوية المحكمة.
2. الفقهاء في القانون.
3. من العاملين بالهيئات القضائية.
ويبقى أعضاء المحكمة مستمرين بعضويتهم ما داموا يتمتعون بسمعة حسنة، حتى طلب التقاعد، العجز والوفاة، وهذا ما جاء في (المادة 3، الفقرة1) حيث نصت:(ويبقى قضاة كل من المحكمة العليا والمحاكم الأدنى درجة شاغلين مناصبهم ما داموا حسني السلوك)، ومن الجدير بالذكر أن القاضي روث بادر غينسبورغ وهي ثاني امرأة في المحكمة مازالت تعمل منذ سنة 1993 وقد تجاوز عمرها ألان السادسة والثمانين سنة.
الهند
تشكلت المحكمة العليا في الهند بموجب الدستور الصادر سنة 1949 وهي أعلى مستوى قضائي ولها اختصاصات عديدة ومنها الرقابة الدستورية على القوانين والدور المطلق كمفسر للدستور.
حدد الدستور عدد أعضاء المحكمة بالنص الآتي: ” يتعين أن يتم إنشاء المحكمة العليا في الهند، بحيث تتألف من رئيس وما لا يزيد عن سبعة قضاة آخرين، ما لم يصدر البرلمان قانونا ينص على عدد أكبر من ذلك (المادة 124) “، أي أن العدد ثمانية قضاة فقط وأعطى صلاحية للبرلمان بإصدار قانون بزيادة العدد. أما بخصوص تنظيم اختيار هؤلاء القضاة فقد كان النص الآتي: ” يتم تعيين كل قاض في المحكمة العليا من قبل رئيس الدولة بموجب مذكرة تعيين موقعة بيد الرئيس وممهورة بختمه، بعد التشاور مع قضاة المحكمة العليا والمحاكم العليا الأخرى في الولايات كما قد يراه الرئيس ضروريا لذلك الغرض، ويظل القاضي المعين في المنصب حتى بلوغه سن الخامسة والستين من عمره: شريطة أنه في حال تعيين قاض آخر غير رئيس المحكمة العليا فانه يتعين دونما استشارة رئيس المحكمة العليا.
إن سن التقاعد لقضاة المحكمة العليا هو الخامسة والستين سنة. وعند إي نقص في عدد أعضاء المحكمة بسبب بلوغ سن التقاعد، الاستقالة، الإقالة أو الوفاة، على رئيس الدولة التشاور مع رئيس المحكمة العليا لاختيار قاضٍ بديل، وفي حالة شغور منصب رئيس المحكمة، فالتشاور يأخذ نطاقا أوسع حيث يشمل قضاة المحكمة العليا وكذلك قضاة المحاكم العليا في الولايات، مع العلم أنه توجد إحدى عشرة محكمة عليا في الهند.
وقد اشترط المشرع الدستوري لمن يترشح للمنصب من الفئات الآتية:
1. إن يكون قد عمل قاضيا في محكمة عليا لمدة لا تقل عن خمس سنوات.
2. إن يكون عمل محامي دفاع في محكمة عليا لمدة لا تقل عن عشر سنوات.
3. إن يكون فقيها قانونيا متميزا.
وهذه الشروط تقريبا هي نفسها متوفرة في أعضاء المحكمة الاتحادية في الولايات المتحدة.
يتضح من النص الدستوري وجود تعاون بين السلطة التنفيذية بشخص رئيس الدولة والسلطة القضائية بشخص رئيس المحكمة العليا بتشكيلها، دون تدخل من قبل السلطة التشريعية، كما هو في الولايات المتحدة، وهذا يعكس تطورا في دور السلطة القضائية ممثلة برئيس وأعضاء المحكمة العليا وقضاة المحاكم العليا في الولايات باختيار أعلى هيئة قضائية في البلاد.
ومن ذلك يتضح أن تجربة الهند في طريقة تشكيل المحكمة العليا هي أكثر استجابة لمعايير استقلالية المحكمة عن ما هو موجود في الولايات المتحدة، وذلك لعدم تدخل السلطة التشريعية ولذلك تحرر السلطة القضائية من تأثير الأحزاب السياسية بتشكيلها.
مصر:
لم تعرف مصر الرقابة على دستورية القوانين عند صياغة الدستور المصري لسنة 1923، وبقيت دون وجود أية هيئة قضائية تعنى بذلك حتى تشكيل مجلس الدولة سنة 1949 الذي أناط بنفسه دور الرقابة على دستورية القوانين دون وجود نص يبيح له ذلك. وقد تشكلت المحكمة العليا في مصر سنة 1969، وتم استبدالها بالمحكمة الدستورية العليا عند صدور دستور 1971 والتي صدر قانونها رقم 48 لسنة 1979 وهي معنية بالرقابة الدستورية على القوانين واللوائح الصادرة.
وعقب ثورة يناير 2011 التي أطاحت بدستور 1971 جاء دستور 2012 وقد تضمن مادتين بخصوص المحكمة الدستورية والتي جاءت مقتضبة ما عدا تقليص عدد أعضائها بعشرة فقط، للتخلص من غير المرغوب فيهم.
وإثر قيام ثورة حزيران 2013 وتغيير النظام القائم، صدر دستور 2014، وقد أعاد الاعتبار إلى المحكمة الدستورية العليا بتخصيصه فصلا كاملا من خمسة مواد، واهم ما في هذه المواد هو الاستقلالية الكاملة للمحكمة تجاه السلطتين التشريعية والتنفيذية، من ناحية التشكيل وانتخاب الرئيس ونوابه وأعضاء هيئة المفوضين عبر الجمعية العامة للمحكمة.
وقد أجريت التعديل الأول للدستور المصري لسنة 2014 في نيسان سنة 2019، وقد أصاب قسم منها ما يخص طريقة تشكيل المحكمة واختيار الرئيس ونوابه وارتباط رئيس المحكمة بالهيئات القضائية.
تشكيل المحكمة الدستورية العليا.
تنص المادة (193) من الدستور المصري لسنة 2014 (تؤلف المحكمة من رئيس، وعدد كاف من نواب الرئيس)، ولقد بين قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر سنة 1979 كيفية تشكيلها، (تتكون المحكمة من رئيس وعدد كاف من الأعضاء وتصدر أحكامها وقراراتها من سبعة أعضاء، ويرأس جلساتها رئيسها أو أقدم أعضائها عند خلو منصب الرئيس أو غيابه أو وجود مانع لديه يقوم الأقدم من أعضائها بجميع اختصاصاتها) (المادة 3 ).
وقد اشترط القانون عمر عضو المحكمة أن لا يقل عن خمسة وأربعين سنة وان يكون من الفئات الآتية:
1. أعضاء الهيئات القضائية الحاليين والسابقين ممن أمضوا في وظيفة مستشار أو ما يعادلها خمس سنوات متصلة على الأقل.
2. أساتذة القانون الحاليين والسابقين في الجامعات المصرية ممن امضوا في وظيفة أستاذ ثماني سنوات متصلة على الأقل.
3. المحامين الذين اشتغلوا أمام محكمة النقض والمحاكم الإدارية العليا عشر سنوات متصلة على الأقل. (المادة 4)
واشترط القانون أن يكون ثلثا عدد أعضاء المحكمة على الأقل من بين أعضاء الهيئات القضائية (المادة 5).
وقد حدد القانون السن التقاعدي لأعضاء المحكمة كسائر أعضاء محكمة النقض (وتسري الأحكام الخاصة بتقاعد مستشاري محكمة النقض على أعضاء المحكمة) (المادة 14)
وبخصوص اختيار رئيس المحكمة ونوابه فقد نصت المادة(193) بعد التعديل الدستوري الذي أجري في سنة 2019 على الآتي: (ويختار رئيس الجمهورية رئيس المحكمة الدستورية من بين أقدم خمسة نواب لرئيس المحكمة. ويعين رئيس الجمهورية نواب رئيس المحكمة من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة ويرشح الآخر رئيس المحكمة. ويعين رئيس هيئة المفوضين وأعضاؤها بقرار من رئيس الجمهورية بناءً على ترشيح رئيس المحكمة وبعد أخذ رأى الجمعية العامة للمحكمة،
ومن هذا النص أصبح رئيس الجمهورية هو الذي يختار رئيس المحكمة وكذلك نواب الرئيس وإصدار القرار بالتعيين. إي أن للسلطة التنفيذية الدور الكبير في الاختيار، وهذا تراجع لاستقلالية المحكمة، بعد أن كانت الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا هي التي تختار رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب، وكما تختار نواب الرئيس وفق المادة(193) من الدستور قبل التعديل.
بالإضافة إلى ذلك تم ضم رئيس المحكمة الدستورية العليا إلى مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية، يرأسه رئيس الجمهورية، وبعضوية رئيس المحكمة الدستورية العليا، ورؤساء الجهات والهيئات القضائية، ورئيس محكمة استئناف القاهرة، والنائب العام. ويكون للمجلس أمين عام، يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية للمدة التي يحددها القانون وبالتناوب بين الجهات أعضاء المجلس. (المادة 185).
إن التجربة المصرية في تكوين المحكمة القضائية التي تعني بدستورية القوانين تتم من خلال التعاون بين السلطتين التنفيذية والسلطة القضائية وعدم وجود إي دور للسلطة التشريعية في ذلك، حيِث إن رئيس المحكمة الدستورية وجمعيتها العامة هي صاحبة الاختصاص في الترشيح وان للسلطة التنفيذية وتحديدا رئيس الجمهورية صاحب سلطة الاختيار وقرار التعيين.
العراق
عرف العراق تشكيل الهيئات المعنية بدستورية القوانين، وتفسير بنوده، ومحاكمة أعضاء مجلس الوزراء والهيئات القضائية العليا، وهي التي تسمى اليوم بالمحكمة العليا أو المحكمة الاتحادية العليا. قبل تشكيل الدولة العراقية، عندما كان جزءا من الدولة العثمانية. وسنحاول استعراض مراحل تشكيل هذه الهيئات على ضوء الدساتير التي نظمتها وفق تسلسلها التاريخي.
التشكيل في العهد العثماني
عند صدور القانون الأساسي للدولة العثمانية سنة 1876، وتضمن مادتين تعني باختصاصات المحكمة العليا، أولهما: المادة (92) التي تعني بالديوان العالي (الديوان العالي يركب من ثلاثين عضواً، عشرة منهم من هيئة الأعيان، وعشرة من شورى الدولة، وعشرة يفرزون بالقرعة من رؤساء محكمتي التمييز والاستئناف وأعضائهما. ويعقد هذا الديوان في دائرة هيئة الأعيان بالإرادة السنية عند اللزوم، ووظيفته إنما هي محاكمة الوكلاء ورؤساء محكمة التمييز وأعضائها ومحاكمة كل من اعتدى على ذات الحضرة السلطانية وعلى حقوقها، وكل من تصدى لإلقاء الدولة في خطر) وكذلك المادة(117) التي نصت (إذا لزم الأمر لتفسير مادة قانونية، وكانت متعلقة بالأمور العدلية فعلى محكمة التمييز تعيين معناها، وإذا كانت متعلقة بالإدارة الملكية يناط تعيين معناها بشورى الدولة، أما إذا كانت من متعلقات هذا القانون الأساسي فتعيين معناها منوط بهيئة الأعيان.)
ومن هذا يتضح أن الديوان العالي هو بمثابة محكمة عليا لمحاكمة أعضاء مجلس الوزراء والهيئات القضائية، تعقد جلساتها بإرادة رئيس الدولة وان فئات تشكيلها هي:
1. ثلث من أعضاء هيئة الأعيان.
2. ثلث من مجلس شورى الدولة.
3. ثلث من الهيئات القضائية.
يلاحظ من فئات هذا التشكيل مشاركة ممثلي السلطات الثلاث في تركيبة الديوان العالي وبشكل متساو، وهذا ناتج عن مسايرة الحركة الإصلاحية في العهد العثماني للتطورات الدستورية في أوربا وقت ذاك.
وفيما يختص بتفسير القوانين الصادر، أنيطت هذه المهمة بمحكمة التمييز، وان المراسيم التي تصدر من رئيس الدولة وتفسيرها يخضع لمجلس شورى الدولة، وبخصوص تفسير مواد القانون الأساسي تختص به هيئة الأعيان وهي الغرفة الثانية للسلطة التشريعية والتي تتشكل بدون انتخابات ومن خلال تعيين صادر من رئيس الدولة.

التشكيل في العهد الملكي:
عند كتابة القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 استعانت اللجنة المشكلة لكتابته بمبادئ الدستور الاسترالي والنيوزلندي والتركي ولذلك كان للقانون الأساسي التركي تأثير كبير على المشرع العراقي الذي تبنى نموذج الرقابة على القوانين بعد صدورها، أنيطت مهمة تفسير القانون الأساسي ومدى موافقة القوانين الصادرة له، بمحكمة خاصة وهي المحكمة العليا إضافة الى مهامها الكبرى
فقد تم تنظيم وجود هيئة قضائية مختصة بمراقبة دستورية القوانين من خلال القانون الأساسي لسنة 1925، عندما نص على وجوب تشكيل محكمة عليا تعني …بالبت بالأمور المتعلقة بتفسير القوانين وموافقتها للقانون الأساسي ( المادة 181)، وبخصوص تشكيلها، فقد جاء في (المادة 183) إذا وجب البت في أمر يتعلق بتفسير أحكام هذا القانون، أو فيما إذا كان احد القوانين أو الأنظمة المرعية يخالف أحكام هذا القانون الأساسي، تجتمع المحكمة العليا بإرادة ملكية تصدر بموافقة مجلس الوزراء، إما بخصوص تشكيل المحكمة العليا فقد نصت (المادة 181) : … وتؤلف المحكمة من ثمانية أعضاء عدا الرئيس ينتخبهم مجلس الأعيان أربعة من بين أعضائه وأربعة من كبار الحكام، وتنعقد برئاسة رئيس مجلس الأعيان.
إي أن تشكيل المحكمة العليا يتكون من الآتي:
1. خمسة أعضاء من السلطة التشريعية ومن مجلس الأعيان تحديدا ويتم اختيارهم عبر الانتخاب، مع العلم أن أعضاء مجلس الأعيان يتم تعيينهم من قبل الملك (المادة 131).
2. أربعة أعضاء من كبار الحكام ويقصد بذلك أعضاء من محكمة التمييز ويتم انتخابهم أيضا من مجلس الأعيان.
فقد اختار المشرع العراقي في تكوين المحكمة العليا مشاركة السلطتين التشريعية والقضائية، مع رجحان كفة مجلس الأعيان على حساب القضاة من حيث العدد والرئاسة وطريقة الانتخاب التي تتم من خلال مجلس الأعيان.
دستور 1968
أعاد الدستور العراقي المؤقت لسنة 1968العمل بالهيئات القضائية للرقابة في دستورية القوانين من خلال نص (المادة 87) (تشكل بقانون محكمة دستورية عليا تقوم بتفسير أحكام هذا الدستور والبت في دستورية القوانين، وتفسير القوانين الإدارية والمالية والبت بمخالفة الأنظمة للقوانين الصادرة بمقتضاها ويكون قرارها ملزما).
ومن الجدير بالذكر أن دستور 1968 يعتبر من الدساتير المرنة حيث لمجلس قيادة الثورة الذي هو بمثابة السلطة التشريعية تعديل الدستور متى ما يشاء حاله عند تشريع إي قانون، مع العلم أن وجود الهيئات القضائية التي تبت بمدى دستورية القوانين الصادرة هو من شأن النظم ذات الدساتير الجامدة والتي يحتاج إلى تعديلها إجراءات تتسم بالصعوبة والتعقيد نسبة إلى الإجراءات الخاصة بتعديل القانون.
وقد صدر قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 159 لسنة 1968، الذي نص على: تتشكل هذه المحكمة برئاسة رئيس محكمة التمييز وثمانية أعضاء أصليين وأربعة احتياط، وبموجب هذا القانون تتكون المحكمة من الأتي:
1. رئيس محكمة التمييز رئيساً.
2. ثمانية أعضاء أصليين ومن الآتي:
1. رئيس مجلس الرقابة المالية.
2. رئيس ديوان التدوين القانوني.
3. ثلاثة من أعضاء محكمة التمييز.
4. ثلاثة أعضاء من كبار موظفي الدولة ممن لا تقل درجاتهم عن مدير عام.
5. الاحتياط:
• اثنان حاكمان من حكام محكمة التمييز
• اثنان من كبار موظفي الدولة ممن لا تقل درجاتهم عن مدير عام.
ويكون الترشيح من قبل وزير العدل وموافقة مجلس الوزراء.
ومن هذا التشكيل للهيئة القضائية تتكون من قضاة وقانونيين مع رجحان كفة القضاة، وللسلطة التنفيذية الهيمنة من خلال الترشيح والموافقة وقرار التعيين الذي يصدر من خلال مرسوم جمهوري.
وحدد القانون مدة العضوية لثلاث سنوات قابلة للتجديد.
ومع كل ذلك لم تمارس هذه المحكمة إي شكل من إشكال الرقابة على دستورية القوانين، حتى إلغاء العمل بهذا الدستور وإصدار دستور 1970 المؤقت الذي لم يتطرق إلى وجود المحكمة الدستورية العليا.
قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة 2004:
على إثر إلغاء العمل بالدستور العراقي لسنة 1970 ، تم إصدار قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة 2004، وقد أعاد هذا القانون الرقابة القضائية على شرعية القوانين من خلال نصه على تشكيل المحكمة العليا الاتحادية ، وعلى ضوء ذلك صدر قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 35 لسنة 2005 وقد حدد مهامها ( … الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أية جهة تمتلك حق إصدارها وإلغاء التي تتعارض منها مع أحكام قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، ويكون ذلك بناء على طلب من محكمة أو جهة رسمية أو من مدع ذي مصلحة ، ( المادة 4 ).
إما بخصوص تشكيل هذه المحكمة فقد نص القانون على: تتكون المحكمة الاتحادية العليا من رئيس وثمانية أعضاء يجري تعيينهم من مجلس الرئاسة بناء على ترشيح من مجلس القضاء الأعلى بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم (المادة 3)، وقد أناط قانون إدارة الدولة بمجلس الرئاسة تسمية رئيس المحكمة والذي هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء.
ولم يحدد القانون سنا للتقاعد ولا عدد سنوات عمل أعضاء المحكمة، حيث نص على الآتي: يستمر رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا في الخدمة دون تحديد حد أعلى للعمر إلا إذا رغب في ترك الخدمة. وهذا النص متأثر بما جاء في الدستور الأمريكي الذي أجاز بقاء قضاة المحكمة طيلة حياتهم لكن اشترط حسن السلوك.
ومن هذا نستنتج ان الهيئة القضائية المعنية بالبت في دستورية القوانين الصادرة وعدم مخالفتها القانون الأساسي تتشكل من القضاة فقط دون مشاركة غيرهم ويكون الترشيح من خلال المجلس الأعلى للقضاء وهذا يجسد تطورا ملحوظا في الأخذ بمبدأ استقلالية السلطة القضائية، وان التعيين من اختصاص رئيس السلطة التنفيذية، وبذلك ان المحكمة الاتحادية العليا يكون تشكيلها من خلال التعاون بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية مع هيمنة للسلطة القضائية بتحديد أسماء المرشحين لها.
كان على المشرع أن يفسح المجال لمشاركة القانونيين وبالأخص العاملين في مجلس شورى الدولة وفقهاء القانون من أساتذة القانون في الجامعات العراقية ويمكن إضافة ممثل عن نقابة المحامين ضمن تشكيلة هذه الهيئة ، كما هو في المحاكم الرديفة على مستوى العالم لغرض التنوع في الاختصاصات مع ضمان وجود أكثرية للقضاة .

دستور 2005:
أعطى الدستور العراقي لسنة 2005 مكانة أكبر للمحكمة الاتحادية حيث وضع لها فرعا مستقلا باسمها والنص على أنها هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً (المادة 92، الفقرة أولاً). وبخصوص تشكيل المحكمة الاتحادية العليا، فقد وسع الدستور النافذ من طبيعة وظائف أعضائها، بإضافة خبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون (المادة 92، الفقرة 2) ولم يتطرق إلى عدد أعضائها ورئيسها وعدد سنوات وجودهم في المنصب، إنما ترك ذلك لقانون ينظم طريقة اختيارهم يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
إن مشاركة خبراء في الفقه الإسلامي ضمن تشكيلة المحكمة الاتحادية العليا أثارت ردود أفعال متنوعة لان ذلك شكل سابقة لا مثيل لها في تشكيلة الهيئات القضائية المعنية بدستورية القوانين على مستوى المنطقة والعالم، وقد كانت هذه الفقرة مصدر الخلاف الدائم بين الكتل البرلمانية بعدم اصدرا قانون المحكمة الاتحادية العليا حتى الوقت الحاضر، وبالتالي استمرار العمل بقانون المحكمة الصادر على أساس قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة 2004.
خضع تشكيل الهيئات القضائية للرقابة على دستورية القوانين إلى جملة من المتغيرات من حيث السلطات المختصة بالتشكيل والتنوع في فئات أعضائها، ويعتمد في الغالب على طبيعة التوازن القائم بين السلطات في كل نظام سياسي، ففي البدء كان للسلطة التنفيذية الدور الكبير في اختيار الرئيس والأعضاء بمشاركة مع السلطة التشريعية، ومع اتساع القيم الديمقراطية وتعزيز مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية السلطة القضائية، بات دور السلطة القضائية يزداد وبشكل ملحوظ باختيار القضاة إلى تشكيلتها.
إما بالنسبة إلى التنوع في تركيبة هذه الهيئات، فهناك اتجاه عام إلى التنوع في تركيبتها من خلال إشراك فقهاء القانون من أساتذة الجامعات وكذلك باختيار المحامين العاملين في المحاكم العليا وعدم اختصارها على القضاة، مع إتباع الوسائل الديمقراطية بالاختيار… *

*. عن الحوار المتمدن..

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى