الاقتصاديةالمقالات والبحوث

مرة اخرى مع نظام التفاهة وتجلياته في العراق

كامل علاوي كاظم* مرة أخرى مع نظام التفاهة وتجلياته في العراق
30/08/20200

سبق لي وأن نشرت مقالاً عن نظام التفاهة على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 2020. وأشرت إلى كتاب آلان دونو (نظام التفاهة) الذي يتمحور حول فكرة أساسية هي: إننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الحياة. فقد تدهورت منظومة القيم وغُيّب الاداء الرفيع وأُبْعِد الاكفاء وتدهورت متطلبات الجودة العالية، وتسيّدت مجموعة من التافهين وذوي البساطة الفكرية، وغاب العقل النقدي وانتشر الفساد، وتصدى من لا يملك الخبرة على أنه من الخبراء، وبرزت الاذواق المنحطة، وتصدى اصحاب الادارة التبسيطية الخالية من المعنى بدلاً من الابداع والابتكار. وجاء ذلك السلوك تحت شعارات لا تدل على معانيها (في التطبيق) مثل الحرية الفردية والديمقراطية والخيار الشخصي. وكفاءة الشخص التافه تكمن في تعرّفه على شخص تافه آخر فالتافهون يدعم بعضهم بعضا كما يقول المثل الشهير (الطيور على اشكالها تقع).

يرى دونو أن كل نشاط هو لعبة يلعبها الاطراف المشتركون فيها ويعرفها الكل ولا أحد منهم يتكلم عنها ولا توجد فيها قواعد مكتوبة، تُستَبعد فيها القيم وتطغى حسابات المصالح ويصبح الفساد بنيوياً داخلها، ويتحول اهتمام الناس إلى الفردانية ويتضاءل الاهتمام بالشأن العام، بيد أن هناك أشخاصا طموحين يسعون إلى النجاح ويمتلكون معايير النجاح، ومقابلهم هناك فئة متدنية تبحث عن النجاح في الحصول على الثروة والسلطة وليس على الرقي العلمي والفكري وهذه الفئة هي التي تدير اللعبة فإن لم تستطع الارتقاء إلى المستويات العلمية للفئة الاولى تسعى إلى سحبها اليها واذا لم تنتبه الفئة الاولى فإنها سوف تسقط في الهاوية بوعي أم من دون وعي.

وأخطر ما يتعرض له الكتاب هو الناحية الاكاديمية والهوس الذي اصيب به الناس بالحصول على الشهادات العليا ليس للاستزادة من العلم بل لأغراض الظهور الاجتماعي والحصول على الثروة بطرق سريعة، ويعتقد كثير من حملة الشهادات العليا أن مجرد الحصول على الشهادة يجعل منه اكاديمياً حقيقيا يستحق المناصب العليا في الجامعات واجهزة الدولة ومن دون اي خبرات علمية ومهنية.

الا أن الأكاديمي: هو منسوب إلى الأكاديمية، وعالم أكاديمي: العالم المهتم بالعلوم بحسب منهج علمي دقيق أو المنتمي إلى مؤسسة أكاديمية، والأكاديمية مدرسة فلسفية أسسها أفلاطون في بساتين أكاديموس في أثينا، أو أنها مدرسة عليا أو معهد متخصص، أو هيأة علمية تتألف من كبار العلماء والادباء والمفكرين كالأكاديمية الفرنسية في باريس، أو أنها عبارة عن تجمع فكري مثل أكاديمية المملكة المغربية.

وفي العراق فإن أغلب من حصل على شهادة عليا يريد أن يصبح استاذاً جامعياً أو أن يحصل على توظيف في الجهاز الحكومي المترهل اصلا كما نرى من خلال موجات التظاهرات والاحتجاجات لحملة الشهادات العليا، ونادرا ما نجد من يسعى للحصول على الشهادة العليا للتطوير الذاتي والرغبة في المزيد من المعرفة بهدف المشاركة في النهوض الاقتصادي والثقافي للمجتمع العراقي. وهذا ولَّد ضغوطاً على الحكومة، التي عجزت عن وضع خطة استراتيجية لاستيعاب اصحاب الشهادات أولاً من خلال سياسات تستوعبهم، على سبيل المثال اخضاعهم لاختبارات صارمة وإلزام الكليات الاهلية بأن يكون هناك كادر تدريسي على الملاك، وأن يكون ذلك من ضمن شروط الاستحداث واستمرارها في العمل، وتشجيع القطاع الخاص ومنح القروض الصغيرة وغيرها من المعالجات. لأن العقول ينبغي أن تفصّل وفق احتياجات السوق وليس لخلق جيش من العاطلين. فضلا عن أن على وزارة التعليم أن تعيد النظر في الدراسات العليا بما يتلائم مع حاجة السوق.

وبالعودة إلى كتاب دونو نجده يركز على خطورة تسليع المعرفة الاكاديمية والتي يعدها اساس انحدار الجامعة إلى درك التفاهة. فضلاً عن الاكثار في التخصصات الدقيقة التي يراها سبباً للتفاهة بالجامعات؛ إذ ينادي أن يكون التوسع بالمعارف افقياً وليس من خلال تعميقها، لكن لا ينكر بأن بعض التخصصات تحتاج إلى التعمق أكثر من غيرها، ويربط هذا الامر بقضية مهمة وهي الخبراء، فمن خلال التخصص الدقيق في الجامعات تُخلق طبقة من الخبراء ضيقي الافق يخدمون مصالح من يتبناهم. وتفكير الخبير لا يتمثل بالأمر الخاص به وإنما وفق نظام تمليه عليه مصالح خاصة، فوظيفة الخبير هي تحويل الاعتبارات الايديولوجية إلى عناصر معرفية ولذلك لا نتوقع منه أن يقدم مقترحاً قوياً أو أصيلاً.

فالخبير: هو ذو الخبرة الذي يَخْبِر الشيء بعلمه، والخبير هو المختص، يقال خبير في الزراعة وخبير في التعليم وغيرها، وخَبير جمعها خُبَراء، وهو صفة مشبهة تدل على الثبوت من خَبَرَ وخُبر: خبير في الاقتصاد، وخبير في اللغة وهو الذي يقدم النصيحة والمشورة. والخبير العارف بالأمر على حقيقته. وأهل الخبرة: الخبراء أهل الاختصاص الذين يعود لهم حق الاقتراح والتقدير، والخبير نتاج ما مرّ به المرء من أحداث، مجموع تجارب المرء وثقافته ومعرفته. ويزداد أمر الخبراء تعقيداً عندما ينعت بالاستراتيجي فيكون (خبيراً استراتيجياً)، فالاستراتيجي هو القادر على استثمار الموارد البشرية والمادية لتحقيق الاهداف فهو يمتلك القدرة الشخصية على السيطرة والتحكم في كيفية استثمار الاشياء؛ لذا فإن الخبير الاستراتيجي هو الشخص الذي يمتلك المعايير المعتمدة في اختياره ولديه القدرة على الاستثمار في الموارد وتغيير السلوك. أما الاستراتيجية فهي خطة شاملة في أي مجال من المجالات؛ مثلاً، استراتيجية التخفيف من الفقر وهي خطة بعيدة المدى واضحة محددة الأهداف والاليات. واستراتيجي اسم منسوب إلى الاستراتيجية؛ مثلاً، موقع استراتيجي مثل قناة السويس.

من جانب آخر يظهر علينا مصطلح “محلل”، والفعل منه (حَلَّل)، حَلَّل العقدة حلَّها، فكَّها، حَلَّل الشيء أرجعه إلى عناصره، مثلاً المحلل المالي هو من يمتلك الخبرة والسلوك والأدوات التي تساعده في تفكيك الظاهرة المراد تحليلها، أما المحلل الاقتصادي فهو من يمتلك المعرفة بالفكر الاقتصادي والأدوات والسياسات الاقتصادية التي تمكّنه من تحليل الظاهرة قيد الدرس، بيد أن كثيرا ممن يظهرون في القنوات الفضائية لا يفقهون ما يدل عليه مصطلح (المحلل)، فضلاً عن أن بعضهم ينعت نفسه بالمحلل الاستراتيجي، ما يؤدي إلى عدم وضوح الفكرة التي يريد (المحلل) ايصالها، أو أنه يسوق الافكار التي جاء من أجلها بغية التأثير في الرأي العام، بخاصة أولئك الذين يمتلكون الخطابات (الطنانة). مثلاً، في النقاشات التي جرت حول الاتفاقية العراقية الصينية، فإن كثيرا من المحللين قد حللوها من دون الاطلاع عليها، إذ أن نصها لم ينشر الا بعد وقت طويل من التحليل الاستراتيجي، فقد أطل علينا أحد المحللين الاستراتيجيين يُنَظِّرُ لأهمية الاتفاقية والمزايا التي سوف يحصل عليها البلد، بيد أن محللاً استراتيجيا آخرا ظهر ليؤكد على رهن مستقبل النفط العراقي جراء الاتفاقية والسلبيات التي سوف تتركها؛ كونها ستؤدي إلى تعطيل الصناعة الوطنية والاعتماد على الاستيراد. وكان واضحا تماما أن كلا “الخبيرين” لم يطلعا على الاتفاقية في حينها، لذا استخدما لغة عامة، وخطابا حماسيا في قبولها ورفضها.

بماذا نفسر شيوع تلك المصطلحات بين من لا يستحقها؟ بعضهم يحب الظهور تحت مسمى يعتقد بأنه يرفع من مكانته، أو أن بعض القنوات الفضائية تستضيف أكاديمياً معتبراً لكن تحت يافطة خبير استراتيجي وكأن هذه الصفة أسمى من الأكاديمي، جهلاً منه، أو أن بعضهم يعتقد أن هذه الصفات تزيد من مكانته الاجتماعية، أو أنه بتصديه لبعض المواضيع يكون قريباً من اصحاب القرار وبذلك يكون من “وعاظ السلاطين” بحسب عالم الاجتماع العراقي الراحل الأستاذ الدكتور علي الوردي. إذ يقول “إن أغلب مفكرينا اليوم يتبعون … ذلك الاسلوب الذي يصفق للظالم ويبصق في وجه المظلوم”. لكن الخبراء التافهون لا سلطان لهم سوى أنفسهم ومصلحتهم الشخصية، وحب الظهور، واصطناع الخبرات والاستراتيجيات، فلا غرابة أن يقفز هؤلاء من قناة فضائية إلى اخرى، فيتماهى مع الجهة المالكة للقناة، فيصبح ليبراليا إن التقى بقناة امريكية أو اوروبية، وعثمانيا إذا استضافته قناة تركية، ويلبس زي الواعظين المريدين إن اطل مساء من قناة دينية.

ويرى دونو أن هناك عدة زوايا لنظام التفاهة منها ما يسمى (اللغة الخشنة) أو (اللغة الجوفاء)، والتحدث بتحصيل الحاصل أو التحدث بلغة غير مفهومة تستخدم فيها العبارات التي لا معنى لها. وفي زاوية أخرى لنظام التفاهة ما يعرف بالـ(التبسيط الزائد). وهنا تجدر الاشارة إلى أنه لابد من تجنب التعقيد الزائد والذي يستخدمه بعض المتخصصين، او التبسيط الزائد، والسطحية وغياب الفكر. فالتبسيط الزائد يصبح خطراً ويؤثر في جودة الفكرة. ويسعى بعضهم إلى التبسيط الزائد كونه يرى نفسه في فئة أعلى من المتلقين أو أنه يشعر أن الفكرة المراد طرحها غامضة عليه، لذا يعتقد أن تبسيطها بشكل مفرط يمكنه من ايصالها. فهو لا يدري أن كل أمر يبالغ فيه هو أمر غير ذي أهمية، وأخطر ما في التبسيط هو التبسيط العلمي في مجال الاختصاص، فقد يذهب بعض من غير المختصين إلى تبسيط بعض الافكار التي لا يفقهونها. مثلاً، ظهر أحد المختصين بالشأن السياسي في إحدى الفضائيات لتبسيط عمل السياستين المالية والنقدية فقال (إن السياسة المالية مسؤولة عن التنمية الاقتصادية، والسياسة النقدية مسؤولة عن النمو الاقتصادي) وبذلك فإنه قد نطق كفراً بالاقتصاد. أو أن أحد السياسيين قام بشرح أهمية المادة 50 من قانون الموازنة العامة للدولة لسنة 2015 وفي واقع الحال كانت نتائجها سلبية على الاقتصاد العراقي، أو أن الحكومة العراقية لم تعط الجانب الصحي الاهتمام الكافي بمواجهة جائحة كورونا وأخذت الامر ببساطة لا تتناسب مع الجائحة.

وهنا ننتقل من نظام التفاهة إلى ما يسميه المفكر الفرنسي باسكال يونيفاس “الكذب الحقيقي” الذي يمارسه “المثقفون المزيفون” والذين ينتقلون من خطأ إلى آخر دون أن تتوقف دعواتهم إلى منصات الحوار والقنوات التلفزيونية. لكن من هُم أخطر من هؤلاء “المرتزقة” الذين لا يؤمنون بشيء سوى أنفسهم، وينتسبون إلى قضايا ليس لقناعتهم بصحتها، بل لأنها واعدة ولها مردود وتسير الريح باتجاهها. إلا أن الخط الفاصل بين المزيفين والمرتزقة ليس حادا، فهم جميعا يخالفون الامانة الفكرية. وهنا لنتذكر هنا أحد البرامج الشهيرة الذي يستضيف كثيرا من هؤلاء المزيفين والمرتزقة، الذين تعجب المشاهدين حججهم القاطعة الواثقة باستخدام الصوت الاكثر علوا.

وعلى ما يبدو أن فإن كلا من دونو ويونيفاس يشكوان من تراجع فضائل الشرف والكرامة، وتصاعد السخافة والتفاهة، في مجتمعاتهم الغربية، فكيف بنا في مجتمعاتنا التي تئن تحت تراجع هذه القيم من قرون، التي تحولت قبل عقود قليلة من قيم المغالبة البدوية، قيم حوَّلت الشخص التافه إلى “سبع” و “ذئب” والمثقف الحقيقي إلى الهامش بعيدا عن الاضواء.

إن المعرفة العلمية هي نبع صاف يبلغه الجميع، إلا أن ما يأخذونه منه متفاوت بحسب طاقة كل فرد، وطريقته في الشرب منها، كما أن هذه المعرفة مسؤولية، نحملها للأقران ولغيرهم، تنمى بالتشارك الايجابي، وتضمر بالتضليل والتزييف، أما خبراؤنا المزيفون فهم يعملون بمنطق الشاعر عمرو بن كلثوم:

وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا

الا أن العلم والمعرفة ينتصران في النهاية، وتبقى حقائقهما خالدات.

يشكر الباحث الاستاذ الدكتور بارق شبر المنسق العام لشبكة الاقتصاديين العراقيين لملاحظاته القيمة حول الموضوع.

(*) أستاذ علم الاقتصاد في جامعة الكوفة

حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 30 آب 2020

لتحميل المقال كملف بي دي أف انقر على الرابط التالي

زر الذهاب إلى الأعلى