الفكر السياسي

نظرة قانونية:بعض خصائص النظام القضائي في الدولة الفيدرالية

نظرة قانونية:بعض خصائص النظام القضائي في الدولة الفيدرالية

د. فلاح اسماعيل حاجم

2006 / 7 / 10

يدور الحديث, وعلى مختلف الاصعدة, حول شكل الدولة لعراق المستقبل. و لأن الشكل الفيدرالي للدولة اصبح امرا واقعا بحكم قواعد التشريع الاسمى للدولة العراقية (الدستور الدائم), فأن الخوض في الجوانب المختلفة للفيدرالية يكتسب اهمية استثنائية في الوقت الراهن, حيث اصبح هذا المفهوم السيا – حقوقي يشكل جانبا مهما من جوانب اللعبة السياسية في عراق ما بعد الدكتاتورية. واذا كان الكثيرون يتناولون موضوعة الفيدرالية بدافع الحرص على مستقبل العراق ووحدة اراضيه, فأن النقاش حولها (الفيدرالية) والذي لا يستند, في اغلب الاحيان, الى اساس نظري وتأريخي اصبح يوفر فرصة ذهبية للكسب السياسي القصير الامد. ففي الوقت الذي ينبغي فيه التركيز على تفعيل الفيدرالية بالشكل الذي يؤمن وحدة العراق ويضمن التعايش السلمي بين مكوناته القومية والاثنية, تقوم بعض القوى برفض الفيدرالية جملة وتفصيلا, بحجج واهية لا تصمد امام الوقائع التأريخية وتجارب الشعوب التي اعتمدت الفيدرالية كشكل للتنظيم المساحاتي للدولة. واذا كانت تجارب بعض الدوّل الفيدرالية قد انتهت الى فشل بنائها الاتحادي, فان ذلك لم يحصل بسبب الفيدرالية ذاتها, بقدر ما هو نتيجة منطقية لاخفاق المزاوجة بين عنصري الدولة الاساسيين وهما شكل الدولة (تقسيم مساحتها ونوعية العلاقة بين اجزائها), وشكل الحكم فيها (اسلوب ادارة السلطة). فالفيدرالية في ظل النظام الشمولي هي غير تلك التي تؤسس برعاية دولة الحق والمؤسسات. ولأن مؤسسة القضاء تعتبرالعمود الذي لا يمكن ان تستقيم بدونه دولة الحق, وجدت من الاهمية بمكان الخوض في موضوعة السمات الجوهرية للنظام القضائي في الدولة الفيدرالية.
مثلما هي الدولة البسيطة, تمتلك الدولة الفيدرالية مستويات مختلفة من المحاكم, تشكل الى جانب مجموعة من الأجهزة والمؤسسات الاخرى واحدة من اكثر السلطات حساسية واكثرها خطورة على الاطلاق, الأ وهي السلطة القضائية. فالى جانب ما متعارف عليه من محاكم مثل المحكمة الدستورية والمحكمة العليا ومحاكم الاستئناف ومحاكم النقض….الخ, يمكننا العثور في الكثير من الدول, بما في ذلك الفيدرالية منها, على محاكم بالغة الخصوصية وقليلة الانتشار كمحاكم الشرف مثلا. وتماما مثلما هو الحال في الدولة البسيطة يستند القضاء في الدولة الفيدرالية الى قواعد قانونية تقوم بتنظيم ما بات يطلق عليه بالاجراءات القضائية, مثل الاجراءات المدنية والجنائية, اضافة الى قواعد عمل اجهزة القضاء العليا والتي عادة ما تكون ملزمة لاجهزة المحاكم الدنيا (مبدأ القياس). ان تشابه (وربما تطابق) النظام القضائي للدولة البسيطة مع مثيله في الدولة الفيدرالية لا يلغي وجود مميزات في المنظومة القضائية للاخيرة, وربما كان لثنائية اجهزة الدولة الفيدرالية اثرفي وجود هذا التمايز. وفي جميع الاحوال فأن خصائص النظام القضائي في الدولة الفيدرالية لا تعدو ان تكون شكلية ولا يمكنها الاخلال بمبدأ وحدانية السلطة القضائية للدولة. لقد توزعت البلدان الفيدرالية بين مبدأي احادية الاجهزة القضائية ومبدأ تعددية تلك الاجهزة. فمبدأ الاحادية والذي وجد مكانه في اقدم البلدان الفيدرالية (الولايات المتحدة والهند وروسيا) يعني النظر في القضايا المختلفة ,الجنائية منها والمدنية ونزاعات الضرائب …الخ في المحاكم العامة. فيما تمارس المحاكم المتخصصة, مثل محاكم الاحداث, اختصاصها في اطار تلك المحاكم باعتبارها جزءأ من هيكليتها. بالاضافة الى ذلك فأن غياب القضاء الاداري المتخصص يعتبر واحدا من سمات مبدأ الاحادية. ويتميز هذا النظام ايضا بوجود هرم لاجهزة القضاء يكون من بين اختصاصاته الرقابة والاشراف على نشاطات المحاكم الاخرى (الدنيا), بالاضافة الى مهمة تفسير القرارات و اللوائح القضائية المختلفة.واذا كان ثمة اختلاف بين منظومات الدول التي اعتمدت مبدأ الاحادية فانه (الاختلاف) لا يتعدى كونه اجرائيا وليس جوهريا. ففي الولايات المتحدة الامريكية , على سبيل المثال, حيث النظام الانجلو- سكسوني, يتم الاعتماد على المحلفين والاخذ بقراراتهم. فيما تمتلك بعض الولايات خصوصياتها ايضا في مجال الاجراءات القضائية ما يعد احدى المميزات المهمة للمنظومة القضائية للفيدرالية. اما في روسيا فقد ذهب القضاء الى اعتماد نظام الاجراءات المعمول به في الدوّل الاوربية, ويجري في الوقت الحاضر اعتماد اسلوب المحلفين في بعض المحاكم الر وسية كاجراء تجريبي, ما يثير جدلا واسعا في صفوف الحقوقييين الروس حيث تتخذ الغالبية العظمى منهم موقفا سلبيا معتبرين الاعتماد على غير الحقوقيين تشويها للنظام القضائي وتجاوزا على استقلاليته. اما بخصوص مبدأ تعددية المحاكم فيتميّز بوجود منظومات قضائية مختلفة يمتلك كل منها هيكليته الخاصة. ففي المانيا الفيدرالية والبرازيل, وبعض الدول الفيدرالية الاخرى, يمكننا العثور على انواع مختلفة من المحاكم ينتهي كل منها الى جهاز قضائي اعلى. فالمانيا ,على سبيل المثال, تمتلك اربعة مستويات من المحاكم العامة, وثلاثة اخرى متخصصة بالنزاعات المالية ونزاعات العمل والقضايا الاجتماعية وغيرها. وعلى ذات النظام يمكننا العثور في البرازيل, والتي خرجت , بهذه الخاصية بالذات, عن تأثير النظام الحقوقي الامريكي. وكثيرا ما واجهت رجال القضاء اشكالية احالة الدعاوى التي تبدو من اختصاص جهازين او اكثر من اجهزة القضاء (نزاعات العمل والقضايا المالية او الادارية على سبيل المثال). اذ جرت العادة على حسم احالة تلك القضايا في الاجتماعات الدورية لرؤساء المحاكم.
ان اعتماد مبدأ تعددية الانظمة القضائية من قبل الدولة لا يعني على الدوام انها تتخذ الفيدرالية شكلا, فالنظام القضائي لدولة بسيطة مثل جمهورية اوكراينا يشبه الى حد بعيد نظام التعددية الالماني, فيما اصبح النظام القضائي الامريكي نموذجا للكثير من الدول البسيطة في العالم.
ان واحدة من الخصائص الاكثر وضوحا في المنظومة القضائية للدولة الفيدرالية هو ثنائية النظام القضائي. اي ان الدولة الفيدرالية تمتلك اضافة الى منظومة الاجهزة الاتحادية, منظومة اخرى خاصة بالاطراف (الجمهوريات, الاقاليم, المقاطعات, المحافظات…الخ). وبخلاف مبدأ التعددية الذي يمكن ان يكون , كما اوضحنا , في الدول الفيدرالية مثلما في الدول البسيطة, يرتبط مبدأ الثنائية بالشكل الفيدرالي للدولة. وهذا ما يفسر محدودية انتشاره في الوقت الراهن. ويتم تعيين القضاة الفيدراليين (الاتحاديين) من قبل الاجهزة المركزية للدولة (رئيس الدولة , وزير العدل , …..الخ), وفي حالات نادرة يقوم المواطنون بانتخاب قضاة المحاكم الدنيا. ومن بين اكثر القضايا اهمية لتجسيد سيادة ووحدة الدولة هو ان كل من المحاكم الاتحادية ومحاكم الاطراف (الاقاليم) تقوم بتنفيذ القوانين الصادرة عن السلطات التشريعية المركزية, فيما يمكنها اعتماد التشريعات المحلية في حالة غياب التشريع المركزي. وهنا اجد مناسبا الاشارة الى ان الدستور العراقي الدائم احال مسألة تكوين المحاكم واسلوب تعيين القضاة الى التشريع الفرعي, حيث نصت المادة (96) على ان “ينظم القانون تكوين المحاكم وانواعها ودرجاتها واختصاصاتها, وكيفية تعيين القضاة وخدمتهم, واعضاء الادعاء العام, وانضباطهم, واحالتهم على التقاعد”. فيما جعلت المادة (91 – ثانيا) مهمة “ترشيح رئيس واعضاء محكمة التمييز الاتحادية ورئيس الادعاء العام ورئيس هيئة الاشراف القضائي….” من اختصاص مجلس القضاء الاعلى. واناطت الفقرة ذاتها مهمة التعيين بمجلس النواب.
لقد شكل النظام القضائي في الولايات المتحدة الامريكية نموذجا لثنائية المنظومة القضائية, حيث يتربع قمة الهرم فيها المحكمة الفيدرالية العليا والتي يتم تعيين رئيسها واعضائها التسعة من قبل رئيس الدولة شريطة موافقة مجلس الشيوخ. وبذات الطريقة يتم تعيين القضاة الفيدراليين في دوائر قضائية خاصة ولا علاقة لها بالتقسيم الاداري للدولة, ويتيح التشريع الامريكي عزل القضاة قبل انتهاء مدة خدمتهم. ومن بين اجهزة القضاء الاخرى يمكننا تمييز المحاكم المختصة مثل المحاكم العسكرية ومحاكم الاعتراض (تنظر في الدعاوى ضد الادارة الامريكية)…وغيرها. في ذات الوقت تمتلك الولايات نظامها القضائي الخاص, حيث يتم اعتماد نفس اسلوب تعيين المحكمة الفيدرالية العليا لتعيين قضاة محاكم تلك الولايات. فيما تختلف اساليب تعيين قضاة المحاكم المحلية الدنيا والمحاكم الخاصة, بما في ذلك محاكم الصلح, اذ يتم تعيينهم من قبل المحافظين وعمدة المدن ومدراء الوحدات الادارية غيرهم. وتقوم المحاكم الفيدرالية بتطبيق التشريع الفيدرالي, فيما تمتلك محاكم الولايات حق الرجوع اضافة الى القانون الفيدرالي لقانون الولاية, حينذاك يحق للمحكمة الفيدرالية العليا اعادة النظر بقرارات محكمة الولاية العليا وحتى الغائها.
ويختلف نظام القضاء الدستوري من دولة فيدرالية الى اخرى. حيث لم يرتبط نظام القضاء الدستوري للولايات المتحدة الامريكية بالشكل الفيدرالي للدولة, فقد منح التشريع الامريكي لجميع المحاكم (بما في ذلك محاكم الولايات) حق النظر واتخاذ القرار في دستورية القوانين, فيما انيط اتخاذ القرارات النهائية في ,حال الخلاف حول قضية ما, الى المحكمة الفيدرالية العليا. وهنا تجدر الاشارة الى ان اختصاص المحاكم العليا للولايات ينحصر في البت بدستورية التشريعات الصادرة عن اجهزة الولاية ليس الأ. اما في روسيا والمانيا الفيدرالية فان تنظيم القضاء الدستوري جاء معبرا عن مبدأ فيدرالية الدولة, فاضافة الى المحكمة الدستورية الفيدرالية لروسيا, تمتلك كل جمهورية (او اقليم) قضائها الدستوري الخاص. ففي حين تقوم المحكمة الدستورية الفيدرالية بالنظر في دستورية التشريعات الصادرة عن اجهزة الدولة المركزية, يختص القضاء الدستوري للاطراف بالنظر في دستورية التشريعات المحلية. وللقضاء الدستوري الالماني خصوصيته ايضا, حيث لا تعمل المحاكم الدستورية للمقاطعات (الاراضي كما تسمى في الادبيات القانونية الالمانية) بصفة دائمة, ذلك ان اعضائها يتولون مناصب حكومية او قضائية في مقاطعات اخرى.ويجتمعون عند الضرورة للنظر وحسم القضايا المتعلقة بدستورية التشريعات المحلية. اما في العراق فقد احال الدستور الدائم مهمة “الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة” الى المحكمة الاتحادية العليا (المادة 93. اولا) ان تنوع المنظومات القضائية للبلدان الفيدرالية واختلاف اساليب ممارستها للاختصاصات الموكلة اليها, يعكس الدور الكبير الذي من الممكن ان تلعبه خصوصيات البلد وتقاليده وارثه الثقافي وتركيبته القومية والاثنية. وفي جميع الاحوال يبقى مبدأ العدالة واستقلال القضاء الاكثر اهمية في مجال التاسيس لدولة الحق والمؤسسات مهما كان شكلها…… *

* عن الحوار المتمدن…

زر الذهاب إلى الأعلى