مسلة حمورابي .. أول وثيقة قانونية مكتوبة
مسلة حمورابي .. أول وثيقة قانونية مكتوبة
تعد مسلة حمورابي واحدة من أهم التحف التاريخية التي خلفتها بلاد الرافدين لما ترمز إليه من مكانة ثقافية وحضارية كبيرة، كما تعتبر أول وثيقة قانونية مكتوبة في مسار الحضارة البشرية.
حمورابي ( بالأكدية تُلفظ أمورابي وتعني المُعتلي)، حَكَم بابل بين عامي 1782 و 1686 قبل الميلاد، ويعتبر سادس ملوك بابل، وهو أول ملوك الإمبراطورية البابلية.
ورث حمورابي الحُكم من أبيه سين موباليت ، وحينذاك كانت بلاد ما بين النهرين دويلات منقسمة تتنازع السُّلطة ، فقام بتوحيدها مؤلِّفاً إمبراطورية ضخمة ضمت كلاً من العراق والمدن المحاذية لبلاد الشَّام وصولاً إلى سواحل البحر المتوسط، ومواضع أخرى.
ويُلحظ في اللَّوح الذي عُثِرَ عليه في مدينة أور باللُّغة السومرية، وفي لوحٍ آخر نفس النَّص باللغتين السَّومرية والأكادية؛ افتخار حمورابي بنفسه مادحاً إيَّاها قائلاً:” أولئك الذين أظهروا لي العداوة قتلتهم، حطَّمتُ أسلحتهم، ودمَّرت بلادهم، وأخذتُ سُكَّانهم أسرى، وسحقتُ جيوشهم، وأولئك الذين عصوّا أمري وضعتُ قدمي فوق ظهورهم، أنا الملك، الذي حقَّق رغبة الإله مردوخ القتالية، وجَعَلَ قوَّة الأعداء تتلاشى، طردتُ الأعداء الحاقدين، واجتثثتُ جذور الشَّرِ من البلاد، وتركتُ المواطنين يعيشون بأمان واطمئنان في رغدٍ من العيش، ولم يعُد هناك من يقُض مضجِعَ الآمنين”.
حمورابي صاحب سلطة مركزية:-
اتبع حمورابي سياسة مركزية تعتمد على سلطته دون أي تدخُّل من قِبَل الكَهَنَة، وقد كانت الإمبراطورية تُدار من قِبَل الحكام الإقليميين الذين يعينهم في المدن والأقاليم المختلفة، حيث كان كل حاكم مسؤول عن إدارة شؤون إقليمه بصورة عامة، وتتركَّز واجباته في حفظ الأمن والاستقرار والإشراف على تنفيذ المشاريع العامة والمحافظة على أمن وسلامة طرق المواصلات إضافة إلى مسؤوليته المباشرة عن إدارة المقاطعات والأراضي الملكية.
وقد كان حمورابي على اتصال مباشر بحكَّام أقاليمه وموظفيها يوجههم ويبعث إليهم بالتعليمات التفصيلية في مختلف القضايا كبيرها وصغيرها.
مسلة حمورابي :-
في عام 1908 م؛ تم العثور في سوسة عاصمة عيلام على ثلاثة قطع من حجر الديوريت منقوشة بكتابات بالخطِّ المسماري، وقد تبيَّن لاحقاً أنَّها تمثِّل نُصُباً أثرياً واحداً عُرِفَ فيما بعد بمسلة حمورابي والتي تعوج في تأريخها إلى ما قبل سنة 1750 قبل الميلاد.
وكان العيلاميون قد نقلوا المسلة وغيرها من الغنائم من بابل وذلك حينما غزو الأخيرة منهين حُكم الكاشيين وذلك في سنة 171 قبل الميلاد، ويُعتقَد أن المسلَّة كانت موجودة في مدينة سبار وذلك قبل نقلها إلى سوسة عاصمة العيلاميين.
المسلَّة ذات شكل منشوري بارتفاع 225 سم، ومحيطها في الأعلى 165 سم، وفي الأسفل قرابة 190 سم.
تحتل المسلة مكانة هامة بين الآثار التاريخية بمتحف اللوفر بالعاصمة الفرنسية باريس.
مسلة حمورابي وخلفية وضعها:-
قد يرى البعض أن وضْع حمورابي لأول تشريع وضعي إنساني مكتوب ينظِّم شؤون الحياة، هو لأنه تخلَّى طواعية عن ادِّعاء الرُّبوبية مثلما فعل سلفه، فالمسلَّة التشريعية المعروفة باسمه تُظهره معتمراً قبعة عادية لا تحمل قرنيّ الرُّبوبية اللَّذان يرمزان إلى الألوهية منذ آماد بعيدة، وذلك منذ كان الثور يرافق الآلهة الأُم على المنحوتات والمجسَّمات كموضوع قُدسي لا يقل أهمية عن الآلهة ذاتها.
كما ان اسم حمورابي في المدوَّنات المكتوبة كان مجرَّداً من أيِّ رمزٍ يشير إلى تأليهه، ولم يُعرَف عنه أنَّه شيَّد أو أقام معبداً لتقديس شخصه، واقتصر الأمر على زعمه بأنَّه ممثل للآلهة التي اختارته دون البشر ليقضي بشرعها على الأرض ويكون رسولها على الناس، ولذلك فهو مسؤول أمامها، وكل من يتجرَّأ على الانتقاص من سلطته؛ فإنَّما يقترف خطيئة بحق الآلهة نفسها.
القوانين الوضعية تعتبر اصطفاء الآلهة لحمورابي ليكون سيداً على البشر، وتضفي مقدمة الشَّريعة على حمورابي ألقاباً عديدة تصف أعماله المجيدة فهو العابد الورِع، يجل الآلهة ويخشاها، والبطل ألقاباً يخوض غمار الحروب دون كلل أو ملل، والمُحسن الكريم يوزِّع الخيرات على البلاد.
وإذا كانت مواد القوانين لا تفصِح في أية فقرة منها عن أنها من وحي السَّماء، وإنَّما دوِّنت بناء على أمر حمورابي، غير أن القارئ النبيه يفهم من بين الأسطر أنَّ مردَّها في نهاية الأمر إلى الآلهة، إذ أنَّها هي التي اختارته دون النَّاس.
ويرى أصحاب رأيٍ آخر بأن حمورابي يعرِّفنا بنفسه على أنه من أتباع الإله شاماش إله الشَّمس والحق، وبناء عليه؛ فقد أصبحت مسلَّة حمورابي نصَّاً وتصويراً أطوع فهما، حيث توضِّح العلاقة التي تربطه بإله الشَّمس وأنَّ الشَّريعة نفسها هي من خلق وإبداع هذا الإله الذي يتحدَّث حمورابي باسمه.
مم تتكون مسلة حمورابي ؟
يظهر في أعلى مسلة حمورابي إله العدل شمش جالساً على عربته وهو يسلِّم شارات العدل إلى حمورابي الذي يقف أمامه بخشوع، وتنبعث من كتفي الإله حزمتان من ضوء الشَّمس رمزاً لنورها الذي يميط الظَّلام ويُنير الكَون.
ويوجد في الأسفل من هذه الصورة نصُ القانون الذي شرَّعه حمورابي، والذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة، المقدمة التي يتناول فيها الملك البابلي كيفية دعوته الآلهة له لنشر العدل في البلاد والقضاء على الشرِّ والظلم لئلا يسود القوي على الضعيف، كما أنها تُحصي سلسلة الألقاب التي تلقَّب بها حمورابي والتي تشير إلى اهتمام الأخير بشؤون الآلهة والعناية بمعابدها ومدنها.
أما الخاتمة؛ فتشير إلى الأهداف التي من أجلها شرَّع القانون ومن ضمن تلك الأهداف: إنصاف الأيتام والأرامل وإرشاد وهداية المخطئين، كما أنَّها تحض الحُكَّام المقبلين على اتباع ما جاءت به من أحكام هذا التشريع. وتستنزل الخاتمة اللَّعنات على كل من يحاول تحريف هذه القوانين أو تغيير مضمونها.
الإطار العام للقوانين الواردة في مسلة حمورابي :-
إشتهرت مسلة حمورابي بكونها تحوي عددًا من القوانين التي كتبت باللغة الأكدية، تلك القوانين هي التي نصتها دولة بلاد الرافدين آنذاك تحت حكم الملك البابلي.
بلغ عدد القوانين المذكورة في المسلة 282 قانون تشمل كل أمور المجتمع، ونصت على أحكام هامة تخص قضايا المجتمع كالسرقة، الطلاق، القتل، العبودية، الزراعة، الاقتصاد، الجرائم، التبني، الدين، كما نصت على عدد من العقوبات التي ستقع بكل من يقوم بمخالفة تلك القوانين.
وقد راعى حمورابي في قوانين دولته أن تكون متفقة مع العصر الذي يعيش به، فألغى بعض القوانين السابقة التي لم تعد تصلح لتلك الفترة الزمنية وأضاف بدلًا منها قوانينًا تتفق مع دولته الجديدة.
التشريعات الواردة في مسلة حمورابي:-
يعرِّج حمورابي في مقدمة مسلته القانونية على التعريف بنفسه قائلاً:
- 1 – 5 مواد تتناول شهادة الزور، تلاعب القُضاة.
- 6 – 25 تناول جرائم الخطف والسِّرقة: خطف الأطفال، هروب العبيد وسرقتهم، السَّطو، السرقة والنَّهب، فمثلاً تنص المادة السادسة من هذا القانون على أنه ” إذا سرق رجل من ممتلكات الإله أو القصر يقتل”، في حين تنص المادة الثامنة على ما يلي: ” إذا سرق رجل ثوراً أو نعجة أو حماراً أو خنزيراً أو قارباً يعود إلى الإله أو القصر فإنه يدفع ثلاثين ضعفا”.
- 26 – 65 الأراضي والمنازل: استئجار الأراضي وزراعتها، الأضرار الناجمة عن إهمال مراقبة مياه الرَّي، تجاوز الماشية على الأراضي المزروعة، قطع الأشجار خلافاً للقانون.
- 66 -126 استئجار وبناء وصيانة المنازل والمواد ذات الصلة بالتُّجار ووكلائهم.
- 127 – 194 الأحوال الشَّخصية: المرأة من شؤون الزواج والعائلة والميراث، التُّهَم الباطلة ضد رئيسة الكاهنات والمرأة المتزوِّجة، بطلان الزواج من دون عقد، زواج المرأة للمرة الثانية وماهية الشروط التي تسمح بذلك، شؤون الطَّلاق، السَّراري، مسؤولية الزَّوجين تجاه الديون، قتل الزوجة لزوجها، الزِّنا بالمحارم، أحكام الخُطُوبة، الإرث، التبني، الرضاعة.
- 195 -214 إيذاء الأشخاص وكيفية التعامل مع مختلف الحالات.
- 215 – 240 أجور أصحاب الحِرَف ومسؤوليتهم.
- 241 -277 أجور الحيوانات.
- 278 -282 شؤون العبيد.
أمثلة أكثر تفصيلاً من البنود الواردة في المسلَّة:-
- المادة الخامسة: إذا أصدر القاضي حكماً وثبته بوثيقة رسمية، ثم رغِبَ في نقض حُكمه، فعلى المُدَّعي أن يُثبِتَ ذلك وإذا صحَّت دعوى المدَّعي فعلى القاضي أن يدفع المبلغ مكرَّرَاً اثني عشرة مرَّة، ويحرَّم من الجُلوس ثانية في مجلس القضاء، أو يلتقي مع القُضاة في محكمة.
- المادة الثَّامنة: ” إذا سَرَقَ مواطنٌ شريفٌ حُر عجلاً أو حملاً أو حماراً أو خنزيراً أو قارِباً من أملاك الإله أو القصر؛ فعليه أن يعوضه بها ثلاثين ضعفاً، أمَّا إذا كانت السَّرِقَة من أموال رجلٍ مسكين، فعليه أن يعوَّضه بها عشرة أضعاف، وإذا كان السَّارِق لا يملكُ شيئاً ؛ فعليه أن يموت”.
- المادة الخامسة والعشرون تُعالِج قضية رجل تظاهر بالمُساعدة في إطفاء حريق شبَّ في بيت أحد من المواطنين بقصد معاينة المنزل لسرقته وذلك برميه في البيت المُشتعِل، فتقول: ” إذا شبَّ نارٌ في بيت أحد المواطنين، وهبَّ رجلٌ لإطفائها وعاين أملاك سيد المنزل بقصد السَّرِقة، ثم سَرَقَ محتوياته؛ فإنَّ هذا الرَّجُل يُرمَى في نار الحريق”.
- المادة السادسة والعشرون: ” إذا اُستُدعِيَ شرطي (ردوم) أو قنَّاص (بئير وم) للالتحاق بركب الملك، واستأجر أجيرا وأرسله عوضاً عنه؛ فإنَّ هذا الشُّرطي أو القنَّاص يُقتَل، أمَّا الأجير؛ فيُستَولَى على بيته”.
مواد ذات صلة بقطاع الزراعة:-
- المادة 42 : إذا استأجرَ رجلٌ حقلاً للزِّراعة ولم يستثمره، فإذا ثبُتَ إهماله؛ فعليه أن يؤدِّي إلى صاحب الأرض مقداراً من الحبوب يُعادل نسبة محصول الحبوب للأرض المُجاورة.
- المادة 53 : إذا أهمل رجل دعْمَ السَّد في حقله، وحدث أن انهار السَّد نتيجة إهماله، وغرقت الأراضي المزروعة؛ فعلى عاتق هذا الرَّجُلِ يقع تعويض الحبوب التي تلفت بسببه.
- المادة 54 : فإذا كان عاجزاً عن تعويض ما تلِفَ من الحبوب؛ يُباع هو وأملاكه لقاء فِضَّة، ويتقاسم المتضررون الفِضَّة فيما بينهم تعويضاً عن خسارتهم في الحبوب التي أتلفها الفيضان.
- المادة 56 : إذا ترَكَ رجلٌ المياه تجري في حقله فسبَّب خراب أرض جاره؛ فعليه أن يدفع لجاره 10 كور من الحبوب لكل ستة هكتارات ونصف.
نصوص أخرى:-
- المادة 171 : “تحتفظ المرأة الأولى (الشَّرعية) بهدية زواجها وببائنتها التي حصلت عليها من زوجِها ودوِّنت على وثيقة رسمية، وتبقى في بيت زوجها طيلة حياته معه، وتعيشُ على هذه الأموال، بشرط ألَّا تبيعها مقابل فضَّة، وبعد موتها يرِثُها أولادها”.
- المادة 192 : يُقطَع لسانه الذي لاكَ به كلمات بذيئة مُجحفة بحق والديه اللذين تبنياه، أمَّا إذا عاد من تلقاء نفسه إلى بيت والديه الأصليين؛ فتُتفقأ إحدى عينيه.
المصادر:-
- من سومر إلى التوراة، فاضل عبد الواحد علي.
- حمورابي البابلي وعصره، هورست كلينكل، تعريب محمد وحيد خياطه.
- حمورابي، أحمد خالد عبد المنعم.
- حمورابي والتوراة، حكمت بشير الأسود.
- متحف الميتروبوليتان- نيوريورك.
https://www.arageek.com/2014/09/15/8-things-you-may-not-know-about-hammurabis-code.htmlش