مالثوس لا يفي بالغرض !
مالثوس لا يفي بالغرض !
مهدي البناي
2020 / 3 / 26
يبدو ان الكآبات تستدعي بَعضها ، وفي أيام الوباء هذه ، يتردد ذكر مؤسس علم الدراسات السكانية القس الانكليزي توماس مالثوس (1766 – 1834 ) مؤلف (مقال عن السكان) ذلك الكتاب الذي نشره في شبابه زاعماً فيه عدم قدرة الارض على مواكبة تداعيات الكثافة السكانية دائمة النمو، باثاً تشاؤماً قدرياً في افكار الاجتماعيين المتنبئين بالفقر والمجاعة والحروب ، نتيجة تناقص الموارد.
تلك الافكار التي أدت ان يوصم علم الاقتصاد ب(العلم الكئيب)
(زيادة السكان بشكل لامتناه من قدرة الارض على انتاج الموارد) تلك نظريته القائمة على اساس فرضيتين :
الاولى : ان السكان يتزايدون وفق متوالية هندسية Exponential.
الثانية: الموارد تميل للزيادة وفق متوالية عددية Linear (خطية)
تكون هاتان الفرضيتان اساساً لقانون (حتمي) كما رآه هو ، قانون تناقص الموارد Decreasing Resources الذي يؤدي الى أزمة حتمية من الشقاء.
الحقيقة ان التأريخ لم يدعم هذه (النظرية المتشائمة) ، على الاقل خلال القرنين الماضيين.
نعم، ازداد عدد السكان من أقل من مليار عام 1800 الى أكثر من ستة مليارات ، لكن يبدو ان السبب ليس المالثوسية ! انما الى عاملين اساسيين هما التطور الطبي والعلاجي والوقائي واللقاحات الذي أدى الى تخفيض عدد وفيات الاطفال ، وزيادة متوسط العمر نتيجة التغذية الجيدة والعناية الطبية وارتفاع مستويات المعيشة.
كما يلاحظ تباطؤ حاد في معدلات الولادات خلال الخمسين سنة الماضية ، خاصةً في البلدان الاكثر ثراءً التي يميل الافراد فيها الى انجاب عدد أقل من الاطفال على النقيض مما طرحه مالثوس!!
فعلى مدى النصف قرن الماضي انخفض معدل المواليد في الدول المتقدمة من 2.8 الى 1.9 ، وانخفض في البلدان النامية من 6.2 ، الى 2.9 !!! وفي بعض دول اوربا يقل معدل المواليد كثيراً عن مستوى الاحلال ، ولا يوجد في اوربا اي قلق من موضوع الزيادة السكانية بل العكس من ذلك ، هم قلقون من تناقص قوة العمل في سن الشباب ، ولعل هذا احدُ اسباب تراخي سياسات الهجرة في السنوات الاخيرة.
واذا صحت فرضية التزايد الهندسي للسكان ، فأعتقد ان التزايد المعرفي والتكنولوجي (المتوالي هندسياً أيضاً) هو الاخر سوف يوازي التزايد السكاني !!!
وبخصوص فرضية تناقص الموارد، فالوقائع التأريخية تكذب هذا الاساس ايضاً !
يفترض مالثوس ثبات عناصر الارض وراس المال والعمالة ،، وعناصر اخرى ربما لم يحظَ هو بفرصة التعامل معها !! في الواقع أدى التطور التكنولوجي في الزراعة وتطور الاسمدة وابتكار التعديل الوراثي الجيني للنباتات الى تضاؤل الأهمية النسبية للارض ، بعد أَن تَمت مُضاعفة إنتاج الدونم الواحد اَضعافاً مضاعفة، كما أدى استخدام التكنولوجيا والطاقة الى ري مساحات شاسعة وبعيدة .
حتى المجاعات التي حدثت في بعض البلدان لم تكن الطبيعة سبباً لها ، بقدر ما كانت السياسات الاقتصادية والمغامرات الحكومية الطائشة. وفي بعض السنين رأينا فائضاً بالانتاج الزراعي تم رميه في البحر للمحافظة على سعره !
تضعف نظرية مالثوس كثيرا بلحاظ تجاهله لدور الاسعار في التحكم في سرعة استهلاك الموارد، وتجاهله لاكتشافات الطاقة ، ونظم المواصلات التي ادت الى سلاسل التوريد الطويلة وأثرها على انتاج الغذاء واستهلاكه.
لا أفهم سبباً لاستدعاء هذه (الكآبة) الاقتصادية ، لتفسير الوباء الحالي او التنبؤ بمآلاته ، التأريخ لا يدعم هذه النظرية ، والحاضر لا يفعل ذلك أيضاً.
فاذا كان هذا الوباء هو (تصحيحاً) تأريخياً (لتناقص) الموارد (الوهمي) فما هو تفسير تفشي الوباء في البلدان ذات النمو المحدود سكانياً؟ ايطاليا والمانيا لا يتجاوز نموها السكاني سنويا 1% !! وحتى الصين ذات معدل النمو 1.8% !!
التفسير الامبريالي كما ذهب اليه بعضهم لا يعد سبباً ، نعم يمكن ان يكون استغلالاً رأسمالياً طبيعياً ، جرت عليه عادة من يملك (الوفرة) في رأس المال ، وفائضاً في القوة الاقتصادية والتكنولوجية.
الازمات الاقتصادية التي مرت خلال القرن الماضي وفي العقد الاول من القرن الحالي كانت صنيعة النظام الرأسمالي غير المستقر ، ودامت بعضها لسنوات طويلة، وربما نشهد أزمة جديدة بفعل عامل الطبيعة هذا ، ستؤدي ربما الى تغير في مفهوم العولمة والى تحول مركزها ، وربما سيعاد النظر في سلاسل التوريد الطويلة ، وسيعاد التفكير بمفهوم القرية العالمية والتركيز مرةً اخرى على (القومية الاقتصادية)
لكن كل هذا لا يستدعي الكآبة ،،، الاقتصادُ الذي حَقق فائضاً في كل شيء .. يستطيع تخطي هذه الازمة أيضاً. @
@ عن الحوار المتمدن..