في شأن اختيار رئيس الحكومة
في شأن اختيار رئيس الحكومة
- د.علي مهدي
تترقب الأنظار منذ الانتخابات التي جرت في العراق بتاريخ 12 أيار 2018 لمرشح منصب رئيس مجلس الوزراء ، ولم تلح في الأفق القريب حتى الان ملامح هذه الشخصية المهمة ، وذلك بعد الاتهامات بالتزوير من قبل القوى الخاسرة وإقصاء مجلس المفوضية المنتخب من مهامه وسن قانون بتعديل قانون الانتخابات قبل أيام قليلة من انتهاء ولاية مجلس النواب وقرار المحكمة الاتحادية بإبطال بعض بنود هذا التعديل والعودة الى الفرز اليدوي للمحطات التي تم الطعن فيها.
ولأجل وضع المهتمين بالشأن السياسي في تنظيم اختيار رئيس مجلس الوزراء من الناحية التاريخية والتنظيم الدستوري وبضمنها الدستور العراقي ، وبشكل يتناسب مع الحدود المرسومة للنشر ، اعددنا هذه المادة.
مدخل تاريخي
مرت طريقة اختيار رئيس الوزراء بمراحل وبأشكال متعددة وترتبط جميعها بالخلفية التاريخية التي نشأ عليها النظام البرلماني في بريطانيا ، والذي منه انتشر إلى مختلف الدول ، وكل واحدة منها قد أدخلت عليها بما يتلاءم مع مستوى تطورها الحضاري.
في القرون السابقة رئيس الدولة هو الملك الذي يتمتع بسلطات مطلقة بإدارة شؤون الحكم ، ومع توسع الرقعة الجغرافية للدولة ، واتساع مجال نطاق السلطات التي يمارسها بفعل تشعب مهام الدولة وتعدد وظائفها لتنظيم حياة المجتمع ، لجأ الملك إلى اختيار أشخاص ليساعدوه في قيادة الدولة بتفاصيلها المتعددة ، فكان هؤلاء الأشخاص محل ثقته وجلهم من أعضاء المجالس التي تشكلت لإدارة شؤون الدولة ، وغالباً ما يتم توارث هذه الوظائف ، وقد كان قسم من هؤلاء من رجال القانون.
ويعتبر رئيس مجلس الوزراء مستشاراً لرئيس الدولة وله اختصاصات محدودة، ويختاره رئيس الدولة لعلاقته الشخصية به وثقته به . وبسبب الانتقال التدريجي للعديد من السلطات لصالح البرلمان على حساب الملك وظهور الاحزاب السياسية وتزايد قوتها، فقد أصبح رئيس مجلس الوزراء يُختار من داخل البرلمان ، وأن زعيم حزب الأغلبية في البرلمان هو المرشح الاوفر حظاً لتولي هذا المنصب ، واختصر دور رئيس الدولة عند إصدار التكليف والتعيين دون أن يملك حق الرفض.
كان رئيس الدولة حرا في اختيار من يشاء لا يقيده في ذلك غير واقع الحياة الحزبية ، فهو يتمتع بقدر كبير من الحرية حين ينعدم التنظيم الحزبي ، وتتقلص درجة هذه الحرية حين تتواجد احزاب متعددة ، إلا أنه يتقيد في اختياره إلى حد كبير، حين يتقاسم العمل السياسي حزبان قويان، إذ يضطر عندئذ إلى اختيار رئيس الوزراء من الحزب الحائز على أكثرية المقاعد البرلمانية وعادة يكون هذا الشخص زعيم الحزب ، وحتى هذا الجانب الشكلي في دور رئيس الدولة قد بدأ يتلاشى بشكل نهائي باختيار رئيس مجلس الوزراء.
التعددية الحزبية في الحياة السياسية
يعتمد تنظيم اختيار رئيس مجلس الوزراء في النظام البرلماني التقليدي بشكل كامل على اساسين مهمين وهما ، التنظيم الدستوري . والأساس الاخر هو طبيعة التعددية الحزبية في الحياة السياسية ، والتي يوجد نظامان لها وهما:
أولا : نظام الحزبين : عندما يكون في الحياة السياسية حزبان قويان يتناوبان تداول السلطة ، ونجد هذا الشكل في الدول التي تعتمد على نظام الأغلبية في قانونها الانتخابي ، واقرب نموذج لهذا الشكل ، هو بريطانيا حيث وجود حزب العمال والمحافظين اللذين يتناوبان على السلطة منذ بداية القرن الماضي حتى الان ، ويكون اختيار رئيس الحكومة لصالح الحزب الحاصل على أكثرية مقاعد مجلس النواب ، ودور رئيس الدولة في هذا النمط يأخذ الطابع الشكلي عند التكليف وإصدار مرسوم التعيين .
ثانيا : نظام الأكثر من حزبين : وهو الشكل المعتمد في أكثرية دول النظم البرلمانية حيث وجود اكثر من حزبين قويين في الحياة السياسية مما يضطر احد الأحزاب الى الدخول في تحالف مع الأحزاب الأخرى لغرض نيل ثقة البرلمان عند تشكيل الحكومة، ونجد هذا الشكل في أكثرية الدول التي تعتمد النظام النسبي في القانون الانتخابي ، ومن هذه الدول( المانيا ، اسبانيا ، السويد ،العراق)
التنظيم الدستوري لاختيار رئيس الحكومة
تنظم الدساتير اختيار رئيس الحكومة من خلال بعض النصوص الخاصة نصوصها بفصل السلطة التنفيذية والتي تتضمن الإجراءات والضوابط والآجال الزمنية الواجب التقيد والعمل بها ، ففي الدول البرلمانية ذات التعددية لأكثر من حزبين قويين، تعاملت الدساتير ، بطريقتين:
الطريقة الأولى : منح الدستور رئيس الدولة صلاحية تكليف رئيس الحزب الحاصل على اكثرية مقاعد البرلمان الجديد بتشكيل الحكومة ، وقد اعتمد المشرع الدستوري على معيارين في تنظيم اختيار رئيس الحكومة ، الأول هو الحصول على الفائز الاول في الانتخابات ومن ثم الحصول على الأغلبية داخل البرلمان ، واحدى مثالب هذا التنظيم ، هو في عدم قدرة رئيس الحزب الفائز احيانا ، على تشكيل ائتلاف مع أحزاب أخرى ، يستطيع الحصول من خلاله على ثقة البرلمان ، مما يؤدي الى إطالة فترة حكومة تصريف الاعمال لفترة طويلة وبالتالي الى تعطيل بعض مصالح البلاد . ومن هذه النماذج هو ما جاء به الدستور المغربي لسنة 2011 والذي نص حسب منطوق الفصل 47 (بعد إجراء العملية الانتخابية يقوم جلالة الملك باختيار رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب ).
الطريقة الثانية : كلف الدستور رئيس الدولة بإجراء المداولات مع الأحزاب الفائزة في الدخول الى البرلمان ، لغرض تكليف احد قادتها بتشكيل الحكومة وضمان نيله ثقة البرلمان ، وهذه الطريقة هي الأفضل والمعتمدة في أكثر الدساتير ذات النظم البرلمانية ، لان المشرع الدستوري اعتمد على معيار الحصول على الأغلبية داخل البرلمان وليس على الفائز الأول في الانتخابات وهذا ما اعتمده الدستور الاسباني لسنة 1978 في الفصل 99 الفقرة 1 حيث نص ( بعد الانتخابات المقبلة يقوم الملك، باستقبال رؤساء وممثلي الأحزاب السياسية بالبرلمان انطلاقا من الاقل تمثيلية صعودا الى الأكثر تمثيلية ، بعد ذلك يقترح الملك رئيسا للحكومة من خلال رئيس البرلمان ، وقد نص القانون الاساسي الألماني لسنة 1949 في المادة 63 التالي : (1- يجري انتخاب المستشار الاتحادي باقتراح على الشخص الذي اقترحه الرئيس الاتحادي لهذا المنصب ، يجريه البوندستاغ( مجلس النواب الاتحادي) دون مداولات.
2- يُعد فائزا من يحصل على اصوات أغلبية البوندستاغ ، وهنا يتوجب على الرئيس الاتحادي تعيين الفائز في الانتخاب في منصب المستشار الاتحادي .)
وبهذا اعتمد المشرع الألماني على معيار الحصول على أغلبية البرلمان فقط دون الاعتماد على من كان الفائز الأول في الانتخابات العامة.
التوافقية حالة انتقالية في النظم البرلمانية
انبثق النظام البرلماني التقليدي واستكملت اركانه وحقق نجاحه في الدولة القومية وان هذا النظام يقتضي وجود أحزاب سياسية تمثل الطبقات الاجتماعية وخياراتها السياسية والفكرية والتي يكون حضورها على طول الرقعة الجغرافية للدولة . وتخوض هذه الأحزاب الانتخابات العامة بشكل منفرد أو من خلال ائتلافات ، وعلى أساس المقاعد التي تحصل عليها وقدرتها على نيل ثقة البرلمان ، يتم تكليف زعيم احدها بتشكيل الحكومة ، والذي يقوم بدوره باختيار وزرائه من الحزب أو الائتلاف الذي جاء منه أو البحث عن قاعدة تمثيلية أوسع بالتحالف مع أحزاب أو ائتلافات أخرى ، من أجل ضمان الحصول على ثقة البرلمان.
وهناك دول لم تصل إلى مستوى عال من التطور الحضاري ، والتي يسودها تمايز اجتماعي وانقسام سياسي ، لجملة من الأسباب المتعددة ، فيتجلى هذا التمايز من خلال وجود مكونات لها من يمثلها من التشكيلات الحزبية ، وقلما تجد حزبا من هذه الأحزاب يحظى بتواجد وحضور مؤثر في كل مناطق الدولة ، مما يصعب إمكانية تشكيل حكومة تقوم على أساس الأكثرية النيابية التقليدية والتي يحظى بها الحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية مقاعد البرلمان ، ومن أجل دمج المكونات الأخرى في الحياة السياسية ، لابد من تشكيل حكومة تقوم على أساس التوافق لتجاوز ذلك التمايز والانقسام وعادة يكون ذلك بشكل مؤقت حتى ازالت اسباب التمايز الاجتماعي.
والعراق من الدول التي من الصعب أن تتشكل فيها الوزارة على أساس الحزب أو الائتلاف الحائز على الأكثرية في الانتخابات بمفرده ، أن ذلك سوف يؤدي الى تهميش وإقصاء أحزاب المكونات الأخرى لعدم تمكنها من حجب الثقة عن الحكومة التي تتشكل من مرشح حزب او ائتلاف المكون الأكبر تعدادا ، والذي باستطاعته أن يحوز على الثقة إذا ما أراد أن ينفرد بها .
الدستور العراقي النافذ
ألزم الدستور العراقي في المادة 76 رئيس الدولة الذي يُنتخب من نفس الدورة الانتخابية أن يكلف مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية ، ويقوم المكلف بتسمية أعضاء وزارته خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليف ، ويُكلف رئيس الجمهورية مرشحاً جديداً لرئاسة مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً، عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليف.
يعرض المرشح المكلف أسماء أعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقته عند الموافقة على الوزراء منفردين والمنهاج الوزاري بالأغلبية المطلقة، وعند عدم نيل الوزارة الثقة يتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشح آخر بتشكيل الوزارة، خلال خمسة عشر يوماً.
والدستور العراقي من خلال هذه النصوص يعتبر من الدساتير التي اخذت بمعيار الحصول على الأغلبية عند نيل الثقة من مجلس النواب فقط ، حاله حال الكثير من النظم البرلمانية التقليدية ذات التعددية الحزبية لأكثر من حزبين قويين ، عند تنظيمه اختيار رئيس مجلس الوزراء، دون الاخذ بمعيار الفائز الأول في الانتخابات العامة، وهذه بادرة استشرافية من المشرع العراقي في عدم التقييد للمرشح لرئاسة مجلس الوزراء بشرط ترتيبية الفوز واعتماد معيار الامكانية للحصول على الاغلبية المطلقة لمجلس النواب، ومراعاة لوضع العراق الذي تعدديته الحزبية مبنية على احزاب جهوية ، مما يتطلب ضمان مشاركتها المداولات عند اختيار رئيس مجلس الوزراء.
ومن هذه النصوص الدستورية هناك ثلاثة احتمالات لرئيس الجمهورية ، واحدة إلزامية ، والباقيتان تخضعان للتقدير الشخصي لرئيس الجمهورية.
الاحتمال الاول : فقد ألزم المشرع رئيس الجمهورية أن يكلف مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً .
وانه مقيد باختياره رئيس مجلس الوزراء بواقع الحياة الحزبية وبمن له الأغلبية في البرلمان أو من ترضى عنه تلك الأغلبية ، ومن تختاره الكتلة النيابية الأكثر عدداً وليس شرطاً أن يكون الفائز الاول في الانتخابات لمجلس النواب .
الاحتمال الثاني : يتمتع رئيس الجمهورية بحرية أكبر في اختيار مرشح آخر لتشكيل الوزارة عند الإخفاق في تشكيلها أو عدم نيل الثقة من قبل مجلس النواب. فهو: مرشح جديد بالإرادة المنفردة لرئيس الجمهورية، وإذا أخفق هذا أيضاً.
الاحتمال الثالث : الذي لا يختلف عن الاحتمال الثاني حيث هو يخضع أيضاً للتقدير الشخصي لرئيس الجمهورية.
لم يشر الدستور إذا استمر مجلس النواب في رفضه تكليفات رئيس الجمهورية للمرشحين الثلاث لتولي تشكيل مجلس الوزراء ورفض مجلس النواب لهم، فكان على المشرع أن يضع جزاء تجاه مجلس النواب لاستعماله حق الرفض بمنح الثقة لمرشحي رئيس الجمهورية، بحل المجلس، وبما أن مجلس النواب هو صاحب قرار حله، فعلى رئيس البرلمان أن يبادر بطلب حل المجلس لإجراء انتخابات جديدة حتى لا تبقى مؤسسات الدولة معطلة بسبب الاستعمال التعسفي لمجلس النواب بعدم قبول منح الثقة للوزارة لثلاث مرات ، وهذا ما لجأت اليه بعض الدساتير عند حدوث ازمة من هذا القبيل فقد منح المشرع الاسباني وفق الفقرة 5 من الفصل 99 رئيس الدولة الحق بحل البرلمان اذا لم يمنح الثقة وفق الآجال المحدد ، وكذلك المشرع الألماني وفق المادتين 3 و4 من المادة 63.
ان تنظيم ترشيح رئيس مجلس الوزراء قد مر بمراحل متعددة ، تتحكم فيه جملة من العوامل، وان المنحى العام هو سحب هذه السلطة من رئيس الدولة الى البرلمان، وقد ثبت ذلك دستوريا ، وكذلك خضع الى طبيعة التعددية الحزبية في كل دولة.
والعراق من النظم البرلمانية الذي بدأ للتو في خوض التمارين الاولى نحو اختيار رئيس مجلس الوزراء ، وقد نظم المشرع إجراءات التكليف وهي مستقاة من التجربة التاريخية للنظم البرلمانية ، لكن الاحزاب السياسية التي هي الأداة الرئيسة لتطبيق هذا النظام، لم تكن بمستوى النضج ، فالتجاذبات والتوافقات داخلها وفيما بينها والمتغيرة على الدوام ، هي ما يعطل السير السلس لهذا التنظيم والبناء عليه.
11/7/2018…&
&.. عن جريدة طريق الشعب