الاقتصادية

مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة

مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة

مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة

مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة

صالح ياسر

2001 / 12 / 10


طيلة أيامه الستة كان مؤتمر الدوحة ( 9-15/نوفمبر/2001) يعج بأصوات متنافرة ومتقاطعة. ولم يكن الجدل المحتدم طيلة الجلسات متركزا على قضايا إجرائية بسيطة وحسب بل على القضايا الكبيرة والشائكة التي تتعلق بمستقبل الاقتصاد العالمي وأفاق تطوره. ومن بين القضايا التي احتدم السجال حولها بين ممثلي البلدان المتطورة والبلدان النامية هي قضية إطلاق جولة جديدة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية تعالج القضايا التي تقف عائقا أمام عملية التحرير هذه. فممثلو الكثير من البلدان المتطورة كانوا ينافحون في الجلسات مقدمين ” حزما متكاملة “من الحجج والبراهين القائمة على النماذج الرياضية، التي برع خبراء المنظمات الدولية فيها، للتدليل على أن مثل هذه الجولة ستساهم في تعزيز الاقتصاد العالمي وتنقله الى ذرى جديدة. أما ممثلو الدول النامية الذين يعيشون التجارب الفعلية المستخلصة من الجولات السابقة فإن القسم الأعظم منهم كان على قناعة تامة بأن الجولة الجديدة من هذه المفاوضات، إذا لم تتم إدارة معركتها بشكل صحيح، رغم اختلال ميزان القوى لغير صالح هذه البلدان، فإنها ستؤدي الى نتيجة واحدة ووحيدة : تعظيم الفقر وعولمته من جهة، وتعظيم الثروة وتركزها وتمركزها من جهة أخرى. وهذه الدول، أي النامية، على حق حين يرفض معظمها الانخراط في أية مفاوضات جديدة قبل أن تلمس منافع انضمامها للاتفاقيات السابقة بما في ذلك تحسين فرص دخول منتجاتها الى أسواق البلدان المتطورة في وقت تطالب الدول الصناعية بمزيد من تحرير التجارة لدعم الأوضاع الاقتصادية العالمية المتردية خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

والخلافات التي ظهرت في الجلسات المغلقة، والتوجهات التي عبرت عنها خطابات الوزراء كشفت حقيقة مهمة وصارخة في أن وهي أن هناك قدر ضئيل جدا من الاستعداد لدى الدول الأعضاء، وخصوصا الدول الصناعية المتقدمة، للتخلي عن مواقفها. ومن المفيد التذكير بأن الإعلان عن تأسيس منظمة التجارة العالمية قد جاء عقب الانتهاء من جولة ارغواي عام 1996 ليؤسس لبداية مرحلة جديدة تقوم على إزالة جميع العقبات والحواجز أمام التبادل التجاري العالمي. ويعني أن جولة أورغواي حطمت آخر قلاع المقاومة فاتحة الباب للعولمة الليبرالية وشرعنة نشاط قواها على المستوى العالمي. وبعيدا عن الهجاء لهذه الظاهرة نشير فقط الى أن الأثر الذي تركه ميلاد منظمة التجارة العالمية على الاقتصاد العالمي كان عاصفا في وضوحه وسرعته، الأمر الذي اسهم في تعزيز علاقات الهيمنة والخضوع على الصعيد العالمي واكسبها مديات جديدة فاقعة في حدتها. والأرقام الإحصائية تشير اليوم إلى أن بلدان ” الشمال الغني ” تحكم قبضتها على 87 من واردات العالم و 94 من صادراته فقط. وأطلق الرأسمال المعولم أشكاله وأدواته وهيئات أركان الرأسمالية العالمية لتخضع الجميع لمنطق القوانين الاقتصادية الرأسمالية المعولمة. فهاهي الشركات المتعدية الجنسيات وعابرة القارات تجبر بلدان ” الجنوب الفقير ” بحكم علاقات عدم التكافؤ، على القبول بمبادئ استثمارية جديدة. وهذه الشركات لا تعمل لوحدها طبعا ولا تملي شروطها بمفردها فقط، بل تدعم نشاطاها وهيمنتها من خلال عناصر هيئة أركان الرأسمالية العالمية، واعني بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من خلال برامج التكييف الهيكلي سيئة الصيت، التي تعلن أهدافها بصراحة ووضوح ممثلة بتركيزها الدائب، في الحقل التجاري، على خفض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة وتوسيع امتيازات الاستثمارات الأجنبية. ومن المفيد الإشارة الى أن مفاوضات جولة أورغواي ، والتي تمخض عنها إنشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1995 باعتبارها امتدادا لمنظمة الغات، قد كانت الأطول والأصعب والأكثر شمولا. فقد دامت لأكثر من سبع سنوات بدأت في بونتا دالستا في الأورغواي عام 1986، وحضرتها 125 دولة وانتهت في مراكش عام 1994. وقد كان الهدف العام لجولة أورغواي خفض التعرفة الجمركية الى الثلث وإزالة كثير من الحواجز غير الجمركية. وبلغ أخر خفض للتعرفة الجمركية ما يقارب الـ 40 . وسعت الدول الصناعية المتقدمة في هذه الجولة إلى تحقيق أهداف مشتركة جديدة من جانب، والى تصفية النزاعات فيما بينها من جانب أخر. إن المفكر المصري المعروف سمير أمين ( في مواجهة أزمة عصرنا، ص 65-66)كان على صواب حين أشار في معرض تقيمه لجولة أورغواي بأنه بات واضحا ” أن القاسم المشترك الذي اتفقت دول الغرب حوله هو معاداة العالم الثالث، لا سيما في مواجهة صادرات الدول المصنعة حديثا التي سعى الغرب الى إيقافا اختراقها الأسواق العالمية. والمواقف التي اتخذتها الدول الغربية في هذا الصدد تناقض تماما مبادئ حرية التجارة. كما أن الغرب، في هذه المفاوضات، دفع الى الأمام مواقعه الاحتكارية، ولم يتردد في أن يستخدم في اكثر من مرة منهج الكيل بمكيالين “.

البيان الختامي لمؤتمر الدوحة. من اجل قراءة صاحية لنص ملتبس

بعد ستة أيام وست ليال من المناقشات الصاخبة والصعبة التي خيمت عليها أجواء فشل مؤتمر سياتل في عام 1999، نجح وزراء الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية في الاتفاق على إطلاق جولة جديدة من المفاوضات لتحرير المبادلات التجارية، أطلقوا عليها مؤتمر الدوحة. ويأمل كثيرون في أن الجولة الجديدة هذه ستساهم في إنعاش الاقتصاد العالمي الذي يعاني ركودا، وان تعيد الى هذه المنظمة هيبتها التي اهتزت بعد الفشل الذي انتهى إليه مؤتمرها في سياتل عام1999 تحت ضغط النشاطات التي أقامتها المنظمات المناهضة للعولمة الرأسمالية، التي كانت في أوج صعودها وروحها الاقتحامية. ولكن نجاح المؤتمر في إطلاق جولة جديدة لا يعني نهاية القصة.

وحتى الأربعاء 14/11 كانت الخلافات ما زالت مشتعلة وحامت الشكوك حول فرص نجاح المؤتمر، وذلك حينما أبدت الهند، البلد الأكثر ” مشاكسة ” في هذا المؤتمر، استيائها من بعض جوانب البيان الختامي المقترح، الأمر الذي دفع مفاوضي الاتحاد الأوربي الى أن يعرضوا على الهنود عدم الانضمام إلى النصوص التي تؤيدها. ولم يرتفع الدخان الأبيض فوق فندق “شيراتون” حيث انعقد المؤتمر في الدوحة عاصمة قطر إلا بعد أن أعلن وزير التجارة الهندي انضمام بلاده الى بعض نقاط البيان التي كانت قد تحفظن عليها.

ولا شك أن قراءة البيان الختامي للمؤتمر الوزاري والذي يشكل قاعدة للمفاوضات التي ستستمر عدة سنوات لاحقا، تتيح القول بأنه ضم الكثير من الصيغ الملتبسة والعبارات التي تعطي اكثر من معنى. وهو بهذا يعد بمثابة صيغة توفيقية للقضايا الخلافية التي كانت مهيمنة على المؤتمر، والتي كانت كل واحدة منها كفيلة بإحباط المؤتمر الذي خيم عليه شبح فشل مؤتمر سياتل ( 1999) وكذلك الأزمة التي يعيشها الاقتصاد العالمي حاليا وضرورة البحث عن صيغ وخيارات تخرجه من هذه الأزمة التي تطول الجميع ولا تستثني أحد. ولكي نؤكد الطبيعة التوفيقية بصدد القضايا الخلافية التي هيمنت على مؤتمر الدوحة نشير الى المواقف والتصورات المختلفة بصدد الملفات الأساسية التي دارت حولها ” معارك ساخنة “.

· بصدد الملف الزراعي، والذي كانت النقاشات حوله صاخبة حقا في ضوء الخلاف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بشأن مسألة الدعم عن الصادرات الزراعية. والنتيجة، فقد حصل الأوربيون والأمريكان على معظم ” الكعكة “. فالاتحاد الأوربي حقق ما أراد بتجنب التزام الإلغاء التام للدعم المخصص للصادرات والاكتفاء بالخفض التدريجي. ولهذا جاء النص في البيان الختامي يعبر عن حل وسط بين الاتحاد الأوربي وبين الولايات المتحدة وحلفائها في مجموعة (كيرنس) وعلى رأسها كندا واستراليا والبرازيل. كما حصلت الولايات المتحدة على ما أرادت وذلك بإبقاء كلمة ” الخفض التدريجي ” التي أزعجت الأوربيين. ولهذا السبب توصل فقهاء الصياغات في مثل هذه المحافل الى صيغة معدلة تنص على أن تجري المفاوضات من اجل ” خفض كل أشكال الدعم المقدم للصادرات، وصولا الى خفضها التدريجي “. وبهدف إرضاء البلدان النامية لكي تبدو وكان التسوية لم تستبعدها فقد تضمن النص عبارة يتيمة تنص على العمل على تحسين ” الوصول الى الأسواق “. وتكفي العودة الى العبارة التالية لنكشف جوهر الاتفاق ولمن يخدم. تقول العبارة بأنه يتعين على الدول الأعضاء أن تتعهد ” ومن دون الحكم سلفا على نتائج المفاوضات ” بـ ” إجراء مفاوضات شاملة تهدف الى : إدخال تحسينات كبيرة في ما يتعلق بالوصول الى الأسواق وخفض كل أشكال الدعم المقدم للصادرات، وصولا الى خفضها تدريجيا، وخفض كبير للدعم الداخلي الذي يسبب خللا في المبادلات “. هذا وكانت الدول الأقل نموا قد طالبت بضرورة أن يتضمن الإعلان الختامي الإقرار بعدم التوازن في المنافع والمصالح في الإطار العام واتفاقيات جولة أورغواي، مؤكدة الحاجة الشديدة للتوازن في هذا النظام والمزايا التي يحققها، وهو ما يتطلب بالتالي التأكيد على التزام الدول المتقدمة بالموافقة على مراجعة نتائج التنفيذ لاتفاقيات المنظمة السابقة، وكذلك النظر في منح الدول النامية الأقل المعاملة التفضيلية اللازمة لنفاذ صادراتها لأسواق الدول الصناعية الكبرى، مع ضرورة التأكيد على مرونة السياسات التجارية العالمية بما يتوائم مع احتياجات الدول النامية لكي يتحقق واقعيا نفاذ صادراتها للأسواق الدولية. وطبيعي الإشارة الى حساسية هذا الملف بالنسبة للبلدان النامية، وخاصة ذات الدخل المتدني والتي ما زالت تعتمد كثيرا على التجارة الزراعية وغالبا ما تعتمد على تصدير عدة منتجات زراعية كمصدر رئيسي لها من العملات الصعبة. وفي حديثه أمام مؤتمر الدوحة أشار هارتويغ رئيس الوفد المراقب لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية FAO الى أن صادرات البلدان النامية شكلت 27 من إجمالي التجارة الزراعية منذ عام 1980، ولكن خلال نفس الفترة ارتفعت واردات هذه البلدان من المواد الغذائية بنسبة 60 لتصل قيمتها الى 84 مليار دولار حاليا. وأضاف هاريتونغ أن هذه الأرقام تعكس بوضوح الأهمية المتزايدة لقطاع التجارة الخارجية في توفير احتياجات الاستهلاك الغذائي خصوصا للبلدان النامية. غير أن هذه الأرقام تعكس في الوقت نفسه حقيقة أخرى هي التزايد المطرد للكلفة المالية لوارداتها الغذائية، وبالتالي تنطرح هنا مشكلة الأمن الغذائي لهذه البلدان ومدى انكشافه. إذ كما معروف ما زال عدد الناس الذين يعانون من سوء التغذية في البلدان النامية مرتفعا بشكل غير مقبول. فطبقا لمعطيات منظمة الأغذية والزراعة الدولية فإنه خلال الفترة 1997 – 1999 بلغ مجموع الذين يعانون من سوء التغذية في العالم 815 مليون نسمة منهم فقط 777 مليون نسمة في البلدان النامية. وتزداد الصورة قتامة بالنسبة للبلدان الأقل نموا والتي لم تتغير نسبة الـ 38 من سكانها الذين يعانون من سوء التغذية طوال الـ 16 سنة الماضية. والخلاصة فإنه يمكن القول أن البلدان النامية الزراعية لم تحقق ما كانت تصبو إليه بالنسبة لإلغاء الدعم على الصادرات الزراعية في الدول الغنية بما يتيح لمنتجاتها قدرة تنافسية. كما جاء النص المتعلق بتنفيذ الاتفاقات السابقة دون الحد الأدنى من طموحات البلدان النامية الساعية إلى إلغاء الحصص المفروضة على صادراتها وخصوصا بالنسبة للمنسوجات، ودفع الدول الغنية الى تطبيق اتفاقات جولة أورغواي التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1995 بما يضمن وصول منتجاتها الى أسواق البلدان الغنية.

· بصدد ملفات البيئة والتجارة فقد حصل الأوربيون كذلك على ما أرادوه بالنسبة الى الاتفاق على إطلاق مفاوضات بشأن العلاقة بين التجارة والمعايير البيئية على الفور، مع التحفظ عن الحكم سلفا على نتائج هذه المفاوضات حيث نصّ البيان الختامي على إجراء مفاوضات ” من اجل تحسين الدعم المتبادل بين التجارة والبيئة، ولكن من دون الحكم سلفا على نتائج المفاوضات “. ومن جهة أخرى تخلت الدول الغربية عن مطالبتها بتأكيد البعد الاجتماعي للمبادلات التجارية، وخصوصا بالنسبة الى تطبيق معايير العمالة التي تعتمدها منظمة العمل الدولية. ومن الملاحظ أن البعد الاجتماعي كان غائبا في البيان الختامي لمؤتمر الدوحة حيث اكتفت مقدمة البيان بإشارات عمومية وأعاد البيان التأكيد على أن المنظمة عبّرت في مؤتمر سنغافورة في عام 1997 عن موقفها من التشريعات الأساسية للعمل المعترف بها دوليا.

· ملف المنسوجات. استجابة لمطلب الدول النامية، تم إدراج ملف تنفيذ الاتفاقات السابقة،ولا سيما منها تلك التي تتعلق بالمنسوجات، ضمن المفاوضات. ولكن البيان الختامي جاء دون مطالبة البلدان النامية بالإسراع في إلغاء الحصص المفروضة على الصادرات من المنسوجات. وهو جانب إيجابي، ولو مؤقتا، بالنسبة للبلدان النامية المصدرة لهذه السلع.

· ملف مكافحة الإغراق. كانت مفاجئة المؤتمر هو التوصل الى صيغة توفيقية في شأن تمكين الدول النامية من إنتاج أدوية رخيصة خارج براءات الاختراع. وطبعا لم تكن الموافقة من طرف البلدان الصناعية المتطورة عامة بل كانت تتعلق ببلدان نامية محددة كالبرازيل والهند في إطار سياسة هذه البلدان لإنتاج أدوية لمواجهة أوبئة مثل الإيدز والسل والملاريا تكون تكاليف إنتاجها عالية، وعدم وجود صناعاتها في البلدان الفقيرة يضع عبئا أخلاقيا على البلدان الغنية لمساعدتها كي تتخصص بإنتاج هذه الأدوية. ومن جانب أخر تمكنت كل من كوريا الجنوبية واليابان من الحصول على ما أرادتاه بقبول الولايات المتحدة أخيرا بان تدرج تدابير مكافحة الإغراق في المفاوضات المتعلقة بالأنظمة على أن تتم هذه المفاوضات على مرحلتين. وقد اعتبرت البلدان النامية نفسها مستفيدة نسبيا من هذا القرار، لاسيما وان النص يدعو إلى اخذ احتياجاتها في الاعتبار.

· ملف الاستثمار والمنافسة وتجارة الخدمات. يزيح البلاغ الختامي أي عوائق أمام الرأسمال المالي العالمي حيث اتفق على أن تجري مفاوضات بعد المؤتمر الخامس لمنظمة التجارة العالمية من اجل ” إيجاد إطار تعددي يضمن شروطا شفافة ومستقرة ومتوقعة للاستثمارات طويلة المدى عبر الحدود، وخصوصا الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما يساهم في توسيع المبادلات التجارية “. ومن المفيد الإشارة أن البلدان الصناعية المتقدمة هي المصدر الأساسي للاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما أن 75 من الموجودات الإجمالية المتراكمة و 60 من التدفقات للاستثمار الاجنبي المباشر موجودة لدى الأقطاب الثلاثة الكبرى ( أمريكا الشمالية وأوربا واليابان). وبالنسبة لتجارة الخدمات فإنها تحتل اليوم موقعا مهما في التجارة العالمية. فعلى سبيل المثال بلغ حجمها 1415 مليار دولار في عام 2000، وهي بهذا تشكل حوالي 20 من حجم التجارة العالمية. وهذا النوع من التجارة يعكس خاصية التجارة العالمية بشكل عام إذ تستحوذ الدول الصناعية المتقدمة على الجزء الأكبر من تجارة الخدمات، حيث تحتل صادرات الخدمات في الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوربي وكندا 939 مليار دولار مشكلة حوالي ثلثي صادرات العالم من هذا النوع. ونفس الأمر بالنسبة للواردات. في حين تمتاز حصة البلدان النامية من هذا النوع من التجارة بالضعف وتحتل هذه البلدان موقعا متخلفا التجارة العالمية للخدمات. فعلى سبيل المثال تبلغ صادرات البلدان الأفريقية حوالي 30 مليار دولار وتشكل نسبة قدرها 2.1 فقط من صادرات الخدمات في العالم. وتبلغ واردات هذه المجموعة من البلدان 38 مليار دولار أي 2.7 من الواردات العالمية من هذا النوع. ومن أجل توضيح موقع تجارة الدول الأفريقية من هذا النوع نشير فقط الى ان واردات وصادرات البلدان الأفريقية من هذا النوع لا تتعدى ثلث تجارة الخدمات اليابانية. في السابق كان الاتفاق العام للغات مقتصرا على تجارة السلع، ولكن مع بداية جولة أورغواي طرحت البلدان المتطورة اقتراحا بإدخال الخدمات في التنظيم التجاري العالمي، ولكن هذا الاقتراح واجه معارضة شديدة من البلدان النامية. وفي النهاية لم تتوصل جولة أورغواي الى معالجة نهائية لتجارة الخدمات مكتفية باتفاق عام حولها، في حين لم يحقق مؤتمر الدوحة تقدما ملحوظا في هذا المجال. وينقسم الاتفاق العام هذا الى ثلاثة محاور كبرى هي :

– المحور الأول ويتعلق بالمبادئ العامة التي تسري على جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية وهي الدولة الأولى بالرعاية والمعاملة الوطنية وشفافية السياسة التجارية. وعلى كل عضو في المنظمة ان يمنح حالا ودون أي شروط معاملة متساوية لجميع الأعضاء، وعلى كل عضو أن يعامل خدمات دولة أخرى معاملة الخدمات المحلية، وعليه نشر القوانين والأنظمة والقرارات والإجراءات التفصيلية المرتبطة بالخدمات.

– المحور الثاني ويتناول القوائم التي تتضمن خدمات معينة تلتزم الدولة بتحريرها وفق شروط معينة،كأن تلتزم بفتح أسواقها أمام المنافسة الأجنبية في ميدان النقل الجوي، يتم وضع هذه القوائم من قبل الدولة بمحض إرادتها.

– المحور الثالث ويحتوي على ثمانية أشكال للخدمات ملحقة بالاتفاق كالخدمات المالية والنقل الجوي. وتقرر أن تجري مفاوضات متعددة الأطراف لاحقا للتوصل إلى تنظيم نهائي لها.

هذا وكان أحد أهم الأحداث في مؤتمر الدوحة هو انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى اعتبار ذلك بمثابة ” يوم تاريخي ” لأنه سيخدم الصين والولايات المتحدة والاقتصاد المعولم. ولا شك أن دخول الصين الى منظمة التجارة العالمية سوف يكرس تعميق تدويل الاقتصاد الصيني. واعتبرت صحيفة الواشنطن بوست انضمام الصين الى هذه المنظمة بمثابة ثورة في الاقتصاد الصيني، ورأت في الوقت نفسه أن هذه الخطوة من الأهمية بمكان حيث تعني أحداث تغيرات ثورية مشابهة لتلك التي حدثت عند تطبيق الإصلاحات الاقتصادية في عام 1978 .وطبيعي أن هذا الحدث، أي انضمام الصين الى منظمة التجارة العالمية، لم يكن سوى نتيجة منطقية لسياسة الانفتاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي التي بدأها دينغ سياوبنج الذي وصل للسلطة عام 1978، والذي أدى، أي الانفتاح، الى تنامي دور الاستثمارات الأجنبية حيث بلغت حوالي 350 مليار دولار فقط. وتحضى قضية انضمام الصين الى هذه المنظمة العالمية بمقاربات مختلفة تسعى جميعها للموازنة بين إيجابيات الدخول والمخاطر الناجمة عنه. وبحسب أماندا شين، المحللة الكندية المتخصصة في الشؤون التجارية والاقتصادية، فإن ثمة خسائر ستلحق بالصين جراء انضمامها الى منظمة التجارة العالمية. وعزت المحللة ذلك الى أن أسعار المنتجات الزراعية الصينية أعلى بنسبة تتراوح بين 17 و 133 من الأسعار في السوق العالمية. وتضيف اماندا شين قائلة بان فتح الأسواق الصينية أمام المنتجات الأجنبية يعني انخفاض أسعار الحبوب والحاصلات الزراعية للصين مما سيكبدها خسائر في فرص العمل تتراوح بين 9.3 مليون و 35.5 مليون فرصة عمل. ويعني ذلك أن انضمام الصين الى منظمة التجارة العالمية سيؤدي الى ارتفاع معدلات البطالة لتصل الى 5 ولتكون مشكلة البطالة اكبر تحدي تواجهه الصين. وسيكون على الصين إيجاد السبل الملائمة لمواجهة الارتفاع الهائل في حجم السكان في المقاطعات الريفية وبالتالي زيادة البطالة في تلك المناطق والتي يقدرها المحللون بحوالي 600 مليون عاطل في عام 2005.

ردود الفعل على المؤتمر متباينة : محبون وكارهون !
والخلاصة، كانت ردود الفعل متباينة بصدد مؤتمر الدوحة. وطبيعي أن أكثر الناس فرحا كان المدير العام لمنظمة التجارة العالمية مايك مور الذي لخص كلامة بالقول ” إنها لحظات تاريخية “. ولم تكن فرحة الممثل التجاري الأمريكي روبرت زوليك اقل من سابقة حيث قال ” اليوم بعث أعضاء منظمة التجارة العالمية برسالة قوية الى العالم. لقد محونا وصمة سياتل …. بالموافقة على المفاوضات التجارية العالمية الجديدة، تساعد في تحقيق التنمية والازدهار في مختلف أنحاء العالم “. في حين وصف الرئيس الأمريكي بوش نتائج مؤتمر الدوحة بأنها إعلان جسور يعطي الأمل للاقتصاد العالمي. وقال اري فيشر المتحدث باسم البيت الأبيض في بيان أصدره عشية انتهاء أعمال مؤتمر الدوحة وصدور البيان الختامي باسم الرئيس الأمريكي أن بوش يرى الاتفاق الذي توصلت إليه منظمة التجارة العالمية من شأنه أن يوسع رقعة الرفاهية في العالم ويوطد دعائم الاقتصاد العالمي. وأضاف فيشر أن الرئيس بوش يعتقد أن التجارة الحرة تفيد المزارعين والعمال والعائلات في الولايات المتحدة وتخلق وظائف مجزية الأحر للأمريكيين. وطبيعي أن نتفهم بواعث فرح الرئيس بوش والناطق الرسمي باسمه حين نقرأ هذه الكلمات الشديدة الدلالة.

ومن جهته رحب توني بلير رئيس الوزراء البريطاني باتفاق الدول المشاركة في مؤتمر الدوحة على إطلاق جولة جديدة لتحرير التجارة العالمية. وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني في بيان له أن بلير يرى في اتفاق الدوحة بمثابة تصويت عالمي على التعاون لا المواجهة.وأضاف بلير أن دول العالم الغنية منها والفقيرة سوت خلافاتها لإطلاق جولة تجارية ستجعلنا جميعا اكثر رخاء.

ومن جهته رحب رومان برودي رئيس المفوضية الأوربية بالاتفاق الذي توصلت إليه منظمة التجارة العالمية لبدء جولة جديدة من مباحثات تحرير التجارة العالمية وقال إن الاتفاق وازن بين مصالح عديدة ومتباينة. وأضاف برودي أن الجميع بحاجة إلى التفاوض للتوصل الى نتيجة جازمة لتحقيق تقدم حقيقي على صعيد التنمية المتواصلة.

ولكن خصوم العولمة الرأسمالية المنفلتة من عقالها كان لهم رأي آخر، وهو ما عبر الناشط الفرنسي المعروف جوزيه بوفيه، الذي اعتبر أن البيان الختامي لمؤتمر الدوحة يندرج في إطار ” منطق ليبرالي الى ابعد حد ” . وبوفيه محق في كلامه هذا لأن مؤتمر الدوحة كان محاولة أخرى لتصفية آخر القلاع التي تعترض زحف العولمة الرأسمالية ومنطقها المتوحش.

وخلال مداولات مؤتمر الدوحة أصدرت منظمة أوكسفام ورقة أوضحت فيها وجهة نظرها من حقيقة ما يجري في منظمة التجارة العامية ومدى مصداقيتها في التوجه نحو إرساء قواعد عادلة للتجارة العالمية التي بإمكانها تحقيق مطامح كل الدول المنظوية تحت عضويتها وانطلقت الورقة من القضايا الملحة المطروحة على جدول أعمال المؤتمر والوعود السابقة التي قطعت بشأنها والتي تخص البلدان النامية ومقارنتها بالواقع العملي وما تحقق فعلا من وعود بشأنها. والقضايا التي بلورتها هذه المنظمة في ورقتها هي ثمان قضايا ( لمزيد من التفاصيل حول هذه الورقة انظر جريدة الراية القطرية العدد الصادر بتاريخ 14/11/2001) :

– حماية الزراعة

– معاملة افضل للدول النامية

– معاملة افضل لأفريقيا

– قوانين جديدة تحمي صحة الدول الفقيرة

– المساعدات المادية والتقنية للدول الفقيرة

– أن تعمل المنظمة لخلق ظروف افضل للتنمية المستدامة وتقليل الفقر في الدول النامية

– تحسين مدخل السوق للأنسجة والملابس

ماذا كانت النتيجة الفعلية، تتساءل منظمة أوكسفام ؟

النتيجة كما تعرضها هذه المنظمة واضحة، وهي في الحقيقة ليست نتيجة واحدة بل عدة نتائج من أبرزها :

· خسارة البلدان الفقيرة لمليارات الدولارات سنويا بسبب سياسات الحماية التي تفرضها البلدان الغنية

· حدود التعريفة الجمركية في الدول الغنية تعادل أربعة أضعاف ما هي عليه في الدول الفقيرة

· حواجز نجارة الزراعة باهظة التكاليف للدول الفقيرة

· فشلت الدول الغنية في الوفاء بالتزاماتها فيما يخص اتفاقية صادرات الأنسجة والملبوسات

· قوانين الملكية الفكرية والاستثمار تطبق بشكل يضر بالتركيبة الاجتماعية والاقتصادية في الدول الفقيرة

وقادت هذه النتائج منظمة أوكسفام الى القول بأن الخداع والكيل بمكيالين هما اللذان يصوغان سلوك الدول الصناعية في تعاملها مع الدول النامية في مجال التجارة. وتلخص منظمة أوكسفام موقفها تجاه المنظمة والدول الغنية مشيرة بان الدول الصناعية ومنذ جولة أورغواي فشلت باستمرار في التقدم في وعودها والتزاماتها للأقطار النامية. ونتيجة ذلك فإن النظام التجاري ظل يسير في تعامله بنظام الكيل بمكيالين وتلبية للمصالح الضيقة للدول الغنية وهيمنتها على الاقتصاد وحاجات التنمية الاجتماعية للدول الفقيرة.

أما منظمة السلام الأخضر الدولية (جرين بيس) فقد شنت هجوما قويا على مؤتمر الدوحة ونتائجه لأنه تجاهل قضايا البيئة، والتي اعتبرتها المنظمة بمثابة خطوة تنطوي في داخلها على حماية واضحة وصريحة للشركات الأمريكية والأوربية المستفيدة من قطع الأشجار في الغابات أو دفن النفايات السامة في البلدان النامية. ومن المعروف أن منظمة التجارة العالمية وبضغط من الوفد الأمريكي بالأساس تجاهلت الطلب الذي تقدمت به المنظمات غير الحكومية بإدراج موضوع البيئة على جدول أعمال مؤتمر الدوحة. والموقف الأمريكي هذا يشكل امتدادا لتجاهل الولايات المتحدة اتفاقية كيوتو للبيئة والتي تعتبر عنصرا أساسيا في احترام المعايير البيئية . وطبيعي أن هذا التجاهل وإصرار الولايات المتحدة على رفض اتفاق موضوع البيئة برمته يساعد هذا البلد على توفير معونات للصناعة الأمريكية تقدر بمليارات الدولارات، والتي تذهب جميعا لصالح التجارة الأمريكية على حساب شعوب العالم. وفي احتجاج مبتكر واعتراض رمزي على موقف منظمة التجارة العالمية تجاه قضايا البيئة قام أعضاء من منظمة السلام الأخضر بإلقاء مسودة البيان الختامي للمؤتمر الوزاري الرابع للمنظمة والمطبوعات الأخرى في حاوية رمزية للقمامة أمام عدسات المصورين تعبير عن استياء المنظمة الشديد من إهمال المؤتمر ومنظمة التجارة العالمية لقضايا البيئة.

الحاجة الى رؤية الواقع بلا رتوش
ما هو تأثير منظمة التجارة العالمية على الاقتصاد العالمي ؟
كما هو معروف، تميز عقد التسعينات من القرن العشرين بانهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وتعاظم نشاط الأسواق المالية، ونشوء التكتلات الاقتصادية الكبرى والعملاقة، ومن بينها منظمة التجارة العالمية. ويمكن القول ومن دون أدنى ترد أنه بنشوء هذه المنظمة العملاقة التجارة تكون قد اكتملت عمارة النظام الاقتصادي العالمي المثلثة الأضلاع ( البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية) والتي تعد بمثابة هيئة أركان النظام الرأسمالي العالمي بطبعته الجديدة حيث هيمنة منطق هذا النظام وقوانينه والياته الناظمة. وأدى قيام هذه المنظمة الى إضفاء سمات جديدة ساهمت في تعديل ملامح الاقتصاد العالمي وإكسابه ملامح جديدة تعبر عن جوهره الرأسمالي بوضوح اشد. ومن بين الملامح الجديدة ما يلي :

· عولمة الاستقطاب بشكل اكثر حدة من خلال استمرار تصاعد حدة الفوارق التنموية بين الدول “الغنية ” والدول ” الفقيرة “. ويتجلى ذلك من خلال حقيقة انه في الوقت الذي لا يتجاوز عدد سكان الدول المتقدمة 15.5 من إجمالي عدد سكان العالم فإن نصيبها من الناتج الإجمالي العالمي بلغ نحو 57.4 في عام 1999. أما البلدان النامية فإن مساهمتها ظلت ضئيلة في الناتج الإجمالي العالمي رغم إنها تضم حوالي أربعة أخماس سكان العالم. وبعبارة بسيطة، يمكن القول أن ثمار النمو الأساسية كانت تجري لصالح القوى الاقتصادية الفاعلة في الاقتصاد العالمي، مما عمق الفجوة بين بلدان ” الشمال والجنوب “. يقول شوسودوفسكي صاحب كتاب ” عولمة الفقر ” ( ص 115) بأن 3 مليارات من سكان العالم تتصرف بنسبة 4.9 من الدخل الإجمالي العالمي أي اقل من الدخل الإجمالي لفرنسا ومستعمراتها في ما وراء البحار. وأما الأفارقة جنوب الصحراء البالغ عددهم 500 مليون شخص ، يحصلون على اقل من 1 من الدخل العالمي، أي ما يعادل نصف دخل ولاية تكساس الأمريكية. وخلال الفترة 1987 – 1998 تراوحت نسبة السكان الذين يعيشون على اقل من 1 دولار يوميا بين 24 و 28 من إجمالي سكان البلدان النامية.وفي عام1998 كان هناك 1,6 مليار شخص في البلدان النامية ممن يعيشون على 1 – 2 دولار يوميا. والخلاصة أن منظمة التجارة العالمية، كما هو الأمر بالنسبة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قد أسهمت بدور بارز في تركيز الثروة في أيدي أقلية من الأثرياء يقابلهم تفاقم وتفشي الفقر والمرض والتهميش الاجتماعي والبطالة في أغلبية مناطق عالمنا المعاصر. وتشير بعض الدراسات الى أن الدول الأكثر فقرا في العالم تسخر من 162 مليار دولار الى 265 مليار دولار من عائدات التصدير نتيجة لتطبيق اتفاقيات جولة أورغواي ككل، في حين أن هذه البلدان تدفع ما يتراوح بين 145 مليار و 292 مليار دولار نتيجة تكلفة فاتورة الغذاء، الأمر الذي يعمق من حالة اللاعدالة والذي ينعكس بدوره سلبا على الشرائح الاجتماعية ذات الدخول المتدنية.

· تكريس حدة العلاقات اللامتكافئة بين بلدان ” الشمال الغني ” وبلدان ” الجنوب الفقير ” الذي تعاني معظم بلدانه من المشاكل المزمنة المعروفة كالفقر والبطالة وأزمة المديونية الخارجية، والتي تفضي بمجموعها الى انحباس أفق النمو وبالتالي تعميق التبعية للعالم ” الغني ” . وتكمن حدّة هذه العلاقات غير المتكافئة من خلال احتكار المراكز الثلاثة الكبرى ( أمريكا الشمالية، أوربا، اليابان) لحوالي 87 من الواردات العالمية وأكثر من 94

من الصادرات العالمية من السلع والمواد المصنعة. ظل نصيب مجموعة البلدان النامية من التجارة العالمية ثابتا طيلة العقود الثلاثة الأخيرة ( بلغ حوالي 18 ) بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط رغم أن سكان هذه المجموعة من البلدان يشكلون ثلاثة أرباع سكان العالم. وإضافة لذلك فقد لوحظ انه في الفترة التي شهدت تعمق سيرورات العولمة وزادت إجراءات تحرير التجارة واندماج البلدان النامية بشكل متعاظم في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ارتبطت بظاهرة مهمة هي تعرض شروط التبادل التجاري للتدهور في غير صالح هذه البلدان. (قارن : رمزي زكي : الطريق الى سياتل، ص 9 –10). هذا مع العلم انه وطبقا للإحصائيات الصادرة عن منظمة التجارة العالمية فقد بلغت الصادرات السلعية العالمية 6038 مليار دولار، في حين بلغت الواردات العالمية 5473 مليار دولار وذلك في عام 2000.

· العولمة المتعاظمة للحياة الاقتصادية وإضفاء وتيرة متصاعدة عليها من خلال تحرير التجارة من جميع القيود، وفقا لما نصت عليه اتفاقيات منظمة التجارة العالمية ذاتها. وكما هو معروف فقد أدت العولمة المتسارعة الى بروز نظام اقتصادي جديد دفع الى إعادة ترتيب الأولويات والسياسات الاقتصادية للدول، والى بروز منظومة جديدة من العلاقات والمصالح الاقتصادية المتشابكة مما جعل الاقتصاد العالمي أكثر تعقيدا وتشابكا، وهذا ليس بمعزل عن الدور الذي لعبته وتلعبه منظمة التجارة العالمية بالتعاون مع الصندوق والبنك الدوليين ومن خلال تنفيذ استراتيجية كونية موحدة تعيد صياغة الاقتصاد العالمي وفقا لأهداف ومصالح الاحتكارات العملاقة وراس المال المالي العالمي.

· تعاظم دور الرأسمال المالي العالمي وعولمة نشاطه بحيث تنامت وتائر نموه بمعدلات تفوق وتائر نمو التجارة والدخل العالمين. ولم تكن الديناميكية الجديدة لرأس المال المالي المتعولم في هذه الفترة تحمل معها جوانب إيجابية للاقتصاد العالمي، بل جلبت أيضا مخاطر وهزات مدمرة على الاقتصاد العالمي. فقد شهد العالم ومنذ أواسط تسعينات القرن العشرين طائفة من الأزمات طالت بلدانا بعينها أو مناطق محددة، من بينها ما حدث في المكسيك ( 1994 – 1995)، ودول جنوب شرقي آسيا (1997)، والبرازيل ( 1998)، وروسيا ( 1999). وبينت التجربة التاريخية أن توزيع المنافع الناجمة عن العولمة المالية لم يكن عادلا، ولا يمكن أن يكون كذلك، فقد استحوذت بلدان ” الشمال الغني ” على هذه المنافع في حين واجهت الدول النامية مخاطر عديدة من بينها :

– المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية للاستثمارات الأجنبية ( وعلى وجه الخصوص الاستثمارات قصيرة الأجل مثل استثمارات الحافظة المالية).

– مخاطر التعرض لهجمات المضاربة بالعملة.

– مخاطر هروب الأموال الوطنية الباحثة عن ظروف توظيف افضل أو أمان اكثر.

– مخاطر دخول الأموال القذرة ( أي عمليات غسل الأموال).

– إضعاف السيادة الوطنية في مجال الإشراف على السياسات المالية والنقدية لهذه البلدان.

ويشير جون جري صاحب كتاب ” الفجر الكاذب ” ( ص89 ) بأنه توجد الأن سوق عالمية في راس المال على نحو لم يعرف من قبل، وان المعاملات في أسواق الصرف الأجنبي وصلت الأن الى رقم يبعث على الدهشة، وهو حوالي 1.2 تريليون دولار في اليوم ( أي 1200 مليار دولار في اليوم). وهذا الرقم أعلى بمقدار 50 مرة من مستوى التجارة العالمية.

· تعاظم التوزيع غير العادل لرؤوس الأموال على صعيد عالمي واتجاهها المتزايد نحو التركز في البلدان الرأسمالية المتطورة. بين عامي 1982 و 2000 تنامت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بحوالي 22 مرة حيث بلغت 57 مليار دولار في عام 1982 في حين ارتفعت الى 1271 مليار دولار في عام 2000 . تشير المعطيات الإحصائية الى أن عقد التسعينات من القرن العشرين شهد توجه ما يقارب من 75 من الاستثمارات الأجنبية نحو الأقطاب الرأسمالية الثلاثة الكبرى (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان)، في حين كانت حصة بقية العالم 25 فقط. وفي عام 2000 لوحده استحوذت الولايات المتحدة والجماعة الأوربية واليابان مجتمعة على 80 من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما تستحوذ هذه البلدان على 91 من المصدر من هذه الاستثمارات الخارجية المباشرة. ومن المفيد الإشارة الى أن حوالي ثلاثة أرباع حصة البلدان النامية من تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية كان قد تركز خلال هذه الفترة في عشرة من هذه البلدان فقط. هذا وهذا التوزيع الفعلي يفند واحدا من الفرضيات التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية والقائلة بالتوزيع الأمثل والعادل لرؤوس الأموال على الصعيد العالمي.

· دفع الاتجاه المتعاظم للعولمة ومنظماتها العملاقة، وفي مقدمتها منظمة التجارة العالمية، إلى تنامي نزعات الأقلمة وظهور تكتلات اقتصادية إقليمية أو تفعيل دور الموجود منها فعلا لمواجهات طغيان منظمات العولمة.ومن المفيد الإشارة الى أن بناء التكتلات الإقليمية لم يكن مقتصرا على البلدان ذات الاقتصاديات المتجانسة والمتقدمة منها ( كالاتحاد الأوربي على سبيل المثال) بل تعداه إلى السعي لربط شبكات من التعاون أو الشراكة مع أطراف اقل نموا وأهداف مختلفة. وبغض النظر عما تحقق في هذه المجالات فإن هناك من الباحثين من يرى أن التكتلات الإقليمية سواء شمال – جنوب أو جنوب – جنوب في ظل ترتيبات الغات سابقا ومنظمة التجارة العالمية حاليا، قد دفعت بالاقتصاد العالمي الى عولمته وليس العكس.

· قادت سيرورات العولمة والتحرير التجاري والمالي، وكذلك تطبيق الكثير من البلدان النامية لبرامج التكييف الهيكلي، الى تفاقم معضلة المديونية الخارجية المستحقة على هذه البلدان، رغم أن الوصفات التي فرضها صندوق النقد الدولي كانت تفترض تصحيح الإختلالات الناشئة في موازين مدفوعات هذه البلدان. وبالتالي تعزز من قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وبحسب البيانات الإحصائية الصادرة عن البنك الدولي فقد ارتفع رصيد ديون البلدان النامية من 603 مليار دولار في عام 1980 الى 2172 مليار في عام 1997. ويشير تقرير التنمية البشرية لعام 1997 ، ص 84 والصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة الى مفارقة شديدة الدلالة قوامها أن ” حكومات أفريقيا جنوب الصحراء كانت تحول الى دائنيها من بلدان الشمال أربعة أضعاف ما تنفقه على صحة سكانها “. وهذه الأرقام تكفي للدلالة على ” عدالة ” النظام الرأسمالي في توزيع ثمار التنمية.

· وهكذا يمكن القول أن تقسيما ثلاثيا جديدا للعمل قد رأى النور، عماده التعاون الوثيق بين صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، ومنظمة التجارة العالمية وظيفته مراقبة السياسات الاقتصادية للبلدان النامية. ومنذ لحظة انبثاق منظمة التجارة العالمية اصبح العديد من شروط برامج التصحيح الهيكلي التي فرضها الصندوق والبنك الدوليين، مثل تحرير التجارة وتحرير نظام الاستثمارات الأجنبية، يشكل الأن جزءاً عضويا من شرعة منظمة التجارة العالمية ذاتها. وبحسب شوسودوفسكي ( ص 118) تكوّن البنود المشار إليها أعلاه منذ اليوم الأساس في القانون الدولي لـ ” مراقبة ” الدول ولتطبيق شروط الإقراض، بصورة غير مباشرة.

الخلاصة

انعقد مؤتمر الدوحة والحرب مندلعة في مكان آخر، في أفغانستان. وأضفت العمليات العسكرية المندلعة هناك استحقاقاتها على المتفاوضين. فقد استخدم المفاوضون الأمريكيون، وبدعم من حلفائهم الأوربيين واليابانيين عند الضرورة، ” بنادقهم الاقتصادية ” لإملاء شروطهم ورؤيتهم الجديدة لعالم ما بعد11 سبتمبر 2001 . وقد حقق الأمريكيون نصرهم الاقتصادي في مؤتمر الدوحة بموازاة مساعيهم المحمومة الأن لتحقيق نصر آخر في أفغانستان. هكذا إذن تقف البندقية الاقتصادية جنبا الى جنب البندقية الحربية، فالطلقات في الحالتين موجهة لخصم واحد ووحيد. وفي مؤتمر الدوحة تم إقرار الوصفة الليبرالية الجديدة ببعدها العالمي وبموافقة الجميع، عملا بما صرح به الرئيس الأمريكي عشية أحداث سبتمبر حين قال : من مع أمريكا فهو ضدها. وبوش لا يتحدث هنا عن أمريكا كدولة بل يتحدث عنها باعتبارها رمزا لقيم الرأسمالية المعولمة الساعية لفرض منطقها على كل العالم وفي كافة الحقول، بما فيها الحقل الاقتصادي. الجولة الأخيرة انتهت بسلام، ولكن مصيرها لم يتحدد طبعا في الجلسات العلنية بل وراء الكواليس، فقد قيل هناك كلام كثير وكانت الوعود المقدمة للبلدان النامية المعترضة ( وهي قليلة طبعا) مبطنة بالكثير من التهديدات العلنية والمضمرة تتراوح بين التذكير بفقدان ” مزايا ” العولمة وتحرير التجارة وبين التهديدات المكشوفة بقطع الإعانات بمختلف أنواعها. وكعادتهم في ساحة الحرب، قاد الأمريكيون جولات الكواليس ببراعة نادرة !

ومن حقنا نحن أبناء البلدان النامية أن نتساءل اليوم : هل كان مؤتمر الدوحة مؤتمرا للآمال الواعدة أم للوعود الكاذبة، مثل بقية المؤتمرات التي تعقدها هيئات أركان الرأسمالية العالمية ؟ سؤال ستكشف عنه الجولة الجديدة من المفاوضات التي أطلقها مؤتمر الدوحة العتيد.

18/11/2001

المصادر المعتمدة

اعتمدت الدراسة على طائفة من المصادر المساعدة من بينها :

1. الأمم المتحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الحالة الاقتصادية والاجتماعية في العالم عام 2000، جنيف، يوليو/تموز /2001

العولمة والتحرير. التنمية في مواجهة أقوى حدثين. ترجمة ياسر محمد جاد الله و عربي مدبولي احمد. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2000

2. د. أسامة عبد المجيد : منظمة التجارة العالمية وأثرها على الاقتصاديات العربية. شؤون عربية، جامعة الدول العربية، عدد 97، مارس/آذار 1999.

3. العزب الطيب الطاهر : عقدة سياتل تسيطر على الساعات الأخيرة من المؤتمر التجاري، الراية القطرية في 14/11/2001

4. د.جلال أمين : العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون الى جولة الأرغولي 1798 – 1998، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999

5. جون جربي : الفجر الكاذب. أوهام الرأسمالية العالمية. ترجمة احمد فؤاد بلبع، مكتبة الشروق، القاهرة 2000

6. د.محمود عبد الفضيل : ندوة مؤتمر منظمة التجارة العالمية سياتل، المستقبل العربي، العدد 256، يونيو/2000

7. د.رمزي زكي : العولمة المالية : الاقتصاد السياسي للرأسمال المالي الدولي. دار المستقبل العربي، الطبعة الأولى 1999،

8. د.رمزي زكي : الطريق الى سياتل، النهج العدد 57، 2001

9. د.صباح نعوش : العرب ومنظمة التجارة العالمية. دراسة منشورة على صفحة الانترنيت بتاريخ 22/10/‏2001

10. سمير أمين : في مواجهة أزمة عصرنا، بيروت 1997

11. د.فادي علي مكي : ما بين الغات ومنظمة التجارة العالمية. المركز اللبناني للدراسات، الطبعة الأولى، بيروت 2000.

12. ميشال شوسودوفسكي : عولمة الفقر، النهج، العدد 58/2001 . *

*. عن الحوار المتمدن

زر الذهاب إلى الأعلى