الاقتصادية

مستجدات المالية العامة في العراق:من التقشف ( الثنائي) إلى العجز ( الثنائي)

مستجدات المالية العامة في العراق : من التقشف (الثنائي) إلى العجز. ( الثنائي)

مستجدات المالية العامة في العراق: من التقشف (الثنائي )الى العجز (الثنائي )
د. مظهر محمد صالح
قادت الأوضاع المالية الانكماشية في العراق الى مظاهر اقتصادية خطيرة .اذ جاء في انكماش الطلب او الانفاق الحكومي في العام ٢٠٢٠ الى تعاظم فجوة الدخل الوطني وانخفاض النمو بنحو ١١٪ عن معدلاته ،اذ رافقه تعاظم في مستويات البطالة لم يقل عن ٢٥٪ من قوة العمل العراقية فضلاً عن تزايد معدلات الفقر بين السكان التي تعدت ٣٠٪ من اسر البلاد. في وقت يرى فيه دعاة الفكر المالي ان مظاهر الانكماش والتعثر المالي واللجوء الى التقشف (الشبه الاجباري ) سيظل مدعاة لتعاظم الدين والعجز في حزمة انقاذية مالية توسعية تتطلبها السنوات المالية اللاحقة . وهذا ما واجهته المالية العامة العراقية في السنتين ٢٠٢٠-٢٠٢١ . اذ يؤشر مشروع الموازنة العامة الاتحادية للعام ٢٠٢١ بان اجمالي العجز المخطط فيها سيرتفع الى قرابة ٧١ تريليون دينار وسيشكل العجز المذكور نسبة لا تقل عن ٤٢٪ من اجمالي الانفاق الكلي فيها ونسبة لا تقل عن ٢٨٪ من الناتج المحلي الاجمالي الراهن.
وتأتي هذه النسب المرتفعة في العجز بمثابة ارتدادات عكسية لانكماش الطلب الاجمالي وتقشف الاقتصاد الكلي بمجمله مؤدياً الى تدهور كبير في فرص التشغيل بعد ان عصفت البطالة الفعلية بالاقتصاد العراقي في العام ٢٠٢٠ وفي ظل الازمتين الصحية والمالية اللتين تلازمتا في تقييد فرص النمو في الاقتصاد الوطني بعد حرب اسعار النفط وتحديد الكميات المصدرة من النفط العراقي بموجب اتفاق (اوبك +) وخسارة العراق لقرابة نصف عوائد نفطه في العام الماضي ، فضلا عن انغلاق الاقتصاد الوطني تبعاً للانغلاق الحاصل في الاقتصاد العالمي وركوده .
وازاء الانكماش في المستوى العام للأسعار في العراق وبلوغ التضخم نسبة تلامس (الصفر بالمئة بالغالب zero inflation ) فان ارتفاعا هائلاً قد حصل في معدلات الفائدة الحقيقية ساهمت بإيجاد ما يسمى بفخ السيولة liquidity trap وانكماش التصرفات النقدية بشكل واسع عبر تحول سلوك دالة الطلب النقدي وانتقالها الى منطقة الانكماش الاقتصادي .اذ لم يستطع القطاع الخاص الذي استحوذ على قرابة ٩٠٪ من سيولة الاقتصاد من تحريك روافع الطلب وتعظيم الانفاق النقدي واحداث شيء من النمو في الناتج المحلي الاجمالي بالإنابة عن انكماش الانفاق الحكومي في العام ٢٠٢٠ .وهنا يأتي دعاة الفكر المالي الحديث امثال Alesina ‎وزملاءه في كتابهم الشهير الموسوم /التقشف :متى يعمل ومتى لا يعمل ؟ ‏Alesina, Alberto; Favero, Carlo; Giavazzi, Francesco (2019). Austerity: When It Works and When It Doesn t. Princeton University Press. p. 5. اذ يلحظ من الفكر النظري للاتجاه المدرسي المالي اعلاه ،ان التقشف الراهن في الاقتصاد العراقي وبسبب التوقعات الانكماشية واثارها النقدية كما نوهنا، ادت الى حدوث تقشف مزدوج dual austerity ‎تمثل بتعطيل دوافع الطلب الكلي كافة وبلوغها الحدود الدنيا. كما انعكس على سلوك المدخرين ولاسيما من اصحاب الثروات المالية او المدخرات العالية .
فالإنفاق على فرص الاستثمار الحقيقي واحداث نمو موجب في الدخل الوطني وضعف التشغيل او الاستخدام جاء بسبب ثقل او ارتفاع القيمة الداخلية للدينار العراقي وتعاظم قوته الشرائية .اذ تأثر غالبية المدخرين بظاهرة مدرسية ( كنزية ) سميت منذ ثلاثينيات القرن الماضي بمفارقة الازدهار :
Paradox of thrift , وهي سلوك يجعل قوى الفائض او المدخرين في الاقتصاد يمتنعون عن الانفاق الاستثماري طالما يتنعمون بالآثار النقدية الموجبة للثروة جراء الانكماش المرتفع في الاقتصاد الكلي وهبوط المستوى العام للأسعار في الاجل القصير ،ولكن بالتأكيد سيتم ذلك الانكماش على حساب استمرار تعثر النمو في نشاط الانفاق الاستثماري الحقيقي والذي يعد مصدرا لازدهار الدخل والثروة الحقيقيتين في الاجل الطويل .اي التضحية بمستقبل الثروة من اجل حاضرها الاسمي او النقدي (المزدهر ) في الاجل القصير وعلى حساب تآكلها في الاجل الطويل .
اللافت في مشروع الموازنة العامة الاتحادية للعام ٢٠٢١ التي بلغ سقفها الانفاقي بنحو ١٦٤ تريليون دينار قد حددت عجزها البالغ ٧١ تريليون دينار كما نوهنا سلفاً ،واقامته على محورين مركزيين غير مرئيين من اشكال العجز المزدوج dual deficit ليأتي كرد فعل للتقشف المزدوج .فالأول، وهو العجز الفعلي actual deficit او الصريح explicit والذي قدرته الموازنة العامة ٢٠٢١بنحو ٤٨ تريليون دينار ،اذ سيتم تمويله صراحةً وبصورة مباشرة عن طريق خصم حوالات الخزينة لدى البنك المركزي العراقي كجزء من عمليات تنقيد الدين debt monetisation والتي ستشكل لا محالة نسبة تقرب من ٦٨٪ من اجمالي تمويل العجز المذكور . اذ يعد مصدر التمويل لفجوة العجز الفعلي ، وبإسناد وسائل وادوات السياسة النقدية لأدوات الدين العام، عند مستوى عالي من اليقين ، وبذلك ستتغذى الموازنة على ايرادات نقدية سيادية من النقود الخارجية outside money التي سيصدرها البنك المركزي العراقي جراء خصم الحوالات وبالاستناد على احتياطياته الاجنبية وعدها نمطا من انماط الثروة ، ولكن في نهاية المطاف سترقد الاصول المحلية في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي ان لم تمت هناك (ان جاز التعبير ) وهي تماثل من الناحية الاصطلاحية ملامح نظرية (ملتن فريدمان ) المسماة: بنقود الطائرة العمودية helicopter money ،ولاسيما بعد ان تتثاقل محفظة الموجودات او الاصول المحلية في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي بحوالات الخزينة المخصومة لديه والتي ستتجدد سنويا لامحالةُ بمعدلات فائدة رمزية او تتآكل بالتضخم . وقد يبلغ متراكم الدين العام الداخلي في محفظة الاصول او الموجودات لدى البنك المركزي قرابة ١٠٠ تريليون دينار في نهاية عام ٢٠٢١ ،وهو ما سوغ في ١٩ كانون الاول ٢٠٢٠ الى التسارع المسبق لخفض القيمة الخارجية للدينار العراقي او سعر صرفه سلفا لدواعي (تغطية الدينار coverage ) بقيمة قد توفر مستقبلاً حالة مقبولة من تناسب التغطية ، ذلك طبقا لما سيتوفر من احتياطيات اجنبية ساندة ومقدار العجز الفعلي في الموازنة العامة . آخذين بالاعتبار ان سعر برميل النفط الخام المصدر لأغراض الموازنة العامة الاتحادية ٢٠٢١ قد تحدد بنحو ٤٢ دولار للبرميل وبطاقة تصدير تبلغ 3,250 مليون برميل يومياً وان العجز في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات هو بين (سالب١٦٪- سالب٢٠٪) من الناتج المحلي الاجمالي . اما مركب العجز( الثاني ) في الموازنة وهو العجز الافتراضي virtual deficit البالغ ٣٢٪ من اجمالي العجز الكلي وبنحو ٢٢ تريليون دينار ، يلحظ انه العنصر الاشد تحركاً واكثر خطرا risk element في تمويل الموازنة العامة ولا يمكن تحسس مصادر التمويل فيه بشكل صريح كما هو الحال في العجز الفعلي بل يتم التحسس التمويلي ضمناً implicit .حيث يرتبط التمويل (في عجز الموازنة الافتراضي ) باتجاهين او حالتين من حالات اللايقين uncertainty : الاول ويتمثل بارتباط العجز المذكور اي الافتراضي بشكل غير مباشر واشبه ما بالمحاكاة simulations مع تخصيصات الموازنة الاستثمارية (والتي غالبا ما أطلق عليها مجازاً بالتكاليف المتغيرة اي التخصيصات القابلة للتأجيل عند نقص التمويل ). وهي في الاحوال كافة الخطر الاول في نقص التمويل جراء التقشف الحكومي الاجباري المؤدي الى الانكماش الاقتصادي وهبوط معدلات النمو في الناتج المحلي الاجمالي وتزايد مستويات البطالة ،ذلك عندما تصبح سبل تمويل عجز (الموازنة )الافتراضي مستحيلة التحقيق خلال السنة المالية.
والحالة الثانية من حالات اللايقين، وهي المراهنة على سعر برميل نفط تفاؤلي عند التصدير في تمثيل عوائد الموازنة للعام ٢٠٢١ من الصادرات النفطية والذي يقدر ضمناً بنحو ٥٢ دولار للبرميل ما يساعد على توفير تمويل تلقائي اضافي (وعده ايرادا ريعيا مضافاً الى موارد الموازنة وتدفقاتها النقدية ) وبمبلغ يقارب ٢٢ تريليون دينار وهو المبلغ الذي يقارب حصة الموازنة الاستثمارية من مصادر الخزينة تحديداً . وهنا لابد من ان يساعد التمويل الافتراضي المضاف على الالغاء الفوري في(فجوة العجز الافتراضي البالغة ٣٢٪ ) وسد فجوة (التكاليف المتغيرة) لمصلحة الموازنة الاستثمارية (التي ستظل نفقاتها مرتبطة بتحسن السوق النفطية وتوقعاتها في العام ٢٠٢١).
ختاما ، اجد ان فرضية (العجز الافتراضي) في موازنة العام ٢٠٢١ ستقايض (تقشف السوق ) في السنة المالية الانكماشية ٢٠٢٠ للعراق .وتأتي جدلية العجز الثنائي في السنة ٢٠٢١ بمثابة تعويض compensation (للتقشف الثنائي) في السنة المالية السابقة واحداث حاضنة نمو وتشغيل اضافية في الاقتصاد الوطني لتدارك ظاهرتي الانكماش والركود المتعاقبتين التي تعرض اليها الاقتصاد الوطني اثر ازمتين مزدوجتين صحيه ومالية في الوقت نفسه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى