الفكر السياسي

قراءة نفسية سياسية في نتائج الانتخابات العراقية -المبكرة- …. عن -التغيير- و-التزوير- والمقاطعة

قراءة نفسية سياسية في نتائج الانتخابات العراقية -المبكرة- …. عن -التغيير- و-التزوير- والمقاطعة

د. فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2021 / 10 / 20

لعلّ السؤال المركب الأكثر إلحاحاً في أذهان المهتمين بالشأن الانتخابي العراقي هو: إلى أي حد حققت الانتخابات “المبكرة” التي جرت في 10 تشرين الأول/ اكتوبر 2021 تغييراً في معادلات القوة السياسية في العراق باتجاه تمثيلٍ سياسي أكثر إنصافاً؟ وما تأثيرات “التزوير” في تحديد المحصلة السياسية النهائية سواء كان التزوير حقيقياً أم اتهاماً فقط؟ وما أسباب ومخرجات المقاطعة الانتخابية الواسعة التي حدثت؟

تغييرٌ سياسي أم تغييرٌ بالأرقام؟!

سأناقش مفهوم التغيير هنا في إطاره الفكري الإجمالي العام، بعيداً عن الخوض في مدى نجاح أو فشل القانون الانتخابي الجديد (الدوائر المتعددة والتصويت الفردي والفائز بالأغلبية) في تحقيق تمثيلٍ سياسي أدق من سابقه، إذ يتطلب الأمر تحليلاً فنياً مستفيضاً لكمية الأصوات الفاعلة والمهدورة بفعل هذا القانون والقانون السابق، وكيف تم توزيعها بين القوائم والمرشحين الفائزين بما يكشف عن مدى حدوث التغيير من عدمه. وهذا لا يقع ضمن حدود هذه المقالة.
فعلى الصعيد الإدراكي للأفراد، توجد مبالغة في التقديرات تمارسها بعض الأوساط الشبابية والمدنية والثقافية والإعلامية بالقول أن تغييراً حقيقياً – حتى وإنْ كان محدوداً-قد حدث في معادلات القوة السياسية، وأن المخرجات القادمة لن تكون كالفائتة. هذا التوجه الذاتي تقابله واقعة موضوعية أن لغة الأرقام الانتخابية في كل مراحل العملية السياسية في العراق منذ 2003 لم تكن تعادل بالضرورة النتائج السياسية الفعلية للانتخابات، لأن القرار السياسي الحاسم ظلت تصنعه مراكزُ السلطة خلف كواليس البرلمان.
فإذا كانت هناك نسبة من التغيير في عدد المقاعد قد حصلت في الانتخابات الحالية لصالح بعض المستقلين وبعض الذين أتوا من حراك تشرين، فهو تغيير نسبي لن يؤثّر في أداء مجمل المنظومة القابضة على السلاح والريع، بشبكاتها الزبائنية التي استوطنت في أعماق الدولة وخارجها، والحريصة على أن لا تتقاسم أو تتفاوض مع الآخر أي الجيل الشبابي من التشرينيين أو من القوى المدنية والوطنية. فبتقديرٍ رقمي مبسط نجد أن أكثر من 70% من مقاعد البرلمان الجديد ما يزال من حصة النخب الإثنو-سياسية التقليدية الرئيسة المتغانمة على تقاسم السلطة منذ 2003 فضلاً عما يسندها من مراكز السلطة العميقة المستترة، فيما تضم النسبة الباقية هجيناً مشتتاً من كوتا الأقليات وقوائم مناطقية ذات هويات قومية ومدنيين كرد وتشرينيين ومستقلين إصلاحيين ومستقلين آخرين لا تُعرف توجهاتهم بعد.
فسيكولوجياً، الانتخابات تعمل على رفع سقف التوقعات الإيجابية عند الجمهور المشارك بفعل ما يُسمى بـ”التفكير الرغبوي”، أي أن الناس تُسقط تمنياتها على الحدث الانتخابي بوصفه “مخرجاً” لأزماتها، لكن ما أنْ يعود الواقع السلطوي ليفرز معطياته الأساسية الأصلية، حتى تعود مشاعر التأزم من جديد وينخفض سقف التوقعات، ليرتفع سقف الإحباط إلى درجات مضاعفة عن السابق. ويقصد بالواقع السلطوي هنا أن المنظومة الحاكمة في العراق ستبقى متخادمة فيما بينها حصراً ولن تسمح بأي تقاسم لعناصر القوة السياسية مع القوى الجديدة، تأثراً بهيكليتها الأفقية المغلقة العاطلة عن التفاعل التبادلي مع المستجدات.
إن هذا الإصرار القهري الذي تمارسه المنظومة في رفض التنازل ديمقراطياً عن جزء من أسهمها السياسية لصالح القوى الجديدة التي نشأت خصوصاً في الإطار الجغرافي والديموغرافي الشيعي، ومنعها من المشاركة في عملية اتخاذ القرار السياسي في الإطار العام للدولة، سيعني احتمالية الذهاب إلى موجات احتجاجية -ربما عنفية- قد تقود إلى حالة من التفكك في بعض المحافظات ذات الأغلبية الشيعية السكانية بسبب الصدام المحتمل بين قوى السلطة التي لا تريد التنازل عن أي شيء وبين المجتمعات المحلية المحبطة/ الثائرة التي تبحث عن نهاية لتهميشها في هذا البلد، وعن حقها من الثروة الوطنية المسروقة منها.
إن هذا العجز اللاعقلاني في أداء السلطة وعزوفها عن تدارك عوامل التقويض الضاربة فيها لا يعزى إلى الهيكلية الانسدادية المغلقة التي تأسست عليها فحسب، بل يعزى أيضاً إلى أوهامها النفسية المتعددة كوهم القدرة على التحكم بمجرى التطورات القادمة، والاعتقاد بأن الأقدار ستعمل لصالحها في نهاية المطاف، والتفكير التجاهلي الاستخفافي بمؤشرات القوة السياسية المتعاظمة في الضفة الأخرى، فضلاً عن هروبها إلى الأمام واختبائها “المريح” خلف إيمانها بوجود مؤامرة “كامنة” تحيكها القوى الناهضة “العميلة” للأعداء.
وإلى جانب أوهام السلطة الفاسدة تقف أوهام المقهورين أنفسهم ممن يصوتون للسلطة التي قهرتهم وتقهرهم، بالضد من مصالحهم بما يسهم في إدامة حالة الضرر والشقاء التي يعيشونها. فهيمنة القاهرين على مؤسسات التعليم والدين والاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، لطالما كانت تضمن لهم إنتاج أنماط التفكير الخضوعية التي تصبح “مرجعاً” ثقافياً مريحاً تتماهى به فئات عاجزة ومشتتة ومستبعدة عن التفكير المستقل والناقد. وعندها يستسيغ ويبرر هؤلاء المقهورون عبوديتهم –شعورياً أو لا شعورياً- ما داموا لا يمتلكون زمام الفعل المناوئ ولا يعتنقون بديلاً فكرياً يدفعهم للتمرد ضدها.
وفي العراق تحديداً فإن من بين العوامل الأساسية التي ساعدت السلطة على الاحتفاظ بتفوقها الانتخابي – وبالتالي سيطرتها السياسية- كان نجاحها في الاحتفاظ بجمهور انتخابي محدد ظلّ رهينة لإدراكاته الخاطئة (وعيه الزائف) الناشئة عن الهيمنة الثقافية السلطوية المفروضة عليه. وهكذا نجد أن فئات مهمة من المقهورين العراقيين ينتخبون ويعاودون انتخاب قاهريهم رغم معرفتهم بفسادهم وجرائمهم السياسية، إذ يرون في هؤلاء القاهرين الفاسدين إطاراً عقلياً “مفهوماً” و”معروفاً” و”آمناً” للتعايش معه ومنحه المقبولية و”الشرعية”، بالمقايسة مع احتمالات انتخابية أخرى قد تفضي إلى أوضاع لاحقة مجهولة “غير آمنة”. فالقاهرون قادرون دوماً على خلق بيئة انتخابية مادتها الخوف واللايقين تبرر هيمنتهم -هوياتياً أو طبقياً-، وتجعل من الخيارات المضادة “محرماتٍ” لا يجرؤ المقهورون على الاقتراب منها حتى وإنْ كانوا راغبين بها.
فالتزوير الانتخابي الجوهري في بلدٍ –كالعراق- ثقافته السياسية ما تزال تتأرجح بنسبة كبيرة بين الرعوية والخضوعية والقدرية، ليس تزوير الأرقام والخروقات الفنية المتعمدة، بل تزوير الوعي وتحويله إلى صوت انتخابي “صحيح” يمارس “حريته” في أن يعيد مجدداً انتخاب قاهريه.

تزويرٌ جوهري أم تزويرٌ بالأرقام؟!

مما يدعم الرؤية السابقة بشأن استعصاء التغيير السياسي انتخابياً، أن أي “انخفاض” في مقاعد بعض الكتل الماسكة بالسلطة يدفعها فوراً إلى التزوير أو على الأقل التشكيك والطعن بنزاهة الانتخابات وإطلاق اتهامات للآخرين بالتزوير سواء كان التزوير حادثاً أم لا، إما فزعاً من تناقصِ وَهْمِ التحكم لديها، أو إنكاراً دفاعياً ضد حقيقة أن موازين السلطة قابلة للتبدل في غير صالحها، إذ تنزع إلى لوي الوقائع وإخضاعها إلى تصوراتها التسلطية المؤامراتية الرافضة لاحتمال التغيير مهما كان محدوداً.
فمثلما حدث في انتخابات 2018 من تزوير فعلي أو اتهامات بالتزوير، نشهد اليوم في الانتخابات الحالية أمراً مماثلاً دفع بعض الأطراف السلطوية “الخاسرة” إلى توجيه اتهامات بوجود تزوير مؤامراتي -مصدره داخلي وخارجي معاً- يستهدفها، وإلى التهديد بالعنف ما لم تحصل على حصتها المعهودة من المقاعد. إلا أن هذا التزوير -إذا كان حقيقياً – يعدّ في النهاية تزويراً فنياً فحسب يطال حصص الكتل الحاكمة من داخلها وليس تزويراً جوهرياً يهدد حكمها لصالح قوى جديدة خارجها، بمعنى أن كل فريق داخل المنظومة يحاول ابتزاز شركائه في الغنيمة للحصول على نسبة مقاعد أكبر تؤهله للتنافس بقوة عند توزيع الوزارات والمناصب. هو صراع على التغانم فحسب وليس صراعاً أيديولوجياً أو على برامج سياسية. ولذلك لن تنتج عنه حربٌ بين هذه الكتل، لأنها في النهاية ستجد طريقة للتحاصص عبر تنازلات متبادلة في المكاسب وتوزيع الغنيمة، بما “يحفظ” لها “هيمنتها” و”يستبعد” الاحتمالات المعاكسة، مثلما حدث في مرات سابقة عديدة.
وفي مقابل هذه الهيمنة الاحتكارية المتوقعة للسلطة، إذا لم تظهر جبهة معارضة في داخل البرلمان الجديد، على الأقل من بعض التشرينيين ومن بعض المستقلين، وحتى من جزء محدود أكثر واقعية من داخل النخب السياسية التقليدية نفسها، بدعمٍ من المقاطعين انتخابياً خارج البرلمان، فنحن ذاهبون بالضرورة إلى ارتفاع جديد وسريع في سقف الإحباط المجتمعي. وعندها فإن جبهة المقاطعة الانتخابية – بأحزابها وجمهورها- التي لم تحدد سياساتها القادمة بعد بانتظار انجلاء الموقف، سوف ينتقل مشروع المعارضة إليها تدريجياً لتصبح القطب السياسي الجديد. إلا أن حدوث هذا الانتقال يبقى مشروطاً حصراً بقدرة هذه الجبهة على تنظيم صفوفها في برنامج تنسيقي لتتحول من مقاطعة انتخابية إلى جبهة معارضة احتجاجية ذات رؤية سياسية وثقافية تشكل بديلاً للأوضاع الحالية.

جدل المشاركة والمقاطعة

بعد وقت قصير من انتهاء الجولة الانتخابية الحالية، تم إعلان نسب المشاركة (الرسمية وغيرها) ونسب الفوز النهائية غير المكتملة التي حققتها الكتل والأحزاب والأفراد، ما يوفر مادة معلوماتية قابلة للمقاربة والتفكيك والاستنتاج لمن يريد. أما نسبة المقاطعة الكبيرة التي تراوحت بين 59- 70 % في عموم البلاد (حسب المفوضية الانتخابية وتقديرات مراقبين وخبراء)، فلا أحد يستطيع الآن أن يحدد على وجه اليقين مغزاها السيكو- سياسي الدقيق وما يمكن أن تفرزه من تطورات في قادم الأيام، وهي نسبة مقاربة لما حدث من مقاطعة في انتخابات 2018 التي كانت من بين الأسباب التي قادت إلى انتفاضة البصرة 2018 ثم ثورة تشرين 2019. ولذلك فالسؤال الجدلي المطروح: من يحدد المضمون النهائي للنتائج الانتخابية؟ المشاركة أم المقاطعة؟!
هذا السؤال ليس ثنائي الإجابة (مع أو ضد)، بل متعدد الأبعاد والمضامين والغايات، بمعنى أنه متعدد الإجابات بحسب الحالة والسياق. فإذا كان الحديث يقتصر على الجانبين القانوني والفني، فنسب المشاركة وما يختاره الناخبون من ترشيحات (فردية أو قوائمية) هي من تحدد نتيجة الانتخابات الآنية، وهذا أمر مفروغ منه. أما إذا كان الحديث يذهب إلى أبعد من ذلك، أي إلى النتائج العميقة غير المنظورة، فلا يمكن هنا إهمال نسب المقاطعة، بل تصبح المقاطعة بحد ذاتها هي محور الاهتمام التحليلي والاستشرافي خصوصاً عند ارتفاع معدلاتها التي تترافق في العادة مع الحالات التي يعيد فيها النظام السياسي شرعنة نفسه انتخابياً مع تعديلات ثانوية لا تمس الجوهر إلا بأدنى الدرجات.
ما أريد توجيه الانتباه له وسط الاهتمام الحالي المبالغ به بنسب المشاركة والفوز، هو أننا لا نعرف شيئاً دقيقاً عن بنية هذه المقاطعة الانتخابية الواسعة وما يمكن أن تحققه من نكوصٍ سكوني سلبي أو فعل إقدامي في قادم الأيام. ما يمكن قوله اليوم أن الناخبين الذين لم يشاركوا يمكن تصنيفهم احتمالياً إلى ثلاث فئات:
1- مقاطعون منظمون ينتمون إلى بعض التنظيمات الحزبية التشرينية واليسارية التي استندت إلى تحليلات جذرية ترى في المقاطعة نوعاً من المشاركة السياسية الفاعلة للاستثمار في الفضاء الاجتماعي بدل الفضاء البرلماني، ووسيلة لحرمان المنظومة الحاكمة من أي “شرعية” سهلة تريد حصدها من هذه الانتخابات. كما إن نسبة من الجمهور العام وبعض المثقفين غير الحزبيين تقع ضمن هذه الفئة أيضاً.
2- عازفون عن المشاركة بتأثير الاعتقاد بأنهم فاقدون للتأثير والتحكم بمخرجات الانتخابات، وأن العملية السياسية ليست أكثر من لعبة معدة سلفاً لتوزيع الأدوار إذ لن تؤثر الانتخابات نهائياً في تحديد قواعد هذه اللعبة. وهؤلاء العازفون يمارسون اهتماماً معتدلاً بالشأن السياسي ولديهم حججهم المنبثقة من مشاعر الاغتراب والإحباط والعدمية والعجز المكتسب ونظرية المؤامرة، فضلاً عن انفصالهم النفسي العميق والواعي عن النظام السياسي، وكرههم “الأخلاقي” له. وتشكل طبقة الموظفين وعموم الفئات الوسطى جزءً مهماً من هذه الفئة.
3- لا أباليون مقهورون منهمكون بمحاولة البقاء على قيد الحياة وبتقليل الشقاء المطبق عليهم. وهؤلاء قد يعلمون أو لا يعلمون أصلاً بوجود الانتخابات، إلا أنهم في كل الأحوال يمتلكون وعياً اجتماعياً بالمظلومية دون أن يمتلكوا اهتماماً معلوماتياً أو تحليلياً كافياً بالسياسة والشأن العام، بل يعيشون أيامهم بوصفها أقداراً تستدعي التسليم والتكيف والبقاء فحسب لا المساءلة والمواجهة والتغيير. ويشكل المحرومون الجزء الأساسي من هذه الفئة.
يبقى السؤال: هل هذه الفئات الثلاثة المفترضة ثابتة في حجمها ووعيها وحدودها وسلوكها السياسي؟ أم إنها قابلة ديناميكياً للحراك والتقارب فيما بينها وللانتقال المفاجئ والمباغت إلى أنماط أخرى من السلوك السياسي بحكم السياقات الموقفية المستجدة، كالاحتجاج الجماعي أو المشاركة الانتخابية في ظروف جاذبة أخرى؟ وإلى أي حد يمكن للمقاطعين أن يتفقوا مع المشاركين للانخراط في سلوكيات سياسية مشتركة لاحقاً؟
لا إجابة محددة اليوم، لكن المعطى الأساسي لنتيجة الانتخابات الحالية لن يكون بالتأكيد مقتصراً على نسب المشاركين وخياراتهم، بل سيمتد سريعاً إلى مساحة المقاطعة بما تعنيه من محركات جوهرية قادمة لقاطرة الزمن الاجتماعي.

بغداد هي الأقل مشاركة…لماذا؟!

إذا كانت شرعية نظام الحكم “القديم” (أي نظامٍ كان) تتناقص كلما اقترب الناس من المركز الجغرافي (العاصمة) لذلك النظام، فيبدو أن بغداد تقدم مثالاً واضحاً لهذه المعادلة.
ففي الوقت الذي كانت فيه نسبة المشاركة العامة في الانتخابات متدنية في الأصل (بلغت 41% حسب الأرقام الرسمية التي يراها بعض المراقبين والخبراء أعلى من الواقع)، فإن بغداد حصلت على النسبة الأكثر تدنياً من بين بقية المحافظات العراقية، بنسبة 34% للكرخ و31% للرصافة، علماً أن بغداد تشكل لوحدها 20% من مجموع الدوائر الانتخابية لعموم العراق. وهذا يعني أن ما يقارب (66- 69%) من ناخبي بغداد قد قاطعوا الانتخابات بتأثير الوعي السياسي المنظم أو بسبب اليأس من التغيير أو نتيجة اللامبالاة والتجاهل. وكلها مؤشرات على تراجع واضح في أحد العوامل المهمة الساندة لأي سلطة تريد البقاء.
ولهذا البون الفارق في المقاطعة بين بغداد وبقية المحافظات أسباب متعددة. فالبعض قد يرى في ذلك عاملاً سوسيولوجيا تقليدياً يتحدد في الطابع “الحضري” لبغداد، حيث يقل التفاعل والاحتكاك الاجتماعيين بين الناس (بالمقارنة مع بيئات أخرى في العراق)، وبالتالي يزداد انكفاءهم الذاتي على أنفسهم وتقل دافعيتهم لتطوير آراء سياسية تنافسية محددة تدفعهم للتعبير عنها انتخابياً.
والبعض قد يرى فيه سبباً تحشيدياً مركباً (ثقافياً- اقتصادياً- ديموغرافياً)، إذ قد تنجح الكتل السياسية والمرشحون عموماً في التحشيد والتسويق الانتخابيين (بتأثير المال السياسي والنفوذ الديني والعشائري) في المناطق الأدنى تعليماً والأضعف اقتصادياً والأقل في كثافتها السكانية، بالمقايسة النسبية مع العاصمة الأعلى تعليماً والأقوى اقتصادياً والأكثر في كثافتها السكانية.
والبعض قد يرى في ذلك سبباً سيكولوجياً سياسياً، إذ تتراجع شرعية النظام السياسي الفاسد بدرجة أكبر في إدراكات الناس ممن هم قريبون مكانياً من مبانيه ومؤسساته ورموزه الدالة على فساده، فيما يظل البعيدون أكثر تقبلاً نسبياً له، حسب معادلة ((الإقناع يتأثر سلباً أو إيجاباً بالمسافة بين المرسل والمتلقي)).
أخيراً، وإلى جانب المقاربات التي قُدمت قبل قليل لاستكشاف محركات المقاطعة الانتخابية وأسبابها، وبوجود تفسيرات أخرى عديدة لا يتسع المجال لذكرها الآن، فإن تدهور رغبة الناس بالمشاركة الانتخابية (وهي المشاركة السياسية الوحيدة تقريباً لمعظم الناس في العراق) في عموم البلاد، وبشكل أشد في عاصمة الحكم، إنما يوفر أيضاً للباحثين مادة تحليلية واجتماعية يمكن أن تتنبأ بالمخرجات السياسية لهذه المقاطعة، بما يسهم في فهم بعض ديناميات التغيير السياسي وقفزاته النوعية غير المتوقعة حينما يصبح الحاضر في أذهان الناس ليس أكثر من ماضٍ يستميت للبقاء..!. *

*. عن الحوار المتمدن…

زر الذهاب إلى الأعلى