مقومات ترسيخ مبدأ المواطنة في العراق بعد عام 2003
مقومات ترسيخ مبدأ المواطنة في العراق بعد عام 2003
الباحثة: م. هناء جبوري محمد
مركز الدراسات الإستراتيجية / جامعة كربلاء
23/11/2021
((مقومات ترسيخ مبدأ المواطنة في العراق بعد عام 2003))
من أهم ما يميز العراق عمقه التاريخي الذي يتجاوز سبعة آلاف عام، وقد تعاقبت فيه الحضارات السومرية والاكدية والبابلية والاشورية والاسلامية والعباسية، التي زخرت كلها بالعطاء الحضاري الغزير والمبتكر، وما زال العالم المعاصر يعزو جزءاً من تقدمه ونمائه إلى الحضارة العراقية القديمة والوسيطة. لكن تلك الصفحة الزاهرة من تاريخ العراق قد طويت، واعقبتها موجة من الاحتلال الأجنبي، منذ قيام الدولة العراقية الحديثة حتى الاحتلال الامريكي عام 2003، ليصبح العراق دولة تعاني من الأمية والفقر، وعلى الرغم مما يجري في العراق، ظل الشعب العراقي صامداً متمسكاً بوحدته الوطنية، في وجه التيارات التي تهدف إلى خرق النسيج الاجتماعي . وتعَرَّف المواطنة بشكل عام بأنَّها المكان الذي يستقر فيه الفرد استقراراً ثابتاً داخل الدّولة أو يحمل جنسيتها، ويكون مشاركاً في الحكم،ويخضع للقوانين الصادرة عنها، ويتمتع بشكلٍ متساوٍ من دون أي نوع من التّمييز – كاللون أو اللغة – مع بقيّة المواطنين بمجموعة من الحقوق، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة الّتي ينتمي إليها، بما تُشعره بالانتماء إليها. ويترتب على المواطنة الدّيمقراطيّة أنواع رئيسة من الحقوق والحريات، الّتي يجب أن يتمتّع بها المواطنون جميعهم، كالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة…الخ
لهذا سوف نحاول في هذه المقالة، الوقوف على بعض مقومات ترسيخ المواطنة، التي استطاع العراق أن يحافظ عليها على الرغم من التحديات التي تحيط به .
أولا ً: الوحدة الوطنية:
إنَّ طبيعة كل مجتمع بشري تكمن في وجود فئات متنوعة وشرائح اجتماعية عديدة ، وبهذا فإنَّ الوحدة في التلاقي والتواصل بين فئات هذا المجتمع المتنوعة عرقياً أو فكرياً أو سياسياً، هي الحرف الأول من أبجدية تعايشها، وحفظ كيانها الاجتماعي. والوحدة في الوطن الواحد توفر فرصاً من الانفتاح الفكري، إذ يتعرف كل طرف على حقيقة وواقع الطرف الآخر، ويتحاور معه، ويتبادلان الرأي، فيكتشفان مساحات الاتفاق، ويحددان مناطق الاختلاف. إنَّ هذا التنوع الجغرافي والعرقي والمذهبي وغيرها من العوامل، شرط أساسي لدعم الوحدة الوطنية وترسيخها في العراق.
ثانيا ً: الحرية:
إنَّ أول استعمال لمصطلح ((الحرية)) في نص قانوني، أي بوصفه حقا ً للمواطن يحميه القانون، يرجع على الأرجح إلى الحضارة السومرية في القرن (24) قبل الميلاد. وكل تفكير في الحرية أو نقاش حولها، ينظر في العادة إلى العلاقة بين ثلاثة عناصر: الاول الفرد، والثاني: شيء يريده الفرد، أما العنصر الثالث فعامل خارجي أو داخلي يمنع التقاء الاثنين أو يسمح به. وسجلت الدراسة نحو (200) معنى للحرية اقترحها باحثون في حقب تاريخية مختلفة، تدل جميعها على أنَّ محتوى هذا المصطلح الصغير أوسع بكثير مما يبدو عليه، ونأخذ التعريف الموسع الذي اقترحه كارل دوتش، بأنها: (( شريحة الخيارات الفعالة المتاحة لفرد أو جماعة من الأفراد، قدرة الجماعة على اختيار الأفعال أو السياسات، يمكن أن تترجم عن الممارسات إلى خيارات غير مباشرة للأفراد)) .
إنَّ الإنسان يولد رغماً عنه، ولكن بعد ولادته له حرية حق الحياة، على أساس فكرة الحق الطبيعي، هذا من جانب فردي، وهناك حرية مدنية تكون دائرتها أوسع من الحقوق الفردية، فهي ترتبط بالحياة الاجتماعية والديمقراطية. ومن أهم الأولويات للحرية المدنية، هي: حرية الفكر والتعبير والدين، والتنقل، وتأسيس الأحزاب، والجمعيات، والمراكز وغيرها من الحريات الاجتماعية. وفي الحرية السياسية يذكر (كوهن)، وهو أحد المفكرين المعاصرين: أنَّ (( المراد من الحريات السياسية، وبعبارة بسيطة، هي حرية القيام بأي نوع من الأفعال التي تفرضها الدولة، وهذه الافعال تشمل الاستفادة من الوسائل التي يتمكن المواطن عبرها من ايصال صوته إلى الآخرين، وأن يكون لذلك تأثير عملي مباشر على الدولة)). وهناك العديد من الحريات، كحرية الاقليات وكل قسم من أقسام الحرية يتفرع إلى عدة أفرع، تشمل كل واحدة منها حقوق وواجبات تترتب على الأفراد. وينبغي الإشارة إلى أنَّ الحرية المطلقة في المجتمع الحديث تؤدي إلى الفوضى، فصار من الضروري أن توجد في المجتمع ضوابط للحرية، وهي الضوابط التي يجب أن يوفرها النظام الديمقراطي . وقد حدد الدستور العراقي بعد عام 2003 في المادة (15) منه والتي نصت: ((لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولايجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها، إلا وفقا للقانون، وبناء على قرار صادر من جهة قضائية مختصة))، ولترسيخ هذا المبدأ في العراق انطلاقاً من الدستور، فهناك ثلاثة أشكال من الحرية، هي: الحرية الشخصية أو المدنية، وتعني توفير الأمن للفرد فيما يتعلق في حياته الشخصية، وفي هذا الجانب يوجد خلل واضح على المستوى التطبيقي في العراق، والسبب يعود إلى حالة إعادة البناء والنظام السياسي، فضلاً عن التدخلات الخارجية، وآثار الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى الأوضاع الدولية التي تتمثل بالدول العظمى، التي تسعى إلى زعزعة الأمن والاستقرار، ليس في العراق فحسب بل في منطقة الشرق الأوسط كلها، لتحقيق مصالحها الشخصية، وهذا ما نراه في أغلب دول المنطقة والعالم. وعلى الصعيد الداخلي تغيرت الحرية الشخصية قياسا مع ما كانت عليه قبل عام 2003. أمّا الشكل الثاني من أشكال الحرية فهو الحرية العامة أو السياسية، وتعني إعطاء حرية العمل للمواطنين أو الجماعات أو الأحزاب من قبل الحكومة، للمشاركة في مختلف المجالات السياسية، ويصبح المواطن عضواً في الدولة له حق التصويت والانتخاب والمساهمة في تشكيل الحكومة. ولاتعد الحرية السياسية أو الحقوق السياسية جوهراً أصيلاً لتحقيق الحرية الفردية، ففي بعض الاحيان تصبح وسيلة لكبت الحرية، إذا لم يوفق الأفراد في اختيار النظام السياسي أو الحاكم.
ثالثا ً: التكامل الاجتماعي:
يرتبط الشعور بالانتماء إلى الوطن بالتكامل الاجتماعي، ويعني ذلك إذا شعر الأفراد المختلفون في الدين والمذهب والثقافة والخلفية الاجتماعية والارتباط السياسي- بالانتماء إلى الوطن- فإنَّ ذلك يؤدي تلقائياً إلى اندماج المواطنين جميعهم وانصهارهم في كيان اجتماعي واحد دون تفرقة بينهم. أمّا إذا غاب الشعور بالانتماء إلى الوطن، فإنَّ ذلك ينعكس سلبا على التكامل الاجتماعي، ففي هذه الحالة يشعر الأفراد بأنَّ الوطن لم يعد لهم، والهوية الوطنية لم تعد تستوعبهم، فيتجهون إلى ما يطلق عليه (الولاء الضيق)، أي الاحتماء بالقبيلة والعشيرة والجماعات الدينية، والهجرة إلى الخارج،وتصبح هذه الانتماءات تسمو على الانتماء للوطن، لذلك من واجب الحكومة توفير فرص متساوية لتطوير جودة الحياة التي يعيشها الأفراد، كما أنّ قدراً من التنازل المتبادل والطوعي للقوة بين الجماعات، أي تخلي الجماعات طوعاً عن انتماءاتهم الجانبية، مقابل الانتماء الوطني، الذي يشمل كل أعضاء المجتمع، يمثل الخطوة الأولى في تأسيس تكافل اجتماعي.
رابعاً: القانون:
يتمثل القانون في مجموعة القواعد التي تنظم نشاط كل دولة داخل اقليمها الخاص، وينقسم على قسمين: القانون الداخلي، الذي يشمل مجموعة القواعد القانونية المنظمة للأفراد، أمّا القسم الثاني فيطلق عليه القانون العام، يشمل مجموعة القواعد التي تنظم السلطات العامة للدولة،في علاقاتها بعضها ببعض، وعلاقتها بأفراد المجتمع، ويجب أن تتسم الدولة بخضوع الحكام والمحكومين للقواعد القانونية، وتتمثل العناصر الدالة على خضوع الدولة للقانون بأمور، منها: التقيد بالدستور الذي يعد الضمانة الاولى لخضوع الدولة للقانون، فضلاً عن الفصل بين السلطات، فيجب أن تحترم الأخيرة القواعد التي وضعها الدستور، وعدم الخروج عن اختصاصاتها، ولا تتعدى على اختصاصات سلطة أخرى، وكذلك سيادة القانون والرقابة القضائية، بما يعني ذلك إلزام السلطة التنفيذية بمتابعة اجراءات تنفيذ القانون، واستقلال الرقابة القضائية وتمتعها بالحيادية والموضوعية، فضلاً عن ضمان الحقوق والحريات الفردية، التي تتصف بمبدأ المساواة بين الافراد كما اشرنا سابقا ً.
خامساً: الحوار والمصالحة:
إنَّ الحوار مصطلح ذو وجهين: الوجه الأول: من أجل الوصول إلى فهم متبادل، ليعرف كل طرف ما لدى الآخر،فتتبين موارد الاتفاق، ونقاط الاختلاف، تأسيساً للمصالحة والتعايش المشترك، أمّا الوجه الثاني: فهو يهدف إلى اظهار الغلبة وافحام الطرف الآخر، وممارسة الجدل للجدل، وهنا يكون الحوار غير منتج. وما يهمنا هو الوجه الاول الذي يشكل أرضية للتقارب الفكري والنفسي،ويُذَكِّر الطرفين بوجود قضية مشتركة، يمكنهما التفاهم والتعاون من أجلها، وليس حتما أن يصل الطرفان إلى رأي واحد، فقد يفشلان في الالتقاء، ويبقى كل منهما متمسكاً برأيه، وهنا لا بد من القبول بالتعددية والاعتراف بوجود الرأي الآخر. وبما أنّنا اليوم في ظل نظام ديمقراطي، إذن نمتلك وسائل تعبير عن الصراعات أقرب إلى الاعتدال واللين، وأبعد عن الوحشية من العنف المادي،عبر احلال الحوار وتسوية المصالح المتعارضة والتصالح. وتعد مسألة الحوار والمصالحة في الدول النامية، ولاسيما الدول التي تحتضن في داخل مجتمعاتها مجموعات عرقية، ودينية، ومذهبية، وقبلية، وعشائرية، وطبقية متنوعة، من أولويات المسائل التي تهتم بها هذه الدول، وتسعى إلى تحقيقها عن طريق السياسات الداخلية، وتسعى جاهدة إلى ضمان تحقيق المصالحة،والوصول إلى الوحدة الوطنية. وعلينا أن نشير إلى أنَّجميع المحاولات التي جرت لانجاح الحوار والمصالحة،وترسيخ مقومات المواطنة في العراق، منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، عندما كان العراقيون يحاولون إيجاد كيان عراقي مُتَّحدٍمُنسَجِمٍ، قد تعثرت ولم تنجح، وازداد هذا الموضوع أهمية بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، نتيجة للعملية السياسية التي قام بتأسيسها، على أساس المحاصصة والطائفية، ابتداءً من مجلس الحكم الانتقالي، الذي شُكِّل على أساس تمثيل مكونات المجتمع العراقي(10). إلا انه بعد اعتماد قانون الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية عام 2004، نرى حصول تطور ايجابي، عبر وضع مقومات للتحول الديمقراطي، وتأطيرها في الدستور، فضلا عن إعطاء المجال لبروز منظمات المجتمع المدني، من اجل الانفتاح على الفضاء الاجتماعي، إلا إنَّ التجارب التي مرَّ بها العراق بعد سقوط النظام الاستبدادي إلى الوقت الحاضر، اوصلتنا إلى نتيجة مفادها لايمكن الوصول إلى الأهداف التي تسعى إليها المكونات في الجسد العراقي عن طريق الحروب والتهجير والتصفية والقومية، بل إنَّ هذه الأعمال تعمق التناقضات، وتهدم جسور التواصل والثقة. فنحن اليوم بحاجة إلى بلورة خيار الحوار والمصالحة، من أجل إشراك جميع الشرائح والفئات الاجتماعية، فالوطن ليس ملكاً لأحد بل هو للمواطنين جميعهم، فنحن بحاجة إلى نبذ ثقافة التطرف، وإحلال ثقافة الحوار والمصالحة.