الفكر السياسي

نظرة قانونية: الاحزاب العراقية واشكالية التنسيق بين النشاط السياسي والوظيفة البرلمانية

نظرة قانونية: الاحزاب العراقية واشكالية التنسيق بين النشاط السياسي والوظيفة البرلمانية

د. فلاح اسماعيل حاجم

2006 / 4 / 10
مواضيع وابحاث سياسية

ان واحدة من المعضلات الاكثر تعقيدا في الحالة العراقية الراهنة هي اشكالية التوفيق بين النشاط السياسي للاحزاب والوظيفة الحكومية, ذلك ان الانتقال السريع والمفاجئ من معسكر المعارضة السياسية الى حالة المساهمة المباشرة في رسم الخطوط العامة للسياسة الداخلية والخارجية للدولة و ادارة شؤونها, ابرز الى السطح جملة من الاشكالات والتي قد يتوقف على حلها مستقبل العملية السياسية الجارية في بلدنا في الوقت الراهن. وربما بدت هذه المسألة طبيعية في بلد يفتقـر الى ابسط التقاليد الديمقراطية كالتعددية السياسية والحياة البرلمانية والتداول السلمي للسلطة… الخ, ما يستوجب القيام بجهد استثنائي لوضع الاساس المتين لتحرير الذهنية السياسية العراقية من مخلفات النظام التوتاليتاري البائد. من هنا تأتي اهمية المعالجة السياسية والقانونية لدور الاحزاب السياسية في العملية البرلمانية الجارية في بلادنا حاليا. ان واحدة من وضائف الحزب السياسي هي تفعيل الجوانب المختلفة في حياة المجتمع: السياسية ,لايديولوجية , الاقتصادية, الاجتماعية, الروحية….الخ. حيث يتطلب ذلك اقامة الاساس القانوني المتين لتنظيم نشاط الحزب السياسي كجزء من منظومة المجتمع المدني من جهة, و كعنصر فاعل من عناصر نظام الدولة السياسي من جهة اخرى. من هنا تأتي مهمة التوفيق بين النشاط السيا – اجتماعي والتنظيمي (الداخلي) للحزب وبين مهمته كجزء من آلية الدولة وماكنتها السياسية, وهنا تجدر الاشارة الى الاهمية البالغة التي يمكن ان يلعبها البرنامج السياسي للحزب والوثيقة المنظمة لحياته الداخلية (النظام الداخلي), ذلك انهما يشكلان الاساس الذي لاغنى عنه لتشكيل الحزب ومنحه الصفة القانونية. ان كل ذلك يجعل من مهمة التنظيم القانوني لنشاط الاحزاب السياسية امرا بالغ الاهمية مثلما هو بالغ الصعوبة والتعقيد. وفي جميع الاحوال فأن سن التشريعات التي من شأنها قطع الطريق على التدخل التعسفي لسلطة الدولة في الحياة الداخلية للاحزاب السياسية يعتبر امر لا يمكن ان يستقيم بدونه مبدأ التعددية السيياسية الحقة. وتمتلك مسألة حماية الاحزاب السياسية الوطنية في العراق, على اختلاف توجهاتها, اهمية استثنائية في الوقت الراهن حيث مؤشرات الاستثار واقصاء المنافسين تبدو امرا واردا خلال عملية الانتقال الى مرحلة متقدمة في العملية السياسية الجارية في بلادنا. ان مسألة التنظيم القانوني لنشاط الاحزاب السياسية كأطراف فاعلة في الحياة البرلمانية للدولة العراقية يمتلك اهميةبالغة, حيث ادت الانتخابات البرلمانية الاخيرة الى احداث نقلة نوعية في التوصيف القانونيلتلك الاحزاب, ذلك ان مجرد دخول الكيانات الحزبية الى برلمان الدولة يجعل من وصفها بالاحزاب البرلمانية امرا صائبا. وهنا يبدو صحيحا القول بأن لا برلمانية حقيقية بدون احزاب سياسية فاعلة. بالاضافة الى ذلك فان الدستور العراقي جعل من التعددية الحزبية والحياة البرلمانية واحدا من الاسس الدستورية في الدولة العراقية الجديدة, ما يجعل من نشاط تلك الاحزاب في مجلس النواب القادم تتويجا لنشاطها كأطراف فاعلة في العملية السياسية ومساهما اساسيا في العملية الانتخابية وهي المرحلة الاكثر اهمية في تحقيق واحد من اهداف الحزب السياسي, ان لم يكن اهمها على الاطلاق, ألأ وهو الوصول الى السلطة السياسية. وهنا تجدر الاشارة الى ان واحدة من من اهم ضمانات الاداء الفاعل للبرلمان العراقي القادم هو اقرار مبدأ تكافؤ الفرص اثناء مساهمة الاحزاب السياسية في اداء الوظيفة البرلمانية. ان ضمان مشاركة الاحزاب الفاعلة سيسهم الى حد بعيد في تطوير الاداء الوظيفي للبرلمان العراقي كجهاز تشريعي ورقابي فاعل. ان نقل الصراع السياسي الى صالة البرلمان ووضعه في الاطار الشرعي يتطلب توفيرالحد المطلوب من القواعد القانونية المنظمة لنشاط الحزب السياسي ليس باعتباره مؤسسة جماهيرية, وانما كونه جزء من مؤسسة الدولة الرسمية (البرلمان). ما يتطلب ايلاء اهمية استثنائية للتشريعات المنظمة لنشاط الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الاخرى بالشكل الذي يحول دون الخلط بين نشاط الحزب الجماهيري ووظيفته كجزء من مؤسسة الدولة, ذلك ان دفع العملية البرلمانية الى مدياتها المطلوبة يتطلب اشراك القوى السياسية المختلفة في العملية الجارية ووضع الاسس اللازمة لرسم الاطار القانوني الذي من شأنه تحديد الاليات المطلوبة لتفعيل عمل تلك الاحزاب في داخل البرلمان. وربما كان لوضع وسائل وآليات التنسيق بين الاحزاب السياسية واجهزة الدولة (بما في ذلك امكانية تحديد اطر التدخل المشروع للاخيرة في الحياة الداخلية للاحزاب), اثرا ايجابيا في الحياة البرلمانية. عند الحديث عن دور الحزب السياسي في الحياة البرلمانية اجد لزاما الاشارة الى ان تحوّل الحزب وامتلاكه الصفة البرلمانية يتم عبر آليات متنوعة ربما يكون اكثرها انتشارا تأليف الكتل البرلمانية (الفرقة البرلمانية , النادي البرلماني ,المجموعة البرلمانية…الخ). تلك التشكيلات التي يعود لنشاطها الفضل في اكتساب الحزب السياسي لصفة البرلمانية. وتختلف اشكال واساليب تحديد الوضعية القانونية لتلك التشكيلات, سواءا من ناحية تكوينها وتسجيلها الرسمي او من ناحية تحديد صلاحياتها والتزاماتها الوظيفية كجزء لا يتجزءأ من تركيبة الجهازالتمثيلي – التشريعي للدولة. فيما تكتسب موضوعة تنظيم العلاقة بين الكتلة البرلمانية والحزب السياسي الذي تنبثق عنه تلك الكتلة اهمية استثنائية, ذلك ان الخلط بين بين الوظيفة البرلمانية والنشاط الحزبي يؤدي, كما تشير اغلب التجارب البرلمانية, الى تحويل البرلمان الى ناد تابع للحزب السياسي, وتلك واحدة من سمات برلمان الانظمة الشمولية المعروفة. اما بخصوص كيفية تشكيل الكتل البرلمانية فأن اسلوبي التمثيل الحزبي و اعتماد حجم الكتلة البرلمانية يعتبران الاكثر انتشارتا في الوقت الراهن, وخصوصا في البرلمانات المنتخبة وفق مبدأ التعددية الحزبية. فيما يعتبر النظام الداخلي للبرلمان الاساس القانوني لتشكيل الكتلة البرلمانية. فقد عرفت الفقرة العاشرة للنظام الداخلي لاحد مجلسي البرلمان الالماني الكتلة البرلمانية على انها ” مجموعة من النواب ينتمون لحزب سياسي واحد او لمجموعة من الاحزاب يجمعها هدف واحد شريطة عدم تنافسها في اي من الاراضي (المقاطعات) الالمانية”. اما الفقرة 64 من النظام الداخلي للمجلس الوطني السلوفاكي فقد اجازت “اتحاد اعضاء البرلمان في نادي وفق الانتماء الحزبي او الانتماء للائتلافات السياسية التي انتخبوا ضمن قوائمها”. وهنا تجدر الاشارة الى ان الكثير من التشريعات البرلمانية والانظمة الداخلية للبرلمانات ذهبت الى تحريم الاتحاد في الكتل البرلمانية وفق المعايير الطائفية والقومية والاثنية والمناطقية, او تلك التي من شأنها تحويل البرلمان الى ساحة لصراع المصالح الضيقة (المادة 16 من النظام الداخلي لمجلس الشعب البلغاري ومثيلاتها في الانظمة الداخلية للبرلمان الارميني والفرنسي وبرلمان جورجيا واوكرايينا). اما البلدان التي ذهبت الى اعتماد الحجم (العددي) لتشكيل الكتل البرلمانية فقد وضعت تشريعاتها الحد الادنى لعدد النواب الذين بامكانهم تشكيل الكتلة البرلمانية (في الجمعية الوطنية الفرنسية 20 نائبا و10 نواب في مجلس الشيوخ, في استراليا وسويسرا 5 نواب, ما لا يقل عن 5 % من عدد اعضاء البرلمان في البندوستاغ الالماني…الخ). في حين منحت بعض التشريعات حق تشكيل الكتلة البرلمانية للاحزاب التي تمكنت من الحصول على ما يزيد عن مقعد واحد في البرلمان (ارمينيا والبرتغال).
ومثلما اختلفت التشريعات والانظمة الداخلية للبرلمان في تحديد آليات تشكيل الكتل البرلمانية, اختلفت ايضا في كيفية ايقاف نشاط تلك الكتل وانهاء نشاطها داخل البرلمان. فقد ذهب اغلبها الى ربط مسألة انهاء نشاط الكتلة البرلمانية بمسالة الاخلال بشروط تشكيل تلك الكتل, كعدم اكتمال النصاب المسموح به قانونيا لاستمرار نشاط الكتلة. فيما منح البعض الاخر الكتلة البرلمانية الحق بحل نفسها طوعيا. وربط البعض الآخر مصير الكتلة البرلمانية بمصير الحزب السياسي الذي تمثله داخل البرلمان, فقد اعتبر المشرع الالماني الكتلة البرلمانية فاقدة للشرعية في حال صدور قرار قضائي باعتبارنشاط الحزب السياسي الذي تمثله محضورا. لقد احتلت موضوعة تحديد حجم الاختصاصات الموكلة الى الكتلة البرلمانية حيزا واسعا من اهتمام البرلمانيين والمشرعين والمختصين بالشأن البرلماني , حيث تجعل تلك الاختصاصات من الكتلة البرلمانية عنصرا مهما من عناصر البرلمان الفاعلة وتتيح له امكانية المساهمة النشيطة في تنظيم البرلمان واداء وظائفه. ومن بين اهم تلك الاختصاصات المساهمة في تأليف اجهزة البرلمان القيادية وقبادتها في بعض الاحيان. بالاضافة الى تحديد جدوّل اعمال البرلمان من خلال اللجان البرلمانية المختلفة, الدائمة منها والمؤقتة. ففي فرنسا , على سبيل المثال, يتم تنظيم قوائم المرشحين للمسؤوليات المختلفة داخل الجمعية الوطنية وفق مبدأ التوافق بين ممثلي الكتل البرلمانية المختلفة. اما في جمهورية الجيك فقد منح النظام الداخلي للنوادي البرلمانية (الكتل) الحق بتقديم المرشحين لرئاسة البرلمان ونائبه ورؤساء اللجان البرلمانية , فيما تقوم اللجنة الانتخابية المختصة داخل البرلمان بتنظيم انتخابات اؤلئك المرشحين (المادة 116 من النظام الداخلي). ويمكن العثور على ذات الاسلوب في النظام الداخلي للبرلمان السويدي (الفقرة 7) والذي اشترط اضافة لما تقدم ان يتم تمثيل جميع الكتل البرلمانية في اللجنة الانتخابية المختصه بعضو واحد عن كل كتلة برلمانية اضافة الى 10 مقاعد في ذات اللجنة يتم توزيعها بما يتناسب وحجم الكتل البرلمانية. وتلعب الكتلة البرلمانية دورا حاسما في اختيار المرشحين لشغل المراكز السيادية في الدولة. فقد نصت المادة (73 . اولا) من الدستور العراقي الدائم على ان ” يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا بتشكيل مجلس الوزاء خلال خمسة عشر يوما من تأريخ انتخاب رئيس الجمهورية. فيما اشترطت الفقرة الرابعة من نفس المادة التصويت بالاغلبية المطلقة لمنح مجلس الوزراء الثقة بعد عرض اسماء المرشحين لعضويته منفردين. وربما اصبح اختيار رئيس الدولة العراقية استنادا الى التوافق بين الكتل السياسية في البرلمان عرفا دستوريا في التراث الدستوري لدولتنا.
انني ارى ان التخلص من الرئاسية (المطلقة) واعتماد البرلمانية شكلا للحكم, بالاضافة الى جعل الفيدرالية (الاتحادية) شكلا للدولة, مع اتخاذ الديمقراطية الحقيقية نهجا لادارة الدولة العراقية سيرسم خارطة طريق سياسية جديدة ليس للعراق فحسب بل ولمنطقة الشرق الاوسط ايضا.
*- استاذ جامعي متخصص بالقانون الدستوري…… $

$  عن الحوار المتمدن….

زر الذهاب إلى الأعلى